التوبة.. لا الإقلاع.. سياسة .. الإفلات من العقاب

 


 

 

ناجي شريف بابكر

الطريقة التي انتهجتها التفاسير والفهم المنتشر لها والنصوص المعضدة لذلك الفهم، هو ان باب التوبة مفتوح .. في اي وقت، وأن بإمكان المسلم، الفاسد بالتحديد، أن يفسد في الحياة وأن يتلف الحرث والنسل عدة مرات.. دون ان يشكل ذلك هاجسا له ربما يحرمه عن التوبة..
أن يتوب وقتما يشاء، دون ان تقف تلك التوبة حاجزا بينه وبين تكراره وارتداده لخوض الخطايا والآثام.. لذلك نجد كثيرا من الناس في الشرق الإسلامي، يرددون نصوصا وفتاوى مفادها ان التوبة أسوةً ببعض الأذكار.. او أداء مناسك الحج جميعها أعمال بإمكانها، وفق زعمهم ومرادهم، ان تمحو الخطايا وان يعود الآثم بعدها في كل مرة مغسولا من جرائر الخطايا والآثام، كما يُغسل الثوبُ الأبيض من الدرن.. توبة لا تشترط الإقلاع والندم، إنما تظل خرقةً متاحة للإستخدام لعدة كرات ودون حاجز زمني.
هذه المفاهيم وأخرى من شاكلتها ربما كانت جديرة بتفسير المفاضلة الكبيرة مابين الشرق وبقية قاطني العالم، تلك التي تتجلى في إشكالات سلوكية، فردانية كانت أو على المستوى الجمعي، تسود معظم المجتمعات هنا، كما تساهم بقدر كبير في تراجع الأداء تجاه قيم نبيلة كالوفاء بالوعد، إلتزام المصداقية في القول والعمل وحفظ العهود والمواثيق وصيانتها. إذ لا تشكل الإخفاقات تجاه قيم كتلك ظواهر بتكرار مقلق أو جدير بالملاحظة، بنفس القدر الذي تشكله في مجتمعاتنا هنا.
أنا لا اعتقد ان هذا المفهوم يجتاز منطق الأشياء . ولا أجده يوائم مقاصد القرآن الذي يقول "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره"..وعلى لسان لقمان: "إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير".. والقائل "وإن تبدوا مافي أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله".. بل أن ذلك الفهم والمنحى بناهض الرسالة، ينحرف بها ويفرغها من محتواها.. وأجده مفهوما منحرفا حَرِيٌّ به أن يندرج فيما وصفه القران في موقع آخر "إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصُدّون عن سبيل الله".. على أسوأ تقدير فإن ذلك المفهوم لا يتفق وقناعاتي العقلية، التي انبنت عليها ثقتي في ما أعتقد وأدين وأتمسك به من الحق.
لكني لست هنا بصدد البحث والجدال في صحيح راي الدين.. فليكن رأي الفقهاء والمفسرين على الصورة التي يفضلونها.. أو تلك التي تروق لهم.. لست معنيا بذلك ولا مكلفا به فالناس احرار وكما روى القرآن على لسان نوح عليه السلام، أنُلزمكموها وأنتم لها كارهون.. لا شئ من ذلك اكثر من أني معني بزيادة وتعزيز وعي الشعوب المغلوبة بمصالحها، وبخصومها، ذلك بتوضيح قناعاتي الكاملة في ان واحدة من دواعي الفساد وإهدار ثروات الشعوب ان تتسلط مفاهيم بهذه الشاكلة على الوعي الجمعي للناس في الشرق الأوسط وشمال افريقيا.. تقهرهم، تسلبهم حقوقهم.. وتتحكم في مصائرهم..
أن تتحول اللوائح والقوانين ومجالس التشريع والأنظمة إلى رهائن لمراكز الفتوى والفقهاء تحت ظل حكومات كليبتوكراتية ترفع الشريعة عباءة لها، بحيث يفلت بفعل ذلك القتلة وناهبو موارد الشعوب وثرواتها من سيف العدالة الناجز.. ان تنثلم شوكة القانون في أوساط فاعلين أوهنت فيهم مثل هذه المفاهيم الرادع الأخلاقي، فيتخلق حينها وضعا مشاعيا أدعى للفوضى.. إنهم يفعلون ذلك لاستباحة مصالح الناس ودماءهم وهم آمنون يتحصنون من العقاب وسطوة الجماهير، بترويج مفاهيمهم في التوبة والعفو، بعزف نشاز على أوتار العواطف الدينية لشعوب تقية متسامحة يقهرها حياؤها، تحَوًلَ فيها تديُّنها إلى أداة قمع تلقائية وقيود ذاتية تكبّلها وتُدمي أعناقَها، تديرها وتتحكم فيها عن بعد، عصابات درجت على إغراق الناس في الفقر والفوضى..
رغم أن كافة الرسائل السماوية تناصر العدالة والمساواة وصيانة الحقوق والدماء، لكن شواهد التاريخ تدلل على أن إصطفاف الكهنة والمؤسسات الدينية في معظم الأحوال إنما يساند قوى الإستبداد بحيث ترتبط مصالحهم ومصائرهم بالأنظمة السائدة المسيطرة. تجلى ذلك في علاقة الكنيسة بالأنظمة الإمبراطورية في أوروبا ما قبل الثورة الفرنسية، وفي الحملات الإستعمارية التي شنها الأنجلوساكسون على أفريقيا ودول العالم الثالث خلال القرنين لثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين.. حيث رافق أساقفة الكنيسة الكاثوليكية جيوش الإحتلال وعملوا على مباركة الفظائع التي ارتكبتها عصابات الإنسان الأبيض في مواجهة الإنسان الأفريقي الأعزل في عقر داره.. ودبجوا الفتاوى الدينية لتقنين تلك التجاوزات وإضفاء الشرعية الأخلاقية عليها تحت فتوى جائرة "أن العبيد لا قلوب لهم، وأنهم لا يدخلون ملكوت الله".. ففي يوم الخميس الثلاثين من مارس من العام ٢٠٢٣، أصدر الفاتبكان وثيقة ينأى فيها بنفسه عن التجاوزات الإستعمارية للكنيسة الكاثوليكية إبان الحملات الإستعمارية. حيث أدان فيها الكرسي الرسولي ما سماه مراسيم بابوية تعود للقرن الخامس عشر قامت الكنيسة من خلالها بإجازة إستعباد الشعوب والأجناس الأصلية في أراضيها ولا سيما في أمريكا*.
الشاهد أن المؤسسات الدينية عبر التاريخ لا تناصر البسطاء، ولا تصطف معهم في أوقات البلاء.. لا يختلف الوضع كثيرا مع تاريخ الفتوحات الإسلامية وحملات التنكيل التي شنها خلفاء بني أمية على معارضيهم من أهل المدينة وعلى إبادتهم في معركة الحَرّة ومقتل سعد بن عبادة قبل ذلك بكثير، وعلى الحسن والحسين بن علي وعلى عبد الله بن الزبير.. بل كان الفقهاء يعملون على تشويه سمعة المعارضين وتحويلهم إلى معزات عرجاء لتهيئة الرأي العام لإضفاء الشرعية لمساعي الحكام للفتك بهم. حتى تجرأ مدونون منهم لمخالفة صريح نصوص القرآن في معايرة أحد المطاردين في كتب التاريخ والسيرة التي تطبع حتى اليوم، وهو عبد الله بن سبأ، وذلك بالإشارة إليه بصفة متكررة بإبن السوداء، بدلا من إسمه الحقيقي، بينما القرآن ينهى عن التفرقة بين الناس بسبب العرق أو اللون وينهاهم كذلك عن التنابذ بالألقاب بئس الإسم الفسوق بعد الإيمان.
في ظل سيادة تلك المفاهيم فسوف لن تتخلص الشعوب في افريقيا والشرق الأوسط من الإستعباد وقبضة الفساد وسطوته إلا بالعمل على القطيعة الكاملة معها، على نبشها وتعريتها، وعلى مكافحة تلك المفاهيم المتعطنة في التفسّخ والفساد.. حتى تعود للعدالة سطوتها وكلمتها الناجزة.
إنتهى..
nagibabiker@gmail.com

 

آراء