التورية في شعر أغنية (الحقيبة)
عبد المنعم عجب الفيا
3 June, 2021
3 June, 2021
التورية من المحسّنات المعنوية بعلم البديع، وهو أحد العلوم الثلاثة للبلاغة العربية وهي (علم البيان وعلم المعاني وعلم البديع). ويعرّف كتاب (البلاغة الواضحة) التورية بأنها هي: "أن يذكر المتكلم لفظاً مفرداً له معنيان: قريب ظاهر غير مراد، وبعيد خفي هو المراد". ومن أمثلة ذلك قول الشاعر:
وربُّ الشِّعرِ عندهم بغيضٌ * ولو وافى به لهم حبيبُ
كلمة (حبيب) هنا لها معنيان. الأول ظاهر قريب هو المحبوب، والثاني بعيد خفي، وهو الشاعر حبيب بن أوس الطائي (أبو تمام) وهو المعنى المراد. ومعنى البيت أن من يخاطبه الشاعر لا يستعذب الشعر حتى لو كان قائل هذا الشعر هو مَن يحب. وهذا هو المعنى الظاهر القريب. ولكن الشاعر لا يريد هذا المعنى وإنما الذي يريده هو القول إن المخاطب لا يحب الشعر حتى لو كان قائل هذا الشعر هو الشاعر حبيب بن أوس الطائي (أبو تمام).
وللتورية في الإنجليزية عدة ألفاظ نذكر منها wordplay ومنها كلمة pun وغيرها.
يقول شاعر الحقيبة الكبير خليل فرح في قصيدة (في الضواحي وطرف المدائن):
للقنيص الخـــيل خــفّ راســــنْ/ نحن ما بنخاف من مراسنْ
المكارم غرقنا ساسنْ والمجاهل/ مــيــن غيـــــرنا ســـاســـــنْ
إن عطشنا نمزْ مُر وآســن/ وإنْ عشــــقنا بنعشـق محـــــاسن
في المحاسن كفى يومنا راح
في قوله بالبيت الثالث: "وإنْ عشــــقنا بنعشـق محـــــاسن"، أول ما يتبادر إلى ذهن القارىء أو المستمع أن الشاعر يقصد بالمحاسن هنا محاسن الخلقة والأخلاق، لأن الإنسان يعشق المحبوب لمحاسنه. غير أن هذا هو المعنى القريب الذي يعطيه ظاهر اللغة. هناك معنى خفي بعيد يرمي إليه الشاعر، وهو اسم المحبوبة (محاسن) وهو المعنى المراد. والدليل على ذلك قوله بالمقطع التالي مباشرة (لا يردده المغنون) والذي يقول فيه:
فى الخميلة انجلت المحـاسنْ * عينى حايرة ومشى قلبى جاسِنْ
بعض حسنك هى يا محاسنْ * الحــــرير حــين قدميـــك داسنْ
والزهور حين شـــفتيك باســنْ * والغصـــون مـــــــن لدنك مياســـــنْ
هنا يصرح الشاعر بالبيت الثاني، أن (محاسن) التي ذكرها في المقطع السابق هي (محاسن) سيدة الاسم محبوبته. وذلك بدلالة قوله: "بعض حسنك هي يا محاسن" إضافة إلى بقية الكلام.
وبذلك تكون كلمة (محاسن) في قول الشاعر: "إن عشقنا بنعشق محاسن" فيها تورية بلاغية كونها ذات معنيين. والمعنى البعيد المراد هو اسم العشيقة (محاسن). وأما قوله الأخير "بعض حسنك هى يا محاسن"، فهو خال من التورية لأن كلمة محاسن تحمل معنىً واحداً وهو الاسم (محاسن).
ويقول الشاعر سيد عبد العزيز في قصيدة (يا أماني جار بي زماني):
يا أماني جار بي زماني لو أراكم أصبح سعيد
يا مناي وأملي وأمانيّ من مخاوف الوجد الرماني
ما سليتك يا أماني، ماني سالي زولاً لي شوفتُه عيد
يلاحظ أن كلمة (أماني) تكررت في كل بيت من الأبيات الثلاثة. ولكن الكلمة لا تحمل في كل من البيتين الأول والثالث سوى معنى واحداً وهو اسم المحبوبة (أماني) وذلك بدليل قوله في البيت الأول: "يا أماني لو أراكم أصبح سعيد" وقوله بالبيت الثالث: "يا أماني، ماني سالي زولاً لي شوفته عيد". ففي البيتين يخاطب الشاعر الحبيبة باسمها مباشرة. ولذلك لا توجد تورية في هذين البيتين.
وكذلك لا توجد تورية في كلمة (أماني) بالبيت الثاني في قوله: "يا مناي وأملي وأمانيَّ" فقد جاءت أماني هنا بمعنى أمنيات أي يا أمنياتي. فهو يقول للمحبوبة: أنت أمنياتي ومناي وأملي. وهكذا تخلو كلمة (أماني) في الأبيات الثلاثة من التورية.
وتصريح كل من خليل فرح وسيد عبد العزيز باسمي عشيقاتهما في القصيد، من الحالات النادرة في تقاليد الشعر السوداني القديم والحديث. إذ ليس من المألوف أن يصرح الشاعر باسم الحبيبة، كما أنه يعد من المنكرات أن تبوح الشاعرة المغنية باسم محبوبها.
والراجح عندي أن ما أتي به خليل فرح وسيد عبد العزيز هنا لا يخرج من أحد احتمالين. فإما أن تكون عشيقتيهما من الجاليات الأجنبية بالسودان حيث لا حرج أن يصرح الشاعر باسمه المحبوبة، أو أنهما أرادا بذلك التجاسر على كسر التقليد السوداني استجابة لدعوات تحرر المرأة في تلك الفترة. (سنفصل أكثر عند الحديث عن قصيدة عازة لخليل فرح).
ويقول مصطفى بطران في أغنية (دمعة الشوق):
دمعــة الشـــوق كبي حـَـــكـَـم
حِبي أرعــــى نجـــــم الليــــل
نسمة الأسحار ليلي طال هبي
أنا مســـــاهر ونــومي متخــبي
انتحــــل جــــسمي والمحال طِبّي
مصدرُه الزهرة الفي نواحي سهيل
الضمير في كلمة (مصدرُه) بالشطر الأخير، يعود على (طِبّه) أي علاجه (وليس الطب بمعنى عمل السحر كما في الحديث النبوي والمعجم ولسان أهل كردفان). والمعنى أن العشق قد أصاب جسمه بالهزال وصار علاجه (طبّه) مستحيلاً لأن طبّه عند تلك (الزهرة) التي موقعها في نواحي سهيل.
وسهيل هو النجم المعروف. وبذلك يكون لكلمة (الزهرة) معنيان. معنى ظاهر قريب وهو الزهرة النجمة المعروفة، بدليل أنها جاءت مقرونة بذكر اسم النجم سهيل. ومعنى آخر بعيد خفي وهو الزهرة بمعنى الوردة والتي يكني بها الشاعر هنا عن المحبوبة وهذا هو المعنى المراد.
ويقول عمر البنا في أغنية (زهتْ أيامي):
زهت أيامي وأنا بتغزل/ ما بهتم لقول العزل
مابسمع كلام في حبيبي/ هو أذاي وهو طبيبي
أحب إنسان في حسنُه فريد/ بيهو أقفِّل باب الريد
إلى أن يقول:
شذى الأزهار مِن أنفاسُه/ رقة النسمات مِن إحساسُه
أقيسهُ بإيه قول لي يا زيدْ/ لو قلتَ ملاك أجدُه يزيدْ
كلمة (يزيد) في آخر عجز البيت الثاني فيها تورية. والمعنى الظاهر القريب هو الاسم العَلم (يزيد) والقرينة الدالة على ذلك اقترانه بذكر الاسم (زيد) في صدر البيت، ولكن هذا ليس هو المعنى المراد. المعنى المراد هو الفعل (يزيد) من زاد يزيد فهو زائد.
يريد الشاعر القول إن كل الذي يأتي به من تشبيهات لوصف جمال الحبيب، يقصر عن أن يفي بالوصف الحق، فحتى وصفه له بالملاك يجده قاصراً عن تصوير حقيقة ذلك الجمال. ولا يخفى أن في جمع الشاعر بين الاسم (زيد) وكلمة (يزيد) فيه جناس ناقص. والجناس الناقص هو اختلاف بين الكلمتين في عدد الحروف وترتيبها.
ويقول صالح عبد السيد (أبو صلاح) في قصيدة (خلي العيش حرام):
خِلي العيش حرام ما دام أرى الموت يحل
مـــا بيــن الــرمــيش فــوق الطـــريف الكحــــيل
إلى أن يقول:
يا المنك معار تكحيل شويدن الخميل
علمت الغصون مع النسيم كيف تميل
مختارك يحاكي الشــولة دمعُـه الهميلْ
والتختاره لي لا شــك جـميلْ يا جــــميلْ
بالشطر قبل الأخير، يقصد الشاعر بكلمة (مختارك) نفسه، فهو مختار الحبيب. لذلك قال الذي تختاره لي لا بد أن يكون جميلاً حتى لو كان عذاب الهجران، فأنت الجمال كله، ولا يصدر عنك إلا ما هو جميل ومستعذب حتى لو كان العذاب نفسه.
وكلمة (الشولة) في قوله (دمعه الهميل يحاكي الشولة) فيها تورية. المعنى الظاهر القريب هو الشولة، علامة الترقيم المعروفة في الكتابة (،) كونها تشبه في شكلها، الدمعة وهي منحدرة.
والمعنى البعيد الخفي هو النجم أو (العِينة) المعروفة بـ(الشولة)، والقرينة الدالة على ذلك قوله: "دمعه الهميل". شبّه انهمار دمعه على هجران الحبيب بمطر هذه (العِينة) التي تبدأ مع ظهور نجم (الشولة) حيث ينهمر المطر في هذه (العِينة) مدراراً وهذا هو المعنى المراد من التشبيه.
وقال سيد عبد العزيز في أول هذه القصيدة:
سيدة وجمالها فريد خلقوها زي ما تريدْ
وفي خديدها وضعوا الريدْ
قال "خلقوها زي ما تريد" أي خلقوها كما تشتهي هي أن تكون من الجمال. وزعم بعضهم أن الكلمة الصحيحة هي (ماتريد) Matred وهو اسم ملكة جمال اليونان في ذلك الزمان على حد زعمهم.
ونحن لسنا مع هؤلاء. ونرى أن في هذا الزعم تعسفاً وتخريجا بعيد النعجة ليس له ما يبرره. فشعراء الحقيبة كانوا سودانويين كلهم، حتى النخاع، ولا يفضلون على الجمال السودانوي أي جمال آخر.
نعم، صحيح أنهم هاموا بعشق بنات النصارى و(زهرة روما) وصويحباتها، وكانت لهم صولات وجولات وغزوات نسائية في حي المسالمة بأم درمان وغيره. لكن عندما تأتي المقارنة بين الجمال السوداني والجمال الأجنبي، فانحيازهم للجمال السوداني فوق كل شبهة. فهم لا يرضون عنهم بديلاً.
والحال هذه، فمن المستبعد جدا أن يشبه سيد عبد العزيز، جمال تلك الفتاة السودانية بجمال فتاة أجنبية حتى لو كانت ملكة جمال العالم. وليس أدل على ذلك من قول سيد عبد العزيز نفسه في قصيدة (بت ملوك النيل):
يا بت ملوك النيل يا أخت البدور
مين لعلاك ينيل في البدو والحضور
يا السامية ست الجيل طرفك من حياء
في عصر السفور خجيل
حسنك وضع تسجيل في صحف النشور
يتلوه جيل عن جيل ليوم النشور
إلى أن يقول:
فقتي الكانوا قبيل ماخداتْ في الجمال
جائزة نوبيلْ
هنا يقول بصريح العبارة إن محبوبته (بت ملوك النيل) تتفوق في جمالها على كل ملكات جمال العالم منذ تاريخ تأسيس هذه الجائزة. وهو يقصد بجائزة (نوبيل) هنا جائزة ملكة جمال العالم. وهذا لا يعني أنه كان يجهل، حتى لا يتوهم البعض خطأ، حقيقة (جائزة نوبل) المخصصة للآداب والعلوم. حشا وكلا. الضرورة الشعرية هي التي اقتضته أن يقول ذلك. وقديماً قيل: "يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره".
ولكن دعونا نجاري أولئك القوم الذين زعموا أن الشاعر أراد اسم ملكة الجمال (ماتريد). فعلى فرض أن ذلك صحيح، فإنه توجد تورية في هذه الكلمة. وبذلك يكون المعنى الظاهر القريب هو العبارة العربية (ما تريد) أي كما تريد هي. وأما المعنى الخفي البعيد فهو الاسم ماتريد، اسم ملكة الجمال المشار إليها. ولكنّا لسنا مع هذا التأويل كما سبق البيان.
ويقول عبد الرحمن الريح، آخر شعراء الحقيبة:
يا حمامة مع السلامهْ * ظللت جوك الغمامهْ
إلى أن يقول في ختام القصيدة:
الجـــمال يــا حـمامـة فاتنْ * فيهِ ألوان من المفاتنْ
كل من يعشق المحاسنْ * قلّ أن يوجد السلامهْ
قيل أن عبد الرحمن الريح كتب هذه القصيدة بمثابة تحية إلى النجمة والممثلة المصرية الصاعدة آنئذ (فاتن حمامة) وذلك إثر مشاهدته أحد أفلامها السينمائية. وإذا كان ذلك كذلك، فأنه توجد تورية في كلمة (حمامة) الواردة بمطلع القصيدة (يا حمامة مع السلامة). المعنى القريب الظاهر للحمامة هي الطير الأليف المعروف. والمعنى البعيد الخفي الممثلة المذكورة وهو المراد.
وأما قوله: "الجمال يا حمامة فاتن" ففيه تورية في كل من كلمتي حمامة وفاتن. المعنى الظاهر والقريب لكلمة (فاتن) مغري ومغوي، والمعنى البعيد، هو الاسم الأول لفاتن حمامة، وهو المعنى المراد. وذلك على فرض أن الأغنية كتبت في الممثلة (فاتن حمامة).
عبد المنعم عجب الفَيا
26 مايو 2021
abusara21@gmail.com
///////////////
وربُّ الشِّعرِ عندهم بغيضٌ * ولو وافى به لهم حبيبُ
كلمة (حبيب) هنا لها معنيان. الأول ظاهر قريب هو المحبوب، والثاني بعيد خفي، وهو الشاعر حبيب بن أوس الطائي (أبو تمام) وهو المعنى المراد. ومعنى البيت أن من يخاطبه الشاعر لا يستعذب الشعر حتى لو كان قائل هذا الشعر هو مَن يحب. وهذا هو المعنى الظاهر القريب. ولكن الشاعر لا يريد هذا المعنى وإنما الذي يريده هو القول إن المخاطب لا يحب الشعر حتى لو كان قائل هذا الشعر هو الشاعر حبيب بن أوس الطائي (أبو تمام).
وللتورية في الإنجليزية عدة ألفاظ نذكر منها wordplay ومنها كلمة pun وغيرها.
يقول شاعر الحقيبة الكبير خليل فرح في قصيدة (في الضواحي وطرف المدائن):
للقنيص الخـــيل خــفّ راســــنْ/ نحن ما بنخاف من مراسنْ
المكارم غرقنا ساسنْ والمجاهل/ مــيــن غيـــــرنا ســـاســـــنْ
إن عطشنا نمزْ مُر وآســن/ وإنْ عشــــقنا بنعشـق محـــــاسن
في المحاسن كفى يومنا راح
في قوله بالبيت الثالث: "وإنْ عشــــقنا بنعشـق محـــــاسن"، أول ما يتبادر إلى ذهن القارىء أو المستمع أن الشاعر يقصد بالمحاسن هنا محاسن الخلقة والأخلاق، لأن الإنسان يعشق المحبوب لمحاسنه. غير أن هذا هو المعنى القريب الذي يعطيه ظاهر اللغة. هناك معنى خفي بعيد يرمي إليه الشاعر، وهو اسم المحبوبة (محاسن) وهو المعنى المراد. والدليل على ذلك قوله بالمقطع التالي مباشرة (لا يردده المغنون) والذي يقول فيه:
فى الخميلة انجلت المحـاسنْ * عينى حايرة ومشى قلبى جاسِنْ
بعض حسنك هى يا محاسنْ * الحــــرير حــين قدميـــك داسنْ
والزهور حين شـــفتيك باســنْ * والغصـــون مـــــــن لدنك مياســـــنْ
هنا يصرح الشاعر بالبيت الثاني، أن (محاسن) التي ذكرها في المقطع السابق هي (محاسن) سيدة الاسم محبوبته. وذلك بدلالة قوله: "بعض حسنك هي يا محاسن" إضافة إلى بقية الكلام.
وبذلك تكون كلمة (محاسن) في قول الشاعر: "إن عشقنا بنعشق محاسن" فيها تورية بلاغية كونها ذات معنيين. والمعنى البعيد المراد هو اسم العشيقة (محاسن). وأما قوله الأخير "بعض حسنك هى يا محاسن"، فهو خال من التورية لأن كلمة محاسن تحمل معنىً واحداً وهو الاسم (محاسن).
ويقول الشاعر سيد عبد العزيز في قصيدة (يا أماني جار بي زماني):
يا أماني جار بي زماني لو أراكم أصبح سعيد
يا مناي وأملي وأمانيّ من مخاوف الوجد الرماني
ما سليتك يا أماني، ماني سالي زولاً لي شوفتُه عيد
يلاحظ أن كلمة (أماني) تكررت في كل بيت من الأبيات الثلاثة. ولكن الكلمة لا تحمل في كل من البيتين الأول والثالث سوى معنى واحداً وهو اسم المحبوبة (أماني) وذلك بدليل قوله في البيت الأول: "يا أماني لو أراكم أصبح سعيد" وقوله بالبيت الثالث: "يا أماني، ماني سالي زولاً لي شوفته عيد". ففي البيتين يخاطب الشاعر الحبيبة باسمها مباشرة. ولذلك لا توجد تورية في هذين البيتين.
وكذلك لا توجد تورية في كلمة (أماني) بالبيت الثاني في قوله: "يا مناي وأملي وأمانيَّ" فقد جاءت أماني هنا بمعنى أمنيات أي يا أمنياتي. فهو يقول للمحبوبة: أنت أمنياتي ومناي وأملي. وهكذا تخلو كلمة (أماني) في الأبيات الثلاثة من التورية.
وتصريح كل من خليل فرح وسيد عبد العزيز باسمي عشيقاتهما في القصيد، من الحالات النادرة في تقاليد الشعر السوداني القديم والحديث. إذ ليس من المألوف أن يصرح الشاعر باسم الحبيبة، كما أنه يعد من المنكرات أن تبوح الشاعرة المغنية باسم محبوبها.
والراجح عندي أن ما أتي به خليل فرح وسيد عبد العزيز هنا لا يخرج من أحد احتمالين. فإما أن تكون عشيقتيهما من الجاليات الأجنبية بالسودان حيث لا حرج أن يصرح الشاعر باسمه المحبوبة، أو أنهما أرادا بذلك التجاسر على كسر التقليد السوداني استجابة لدعوات تحرر المرأة في تلك الفترة. (سنفصل أكثر عند الحديث عن قصيدة عازة لخليل فرح).
ويقول مصطفى بطران في أغنية (دمعة الشوق):
دمعــة الشـــوق كبي حـَـــكـَـم
حِبي أرعــــى نجـــــم الليــــل
نسمة الأسحار ليلي طال هبي
أنا مســـــاهر ونــومي متخــبي
انتحــــل جــــسمي والمحال طِبّي
مصدرُه الزهرة الفي نواحي سهيل
الضمير في كلمة (مصدرُه) بالشطر الأخير، يعود على (طِبّه) أي علاجه (وليس الطب بمعنى عمل السحر كما في الحديث النبوي والمعجم ولسان أهل كردفان). والمعنى أن العشق قد أصاب جسمه بالهزال وصار علاجه (طبّه) مستحيلاً لأن طبّه عند تلك (الزهرة) التي موقعها في نواحي سهيل.
وسهيل هو النجم المعروف. وبذلك يكون لكلمة (الزهرة) معنيان. معنى ظاهر قريب وهو الزهرة النجمة المعروفة، بدليل أنها جاءت مقرونة بذكر اسم النجم سهيل. ومعنى آخر بعيد خفي وهو الزهرة بمعنى الوردة والتي يكني بها الشاعر هنا عن المحبوبة وهذا هو المعنى المراد.
ويقول عمر البنا في أغنية (زهتْ أيامي):
زهت أيامي وأنا بتغزل/ ما بهتم لقول العزل
مابسمع كلام في حبيبي/ هو أذاي وهو طبيبي
أحب إنسان في حسنُه فريد/ بيهو أقفِّل باب الريد
إلى أن يقول:
شذى الأزهار مِن أنفاسُه/ رقة النسمات مِن إحساسُه
أقيسهُ بإيه قول لي يا زيدْ/ لو قلتَ ملاك أجدُه يزيدْ
كلمة (يزيد) في آخر عجز البيت الثاني فيها تورية. والمعنى الظاهر القريب هو الاسم العَلم (يزيد) والقرينة الدالة على ذلك اقترانه بذكر الاسم (زيد) في صدر البيت، ولكن هذا ليس هو المعنى المراد. المعنى المراد هو الفعل (يزيد) من زاد يزيد فهو زائد.
يريد الشاعر القول إن كل الذي يأتي به من تشبيهات لوصف جمال الحبيب، يقصر عن أن يفي بالوصف الحق، فحتى وصفه له بالملاك يجده قاصراً عن تصوير حقيقة ذلك الجمال. ولا يخفى أن في جمع الشاعر بين الاسم (زيد) وكلمة (يزيد) فيه جناس ناقص. والجناس الناقص هو اختلاف بين الكلمتين في عدد الحروف وترتيبها.
ويقول صالح عبد السيد (أبو صلاح) في قصيدة (خلي العيش حرام):
خِلي العيش حرام ما دام أرى الموت يحل
مـــا بيــن الــرمــيش فــوق الطـــريف الكحــــيل
إلى أن يقول:
يا المنك معار تكحيل شويدن الخميل
علمت الغصون مع النسيم كيف تميل
مختارك يحاكي الشــولة دمعُـه الهميلْ
والتختاره لي لا شــك جـميلْ يا جــــميلْ
بالشطر قبل الأخير، يقصد الشاعر بكلمة (مختارك) نفسه، فهو مختار الحبيب. لذلك قال الذي تختاره لي لا بد أن يكون جميلاً حتى لو كان عذاب الهجران، فأنت الجمال كله، ولا يصدر عنك إلا ما هو جميل ومستعذب حتى لو كان العذاب نفسه.
وكلمة (الشولة) في قوله (دمعه الهميل يحاكي الشولة) فيها تورية. المعنى الظاهر القريب هو الشولة، علامة الترقيم المعروفة في الكتابة (،) كونها تشبه في شكلها، الدمعة وهي منحدرة.
والمعنى البعيد الخفي هو النجم أو (العِينة) المعروفة بـ(الشولة)، والقرينة الدالة على ذلك قوله: "دمعه الهميل". شبّه انهمار دمعه على هجران الحبيب بمطر هذه (العِينة) التي تبدأ مع ظهور نجم (الشولة) حيث ينهمر المطر في هذه (العِينة) مدراراً وهذا هو المعنى المراد من التشبيه.
وقال سيد عبد العزيز في أول هذه القصيدة:
سيدة وجمالها فريد خلقوها زي ما تريدْ
وفي خديدها وضعوا الريدْ
قال "خلقوها زي ما تريد" أي خلقوها كما تشتهي هي أن تكون من الجمال. وزعم بعضهم أن الكلمة الصحيحة هي (ماتريد) Matred وهو اسم ملكة جمال اليونان في ذلك الزمان على حد زعمهم.
ونحن لسنا مع هؤلاء. ونرى أن في هذا الزعم تعسفاً وتخريجا بعيد النعجة ليس له ما يبرره. فشعراء الحقيبة كانوا سودانويين كلهم، حتى النخاع، ولا يفضلون على الجمال السودانوي أي جمال آخر.
نعم، صحيح أنهم هاموا بعشق بنات النصارى و(زهرة روما) وصويحباتها، وكانت لهم صولات وجولات وغزوات نسائية في حي المسالمة بأم درمان وغيره. لكن عندما تأتي المقارنة بين الجمال السوداني والجمال الأجنبي، فانحيازهم للجمال السوداني فوق كل شبهة. فهم لا يرضون عنهم بديلاً.
والحال هذه، فمن المستبعد جدا أن يشبه سيد عبد العزيز، جمال تلك الفتاة السودانية بجمال فتاة أجنبية حتى لو كانت ملكة جمال العالم. وليس أدل على ذلك من قول سيد عبد العزيز نفسه في قصيدة (بت ملوك النيل):
يا بت ملوك النيل يا أخت البدور
مين لعلاك ينيل في البدو والحضور
يا السامية ست الجيل طرفك من حياء
في عصر السفور خجيل
حسنك وضع تسجيل في صحف النشور
يتلوه جيل عن جيل ليوم النشور
إلى أن يقول:
فقتي الكانوا قبيل ماخداتْ في الجمال
جائزة نوبيلْ
هنا يقول بصريح العبارة إن محبوبته (بت ملوك النيل) تتفوق في جمالها على كل ملكات جمال العالم منذ تاريخ تأسيس هذه الجائزة. وهو يقصد بجائزة (نوبيل) هنا جائزة ملكة جمال العالم. وهذا لا يعني أنه كان يجهل، حتى لا يتوهم البعض خطأ، حقيقة (جائزة نوبل) المخصصة للآداب والعلوم. حشا وكلا. الضرورة الشعرية هي التي اقتضته أن يقول ذلك. وقديماً قيل: "يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره".
ولكن دعونا نجاري أولئك القوم الذين زعموا أن الشاعر أراد اسم ملكة الجمال (ماتريد). فعلى فرض أن ذلك صحيح، فإنه توجد تورية في هذه الكلمة. وبذلك يكون المعنى الظاهر القريب هو العبارة العربية (ما تريد) أي كما تريد هي. وأما المعنى الخفي البعيد فهو الاسم ماتريد، اسم ملكة الجمال المشار إليها. ولكنّا لسنا مع هذا التأويل كما سبق البيان.
ويقول عبد الرحمن الريح، آخر شعراء الحقيبة:
يا حمامة مع السلامهْ * ظللت جوك الغمامهْ
إلى أن يقول في ختام القصيدة:
الجـــمال يــا حـمامـة فاتنْ * فيهِ ألوان من المفاتنْ
كل من يعشق المحاسنْ * قلّ أن يوجد السلامهْ
قيل أن عبد الرحمن الريح كتب هذه القصيدة بمثابة تحية إلى النجمة والممثلة المصرية الصاعدة آنئذ (فاتن حمامة) وذلك إثر مشاهدته أحد أفلامها السينمائية. وإذا كان ذلك كذلك، فأنه توجد تورية في كلمة (حمامة) الواردة بمطلع القصيدة (يا حمامة مع السلامة). المعنى القريب الظاهر للحمامة هي الطير الأليف المعروف. والمعنى البعيد الخفي الممثلة المذكورة وهو المراد.
وأما قوله: "الجمال يا حمامة فاتن" ففيه تورية في كل من كلمتي حمامة وفاتن. المعنى الظاهر والقريب لكلمة (فاتن) مغري ومغوي، والمعنى البعيد، هو الاسم الأول لفاتن حمامة، وهو المعنى المراد. وذلك على فرض أن الأغنية كتبت في الممثلة (فاتن حمامة).
عبد المنعم عجب الفَيا
26 مايو 2021
abusara21@gmail.com
///////////////