الثمن الإنساني لانفصال جنوب السودان

 


 

 


Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]
(1)

في الأشهر التي سبقت استفتاء تقرير المصير لجنوب السودان في يناير الماضي، أصدرت الحركة الشعبية لتحرير السودان (الحزب الحاكم في الجنوب) تعليمات للمواطنين السودانيين من أصل جنوبي بالتوجه فوراً إلى جنوب السودان. وترجع خلفية هذا التوجيه إلى خلاف حاد بين الحركة وشريكها في الحكم، المؤتمر الوطني، حول حق هؤلاء المواطنين في الاقتراع في الاستفتاء، إذ أن الحركة كانت ترفض هذا المقترح بحجة أن حكومة الشمال قد تضغط عليهم للتصويت للوحدة. وقد قبلت الحركة في نهاية المطاف، على مضض، منح هؤلاء حق التصويت، ولكن عراقيل كثيرة وضعت في سبيل ذلك.

(2)

استجاب عشرات الآلاف لهذا التوجيه، ووصل المحظوظون منهم إلى مدن الجنوب، حيث ما يزال غالبهم يقيم في العراء، في ميادين الألعاب الرياضية أو الساحات، بلا سقف يقيهم الحر والقر، وبدون إمدادات غذائية مؤمنة. وقد شهدت عشية الاستفتاء تقارير أخبارية متلفزة تصور محنة هؤلاء، وقد تباينت آراؤهم حول المسؤول عن محنتهم. أحد الشباب حمل المسؤولية لحكومة الشمال، قائلاً إنه لو لقي المعاملة الكريمة هناك لما اضطر إلى الهجرة، بينما قالت فتيات إنهم سئمن من العيش في العراء ورداءة الطعام، ويفكرن جدياً في العودة إلى الشمال. جدير بالذكر أن أياً من هؤلاء المهجرين لم يسمح له بالاقتراع في الاستفتاء لأنهم سجلوا أنفسهم للاقتراع في الشمال.

(3)

كان هؤلاء من المحظوظين كما أسلفنا. أما البقية فقد علقوا في منتصف الطريق، لأنهم لم يجدوا وسائل نقل تبلغهم الجنوب. وهناك آخرون حملوا أثاثهم وأمتعتهم، وخرجوا من منازلهم إلى بعض ميادين العاصمة السودانية في انتظار حافلات تقلهم، وما زالوا ينتظرون هناك، في العراء، حسب آخر أخبار وصلتنا عنهم.

(4)
لا أعتقد أن حكومة الجنوب، التي تتصرف في البلايين من عائدات النفط والمعونات الخارجية، لا تملك المبالغ اللازمة لاستئجار وسائل نقل ترحل العالقين ممن استجابوا لتوجيهاتها في الهجرة إلى الجنوب. ولكن يبدو أن المسؤول عن هذا الإهمال هو العقلية الاتكالية التي تطورت عند الحركة منذ فترة الحرب، وتمثلت في الاعتماد المتزايد على منظمات الإغاثة الطوعية والمعونات الأجنبية لتغطية الاحتياجات الإنسانية لمواطنيها. وقد علق أحد المراقبين الأجانب على هذه الظاهرة وعلى النفوذ المتزايد لهذه المنظمات بالقول: "إن جنوب السودان المستقل سيكون أول دولة في العالم تديرها المنظمات الطوعية."

(5)

كنا ممن اعترض على تخويف بعض المحللين الغربيين من مصير قاتم ينتظر دولة الجنوب الجديدة التي حذر كثيرون من تحولها إلى "دولة فاشلة". بل إن البعض ابتكر مصطلح "دولة مسبقة الفشل" لتوصيف حالتها. وكانت حجتنا أن الاستدلال بغياب أو ضعف البنية التحتية في الجنوب، وقلة الكفاءات والتعددية العرقية لا يبرر هذا الحكم، لأن معظم الدول الافريقية التي استقلت في النصف الثاني من القرن الماضي كانت في وضع أسوأ في جميع هذه المجالات. ولكن المشكلة قد لا تكون في البنية التحتية أو كثرة القبائل، ولكن في العقلية التي تدار بها البلاد.

(6)

إذا استمرت التوجهات الاتكالية التي تلقي باللوم في كل تقصير على الشمال، وتلقي بالمسؤولية في كل إصلاح على الغرب والمانحين الأجانب، وتستند إلى القبلية كمصدر وحيد للشرعية السياسية، فإن الفشل ينتظر الدولة الجديدة لا محالة. وما نراه من إهمال لمعاناة النازحين والمهاجرين لا يبشر بخير.

(7)

حكومة الشمال ليست مبرأة من المساهمة في معاناة أهل الجنوب، حيث تبارى قادة المؤتمر الوطني قبل الاستفتاء وبعده في إطلاق التهديدات في حق المواطنين من أصل جنوبي، وصرحوا بالنية في حرمانهم من كل الحقوق والخدمات، وطردهم من وظائفهم إذا استقل الجنوب. وتلك تهديدات غير موفقة، لا يبررها منطق ولا عقل ولادين ولا حس أخلاقي. وإذا كان هناك تبرير مشكوك فيه لإطلاق هذه التهديدات من أجل حمل الجنوبيين على دعم الوحدة (وهي استراتيجية كان لها تأثير عكسي) فإن القانون والمصلحة لا يسمحان بتنفيذ هذه التهديدات، لأن القانون الحالي لا يسمح بنزع الجنسية عن أي مواطن سوداني، بغض النظر عن طريق اكتسابها، إلا بشروط قاسية.

(8)

مهما يكن فإن السودان ظل موطناً لمئات الآلاف، إن لم يكن الملايين، من الأجانب المقيمين. ولعل المفارقة أن التهديدات التي دفعت بالكثير من الجنوبيين إلى المغادرة خلقت أزمة عمالة في المشاريع الزراعية وصناعة البناء وغيرها. وهذا بدوره فرض استجلاب عمالة أجنبية من دول مثل اثيوبيا ومصر لسد هذا الفراغ. فلتعجب لمن يقطع أنفه نكاية في وجهه كما يقول المثل الإنجليزي البليغ.

(9)
مما يؤسف له هو أن الساسة في الجنوب والشمال معاً لم يضعوا في اعتبارهم الإنسان السوداني وحاجاته وهم يتنازعون أمرهم بينهم. كان هذا شأنهم في الحرب، حين كانوا لا يبالون بمضاعفة معاناة المدنيين، إما لتحقيق الأهداف العسكرية الضيقة، وإما لتحقيق أغراض دعائية والمتاجرة بهذه المعاناة. وهذا هو شأنهم في السلم اليوم، حيث يستخدم المدنيون ومعاناتهم سلاحاً في المعارك العسكرية والدعائية الدائرة بين الطرفين، خاصة في أبيي وجنوب كردفان.

(10)

نحتاج لأن نستذكر هنا مقولة المسيح عليه السلام بأن السبت جعل من أجل الإنسان ولم يخلق الإنسان من أجل السبت. وبنفس المنطق فإن الأوطان جعلت لمصحلة مواطنيها، والحد الأدنى من مسؤولية الدولة هو أن تجنب مواطنيها المذلة والعذاب. ولن يكون فألاً حسناً أن تنفق دولة الجنوب الجديدة الملايين غداً السبت في الاحتفال بميلادها، بينما الآلاف من مواطنيها يفترشون العراء ويلتحفون السماء بين أم درمان وملكال، ولا يكادون يجدون ما يسد الرمق.

 

آراء