الجنائية والمحاكم الخلاسية

 


 

 

kamal.bilal@hotmail.com

سنحاول استقراء خيارات الحكومة السودانية وموقف المحكمة الجنائية الدولية من تقرير لجنة حكماء أفريقيا برئاسة الجنوب أفريقي«ثامبو امبيكي» وتوصيته بتشكيل محاكم مختلطة للتحقيق في جرائم دارفور. فقد صرح مدعي عام المحكمة «لويس أوكامبو» في كلمات مقتضبة بأن نظام المحاكم المختلطة الذي اقترحته اللجنة يشكل امتداداً لجهود محكمته. بينما تباينت ردود الأفعال السودانية حول التقرير فرحبت الحكومة بحذر على لسان «على عثمان طه» نائب رئيس الجمهورية بتوصيات اللجنة وتحفظ على مسألة تشكيل محاكم مختلطة. وفي سياق متصل أكد د/ غازي صلاح الدين مستشار رئيس الجمهورية مسئول ملف دارفور أن الحكومة ستدرس المقترح ومدى مواءمته للدستور وذلك مع استصحاب مبدأ أن السيادة الوطنية خط أحمر. في مقابل ذلك أصدرت نقابة المحامين بياناً رافضاً لمجمل التقرير واعتبرته يخالف الدستور ويمثل مؤامرة ضد القضاء السوداني والسيادة الوطنية. أما على مستوى الوسيط القطري فقد صرح رئيس الوزراء الشيخ «حمد بن جاسم آل ثاني» بأن هنالك تباشير للوصول إلى سلام عادل وشامل في دارفور، وجاءت تلك التصريحات عقب أجازة مجلس الأمن والسلم الإفريقي على مستوى رؤساء الدول والحكومات للتقرير وتشكيله لمجموعة عمل برئاسة «ثامبو امبيكي» للعمل على بلورة رؤية واضحة لحل المشكلة. وفي نفس السياق عبر «احمد بن حلي» نائب الأمين العام للجامعة العربية عن تقديره للجهود الحثيثة التي قامت بها اللجنة الأفريقية وأكد أن الدول العربية ستعمل على توفير فرص لنجاح مفاوضات الدوحة القادمة. يمكننا أن نخلص إلى أن إشادة الجامعة العربية بجهود اللجنة الأفريقية والاستبشار القطري يمثلان دعماً عربياً إضافياً للتقرير خاصة وأنه من المستبعد أن تقر لجنة العمل المشكلة رؤية حلول مخالفة لتوصيات التقرير بما في ذلك المحاكم المختلطة.

على الصعيد الدولي يبدو الوضع ساكناً ولكن بإمعان النظر يمكننا رصد عدة تحركات تشير إلى أن تحت الرماد وميض نار. فقد صرح «لويس أوكامبو» لدى مخاطبته بتاريخ 19/11/2009 لمؤتمر الدول الأطراف في المحكمة بأن محكمته اتخذت عدة خطوات أدت لتضييق الخناق على الرئيس السوداني وتهميشه إقليمياً ودولياً وأعتبر أن إلغاء رحلتيه الأخيرتين لنيجيريا وتركيا نتاج طبيعي لتلك الخطوات. وكانت بعض المصادر الدبلوماسية قد سربت أن دولاً غربية طلبت من تركيا اعتقال  الرئيس السوداني كمهر لانضمامها إلى الإتحاد الأوروبي. وراهنت تلك الدول على طبيعة الصراع بين الجيش التركي العلماني الذي تقف من ورائه المحكمة الدستورية والحكومة الإسلامية المعتدلة الملتزمة بمبدئي العلمانية وسيادة القانون ورغبتها الملحة في الانضمام للإتحاد الأوروبي. ورجحت تلك المصادر إمكانية تنفيذ تركيا لأمر القبض خاصة وأنها سبق وكانت طرفاً في سيناريو مشابه حين ضغطت على سوريا لإبعاد «عبد الله وجلان» قائد حزب العمال الكردستاني عن أراضيها، وقام الموساد الإسرائيلي باصطياده في كينيا في فبراير (1999) وتسليمه لتركيا كعربون لتمتين العلاقات بين البلدين، وقد تلى ذلك خطوات حثيثة للتطبيع مع إسرائيل حيث وقعت معها برتوكول للتدريب العسكري المشترك ووافقت على لعب دور الوسيط في المفاوضات بين إسرائيل وسوريا.

بمحاولة استقراء الخطوات التي قصدها أوكامبو يمكننا القول بأنه قصد التفاهمات غير المعلنة التي توصلت إليها المحكمة مع بعض الجهات الدولية ذات الصلة، فقد قام أوكامبو بزيارة لمقر الإتحاد الأفريقي في أديس أبابا في يوليو الماضي واجتمع برئيس لجنة الحكماء وعضو اللجنة «أحمد ماهر» وزير خارجية مصر السابق وذلك قبل إصدار اللجنة لتقريرها وتوصياتها النهائية. كما نظم أوكامبو اجتماعاً إستراتيجياً في مقر المحكمة بتاريخ 12/10/2009 ضم منظمات دولية ومحلية غير حكومية لمناقشة دورها في بعض الملفات بما فيها دارفور. ومن جهة أخرى قام «سانج هيون» رئيس قضاة المحكمة بزيارة إلى بروكسل بتاريخ 13/10/2009 التقى خلالها بالمفوضية الأوروبية وأعضاء البرلمان الأوروبي، كما قام كذلك بزيارة إلى مقر الأمم المتحدة في نيويورك بتاريخ 28/10/2009 وقد كانت إحدى ثمرات تلك الزيارة مشاركة الولايات المتحدة الأمريكية في المؤتمر المشار إليه أعلاه بصفة مراقب وذلك لأول مرة منذ تأسيس المحكمة في العام (2002). وقد رحب رئيس المؤتمر بتلك الخطوة واعتبرها تمثل علامة فارقة وتحمل دلالات رمزية وسياسية هامة تؤكد مخالفة الإدارة الأمريكية الحالية لسياسات الإدارة السابقة تجاه المحكمة. بينما أكد «استيفن راب» رئيس الوفد الأمريكي لدى مخاطبته المؤتمر الالتزام التام للرئيس «باراك أوباما» بسيادة حكم القانون والمحاسبة وفقاً للعدالة الجنائية الدولية. وفي سياق متصل قامت هولندا بصفتها دولة المقر للمحكمة الجنائية بتكريم الإيطالي «أنطونيو كاسيسي» رئيس لجنة التحقيق الدولية في جرائم دارفور ومنحته جائزة رفيعة تقديراً لمجهوداته في مجال القانون الدولي، وقد عبر «كاسيسي» عند تسلمه للجائزة عن قلقه العميق من قيام بعض الدول بالتركيز بشكل متزايد على الجانب الوطني من السيادة واعتبر هذا الفهم عائقاً حقيقياً في وجه تقدم العدالة الدولية. ولا ننسى أننا ذكرنا في مقدمة هذا المقال بأن د/ غازي صلاح الدين أعتبر أن السيادة الوطنية خطاً أحمر عند تقييم توصيات اللجنة الأفريقية. الجدير بالذكر أن هذا التكريم حدث في نفس يوم زيارة النائب الأول للرئيس رئيس حكومة الجنوب «سلفاكير ميارديت» إلى هولندا، ويصعب تصور أن التزامن كان مصادفة محضة خاصة وأن وزارة الخارجية الهولندية نشرت على موقعها ما يفيد بأن المحادثات تطرقت إلى ملف دارفور.

لابد من القول بأن تقرير اللجنة الأفريقية أدخل الحكومة السودانية في مطب هوائي عالي الضغط يتطلب دراسته بالبصيرة لا البصر، فهو يؤكد وقوع انتهاكات لحقوق الإنسان في دارفور تتطلب المحاسبة بمبدأ مقتضى العدالة لا الانتقام، كما أن التقرير نتاج لجهود أفريقية خالصة وهو الأمر الذي ظلت تطالب به الحكومة السودانية منذ رفضها للقوات الدولية وتمسكها بضرورة إمساك الإتحاد الأفريقي بالملف، هذا إضافة لنجاح الحكومة في حشد تأييد أفريقي وعربي وإسلامي ضد المحكمة الجنائية بصفتها امتداداً للعقلية الاستعمارية والهيمنة الغربية. وفي حالة رفض الحكومة السودانية لتوصية اللجنة تشكيل محاكم (خلاسية) بدعوى مخالفتها للدستور فسيفقد السودان مظلة التعاطف الأفريقي والعربي وسيجعله كالطريدة تتكالب عليها الجوارح، كما سيفتح الرفض الباب على مصراعيه للمحكمة الجنائية لتمد قدميها ولسانها شماتة في الإتحاد الأفريقي. وأختم بالقول بأنه ربما يمكن للحكومة السودانية الخروج من معضلة المحاكم المختلطة عبر اشتراطها أن يكون الخبراء الأجانب المشاركين فيها قانونيون يحملون جنسية مزدوجة إحداها سودانية أو ينحدرون من دول موقعة مع السودان على اتفاقيات للتعاون المشترك في المجال العدلي، وبهذا تضمن معرفتهم بالفقه القضائي السوداني وامتلاكهم لخبرات أجنبية في مجال العدالة الدولية.  

 

لاهاي

 

آراء