الجنود السودانيون الذين ذهبوا للمكسيك (1863 – 1867م): تاريخ عالمي من وادي النيل إلى شمال أمريكا (2 -2)

 


 

 

The Sudanese Soldiers Who Went to Mexico (1863 – 1867): A Global History from the Nile Valley to North America (2- 2)
هيذر شاركي Heather J. Sharkey
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة مختصرة للجزء الثاني والأخير من مقال عن تاريخ الجنود السودانيين بالجيش المصري الذين ذُهب بهم للمكسيك بين عامي 1863 و1867م، نُشِرَ في الفصل السابع من كتاب صدر عام 2023م بعنوان: "Ordinary Sudan, 1504 - 2019"، وهو يمثل المجلد السادس في سلسلة صدرت تحت عنوان: Africa in Global History.
وقد حظيت قصة الذهاب بالجنود السودانيين إلى المكسيك بالكثير من الكتابات في الدوريات المتخصصة، ونشر عنها في عام 1995م المؤرخان البريطانيان ريتشارد هيل وبيتر هوق كتاباً بعنوان "فيلق الصفوة الأسودA Black Corps de’ Elite "، صَرَمَا في بحثه قرابة نصف قرن كامل. ونشر قبلهما الأمير عمر طوسون (1872 – 1944م) كتاباً باللغة العربية عنوانه: "بطولة الأورطة السودانية المصرية في حرب المكسيك" في عام 1933م.
وتعمل كاتبة هذه المقال هيذر جي. شاركي (1967 - ) أستاذةً في جامعة بنسيلفانيا الأمريكية، ولها عدد من المقالات المحكمة والكتب عن السودان ومصر، لعل من أهمها كتاب "العيش مع الاستعمار" الذي صدرت ترجمته للعربية في أواخر عام 2023م. ونشرت الكاتبة حديثاً مقالاً عن صورة فتوغرافية لأحد قادة الكتيبة السودانية في المكسيك (عبد الرحمن موسى)، تم تصويرها في أحد أستوديوهات باريس عقب عودة الكتيبة من المكسيك، ولعلها أول صورة فتوغرافية لسوداني، إذ أنها أخذت في 1867م. وتعمل الكاتبة الآن على تأليف كتاب عن تاريخ الجنود السودانيين في المكسيك، تتناول فيه مواضيع شتى لم تُطْرَق من قبل إلا لِمَاماً.
المترجم
*************** ********** **************
3/ العلم والعرق ووصف الجنود السودانيين (تَتِمَّة لما ورد في الجزء الأول من المقال المترجم)
عندما بلغ أفراد الكتيبة السودانية فيراكروز مطلع عام 1863م، وجدوا فيها جنوداً أفارقة من جزر الكاريبي (مثل مارتينيك وغوادلوب)، ومن أفريقيا (السنغال والجزائر) يحاربون في صفوف الجيش الفرنسي بالمكسيك. وذكرت بعض المصادر أن بشرة الجنود السودانيين (الذين كانت أصولهم تعود لجنوب السودان أو جبال النوبة أو جنوب دارفور) كانت أشد سواداً من بشرة أولئك الجنود الزنوج الآخرين. وسجل أحد المكسيكيان الذين أُسِرُّوا في فيراكروز (واسمه فرانسيسكو دي بولا ترونكوسو) في مذكراته أن لون بشرة أولئك الجنود السودانيين ليست سوداء فحسب، بل حالكة السواد، خاصة وهم يرتدون – حتى وهم في المكسيك - زي الجيش المصري الأبيض الناصع. وعزز اشتداد سواد بشرتهم من قيمتهم في أعين الفرنسيين، بحسبان أن لونهم الحالك السواد هو أحد علامات قوة تحملهم للأمراض (هكذا! المترجم).
ووجد طبيب الأمراض المدارية العسكري الفرنسي جان - بابتيست فوزييه أمر الجنود السودانيين مثيراً للاهتمام بشكل خاص، فقام بتسجيل اسم كل واحد منهم وتفاصيل صفاته الخلقية (مثل الطول والوزن)، وكتب معلقاً بأنهم طوال القامة ونحفاء. وأهتم كذلك بأي جرح أصيب به أي واحد منهم، وسجل مكان حدوثه، ونوع العلاجات التي تلقاها، ونتائجها (مثل البرء أو البتر أو الوفاة)؛ وسجل كذلك الأماكن التي قُتِلَ فيها من قتل منهم. وفي أحد السجلات وُجد أن ذلك الطبيب كان قد سجل كل تلك المعلومات المذكورة (عن الجنود السودانيين وعن غيرهم من السود، وعن أفراد القوات الجمهورية الليبرالية أيضاً) عقب معركة واحدة، ولكنه لم يفعل ذلك للجنود الجزائريين أو المكسيكيين أو غيرهم. ودأب فوزييه على تسجيل ومتابعة ما يتناوله أفراد الكتيبة السودانية من طعام، ورصد أي علة أصابت أي واحد منهم، من الأكزيما والتهاب الملتحمة إلى مرض الزهري (السفلس). وكان الجنود السودانيون يُعْطَوْنَ قدراً أكبر من الأرز مقارنة مع الجنود الفرنسيين، ويُمْنَحُونَ زيتاً وخلاً عوضاً عن النبيذ والبراندي (eau - de-vie). وكانوا ينالون في أيام شهر رمضان حصص إعاشة (إضافية) من الأرز ومرق اللحم والزبد والقهوة. ولعل في هذا ما قد يشير إلى احترام المسؤولين الفرنسيين لوضع الجنود السودانيين كمسلمين، واعطائهم كميات إضافية من الطعام عوضاً عن المشروبات الكحولية. ولاحظ الطبيب العسكري الفرنسي فوزييه أن الجنود السودانيين كانوا يعانون من الإسهال والسعال بكثرة، خاصة في عامهم الأول بالمكسيك، وانتبه أيضا لعدم تسجيل حالات للحمى الصفراء بينهم. وكان يعزو سبب وفاة من مات منهم إلى مرضي التَّيفُوس أو الزحار (الدوسنطاريا)، على الرغم من أن رئيس الهيئة العلمية الفرنسية كان يلاحظ أن الحمى الصفراء تأخذ أحيانا صوراً تماثل مرض التَّيفُوس (typhoid- like form)، خاصة في بعض الأعراض. وكان قائد الكتيبة السودانية (الرائد جبارة الله محمد) الذي أبحر مع كتيبته من الإسكندرية قد تُوُفِّيَ في فيراكروز عام 1863م (1)، وشُخص سبب موته على أنه "حمى صفراء". إلا أنه لم يكن سوداني الأصل، بل كان رجلاً أبيضاً من سوريا. وحل محله في قيادة الكتيبة محمد الماس، وهو جندي سوداني من أفراد تلك الكتيبة بالتأكيد. وكان الماس قد عبر للسلطات الفرنسية عن شكوكه في تلك المناعة المفترضة عند الجنود السودانيين. غير أنه وضح أن السلطات الفرنسية لم تغير من قناعتها بهذا الافتراض على الرغم من أن 71 من جنود هذه الكتيبة (من أصل 446 أبحروا من الإسكندرية إلى فيراكروز) أصيبوا بداء الحمى الصفراء بعد بلوغهم فيراكروز، مات منهم 64 رجلا (ذُكِرَ في بعض المصادر أن 20 من جنود الكتيبة السودانية قُتلوا أثناء القتال، ومات 20 آخرين من جراء الجروح التي أصيبوا بها، بينما اختفى منهم جنديان أثناء المعارك، وفر 12 رجلا من الخدمة العسكرية) (2).
وتناولت ماريولا اسبينوزا (وهي متخصصة في تاريخ الطب بأمريكا اللاتينية. المترجم) في بحث لها صدر في دورية Social Science History عام 2014م مسألة علاقة العِرْق (race) بالمناعة ضد مرض الحمى الصفراء عبر التاريخ، وذكرت أن المناطق التي يتفشى فيها مرض الحمى الصفراء، وسبق لسكانها التعرض له من قبل إبان سنوات طفولتهم، تكون شدة المرض ومعدلات الوفاة بسببه أقل وطأة عندما يصابون به مرة أخرى. إلا أن قوة تلك المناعة تتناقص مع مرور سنوات العمر. وقد يعني هذا أنه في حالة أن كان جنود السودان قد ظهرت عليهم علامات الإصابة بأعراض تشابه أعراض الحمى الصفراء وهم في المكسيك، فمن الجائز أن يكونوا قد أصيبوا بذلك المرض من قبل وهم بالسودان، ولكن كانت حالات أصابتهم أقل حدةً عند المقارنة بالآخرين الذي تعرضوا للإصابة بالمرض لأول مرة (مثلما حدث للجنود الفرنسيين). وبهذا رأت ماريولا اسبينوزا أن الدكتور الفرنسي فوزييه (الذي كان شديد التعصب لفكرة وجود مناعة سَلِيقِيَّة المنشأ innate immunity عند السود)، لم يرد أو عجز عن تشخيص ما مثلت أمامه من حالات لسودانيين مصابين بالحمى الصفراء أمام عينيه، بسبب تمسكه المفرط بتلك النظرية (التي تبنتها السلطات الفرنسية أيضاً لدرجة أن المؤرخين صدقوها ودأبوا على تردديها لأكثر من قرن من الزمان). ومن الكتاب العرب الذين روجوا لفكرة أن الجنود السودانيين بالمكسيك كانوا أقوى وأشد غلظة من الجنود الفرنسيين هو الأمير عمر طوسون عام 1933م، رغم إقراره بأن عدداً من أولئك الجنود قد ماتوا بسبب الحمى الصفراء. وعَزَا ذلك الأمير ضعفهم (البدني) لقلة تغذيتهم في المكسيك، وليس للمرض. ووافقه في ذلك الرأي المؤرخان البريطانيان هيل وهوق اللذان زعما أن الجنود السودانيين كانوا يعانون من عوز فيتامين نِياسين Niacin (فيتامين ب 3) بسبب إفراطهم في تناول الذرة الشامية في طعامهم الإسباني، وتوقفهم عن أكل الدخن! وأيد فكرة وجود مناعة سَلِيقِيَّة المنشأ عند الجنود السودانيين بالمكسيك عالمان أمريكيان (3)، زعما أنه لم تقع إصابة واحدة بالحمى الصفراء لأي جندي سوداني في المكسيك (ذكرت كتابة المثال أنهما ربما كانا يقصدان داء الكوليرا). بل وذهب هيل وهوق في كتابهما الشهير الذي نشر عام 1995م إلى أن الجنود السودانيين كانوا قد أحضروا للمكسيك في الأساس على أمل أن يقاوموا داء الحمى الصفراء، وهذا ما حدث بالفعل – بحسب زعمهما-
وما يعلمه الباحثون عن تاريخ الصحة في السودان يجعل من مثل هذه الادعاءات تبدو غير محتملة الحدوث، بل بعيدة المنال. ولم يكن الجنود السودانيون محصنين ضد الأمراض الاستوائية قط. فقد سجلت السلطات العسكرية المصرية ذلك في عشرينيات القرن التاسع عشر، بعد وقت قصير من غزو الجيش التركي المصري للسودان، الذي قبض على عدد كبير من السودانيين في أثناء غاراته، واسترقهم وبعث بهم في مسيرات قسرية إلى مصر. ومات من جراء ذلك نصف أولئك المسترقين السودانيين بسبب أمراض مستوطنة (يبدو أنها شملت الحمى الصفراء، وكذلك الطاعون والملاريا والتيفوس) (3). وظلت الحمى الصفراء (مع أمراض أخرى ينقلها البعوض مثل الملاريا وحمى الضنك وداء الفيلاريَّات /داء الفيل ) مصدر قلق، وموضوعا بحثيا مهما في السودان مع بداية القرن العشرين، حين صار البريطانيون يمثلون السلطة المهيمنة على البلاد.
4/ بشر حقيقيون وليسوا بأسود أو تماسيح
أوردت السلطات العسكرية الفرنسية بأن الجنود السودانيين بالمكسيك ظلوا يعانون طيلة فترة بقائهم في المكسيك من حالة عارمة من التوق والحنين للوطن (homesickness). ومما زاد الطين بلة، إن أحداً لم يخبرهم بالوجهة التي كانوا سيبحرون اليها قبل بدء الرحلة، ولا سبب قيامهم بها. وكان الإبحار لمدة ستة أسابيع في سفينة مزدحمة أمراً صادماً وبالغ الإيلام، لا سيما وأن الكثيرين منهم لم يكن قد رأوا بحراً في حياتهم قط.
وفي بداية عام 1864 قدم الجنود السودانيون عريضةً للسلطات الفرنسية يلتمسوا فيها إعادتهم لمصر. ورأت تلك السلطات في البدء أن تعاقبهم على مطالبتهم تلك، وعدتها عصياناً للأوامر. غير أنها آثرت في نهاية المطاف تجاهل عريضة السودانيين تماماً، إذ أنهم كان يبلون بلاءً حسناً في المعارك، ولأنها لم تكن ترغب في إرجاعهم من حيث أتوا إلى أن تزودهم مصر بمزيد من أولئك الجنود.
وواجه الجنود السودانيون صعوبات في فهم اللغتين الفرنسية والإسبانية، وكذلك فهم لهجة الجزائريين العربية (الذين استعان بهم الفرنسيون للتفاهم مع السودانيين)، وهي لهجة تختلف جداً عن لهجتهم، خاصة وأن بعض الجنود الجزائريين كانوا من الأمازيغ (البربر). وكان الجنود السودانيون أنفسهم لا يعرفون الكثير من اللغة العربية، فقد بدأ معظمهم في تعلمها لتوه، إذ أنهم جلبوا كمسترقين من مناطق الدينكا والنوير والنوبة التي لا تتحدث العربية.
وعلى الرغم مما عانوه من مصاعب في التأقلم واللغة وغيرهما، إلا أن الجنود السودانيين أدوا أدوارا بالغة الأهمية في المكسيك. فقد كان يحرسون الطرق ومحطات السكة حديد التي تربط فيراكروز بمكسيكو سيتي، ويحرسون كذلك البريد المتبادل بينهما. وقد خاضت القوات السودانية الكثير من المعارك الصغيرة مع رجال المقاومة المكسيكيين. وكُلف السودانيون بحراسة بعض الشخصيات المهمة مثل الامبراطورة كارلوتا Carlota حرم ماكسميليان إمبراطور المكسيك، وسفير بابا الفاتيكان الذي بعث به من روما – أثناء عبورهما لمناطق خطرة قرب الساحل. ومن الغريب أن نعلم أن الجنود السودانيين بقيوا في طوال فترتهم في المكسيك بالقرب من فيراكروز (ولم يصلوا إلا لمسافة لا تزيد عن 30 كم في الأراضي الداخلية، ولم تطأ اقدامهم مكسيكو سيتي قط (خلافاً لما ذكره المحارب القديم علي جفون (5) في مذكراته عن تلك الأيام). وربما يفسر نطاق خدمتهم الضيق جغرافياُ، وغيابهم عن العاصمة سبب قلة عدد المراقبين المعاصرين، والمؤرخين اللاحقين الذين لاحظوا وجودهم. وكتب عنهم أسير الحرب المكسيكي فرانسيسكو دي بولا ترونكوسو (الذي ورد ذكره آنفاً) في مذكراته ما يلي بعد أن شاهدهم بالقرب من فيراكروز في يونيو 1863م: "وأخيراً بلغنا (مدينة) لا تيجيريا حيث لقينا الوحوش المصريين. كانوا نحو 150 من الزنوج، الذين قالوا إنهم أحضروا إلى هنا كهدية من خديوي مصر للإمبراطور نابليون الثالث – يا لها من هدية جميلة! وكان جميعا شباباً سوداً طوال القامة جداً، ونحفاء، وأتوا إلى هنا دون تدريب عسكري سابق، و(لكنهم) في شراسة تماسيح المناطق التي قدموا منها". ولم تكن مثل تلك الأوصاف غريبة على السلطات الفرنسية، التي كانت تشبههم أيضاً بالحيوانات. وكذلك كان يفعل الامبرياليون البريطانيون في تلك السنوات عندما يصفون في نبرة تعجب واندهاش (وربما إعجاب خفي؟) الأعراق المحبة للقتال مثل سيخ البنجاب أو الجوركاس في نيبال (الذين حرص البريطانيون على تجنيدهم في خدمة جيشهم لشدة ولائهم وشجاعتهم. المترجم). وكتب ذات مرة قائد القوات الفرنسية بالمكسيك إلى وزير الدفاع الفرنسي رسالة جاء فيها ما يفيد بأن "روح أفراد الكتيبة السودانية لا تسمح للواحد فيهم أن يدع من يأسره باقياً على قيد الحياة. ... فهم يقاتلون بحماسة شديدة لم أر مثلها من قبل. ونظرات أعينهم وحدها تكشف عن مكنون مشاعرهم، فشجاعتهم لا نظير لها... إنها لا تكاد تصدق. أنهم ليسوا ببشر، بل هم أُسُود". وربما تكون شراسة أولئك الجنود انعكاس للعنف الذي صاحب حَيَواتهم قبل المجيء للمكسيك. فقد قاسوا من الاسترقاق ثم التجنيد القسري في الجيش المصري، ووجدوا أنفسهم قد نزعوا بالعنف فجأة بعيداً عن موطنهم وأسرهم ومجتمعهم ومحيطهم اللغوي والديني.، وواجهوا الكثير من الصدمات والمعارك. وعمل الجيش المصري، والنظام التركي – المصري، والقوات البريطانية – المصرية لاحقاً على تبني وتشجيع مثل تلك الثقافة ذات الوحشية العارضة casual brutality.
إن بمقدورنا فهم وتقدير حَيَوات أولئك الجنود بحسبانهم بشراً، وليسوا مجرد "تماسيح" أو "أسود"، عند إعادة قراءة قصة الجندي على جفون، التي رواها لنقيب بريطاني اسمه بيرسي ماشيل عام 1896م. وفي مقدمة مقاله عن ذلك التاريخ الشفاهي، وصف ماشيل علي جفون وهو في أيامه الأولى قبل أن يغدو مسلماً ويلتحق بالجيش المصري بـ "المتوحش العاريnaked savage "، ومع ذلك كانت ثقة علي جفون في نفسه تظهر من خلال روايته لقصة حياته وهو يؤكد قيمته الذاتية وكرامته. (لخصت الكاتبة فيما تبع هذا الجزء مذكرات علي جفون التي وردت في أربعة أجزاء في The Cornhill Magazine عام 1896م. وذكرت الكاتبة كذلك بأن المؤرخ أحمد سيكنجا خالف المؤرخين هيل وهوق في قولهما أن الجيش المصري كان يعامل السودانيين بحسبانهم جنوداً مقدرين ومبجلين، بينما كان سيكنجا يرى – على العكس – أن المصريين كانوا يعاملون الجنود السودانيين معاملة سيئة، وكأنهم رقيق عسكري، وظلوا على تلك الحالة. المترجم).
وبعد مغادرة الجنود السودانيين للمكسيك، انتهت الحرب الاهلية في الولايات المتحدة، وهدد المسؤولون الأمريكيون فرنسا بالحرب إن هي واصلت في "التدخل" في شؤون المكسيك، بينما سحب نابليون الثالث تأييده للإمبراطور ماكسميليان، وبدأ في تنفيذ خططه لسحب الجيش الفرنسي من المكسيك.
5/ التدخل الفرنسي والحرب المكسيكية والوظائف في السودان
مُنِحَ جنود الكتيبة السودانية الذين عادوا لمصر قِلاَدات شرف وترقيات. وتوقفوا في باريس وهم في طريق العودة لوطنهم، حيث احتفلت بهم السلطات الحكومية، ومنحت بعضهم لقب "فرسان جوقة الشرف". ووُضِعَتْ في متحف الجيش الفرنسي صورة لأحد أولئك الجنود المكرمين، واسمه عبد الرحمن موسى، وهو يرتدي الزي العسكري الأبيض، ويضع على صدره شرائط الجوقة المميزة. وعلى الرغم من أن علي جفون لم يكن واحداً من الجنود المكرمين، إلا أنه ذكر للضابط ماشيل أن الإمبراطور نابليون الثالث قد قام شخصياً بتعليق وسام ذهبي على صدره نظير "البسالة والانضباط " التي أبداها في الحرب. كذلك تُرُقِّيَ علي جفون لرتبة أعلي (هي رتبة باشجاويش / رقيب أول).
وأحتفل قادة الجيش المصري في الإسكندرية بالجنود السودانيين العائدين، ثم قاموا بحل كتيبتهم، وتفرقوا من بعد ذلك في أنحاء السودان. فعمل علي جفون في مصوع لأربع سنين في مجال تحصيل في الضرائب على مبيعات الملح في البحر الأحمر. وليس هناك الكثير من المعلومات عن مصير الجنود الآخرين. بل اختفت أسماء بعض الجنود الذين كرمهم الجيش الفرنسي من سجلاته بمجرد أن آبوا للسودان، بحسب ما جاء في كتاب الأمير عمر طوسون. غير أن هيل وهوق تمكنا من معرفة مصير عدد قليل من أولئك الجنود. فقد شارك الرائد صالح حجازي مع الجيش التركي – المصري في غزو دارفور في عامي 1873 و1874م. وأنضم 76 من الجنود الذين حاربوا في المكسيك إلى الجيش الموجود في فوريا Foweria (في يوغندا الآن). وأنضم ثلاثة من ضباط تلك الكتيبة إلى جيش المهدي بعد عام 1881م، وكان واحداً من أولئك الثلاثة (وهو الصاغ فرج عزيزي، من جبل تقلي) قد نال من قبل وسام جوقة الشرف الفرنسي.
6/ الموروثات العابرة للحدود الوطنية
يمكننا عند النظر إلى الجنود السودانيين الذين ذهبوا إلى المكسيك، تتبع العديد من التواريخ العابرة للحدود الوطنية. ومن الواضح أنه باستطاعتنا التعرف (أو الاستعراف identification) على العلاقات القوية بين السودان والمنطقة التي انفصلت عنها في عام 2011م لتصبح جنوب السودان. لقد كانت للأجزاء التاريخية الملتصقة من "بلاد السودان" (أي السودان وجنوب السودان) روابط قوية مع مصر، ليس بسبب نهر النيل فحسب (الذي يمثل شريان الحياة المشترك بينهما) ولكن أيضاً بسبب تاريخ الكلولونيالية التركية – المصرية، وممارستها للرق العسكري.
ويمكننا أيضاً تتبع الروابط مع فرنسا عبر التدخل الفرنسي في المكسيك، وفي ذات الوقت، الاعتراف أيضاً بالتاريخ العالمي للأفكار المتعلقة بالعرق والطب التي أدت دوراً مهماً في جذب الجنود السودانيين إلى أمريكا الشمالية. وبحسب رسالة أرسلها القنصل العام الفرنسي إلى الولايات المتحدة في 1867م، كانت الحكومة الفرنسية تأمل في أن يقوم أفراد الكتيبة السودانية (وكان للكثير منهم قدرة معقولة على الحديث بالفرنسية عند نهاية خدمتهم في المكسيك وعودتهم لديارهم) بالعمل على زيادة النفوذ الفرنسي في مصر وبالتالي بالسودان أيضاً). غير أن خطط فرنسا الكبيرة تلك باءت بالفشل باندلاع الحرب بين فرنسا وبروسيا (1870 – 1871م)، حين قُبِضَ فيها على الإمبراطور نابليون الثالث، وخبا نجم المارشال فرانسوا أكيل بازين (القائد السابق في المكسيك).
وبدأت في سبعينيات القرن التاسع عشر الصلات بين الجنود السودانيين وبين بريطانيا (تلك القوة الامبريالية الكلولونيالية الناشئة)، واستمرت تلك الصلات حتى عام الغزو البريطاني – المصري (1898م) للسودان. وكان الجنرال البريطاني غوردون، حاكم الاستوائية في أيام الحكم التركي – المصري، قد قابل في تلك النطقة عدداً من الجنود السودانيين العائدين من المكسيك، وقيل إنه كان يساعدهم في تغيير شرائطهم العسكرية البالية التي كانوا يعلقون عليها الميداليات الفرنسية بفخر شديد، ويحرصون على ارتدائها دوماً. وبعد سنوات من ذلك عُيِّنَ غوردون (والذي نُصِبَ هذه المرة حكمداراً على كل السودان) أحد المحاربين القدماء في المكسيك (واسمه فرج محمد باشا الزيني) مسئولاً عن الدفاعات البرية في رتبة لواء أولاً، ثم رقاه إلى رتبة فريق، وهي أعلى رتبة عسكرية يبلغها ضابط عسكري سوداني من المسترقين العسكريين (8). وقُتِلَ على الأقل أربعة من السودانيين الذين شاركوا في الحرب بالمكسيك عند فتح (سقوط) الخرطوم، كان منهم فرج محمد باشا الزيني، الذي أسره أنصار المهدي أولاً، ثم قتلوه بعد سنوات (بين عامي 1896 و1898م). وكان علي جفون (وهو برتبة صاغ في الجيش) قد شارك في القتال في صفوف الجيش البريطاني – المصري الذي استولى على السودان وكون فيه "حكما ثنائيا". وأضاف على جفون لنفسه دوراً عسكريا آخر قبيل وفاته (وعمرة 62 عاماً) وهو مشاركته في "حادثة فشودة" التي وقعت عام 1898م، وكادت تتسبب في حرب بين بريطانيا وفرنسا، في أيام التسابق والهرولة للسيطرة على أفريقيا (7). وظلت ذكرى الجنود السودانيين في المكسيك باقية في خيال الجنوبيين في منطقة بور، بحسب ما رواه باحث أنثروبولوجي أمريكي من جامعة تمبل عامي 2009 - 2010م. فقد سمع امرأة كبيرة في السن (من نسل أحد المسترقين العسكريين) تتحدث عن أحد أسلافها الذين ذهبوا إلى "أمريكا". وأضافت سيدة مسنة أخرى أن "نصف سكان جنوب السودان من الجيل الصاعد هم الآن في أمريكا".
******** ************ ************
إشارات مرجعية
1/ قامت السلطات الفرنسية بدفع مبلغ 5667 فرانك لأسرة جبر الله محمد، كان مما تبقى له من تركته، بحسب ما ورد في موسوعة الويكيبديا (https://shorturl.at/oyA57).
2/ Douin, George (1933). Historie due regene di Khedive Ismail, Instituo Poligrafico dello Strate per la Reale Societa di Geografia d’Egitton, volume 1, page 348
3/ Cerelius, Daniel and Anahid Crecelius (1976). An Egyptian Battalion in Mexico (1863 – 1967). DER ISLAM, 53, 70 – 86
4/ Sikinga, A. 2000. Comrades in Arms or Captives in Bondage: Sudanese Slaves in the Turco – Egyptian Army. 1821 – 1865. In Slave Elites in the Middle East and Africa, 197 – 214.
5/ يمكن النظر في مذكرات علي جفون في ثلاث مقالات مترجمة نشرت في سودانايل، هذا هو أولها: https://shorturl.at/glptz
6/ للمزيد عن الحرب الفرنسية البروسية يمكن النظر في هذا الرابط: https://shorturl.at/fEGOV
7/ https://shorturl.at/btuC5
8. اُنْظُرْ قائمة بأسماء الجنود السودانيين الذي ذُهب بهم للمكسيك، ورتبهم بعد عودتهم منها https://shorturl.at/aqDKV

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء