الجيش في السياسة: لزوم ما لا يلزم
umsalsadig@gmail.com
بسم الله الرحمن الرحيم
(2)
*اطار نظري*
خالص التعازي القلبية على الفقد الجلل للمغفور له بإذن الله الحبيب العم فاروق ابو عيسى والعزاء موصول لجميع السودانيين و لرفيقة دربه الحبيبة السيدة الكريمة نعمات مدني ولابنتيه الحبيبتين أمل ونهلة وعزاؤهم وعزاؤنا أنه ذهب الى ربه مطمئنا بانقضاء عهد بغيض وظلامي ، ظل فقيدنا يعارضه حتى نهايته المشهودة في 11 ابريل 2019م.
و تمر بنا هذه الأيام أيام مباركات فجّر فيها شعبنا معلم الشعوب ثورة صارت مضرب المثل في كل أنحاء العالم فالتحية لأبطالها من الثوار: من استشهدوا، والذين هم أحياء يحملون أكفانهم في (ايدينهم) -ما زالوا، قربانا للوطن ولأجله. التحية لهم جميعا للجرحى وللمفقودين، التحية لمن آزارهم، ولمن خرج معهم، التحية لمن دعمهم بالمال، و لمن شجعهم بالعبارة الداعمة المتعاطفة وبالكلمة القوية المزلزلة، التحية لمن شاركهم فرحة النصر المؤزر بعد السقوط، والتحية لمن انحاز لهم من أحرار الجيش، والتحية أيضا لمن كف عنهم نيران بنادقه وقنابل بمبانه ...التحية من قبل ومن بعد لأمهات الشهداء ولذويهم، فلولا رضاهم ومؤازرتهم لفلذات أكبادهم ما كان انتصار 11 ابريل ممكنا ..التحية للقوى السياسية المدنية وعلى رأسها قوى الحرية والتغيير وتجمع المهنيين وتحية خاصة لحزب الأمة القومي، ولقيادته فلولا حكمة ذلك الموقف لما عبرنا من الثورة للدولة.
كنت قد كتبت في الأسبوع الماضي عن وجوب عودة الجيش لثكناته وعن مخاطر تدخله الجمة في السياسة، بما يضره ويخربها حتما. كما تطرقت لمفهوم إعادة التنشئة أو التكييف الاجتماعي للمجندين الجدد للجيش بما يضمن تبنيهم لمطلوبات المؤسسة العسكرية(المهنية) وبما يضمن توجيه أدوات العنف التي يمتلكونها، حصريا ضد المعتدين على الوطن ولكي لا تصير تلك القوة باطشة بمواطنيها (فترتد الى الخلف وتقتل الصغارا). ثم عرضنا بعضا من واقع مزري أقعد بالجيش السوداني عن مهمامه المفروضة وأدخله طرفا في حروب قذرة ورأينا كيف أفسد بتدخله فيما لا يحسنه مقدرات الوطن وضيعها. وفي خاتمة مقال الاسبوع الماضي خلصنا لأن انحياز المؤسسة العسكرية لثورات السودان الثلاث على دكتاتوريات متسلطة في اكتوبر 1964، ابريل 1985 وديسمبر 2018 مثلت كوة ضوء يمكن الولوج عبرها ومناصحة قادات الجيش بما بذلناه لهم الأسبوع الماضي من نصح: أن أعطوا الخبز لخبازه وركزوا في ورقكم يرحمكم الله..
في مقال اليوم والاسبوع القادم بإذن الله سنتناول بالنقاش بعضا من النقاط المهمة التي تجاوزها مقال الخميس الماضي و لجسر ذلك النقص توجهت بسؤال خبراء في المجال لعرضه في الجزء الأخير من هذه المقالات و لمزيد من الاضاءة حول الموضوع رأيت عرض النظريات في علاقة الجيش بالسياسة و نماذج من الرأي والممارسة العملية حول علاقة الجيش بالسياسة (كإطار نظري )لنرى تداخلات تلك الآراء والتطبيقات ونناقش أطروحاتها ولنرى مدى ملائمتها أو مخالفتها للرؤية التي اتخذناها ورأينا على أساسها نصح الجيش الابتعاد عن السياسة جملة واحدة...
يمكننا النظر لعلاقة الجيش بالسياسة وفقا لخمس نظريات :
1- نظرية صموئيل هنتنغتون: لفك "إشكالية العسكر والمدنيين"، وكيف يمكن كسب رهان إبقاء العسكر -على الرغم من قوتهم- تحت سيطرة المدنيين، ليصبح الهدف الأول للسياسة الاحترافية للجيش و تطوير نسق علاقات عسكرية-مدنية قادرة على ضمان الحد الأقصى من الأمن العسكري بحد أدنى من التضحية ببقية القيم الاجتماعية.
2- نظرية صموئيل فاينر: يرسم فاينر الشبكة المعقدة بين العسكري والمدني المُؤسسة على خلفيات الجيش السوسيولوجية والأنثروبولوجية والتاريخية، ويحدد مفهوم الاحترافية، إذ لا تقوم نظرية في علم العلاقات المدنية-العسكرية دون تأسيس مفهوم احترافية الجيش، وتصنيفه لدرجة الابتزاز الذي يمكن للعسكري ممارسته لحصول على مزيد من الامتيازات.
3- نظرية جانُوِيتز: المنطلق الأساس لمقاربة جانُوِيتز السوسيولوجية هو ضرورة توظيف العوامل الاجتماعية والثقافية لنشر ثقافة أسبقية المدني على العسكري، معوّلًا على "الجندي المواطن" في مقابل "الجندي المحارب" حيث ينحّي أهمية الاحترافية العسكرية في حفاظ العسكري على مسافة أمان من التدخل السياسي، ويضع مقابلها "القيم الثقافية" كعنصر أساسي في تغيير العلاقات المدنية العسكرية.
4- نظرية مهران كامرافا: ما يميز نظرية كامرافا هو اختصاصها بالعلاقات العسكرية-المدنية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث صنفها إلى:
- صنف الضباط السياسيين المستبدين.
- صنف الملكيات المؤسسة على القبلية.
- صنف الجيوش ذات التبعية المزدوجة.
5- مقاربة زولتان باراني: تختلف مقاربة باراني عما سبقها في أنها اهتمت بالجيش في لحظة الثورة، وقدمت نموذجاً للخبراء للتنبؤ بردات فعل الجيوش على الثورات. "كيف تستجيب الجيوش للثورات؟ ولماذا؟" ويمكننا التفصيل أكثر في هذه النظرية عند استعراضنا للواقع السوداني.
وفي السياق نستعرض باختصار أهم ما ورد في النماذج المختارة :
1-رؤية الدكتور عزمي بشارة عن الجيش في السياسة في العالم العربي.
2- صمويل هنتتجتون لعلاقة الجندي والدولة (نظرة من الغرب).
3- نموذجا أفريقيا ..
4-الجيش السوداني والسياسة (عصام الدين ميرغني).
الجيش والسياسة في العالم العربي بحسب بشارة في كتابه : "الجيش والسياسة: إشكاليات نظرية ونماذج عربية".
يعرف الدكتور عزمي بشارة الجيش(بأنه الجيش النظامي حول نواة من المحترفين المتفرغين للحياة العسكرية سلما وحربا (هذا التعريف لا يضم القوى غير النظامية في خدمة عقيدة أو طبقة أو حزب ولا فيالق فرسان أو مليشيا) مميزا بين الاحتراف والمهنية لينتهي بأن ما من جيش بعيد عن السياسة والتطلع الى الاستيلاء عليه مستثنيا الدول الغربية الديمقراطية) وهو يرى عدم وجود جدار فاصل بين الجيش والسياسة بحكم تعريفهما، وأن للجيوش في الدول النامية والمستقلة حديثًا، دورًا في بناء الدولة، وفي فرض تماسكها قبل أن تنجز مرحلة بناء الأمة". فبينما يغيب التماسك البنيوي داخل المؤسسات العربية يمثل الجيش تجسيدا حقيقيا للدولة وتتحول "أخوية رفاق السلاح الرجولية" الى ولاء شخصي للجماعة مما يسهل تجنيدهم للانقلاب (وسيلتهم للسلطة).
ولا يعبر مفهوم الانقلاب بالنسبة للمؤلف كما هو رائج، عن معنى سلبي، كما لا يعبر مفهوم الثورة عن معنى إيجابي. إن الفرق بين المفهومين منهجي لا أكثر، ولم تثبت أي تجربة أن الثورة أكثر كفاءة من الانقلاب في الوصول إلى نظام ديمقراطي. الفرق هو إذًا في كون الانقلاب (الذي قد يكون من أجل تغيير النظام أو الحفاظ عليه) يأتي بحراك من داخل السلطة. بينما تجيء الثورة بحراك من خارجها. وهو لا ينكر أن عيوبا قد تلحق الجيش هنا مقترحا لها حلولا نظرية وعملية
إن الحل النظري الذي يقترحه الكتاب هنا، يتبلور في استبدال مفهوم المهنية المحافظ والقائم على أحكام أخلاقية إيجابية تجاه القوانين والالتزام بها، بمفهوم الاحتراف المنفصل عن هذه الأحكام والذي يمثل نوعًا من الوصف المجرد، والعلمي ربما. أي الاستغناء عن مفهوم المهنية المحمل بأبعاد أخلاقية، بمفهوم الاحتراف الذي يفهم باعتباره وصفا منهجيا لا أكثر
أما الحل العملي، الذي تستطيع الديمقراطيات من خلاله النجاة من العواقب المذكورة سلفًا، هي تثقيف القوات المسلحة على "الولاء لبعض قيم الديمقراطية غير الناشئة تلقائيًا عن (المهنية العسكرية)"، التي تجعل التدخل في السياسة موقفًا نبيلًا أحيانًا، مثل حالة الانقلاب في مصر في عام 2013، وتجعل العزوف عن التدخل والابتعاد الكامل عن الشأن العام نبلًا في مواضع أخرى، مثل حالة تونس وحالة جمال عبد الناصر جزئيًا. وفي الحالتين، يتحكم الصراع بين الأمن وبين الجيش وتفضيل السلطة لإحداهما في هذا المسار.
ويخلص لإن الحل يتبلور إذا في اعتقاد مشترك بين الجيش والمجتمع، بقيم محددة، و قيم الديمقراطية بشكل خاص. وهذا هو الحل الوحيد الذي يمكن الاستعاضة من خلاله بـ"مهنية المحافظين الأمريكيين" .
ويقول كون الجيش مسيسًا بالضرورة، لا يعني أن يكون محزًبا. فالأولى قد تعني أن يمارس القادة نوعا من أنواع التسيس كأي مواطنين، لكن التحزب ينطوي على مأزق أكبر من التقاطع بين الوظائف المذكورة، ويجعل لهذا التقاطع نتائج ترتبط غالبًا بهيمنة كلية للنظام.
صمويل هنتتجتون الجندي والدولة (نظرة من الغرب)
يقول هنتتجتون الذي تشكلت نظريته تأثرا بالحرب الباردة أن المؤسسات العسكرية تتشكل من صيغتين:
-وظيفية أو عملية من تهديدات على أمن المجتمع(لا يمكن احتواءها من أي مجتمع).
-مجتمعية ناشئة من القوى الاجتماعية ،ايدولوجيات، المؤسسات المهيمنة على المجتمع (قد لا تقدر على تأدية عملها بشكل فعال).
الأطروحة الأساسية لكتابه الموسوم "الجندي والدولة" هي : تطوير نظام من العلاقات المدنية العسكرية يعاظم قدرات الأمن العسكري بأقل الخسائر على القيم الاجتماعية مما يتطلب توازنا معقدا من السلطات والسلوكيات بين الجماعات العسكرية والمدنية.الأمم التي تستطيع تطوير نمط متوازن لتلك العلاقة تزيد من احتمالية حصولها على الاجابات المناسبة للقضايا العملية في السياسة العسكرية. والأمم التي تفشل في هذا الجانب تبدد مواردها وتقع في مخاطر غير محسوبة.اضفاء طابع مهني على ضباط الجيش بحيث يتمكن الجندي من (إدارة العنف) وليس تطبيقه وحسب.والمسئولية الخاصة للجندي استخدام هذه الخبرة لصالح الدولة.
النموذج الأفريقي: نحو صياغة منظور جديد للعلاقات المدنية العسكرية: افريقيا نموذجا . د. حمدي عبدالرحمن:
حيث تولي دراسات العلاقات المدنية العسكرية عمومًا أهمية كبرى للنظر في أمرين أساسيين؛ أولهما: درجة استقلال المؤسسة العسكرية عن السلطة المدنية، ومدى تأثير ذلك على مبدأ السيطرة المدنية على العسكريين. أما الأمر الثاني فهو ميل العسكريين للتدخل في الحياة السياسية (النمط الانقلابي)؟
من الملاحظ أن العلاقات المدنية العسكرية اتخذت مسارات عدة متمايزة على المستويين الإقليمي والوطني في إفريقيا. فبينما كانت الانقلابات العسكرية أقل انتشارًا في منطقة إفريقيا الجنوبية، نجد أنها كانت حدثًا شائعًا في غرب ووسط وشرق إفريقيا. وفي حين شهدت بعض البلدان الإفريقية تكرار الظاهرة الانقلابية، فإن البعض الآخر قد نأى بنفسه عن هذه العدوى الانقلابية تمامًا.( تفسير ذلك يرجع، ولو جزئيًّا، إلى نمط مرحلة التحرر الوطني من ربقة الاستعمار)
ويلاحظ أيضا أن الأنظمة التي جاءت إلى السلطة من خلال الكفاح المسلح قادرة على تأسيس، أو إعادة تنظيم قواتها المسلحة الوطنية، وبالتالي كانت أكثر نجاحًا في فرض السيطرة من تلك التي لم تفعل ذلك.
كما قامت بعض الدول التي حصلت على استقلالها بشكل تفاوضي، مثل تنزانيا وكينيا والسنغال، وبعد التحدي الأولي من قواتها المسلحة، بإعادة تنظيم وإضفاء الطابع المؤسسي على العلاقات المدنية العسكرية، وهو الأمر الذي حافظ على صيغة الحكم المدني بها، أما البعض الآخر، مثل غانا وأوغندا، فإنه لم يتمكن من القيام بذلك. وبالمثل، نجحت بعض الأنظمة العسكرية في تجنب الوقوع في شرك العملية الانقلابية مرة أخرى، في حين وقع البعض الآخر منها في إسار حلقة مفرغة من الانقلابات والانقلابات المضادة
ويقول د. حمدي في الدراسة برغم تراجع دور العسكرة في افريقيا الا أن لها دورا في السياسة ويربط بينها وبين اشكاليات التحدي الديمقراطي بما يمكن النظر إليه من خلال النقاط التالية:
1-كيفية تدعيم الهيمنة المدنية على المؤسسة العسكرية عقب انهيار الحكم العسكري.
كيفية تحقيق المؤامة بين وجود مؤسسة عسكرية قوية بما يكفي لتحقيق مطالب المدنيين وبين وجود ولاء عسكري يكفي لعدم تجاوز السلطة المخولة لهم من قبل المدنيين (بين المهنية والاحتراف) أو بين إعلاء القيم الحيادية والتحزب السياسي.، وميل العسكريين للتدخل في الحياة السياسية(النمط الانقلابي).
وفي البلدان النامية بالنظر لغياب الفصل التام بين المؤسسات مثلما هو الحال في الغرب يمكن الاعتماد على المجتمع المدني والثقافة السائدة في تحدييد المعايير وهو ما يطلق عليه (منظور الشراكة التعاونية في العلاقات المدنية العسكرية).
2-مستقبل علاقة العسكريين بالسلطة السياسية اذا كان لابد منه (ما هي الدرجة والشكل التي تمكنهم من المشاركة وما هي الحقوق السياسية التي ينبغي أن يحتفظ بها العسكريون).
الجيوش الأفريقية أسسها الاستعمار لحماية مصالحه فكانت رؤية القادة بعد الاستقلال تحويل الولاء للنظام السياسي الجديد. كما تم استخدام الجيوش لتحقيق أغراض سياسية وحشد التأييد السياسي للنظام مما فجر موجة من انقلابات وفي الفترة من 66-76 شهدت أفريقيا أكثر من مئة انقلاب وأكثر من نصف القارة يحكمه عساكر بسبب نقص فعالية الحكم المدني .
توجد 4 أنماط لحكم العسكر: العسكري، الضامن الخارجي، المقايضة، الشرعية السياسية
يدعم الأخير غياب الانقسامات العرقية ووجود قيادة قوية.
3-المزايا والامتيازات الخاصة بالعسكريين .
4-إعادة تحديد دور ورسالة العسكريين
5-الميزانية العسكرية
6-اضفاء الطابع الشرعي
وبرغم السمات المشتركة لكن عمليات الاصلاح العسكرية لا يمكن تعميها على كل بلدان افريقيا بالنظر لتنوع اشكال العلاقات المدنية العسكرية ، واختلاف السياق الوطني ،اختلاف مسارات التحول الديمقراطي.
في الاسبوع القادم بإذن الله نناقش هذه النماذج لعلاقات الجيش بالسياسة لنعلم لماذا أننا باقون على رأينا بوجوب نأي الجيش بنفسه عن السياسة- على الأقل هنا في السودان بالرغم مما عرض من نماذج يرشح من بعضها ضمنا أو صراحة عدم الاعتراض أو ربما تحبيذ تغول الجيش على السياسة ، بالاستفادة من واقع تدخل الجيش في السياسة في السودان واستصحابا لآراء خبراء في المجال .
وسلمتم