الحروب لم تقدم حلاً لأية مشكلة في التاريخ
طلحة جبريل
5 June, 2011
5 June, 2011
هي أكثر من حرب. إنها لعنة.
هكذا تبدو لي العلاقة بين" الشمال" و " الجنوب" حتى قبل أن يفترقا، ويصبح " الشمال" هو " السودان" و" الجنوب" هو " السودان الجنوبي".
في عام 1955 كانت توريت.
في عام 1962 كانت حرب الانانيا.
في عام 1983 كانت الحركة الشعبية.
في عام 2011 كانت أبيي.
خلال هذه الحروب اقترف السودانيون كل الأخطاء والخطايا. وفي ظني أن هذه المأساة ليست من صنع البشر وحدهم. إنها في بعض جوانبها شيءٌ من اللعنة.
ظلت هذه اللعنة تطارد، وبلا هوادة، الأرض والشعب والأنظمة.
ثلاث تجارب ديمقراطية، عشنا الحرب واللعنة.
ثلاثة أنظمة شمولية عشنا الحرب واللعنة.
خلال هذه الحروب تساوى السودانيون في الخسارة. الرابحون خسروا، والمنهزمون خسروا. المحايدون خسروا. الكل في مأزق.
إنها اللعنة.
وراح الوطن يتخبط مدة 56 سنة.
إنها اللعنة.
الحروب لم تقدم حلاً لأية مشكلة في التاريخ.
حروب الشمال والجنوب خير دليل.
واهم من يعتقد أن الحرب هي التي قادت الى اتفاقية نيفاشا. هذه الاتفاقية كانت بسبب الإنهاك. الجانبان المتقاتلان شعرا بالتعب بعد كل الجهد الذي بذل في التعبئة والقتال.
على طاولة المفاوضات كان حتمياً أن يتوصلا الى "حل" لأسباب تتعلق بكل طرف، وأيضاً بسبب ضغوط إقليمية ودولية. كان لكل طرف حساباته.
جون قرنق كان له طموح بلا حدود، إذ منذ سبتمبر 1983 تبلور لديه اقتناع أنه " أكبر من الجنوب" وراح يتصرف على هذا الأساس.
على عثمان محمد طه كان يملك نصف تفويض، وأراد أن يسجل نفسه في دفتر السلام، بدلاً من دفاتر الانقلابات.
كان الرجلان يريدان الوصول الى اتفاق سلام" بأي ثمن، لذلك جاءت "نيفاشا" مليئة بالثقوب التي يصعب رتقها، ومن هذه الثقوب، الطريقة التي عولجت بها مشكلة أبيي.
ما حدث وقتها أن المشكلة تم ترحيلها الى "استقتاء" يعرف الطرفان أنه، ولأسباب كثيرة، لن يتم.
إذ كيف يمكن استفتاء قبيلتين، بينهما علاقات صاعدة هابطة منذ عقود، في منطقة متداخلة، ترسم حدودها أرجل الأبقار، بحثاً عن الكلأ والماء.
هكذا عدنا الآن الى وضع برميل بارود يقترب منه فتيل مشتعل.
قبل أن أرتب الأحداث ترتيباً يستند على معلومات موثقة. لابد من تذكير من بيدهم القرار في الخرطوم وجوبا ببعض الحقائق.
على هؤلاء أن يدركوا أن الحرب بالضرورة تجميد للحياة المدنية وقيد على الأمل وتعطيل لحق الاختيار. والناس في بلادنا، كل الناس، لا تريد أن تضحي بأجيال تلو أجيال لتغيير أوضاع خلقها تاريخ ملتبس، وجغرافية متداخلة. إذ علينا أن ندرك بأن التباسات التاريخ وتداخل الجغرافية لا تحل عبر فوهة البندقية.
على هؤلاء أن يدركوا أن تجربة القتال والمعارك ليست بالضبط تجربة وديعة.
عليهم أن يتأملوا قول العسكري البريطاني ليدل هارت الذي قال "إن مهمة الاستراتيجية الناجحة أن تقلل من دور القتال في الحرب قدر الإمكان".
عليهم أن يتذكروا قول القائد الفرنسي نابليون بونابرت" إن الحرب مسؤولية الأمة كلها ولهذا فإن قرار الحرب يبقى سياسياً، والقتال ليس قراراً عسكرياً وإنما هو أمر سياسي ينفذه عسكريون".
عليهم أن يعيدوا قراءة مقولة السياسي الفرنسي جورج كيلمنصو" الحرب أخطر من أن تترك للجنرالات".
وحتى إذا افترضنا أن الحرب كانت هي الخيار الوحيد المتاح، لابد في هذه الحالة من توافر عناصر مبدئية لتبريرها، وهي أن يكون لدى شعب أو دولة ما هدف مطلوب سياسياً وممكن عملياً، وجائز قانونياً، ومبرر أخلاقياً.
ليس لدينا في حروب الشمال والجنوب، هدف سياسي يمكن أن يتحقق، أو هدف يستند إلى قانون، يمكن تبريره أخلاقيا.
أعود الى أبيي وما حدث وما يحدث فيها، وأروي الوقائع استناداً الى مصدرين، المصدر الأول هو الأمم المتحدة، والثاني هي المصادر الأمركية، واخترتها لأن واشنطن في حالة جفاء مع الخرطوم وتعاطف مع جوبا، لذلك إذا قالت كلاماً لصالح الخرطوم وضد جوبا، سيكون موضوعياً.
بدأت الأحداث الأخيرة يوم الجمعة 20 مايو، عندما هاجمت قوات من "الجيش الشعبي لتحرير السودان" قافلة عسكرية للجيش السوداني كانت ترافقها قوة تابعة للأمم المتحدة. وأدى الحادث الى مقتل وجرح كثيرين. التزمت جوبا في البداية الصمت، ثم راحت تسرب أخباراً تقول، إن "مجموعات ما" هي التي هاجمت القافلة العسكرية. وبعدها قالت إنه "حادث غامض".
لو كانت جوبا أعلنت مثلاً أنها تدين الحادث وستجري تحقيقاً حوله، لما كنا أشعلنا فتيلاً يقترب من برميل بارود.
ثم جاء التأكيد الأول من الأمم المتحدة، بأن " الجيش الشعبي" هو الذي نفذ الهجوم. وتلاه تأكيد آخر من أمريكا، ومن سوزان رايس على وجه التحديد، وهي من أكثر العناصر تشدداً داخل إدارة الرئيس باراك اوباما، وهذا ما قصدت عندما قلت بأنني سأعتمد على رواية المصادر الأمريكية، قالت رايس " إن قوات جنوبية هاجمت قافلة لقوات شمالية" صحيح أنها أضافت" اتخذت القوات الحكومية(الجيش السوداني) هذه الحادثة كذريعة لدخول أبيي". وصحيح أن واشنطن تضغط الآن من أجل خروج الجيش السوداني من أبيي، لكنها في الوقت نفسه تحاول تهدئة الوضع، بعد أن أيقنت أن الأزمة الحالية، وبكل موضوعية، تسببت فيها الحركة الشعبية.
ولهذا السبب بدأ المبعوث الأمريكي برنستون ليمان جولة (السبت الماضي)، من الدوحة لتنشيط محادثات دارفور التي تراوح مكانها. وقالت الخارجية الأمريكية إنه "سيحث الحكومة السودانية وحركات دارفور للتوصل الى اتفاق سياسي، والتزام فوري بوقف إطلاق النار، واتخاذ خطوات فورية لتحسين الأوضاع الأمنية والأوضاع الإنسانية على الأرض". وبعد الدوحة وهذا هو المهم سينضم ليمان الى مبعوثين آخرين من بريطانيا والنرويج لزيارة كل من الخرطوم وجوبا، والدول الثلاثة هي التي يطلق عليها " الترويكا" الراعية لاتفاقية نيفاشا.
وتفيد معلومات يعتد بها أن "الترويكا" ستبحث عن مخرج للوضع المتفجر في أبيي. ولهذا الغرض سيزور المبعوثون الثلاثة بعد الخرطوم وجوبا، اديس أبابا لدعم جهود الاتحاد الأفريقي في التطبيق الكامل "لاتفاقية السلام الشامل".
جولة المبعوث الأمريكي ستتقاطع مع جولة المبعوث الأممي ،القاضي التنزاني محمد شاند عثمان، وهو خبير في قضايا حقوق الإنسان، حيث يتوقع أن يجري تحقيقات واسعة النطاق حول حقوق الانسان تشمل أبيي، ليقدم تقريراً للأمم المتحدة بتزامن مع دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر المقبل.
التقارير الواردة من أبيي تفيد أن هناك حالياً مشكلة نزوح ولاجئين.
هذه التقارير تقول إن 40 ألف شخص نزحوا من المنطقة نحو الجنوب، وأن هناك 80 ألف يتوقع نزوحهم، في حين تقول جوبا إن عدد النازحين بلغ 150 ألف نازح. وفي كل الأحوال نحن الآن أمام كارثة إنسانية.
الخرطوم تقول إن أبيي شمالية وأن الجيش لن ينسحب من هناك.
وإذا سارت الأمور على هذا المنوال، ستكون قد حلت بنا فعلاًً اللعنة.
إذاً ما هو الحل؟
أعود وأقول إن الحل الوحيد المتاح هو عودة قوات الأمم المتحدة الى أبيي، ثم التفاوض بين "السودان" ودولة " السودان الجنوبي" بعد التاسع من يوليو المقبل. وقتها سيكون هناك عاملان مساعدان خاصة إذ عادت القوات الأممية إلى أبيي.
الأول أن تكون الخواطر قد هدأت، بعد عاصفة 20 مايو.
الثاني ان الجانبين سيتفاوضان هذه المرة على قدم المساواة. دولة "السودان" مع دولة "السودان الجنوبي" وليس تفاوضاً بين حزبين، كما هو الشأن حالياً.
أما الحروب ، وطبولها التي تقرع بشدة الآن، لن تحل أبداً مشكلة، لا أبيي ولا غير أبيي.
وأكرر مجدداً، الحروب لم تقدم حلاً لأية مشكلة في التاريخ.
عن" الاخبار" السودانية
talha@talhamusa.com