Military Rule in the Sudan: The First Five years of Ja’far Numayri (1/2)
Peter K. Bechtold بيتر كي. بيشتولد ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة مختصرة لمقال للدكتوربيتر كي. بيشتول، الذي عمل أستاذا للعلوم السياسية بجامعتي ميري لاند ثم بورتلاند، ومسؤولا في مكتب معهد الخدمة الخارجية التابع لوزارة الخارجية الأمريكية (1976 – 2006م)، نُشر عام 1975م في العدد التاسع والعشرين من مجلة الشرق الأوسط Middle East Journal . وللكاتب عدد من المقالات الأخرى عن الحكومات البرلمانية والعسكرية بالسودان، وكتاب صدر عام 1976م بعنوان: Politics in the Sudan: Parliamentary and military rule in an emerging African nation (السياسة في السودان: الحكم البرلماني والعسكري في دولة أفريقية ناشئة). عاش بيشتولد لسنوات في مصر والسودان في سنوات السبعينيات الباكرة. الشكر موصول لدكتورة عزة مصطفى بابكر لتكرمها بإرسال صورة من هذا المقال. المترجم *********** *********** ********* جرت بجمهورية السودان الديمقراطية في السنوات القليلة نسبيا التي أعقبت نيلها لاستقلالها (في الأول من يناير 1956م) ثلاثة انقلابات عسكرية، سمت كل واحدة منها نفسها "ثورة". وتقلب نظام الحكم مرتين ما بين نظام مدني (منذ نيل الاستقلال حتى 17 نوفمبر 1958م) ونظام عسكري (أطيح به في ثورة 21 أكتوبر الشعبية)، ونظام عسكري آخر (من 25 مايو 1969م). ويدور هذا المقال حول الخمس سنوات الأولى من حكم ذلك الانقلاب العسكري الذي قاده جعفر نميري. وهناك من الدلائل التاريخية ما يشير إلى أنه ساد في أواخر الستينيات شعور عام بخيبة الأمل عند عامة أفراد الشعب، خاصة عند الطبقة المثقفة، بسبب تدهور نوعية الحكم البرلماني وعجزه عن مجابهة مشاكل البلاد الاقتصادية والاجتماعية، تماما مثل ذلك الشعور الذي ساد قُبَيلَ انقلاب 1958م. وتسرب ذلك الشعور بخيبة الأمل لكل مؤسسات التعليم والصحافة والخدمة المدنية والمؤسسات المهنية، وأمتد كذلك لعدد من ضباط القوات المسلحة. وهنالك دليل (جُزئِيّ) على صحة هذه الملاحظات يقوم على ترحيب عامة أفراد الشعب الحار بانقلابي 1958م و1969م في أيامهما الأولى. ولن نتعرض في هذا المقال لتفاصيل الانقلابات العسكرية التي جرت بالسودان، بل سنركز على أداء الحكام العسكريين، وكيف تصرَّف نظام نميري العسكري إزاء المسائل الكبرى التي واجهته، وكيف حاول معالجتها، وما هي طبيعة علاقته مع الجماعات السياسية بالبلاد. انقلاب مايو 1969م يلزم لنجاح أي انقلاب أن يتسم بالتنظيم والمهارة والتوقيت الصائب، مع قدر وافر من حسن الحظ (التوفيق). ولعل أحد أهم أمثلة ذلك التعميم هو ما أصابه العقيد جعفر محمد نميري في مسيرته المهنية. فقد سبق له أن شارك في عدد من الانقلابات الفاشلة، قبل أن يفلح (أخيرا) في انقلاب 25 مايو 1969م. وكان نميري – مع عدد قليل من الدائرة الضيقة في تنظيم "الضباط الأحرار" قد استغلت غياب ما لا يقل عن 12 إلى 14 من كبار قادة الجيش خارج البلاد، وحرارة طقس الخرطوم العالية (خاصة في ذلك العام)، وأفلحت في استلام السلطة بانقلاب سَلِس لم يُرَقْ فيه نقطة دم واحدة (1). وعقب نجاح الانقلاب كون قائده جعفر نميري (39 عاما) مجلسا لقيادة "الثورة" برئاسته وعضوية مقدم واحد وسبعة رواد، مع مدني واحد هو القاضي السابق بابكر عوض الله (تم تعيينه أيضا رئيسا للوزراء). وتم اختيار العديد من الشيوعيين و"الاشتراكيين" الآخرين لأول حكومة انتقالية بعد ثورة 21 أكتوبر 1964م. وقام "مجلس قيادة الثورة" بإحالة معظم كبار قادة الجيش (خاصة ممن ارتبطوا بعهد الفريق إبراهيم عبود أو كان له تعاطف مع الأحزاب التقليدية) للتقاعد لتقليل فرص القيام بانقلاب مضاد لهم (2). ولملء الفراغ رَقَى نميري نفسه وأعضاء مجلسه لرتب أعلى، غير أن أعضاء المجلس رفضوا أي ترقية عسكرية لهم. واجه النظام الجديد في البدء ثلاثة تحديات كبيرة، ورث إثنين منها من العهد البرلماني (البائد)، كان أولها هو استمرار الحرب في جنوب البلاد، وثانيها هو تواصل تدهور الاقتصاد وانخفاض أرصدة البلاد من العملات الصعبة، وثالثها هو المعارضة السياسية المتوقعة من الذين فقدوا سلطتهم. ومن الجدير بالملاحظة أن نميري عَكَسَ اتجاه سياساته تماما إزاء تلك التحديات الثلاثة في أقل من ثلاث سنوات من قيام انقلابه. وكان لذلك التغيير دوافعه وسياقاته وآثاره. وكانت لنميري خبرات متراكمة في تدبير وتنفيذ الانقلابات، ولكنه كان يفتقر لأي نوع من الخبرة بالحكم، ولم يكن عنده في بداية حكمه غير عدد محدود جدا من الأهداف المحددة. وتميزت سياساته في غضون أول عامين من حكمه بانشغالات ايديلوجية غامضة (شملت "الاشتراكية العربية"). غير أن نميري غدا أكثر براغماتية عقب عودته للحكم بعد انقلاب اليساريين عليه في 19 يوليو 1971م. ويمكن تفسير تحول نميري لمزيد من البراغماتية بالنظر في أحداث عامي 1970 – 1971م. غير أنه يصعب تفسير مصادر توجهاته الأيديلوجية التي سبقت ذلك، وما زال الوقت باكرا للحصول على كل المعلومات والرؤى اللازمة للوصول لتحليل أدق. غير أنه يمكن القول هنا بأنه كان هنالك مصدران محتملان لتوجهات نميري الأيديلوجية: أولهما أن الرجل كان قد كون أيديولوجيته الخاصة التي كانت خليطا من الاعجاب بالقائد المصري جمال عبد الناصر واشتراكيته العربية، ومن تجربته المريرة مع النظام العسكري الأول بقيادة عبود، وما تلاه من نظام مدني برلماني كان نميري يعدهما نظامين رجعيين لا أمل في إصلاحهما. وكما ذكرنا آنِفاً فقد كان نميري قد شارك في محاولات الانقلاب عليهما وعُوقِبَ على ذلك. ولا شك أن نميري كان قد آمن بإفلاس أنظمة حكم الأحزاب التقليدية، وآمن أيضا في سنوات ما بعد أكتوبر 1964م بأن حلفائه هم "الوطنيون الحقيقيون" في "جبهة الهيئات"، التي هيمنت على حكم البلاد لفترة قصيرة في الحكم الانتقالي الذي أعقب سقوط نظام عبود العسكري. وهنالك تفسير محتمل آخر لتوجهات نميري الايديلوجية (وهو أقل كرما وتعاطفا مما سبقه) يخلص إلى أن نميري كان (ولا يزال) نسبيا رجلا بسيطا لا يخلو من سذاجة (unsophisticated)، رغم أنه كان - بصدق - ضابطا وطنيا مخلصا. وبحسب ذلك التفسير فإن نميري لم يَصُغْ تحالفا مع الوطنيين اليساريين بهدف تعزيز موقفه، بل كانت تلك القوى اليسارية هي التي استغلته، واِغْتَنَمَت كذلك سلطته العسكرية – المفترضة - من أجل الإطاحة بالأحزاب والمنظمات الديمقراطية وسحقها. ووفقا لهذا التفسير فإن نميري كان قد خُدِعَ وجُعِلَ يتبنى مواقف ايديلوجية وسياسيات محددة دبرها آخرون (غرباء). واحتاج نميري لعام ونصف حتى يدرك تلك الحيل وأَلاعيب. وهنالك تفسير ثالث (يبدو معقولا ويمكن القبول به) هو أن نميري، ومن معه من الضباط الأحرار، كانوا بالفعل يتبنون - عن صدق – مواقف إيديولوجية معلومة ومحددة، إلا أنهم كانوا في حاجة لحلفاء سياسيين من جماعات مدنية، كانت هي الأخرى تبحث لها عن حلفاء عسكريين جهلة / غُفَّل /غير معروفين unsuspecting ومقبولين نسبيا لها. وهنا لا يغدو تحديد مَنْ مِن الطرفين أستغل الآخر أمرا مهما. فقد أظهرت ما تلت من أحداث النقطة التي تفارق عندها "رفقاء الأمس". وبالعودة للقضايا الثلاث الكبرى التي واجهها في البدء انقلاب 26 مايو 1969م، يمكن القول إن أول قرار مهم لذلك الانقلاب هو إلغاء جميع الأحزاب السياسية بالبلاد ومصادرة أملاكها واعتقال جل زعمائها، عدا الذين أفلحوا في التسلُّل لخارج البلاد (3). وكان الحزب الوحيد الذي لقي معاملة "متساهلة" من انقلابي مايو هو الحزب الشيوعي، الذي أفلح في إدخال ستة من منتسبيه، إضافة لعدد من المستقلين المتعاطفين معه في أول وزارة للنظام الجديد، ولمجلس قيادة الثورة. وكانت المعارضة الرئيسية لنظام مايو تتمثل في القوى المحافظة في الأحزاب التقليدية، وعلى رأسها رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي إسماعيل الأزهري، رغم أنه لم يكن يشكل خطرا على النظام الجديد كما كان في أيام معارضته لنظام عبود، حين قام ذلك النظام بنفيه مع عدد من قادة الأحزاب إلى جنوب السودان في يوليو من عام 1961م. وكان الأزهري قد فقد بعضا من شهرته القديمة في أذهان الجماهير كمناضل ضد الاستعمار، وأيضا بسبب ائتلافه مع حزب الأمة، الأمر الذي أفقده تأييد الأجيال الشابة من الاتحاديين الذين كانوا يشكلون دعامة حزبه في المناطق الحضرية. وبقي المهدد الأكبر والأهم لانقلاب مايو هو حزب الأمة القديم وطائفة الأنصار (شبه العسكرية) في غرب ووسط السودان، والمنتمين لهم والمتعاطفين معهم في القوات النظامية. وكان يقود تلك الطائفة الإمام الهادي المهدي. وبعد قيام الانقلاب بشهور قليلة اندلع صراع بين الأنصار والحكومة بتشجيع من عضوي مجلس قيادة الثورة بابكر عوض الله وخالد حسن عباس، وكانا معروفان بميلهما لمصر وعداوتهما للأنصار. وأوقع نميري بالأنصار ضربة قوية، وقتل إمامهم، وصادر ممتلكاتهم. وكان ذلك الصدام قد بدأ في أواخر مارس من عام 1970م في شوارع حي ود نوباوي بأم درمان، وراح ضحيته عدد من أفراد الفريقين. وأقنع صغار الضباط في مجلس قيادة الثورة (خاصة الرائد أبو القاسم محمد إبراهيم) رئيسهم جعفر نميري بأن ينقل المعركة لمعقل الأنصار في الجزيرة أبا، حيث لجأ إليها الإمام الهادي. ودارت هناك معركة استخدم فيها الجيش السوداني الطيران الحربي، وقُتل الأمام الهادي في ظروف اُخْتُلِفَ على تكْييفها. وقيد نظام نميري حرية المنظمات والطوائف الأخرى، ولكن بصورة أقل صرامة وحزما. ولأسباب مشابهة، تم فصل كبار العاملين في الشرطة والقضاء والخدمة المدنية الذين يُعْتَقَدُ بأنهم كانوا من الفاسدين، أو من أنصار النظام (الرجعي) السابق، أو ممن تم تعيينهم في تلك الوظائف العليا لأسباب سياسية أو عقدية، أو من الذين يُشَكُّ في عدائهم الأيديولوجي للسياسات "الاشتراكية" التي أدخلها النظام المايوي في شهوره الأولى. وتم كذلك تأميم كل المصارف والمؤسسات الاقتصادية الأجنبية، ومصادرة معظم المؤسسات الاقتصادية – خاصة تلك التي كانت مرتبطة – بصورة ما – بالأحزاب المحافظة، وألغيت الخطط التنموية والاقتصادية التي وضعها النظام المدني السابق، واُسْتُبْدِلَتْ بخطط جديدة تقوم على "مبادئ اشتراكية وعلمية"(4). وضاعفت الدول الشيوعية من مساعداتها العسكرية والاقتصادية، بينما انخفض مستوى الوجود الدبلوماسي والتجاري الصغير للدول الغربية. ونقل "مجلس قيادة الثورة" بصورة شبه حرفية ما سمي بـ "ميثاق العمل الوطني" من وثيقة بذات الاسم أصدرها "الاتحاد الاشتراكي" في مصر. ثم اتبع ذلك المجلس ذلك بتكوين تنظيم مشابه باسم "الاتحاد الاشتراكي السوداني". وعقب قيام "ثورة الفاتح من سبتمبر" وإعلانها عن مواقفها المشابهة لما هو قائم في مصر والسودان، وقع نميري على ما سمي بـ "ميثاق طرابلس" الذي يدعو للوحدة العربية (5). وبتوقيعه لذلك الميثاق، تجاهل نظام مايو رأي شعب جنوب السودان (غير العربي) المعارض للتوجه العروبي الوحدوي. لذا لم يكن من المستغرب ألا يثق ساسة جنوب السودان في النظام العسكري الجديد رغم كل التطمينات وعروض المصالحة التي بذلها قادة ذلك النظام لحل مشكلة الجنوب. ووعد نميري الجنوبيين بمنحهم حكما ذاتيا، وعين في يونيو 1969م المحامي الجنوبي الشيوعي جوزيف قرنق (6) وزيرا في وزارة مستحدثة أسماها "وزارة شؤون الجنوب". ولما لم يجد ذلك في كسب ثقة الجنوبيين، نفد صبر نميري ولجأ للحل العسكري لتلك المشكلة المزمنة. وكما هو متوقع، فشل نميري في ذلك المسعى، وأفضى استمرار حرب الجنوب لمزيد من المشاكل الاقتصادية بالبلاد. ولحسن الحظ تم تغيير كل ما أسلفنا ذكره من سياسيات في غضون وقت قصير نسبيا، ولكن بعد وقوع صراع حاد وتقديم الكثير من التضحيات. وجاء ذلك التغيير ازدياديا وتَرَاكُمِيّا، مع تزايد خبرة قائد الحكم الجديد، ومع شروعه في استيعاب دروس الماضي وتجاربه الفاشلة السابقة. وفي غضون عام 1970 وبدايات 1971م تعرض نميري لكثير من الانتقادات بسبب مواقفه الفردية المتصلبة والمتعنتة، وإصداره لقرارات كثيرة دون استشارة مجلس الوزراء. وقد يصح قول البعض بأن شعبية نميري كانت قد بلغت الحضيض في بدايات شهر يوليو من عام 1971م، ولكنه، للمُفَارَقَة، سرعان ما استرد تلك الشعبية بعد أن أُزيح من الحكم لثلاثة أيام في انقلاب يساري التوجه. غير أن هذا الزعم بحاجة لمزيد من التفسير والشرح المَنهَجِيّ. وكما ذكرنا آنفا، كان نميري واقعا بين عامي 1969 و1970م تحت ضغط أمرين متناقضين (أو بين نارَيْن، إن جاز التعبير)، فقد وجد نفسه مضطرا في بداية حكمه لتأكيد توجهه "العروبي المتشدد"، ومخالفة توجه النظام المدني الذي انقلب عليه. ولا بد أنه كان يدرك أيضا ان ذلك التوجه العروبي المفرط سيثير غضب الجنوبيين وأنصار المهدي ويدفعهم أكثر للتمرد على نظامه. وكان أول تأييد سياسي لانقلاب نميري قد أتى من قوى يسارية متحالفة يعارضها المحافظون في الأحزاب التقليدية السودانية، ويعارضها أيضا العقيد معمر القذافي والملك فيصل آل سعود. وأُشيع أن الأخير كان قد شرع سرا في تمويل المعارضين الساعين لقلب نظام نميري، بينما قيل إن الأول اشترط على نميري أن يزيح العناصر الشيوعية من المناصب المهمة في الدولة قبل أن يقبل بالسودان عضوا في "اتحاد الجمهوريات العربية". وبهذا فقد صار دور الشيوعيين في نظام السودان الجديد أمرا مثيرا للجدل في علاقاته الخارجية مع جيرانه، وغدا أيضا سببا لأول خلاف بين أعضاء "مجلس قيادة الثورة". ووَبَّخَ المجلس علنا أحد أعضائه (بابكر عوض الله) على تصريح مذاع له مؤيد للشيوعيين (7). وعلى الرغم من أن الكل كان يدرك بان الحزب الشيوعي كان يحظى بمعاملة خاصة من نظام مايو، إلا أن نميري كان يحرص دوما على إعطاء الرأي العام السوداني شعورا بأنه يقف على مسافة واحدة من جميع الأحزاب. وكان نميري في تلك الأيام الباكرة لانقلابه مشغولا بتأمين نظامه ضد تهديدات الأحزاب التقليدية. وقد يكون هذا سببا يفسر حاجته لسند الشيوعيين (ولو بصورة مؤقتة)، بحسبانهم "أهْوَنَ الشَّرَّيْنِ"، على الرغم من أنه لم يؤمن بالأيديلوجية الماركسية. وكان أيضا يكره ويرفض أن يتدخل قادة الدول المجاورة في اختيارات وزرائه. غير أنه أصيب بخيبة أمل كبيرة عندما علم ان بعض من اختارهم من وزرائه كان يعارضون كثيرا من سياساته سِرًّا وَعَلانِيَة (ضرب الكاتب لذلك مثلا برفض الشيوعيين لميثاق طرابلس الداعي للوحدة، ورفضهم لما تعهد به نميري – منفردا ودون استشارة بقية أعضاء مجلس قيادة الثورة - بالموافقة على اتحاد الدول العربية في اجتماع بالقاهرة في 8/11/1970م). وسرعان ما بدأ نميري في الانتقام من الشيوعيين، عندما أبعد في يوم 16 نوفمبر ثلاثة من أعضاء مجلس قيادة الثورة (هم بابكر النور وفاروق حمد الله وهاشم العطا) من عضوية المجلس ومن الوزارات التي كانوا يقودونها (8). وتم كذلك فصل 13 من صغار الضباط يُشْتَبَهُ في أنهم كانوا يتعاطفون مع الشيوعيين. وتظاهر ضد تلك الإجراءات طلاب يساريين في جامعة الخرطوم، ووزعت – بحسب ما ورد في صحيفة "واشنطن بوست" يوم 30/11/1970م - بيانات باسم "الضباط الأحرار" تدين ما قام به نميري ضد الشيوعيين. وردا على ذلك وضع نميري سكرتير الحزب الشيوعي (عبد الخالق محجوب) تحت الإقامة الجبرية بمنزله. وفي تلك الفترة قرر نميري مواجهة الشيوعيين مواجهة شاملة، مثل تلك التي قام بها ضد طائفة "الأنصار"، وخاطب الشعب السوداني في 12/2/1971م مطالبا إياهم بـ "تدمير الحركة الشيوعية" بالبلاد. وبذا اِنتَهَى في أقل من عامين عهد التعاون بين الحزب الشيوعي والنظام المايوي. وحدث في ذات الفترة أن طلبت القيادة السوفيتية من الرئيس المصري أنور السادات أن يستخدم نفوذه على نميري ليقلع عن محاربة الشيوعيين. ووجد نميري نفسه مضطرا، بعد فقدانه لسند الشيوعيين السياسي، للجوء إلى بعض العناصر التقليدية التي تولت مناصب عليا في النظام المدني السابق، والتي سرَّها ما فعل نميري بالشيوعيين. وفي تلك الفترة حاول "الإخوان المسلمون" – بعون من السعودية - القيام بحركة ضد النظام المايوي، بينما دبر الشيوعيون انقلابا عسكريا على سلطة نميري في 19 يوليو 1971م. وسعى رجال الجناح الموالي لمصر في النظام المايوي (بقيادة بابكر عوض الله وخالد حسن عباس) ،كما جرت عادتهم، لحماية المصالح المصرية في السودان، بينما ظل أنصار حزب الأمة يرقبون بحذر ما تخطط له مصر وحلفاءها في السودان. وبقي الجنوبيون يعارضون أي توجه للسودان نحو أي نوع من الاتحاد مع دول عربية. وتجاهل نميري مخاوف وتحفظات كل القوى التي تخالف سياسته، ودأب على وصف كل من يعارضه بـ "عدم الوطنية". وورد في مطبوعة عن السودان صادرة عام 1973م عن مكتب نشر حكومة الولايات المتحدة (USGPO) أن مخابرات نميري رصدت تسع مؤامرات ضد النظام في عام 1970م وحده. ************ ***************
إحالات مرجعية 1. أشار الكاتب في الهامش لأن هنالك رواية – لم تثبت بعد – تزعم أن رئيس الوزراء محمد أحمد المحجوب (الذي كان محاصرا ومُضيقا عليه من عدد من الجهات) سار على خطى رئيس الوزراء الأسبق عبد الله خليل عام 1958م، وسهل – عامدا – للانقلابيين تسلم السلطة، خاصة وأن أحد قادة الانقلاب (أبو القاسم هاشم) كان من أصهاره. 2. ذكرت صحيفة نيويورك تايمز في الرابع والثامن من يونيو 1969م أنه تم اعتقال أو فصل نحو 300 من الضباط وغيرهم، ولم يبق بالجيش غير عميد / قائد لواء واحد. 3. جاء في صحيفة نيويورك تايمز في الثامن من يونيو 1969م أن نميري أعلن عن اعتقال 64 من قادة الأحزاب، وقال بابكر عوض الله ذكر أنه ستتم محاكمة بعض أولئك المعتقلين بتهمة الفساد، ومحاكمة البعض الآخر بتهمة مخالفة دستور السودان الانتقالي وطردهم لنواب الحزب الشيوعي من الجمعية التأسيسية. 4. ربما كانت تلك الخطط الجديدة قد صِيغَتْ بعون من خبراء سوفييت كما ورد في صحف تلك الأيام. 5. تم التوقيع على "ميثاق طرابلس" الوحدوي في 27 ديسمبر 1969م. https://tinyurl.com/y2a6py6z 6. للمزيد عن جوزيف قرنق يمكن النظر في سيرته هنا: https://tinyurl.com/y2rthuha 7. أدلى بابكر عوض الله رئيس الوزراء في برلين الشرقية في أكتوبر من عام 1969م بتصريح مفاده أن "ثورة مايو لن تسير (أو تستمر) بدون الشيوعيين". وأصدر مجلس قيادة الثورة بيانا رفض فيه مقولة الرجل، وتم إعفاءه لاحقا من عضوية المجلس، وعين وزيرا للخارجية. https://tinyurl.com/y6ybuwos 8. جاء في خطاب لنميري في اِستاد الخرطوم يوم 17 نوفمبر 1970م بأن معارضة الشيوعيين لاتحاد الدول العربية ما يفيد بأن تلك المعارضة هي ... "لعملاء أنانيين يفتقرون للوطنية ... تنفيذا لمصالح قوى أجنبية".