الحنكة السياسية لإنهاء الحرب العبثية
بروفيسور/ مكي مدني الشبلي
6 May, 2024
6 May, 2024
بروفيسور مكي مدني الشبلي
المدير التنفيذي - مركز مأمون بحيري، الخرطوم
يكشف التدقيق في الأزمة السياسية والعسكرية المطبقة والحرب المستعرة في السودان أن عدداً من قادة قوى الحرية والتغيير بأجنحتها المتعددة، والوافدين الجدد مع متحور "تقدم"، يفتقرون إلى الفطنة والدهاء السياسي لتحقيق النقلة النوعية المنشودة Paradigm” “Shift في العلاقة المدنية العسكرية المتردية. إذ أن الانحراف المدفوع ذاتياً “Self-inflicted” في الشراكة المدنية-العسكرية التي نجحت في إسقاط النظام السابق كان مسببه بدايةً إلحاح قوى الحرية والتغيير في التمادي في تواصل الاعتصام الاستفزازي والخانق حول مقر قيادة الجيش في أبريل 2019 بعد نجاحه في تحقيق هدفه المباشر في الإطاحة بنظام الإنقاذ الشمولي الفاسد. وشهدت الفترة الانتقالية التي أعقبت فض الاعتصام الدامي تواصل فشل قيادة قوى الحرية والتغيير في إدراك دور التناقضات الجوهرية والثانوية في تشكيل الديناميكيات الاجتماعية والسياسية خلال تلك الفترة. وكان هذا أحد العوامل الجوهرية التي أدت في نهاية المطاف إلى الحرب الكارثية في أبريل 2023. فبدلاً عن تفعيل وتعظيم التناقض الجوهري العدائي مع مناصري النظام السابق الذي هب كل الشعب السوداني لإسقاطه، حوَّلت قيادة قوى الحرية والتغيير تناقضها الفرعي غير العدائي مع حلفائها المدنيين والعسكريين إلى تناقض جوهري وعدائي، مما سمح للدولة العميقة المترنحة السعي لاستعادة زخمها المنزوع والانقضاض على مكتسبات الثورة.
إن التوسيع المحمود للجبهة الرافضة لاستمرار الحرب الكارثية الذي تسعى قوى الحرية والتغيير لتحقيقه لا ينفي ضرورة التدقيق في التأهيل والجدارة السياسية للمشاركين في هذه الجبهة التي يعوَّل عليها وطنياً وإقليميا ودولياً. ذلك أن الإدراك السياسي القاعدي المطلوب من قادة الجبهة العريضة الرافضة للحرب في هذا المنعطف الحرج ينبغي أن يشمل الفهم البسيط لـ "التدرج" و"التسلسل" في معالجة التناقضات "الجوهرية" والفرعية" في المدرج المدني والعسكري الجائش. وتشير الدلائل إلى أن جنوح قوى الحرية والتغيير لتغليب تناقضها مع العسكريين باعتباره تناقضاً جوهرياً دفع قيادة الجيش لطلب الحماية اليائسة من النظام السابق لاتخاذه حاضنة سياسية في مواجهة العداء السافر للعسكريين من قبل قيادة قوى الحرية والتغيير. والأهم من ذلك أن هذا المسلك غير الفطن في التمييز بين التناقضات الجوهرية والثانوية دفع العديد من كيانات قوى الحرية والتغيير المدنية ليتم احتضانهم دون تكلفة بواسطة النظام البائد!
وعليه فإن التوسيع الفاعل للجبهة المعارضة الحرب يتطلب تغييراً شاملاً في استراتيجية وتكتيكات قوى الحرية والتغيير/تقدم كشرط ضروري لاستعادة الأهلية لقيادة تحقيق أهداف ثورة ديسمبر المغدورة. ومن ثم فإن المكوِّن الجوهري لـ "النقلة النوعية" الضرورية في عقلية قوى الحرية والتغيير/تقدم هو الفهم الحصيف لـ "التسلسل والتدرج" في التعامل مع التناقضات "الجوهرية" و"الثانوية" بين اللاعبين الرئيسيين في الاحتقان السائد في العلاقات المدنية-العسكرية المتردية والتي ساهمت في حرب أبريل المشؤومة. حيث على قوى الحرية والتغيير/تقدم إدراك أن معيار تصنيف التناقضات "الجوهرية" و"الثانوية" بين الفاعلين الرئيسيين في ثورة ديسمبر ليس حكراً لها، بل تستأثر به قوى الثورة وفي مقدمتها لجان المقاومة التي كانت قانعة بقيادة قوى الحرية والتغيير الموحدة أثناء الحراك الظافر ضد سلطة الإنقاذ.
وهنا يكمن مأزق آخر في السلوك السياسي لقوى الحرية والتغيير يتعلق بمفهوم معالجة التناقضات الجوهرية والثانوية أثناء الفترة الانتقالية. ويتمثل هذا المأزق في فشل قوى الحرية والتغيير في المحافظة على قناعة لجان المقاومة بأهلية قوى الحرية والتغيير لقيادة هذه اللجان نحو تحقيق أهداف ثورة ديسمبر "حرية، سلام، وعدالة". سيما وأن هذه العلاقة التراتبية بين قوى الحرية والتغيير ولجان المقاومة كانت عاملاً حاسماً في إسقاط نظام الإنقاذ الشمولي. فعوضاً عن المحافظة على مواصلة طرح نفسها للجان المقاومة كجبهة متماسكة لقيادة تحقيق أهداف الثورة، تشتت قوى الحرية والتغيير في كيانات مبعثرة تناصب بعضها العداء والتخوين مغلبة حسم التناقضات الفرعية فيما بينها على حسم التناقض الرئيسي مع مناصري النظام الفاسد. والأدهى من ذلك قيام عدد من كيانات قوى الحرية والتغيير بنقل هذه التناقضات الثانوية للجان المقاومة التي كانت في الأساس تعاني من ضعف استعدادها لتعضيد قدراتها الميدانية المشهودة باكتساب المهارات الضرورية بانخراطها في دورات مكثفة لبناء القدرات التنظيمية والسياسية. فقد عجزت قوى الحرية والتغيير/تقدم عن بذل الجهد لاستمالة لجان المقاومة للانخراط في دورات تدريبية تساعد على تأطيرها في تنظيم هرمي، واكتساب المهارات السياسية التي تمكنها من المشاركة الفاعلة في الجبهة المناهضة للحرب. وعوضاً عن اغتنام السمعة المرموقة التي اكتسبتها لجان المقاومة في أوساط المجتمع الدولي بدورها الطليعي في إسقاط نظام الإنقاذ، فرَّطت قوى الحرية والتغيير/تقدم في استقطاب هذا الكيان المُجرَّب لدعم جهود وقف الحرب وإعادة الإعمار.
لقد ظلت التناقضات في السياسة السودانية خلال الفترة الانتقالية مدفوعة بالطبيعة المعقدة والديناميكية للعلاقات الاجتماعية والأيديولوجيات في السعي للسيطرة على السلطة. وتجلَّت هذه التناقضات الجوهرية والثانوية بين اللاعبين الرئيسيين بطرق مختلفة، مما أدى إلى التوترات والصراعات المسلحة والإحتراب. وتضمنت التناقضات الرئيسية خلال الانتقال عداءات أساسية بين الأيديولوجيات والكيانات السياسية المختلفة. وكشفت ثورة ديسمبر أن التناقض بين النظام السابق (الإسلاميين) والشعب السوداني هو التناقض الأبرز والمهيمن. حيث تغذى هذا التناقض الجوهري من تهميش النظام السابق لمعارضيه من غالبية الشعب عبر "التمكين" الذي أفرز فساداً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً غير مسبوق، شهدت به قيادة "الإسلاميين" التاريخية ممثلة في أمينهم العام وعلى مرأي مشاهدي القنوات الفضائية الرائجة. وبالتوازي مع ذلك، فإن التناقض بين القيم الديمقراطية المتمثلة في المساواة الاجتماعية والسياسية التي طرحتها ثورة ديسمبر، وواقع عدم المساواة الصارخ الذي يتبناه النظام (الإسلامي) كان ولا يزال تناقض جوهري لدوره في تقويض شرعية المؤسسات الديمقراطية وبالتالي إشعال السخط السياسي المؤدي لإجهاز الشعب على نظام الإنقاذ.
وفي المقابل، كانت التناقضات الثانوية بين قوى ثورة ديسمبر خلال الفترة الانتقالية بداية نسبية وعابرة، تنطوي على اعتبارات شخصية كمية، ولكنها في غياب الحنكة السياسية تحولت إلى عداء نوعي بين فصائل الثورة المتمثلة في قوى الحرية والتغيير. وقد أدى سوء التقدير في تسلسل معالجة التناقضات الجوهرية والثانوية إلى عرقلة تحقيق أهداف ثورة ديسمبر. وكان هذا السلوك المسؤول الأول عن تورُّم مؤيدي النظام السابق، الذين لعبوا دوراً بارزاً في إشعال الحرب وتأجيجها. ولا يخفى أن العامل الأبرز وراء نجاح ثورة ديسمبر في إسقاط النظام (الإسلامي) كان إدراك مناوئي سلطة الإنقاذ لتقديم التناقض الأساسي مع النظام الشمولي الفاسد على التناقضات الهامشية بين معارضي ذلك النظام الشمولي. وبالمثل، كان العامل الوازن وراء تعثر الفترة الانتقالية هو استمرار قوى الحرية والتغيير في الإلتهاء بالتناقض الثانوي بين قوى ثورة ديسمبر وإغفال تناقضها الجوهري مع النظام البائد.
وإذا سلمنا بأن اضمحلال الحنكة السياسية قد لعب دوراً بارزاً في الفشل السياسي خلال الفترة الانتقالية، فإن تغييبها سيكون أبلغ أثراً في إنهاء الحرب المستعرة في البلاد. فعلى اللاعبين الرئيسيين المدنيين والعسكريين إدراك أن وقف الإحتراب ينطوي على مرحلتين متتابعتين غير متوازيتين ولا مجال للتداخل بينهما. تنطوي المرحلة الأولى على وقف إطلاق النار الإنساني بمراقبة وحماية عسكرية إقليمية ودولية. وتشمل مهام هذه المرحلة فتح الممرات الانسانية الآمنة لإيصال الإغاثة والمساعدات الإنسانية، ووقف انتهاكات حقوق الإنسان وحماية المدنيين، وعودة النازحين والراغبين من اللاجئين إلى مدنهم وقراهم، وعودة النشاط الاقتصادي والاجتماعي في الريف والحضر وحمايته. وتقتضي الحنكة السياسية حصر هذه المرحلة فقط في طرفي الإحتراب الجيش والدعم السريع، والوسطاء الإقليميين والدوليين، مع ضرورة استبعاد حواضنهما السياسية من المدنيين بحيث لا يلعبون دوراً يتجاوز المراقبة عن بعد. ذلك أن إقحام السياسيين في هذه المرحلة الأولى يفسدها ويحبط تحقيق مراميها باختزال قضاياها في جدال عقيم للسياسيين الداعمين لطرفي الاقتتال تستضيفه القنوات الفضائية.
أما المرحلة الثانية لإنهاء الإحتراب فتنطوي على فضاء آمن للعمل السياسي المثابر يمهد لاستعادة ألق وبريق شعارات ثورة ديسمبر المغدورة بمشاركة واسعة من القوى الحية المدنية سيما النساء والشباب. وتلعب القوى المدنية الديمقراطية الداعية لوقف الحرب وفي مقدمتها قوى الحرية والتغيير/تقدم الدور الوازن في المرحلة الثانية شريطة استيعابها لمفهوم التسلسل والتدرج في معالجة التناقضات الجوهرية مع مناصري النظام السابق، والتناقضات الثانوية مع مناصري أهداف ثورة ديسمبر. بحيث ينحصر دور الجيش والدعم السريع في هذه المرحلة الثانية على المراقبة عن بعد بحيث يؤدي هذا الدور لانسحابهما التام من الساحة السياسية بعد الاندماج في جيش مهني قومي واحد وموحد، قانع بدوره النمطي المتمثل في حماية الحدود وحفظ الأمن وتأمين التحول المدني الديمقراطي.
ومن ثم فإن دلالة استصحاب الفطنة والحنكة السياسية لإنهاء الحرب تنطوي على نأي السياسيين عن المرحلة الأولى والاكتفاء بمراقبتها، وابتعاد العسكريين عن المرحلة الثانية والاكتفاء بتأمينها وحمايتها. إذ أن أي مشاركة من الجانبين في مرحلة الآخر ستفسد المرحلتين معاً.
وحتى تتمكن ثورة ديسمبر من استعادة زخمها المفقود ومسارها القاصد نحو تحقيق "الحرية والسلام والعدالة" لا بد من الإقرار بأن المسؤولية التاريخية لانحراف الثورة عن استكمال أهدافها تقع على عاتق جميع اللاعبين الرئيسين خلال الفترة الانتقالية، بما في ذلك النسخ المنسلخة والنسخ المتحورة من قوى الحرية والتغيير، وتجمع المهنيين المتشظي، ولجان المقاومة المنغلقة، والجيش المسيس، والدعم السريع المُخترَق، والحركات المسلحة المتأرجحة والقاصية عن قواعدها. ويظل فهم "التدرج والتسلسل" في معالجة التناقضات الجوهرية مع النظام السابق والتناقضات الثانوية بين فصائل الثورة هو العلامة الفارقة بين السياسي الفَطِن اللبيب، ومن هو دون ذلك. وتبقى السياسة هي مهارة تحقيق المُمكن بأقل الخسائر. ويا لها من خسائر فادحة تكبدها الوطن بسبب قصور جميع اللاعبين الرئيسيين خلال الفترة الانتقالية عن استيعاب الأسبقيات والتسلسل في معالجة التناقضات "الجوهرية" و"الثانوية" في حلبة العراك في غير معترك بين المدنيين والعسكريين!
melshibly@hotmail.com
المدير التنفيذي - مركز مأمون بحيري، الخرطوم
يكشف التدقيق في الأزمة السياسية والعسكرية المطبقة والحرب المستعرة في السودان أن عدداً من قادة قوى الحرية والتغيير بأجنحتها المتعددة، والوافدين الجدد مع متحور "تقدم"، يفتقرون إلى الفطنة والدهاء السياسي لتحقيق النقلة النوعية المنشودة Paradigm” “Shift في العلاقة المدنية العسكرية المتردية. إذ أن الانحراف المدفوع ذاتياً “Self-inflicted” في الشراكة المدنية-العسكرية التي نجحت في إسقاط النظام السابق كان مسببه بدايةً إلحاح قوى الحرية والتغيير في التمادي في تواصل الاعتصام الاستفزازي والخانق حول مقر قيادة الجيش في أبريل 2019 بعد نجاحه في تحقيق هدفه المباشر في الإطاحة بنظام الإنقاذ الشمولي الفاسد. وشهدت الفترة الانتقالية التي أعقبت فض الاعتصام الدامي تواصل فشل قيادة قوى الحرية والتغيير في إدراك دور التناقضات الجوهرية والثانوية في تشكيل الديناميكيات الاجتماعية والسياسية خلال تلك الفترة. وكان هذا أحد العوامل الجوهرية التي أدت في نهاية المطاف إلى الحرب الكارثية في أبريل 2023. فبدلاً عن تفعيل وتعظيم التناقض الجوهري العدائي مع مناصري النظام السابق الذي هب كل الشعب السوداني لإسقاطه، حوَّلت قيادة قوى الحرية والتغيير تناقضها الفرعي غير العدائي مع حلفائها المدنيين والعسكريين إلى تناقض جوهري وعدائي، مما سمح للدولة العميقة المترنحة السعي لاستعادة زخمها المنزوع والانقضاض على مكتسبات الثورة.
إن التوسيع المحمود للجبهة الرافضة لاستمرار الحرب الكارثية الذي تسعى قوى الحرية والتغيير لتحقيقه لا ينفي ضرورة التدقيق في التأهيل والجدارة السياسية للمشاركين في هذه الجبهة التي يعوَّل عليها وطنياً وإقليميا ودولياً. ذلك أن الإدراك السياسي القاعدي المطلوب من قادة الجبهة العريضة الرافضة للحرب في هذا المنعطف الحرج ينبغي أن يشمل الفهم البسيط لـ "التدرج" و"التسلسل" في معالجة التناقضات "الجوهرية" والفرعية" في المدرج المدني والعسكري الجائش. وتشير الدلائل إلى أن جنوح قوى الحرية والتغيير لتغليب تناقضها مع العسكريين باعتباره تناقضاً جوهرياً دفع قيادة الجيش لطلب الحماية اليائسة من النظام السابق لاتخاذه حاضنة سياسية في مواجهة العداء السافر للعسكريين من قبل قيادة قوى الحرية والتغيير. والأهم من ذلك أن هذا المسلك غير الفطن في التمييز بين التناقضات الجوهرية والثانوية دفع العديد من كيانات قوى الحرية والتغيير المدنية ليتم احتضانهم دون تكلفة بواسطة النظام البائد!
وعليه فإن التوسيع الفاعل للجبهة المعارضة الحرب يتطلب تغييراً شاملاً في استراتيجية وتكتيكات قوى الحرية والتغيير/تقدم كشرط ضروري لاستعادة الأهلية لقيادة تحقيق أهداف ثورة ديسمبر المغدورة. ومن ثم فإن المكوِّن الجوهري لـ "النقلة النوعية" الضرورية في عقلية قوى الحرية والتغيير/تقدم هو الفهم الحصيف لـ "التسلسل والتدرج" في التعامل مع التناقضات "الجوهرية" و"الثانوية" بين اللاعبين الرئيسيين في الاحتقان السائد في العلاقات المدنية-العسكرية المتردية والتي ساهمت في حرب أبريل المشؤومة. حيث على قوى الحرية والتغيير/تقدم إدراك أن معيار تصنيف التناقضات "الجوهرية" و"الثانوية" بين الفاعلين الرئيسيين في ثورة ديسمبر ليس حكراً لها، بل تستأثر به قوى الثورة وفي مقدمتها لجان المقاومة التي كانت قانعة بقيادة قوى الحرية والتغيير الموحدة أثناء الحراك الظافر ضد سلطة الإنقاذ.
وهنا يكمن مأزق آخر في السلوك السياسي لقوى الحرية والتغيير يتعلق بمفهوم معالجة التناقضات الجوهرية والثانوية أثناء الفترة الانتقالية. ويتمثل هذا المأزق في فشل قوى الحرية والتغيير في المحافظة على قناعة لجان المقاومة بأهلية قوى الحرية والتغيير لقيادة هذه اللجان نحو تحقيق أهداف ثورة ديسمبر "حرية، سلام، وعدالة". سيما وأن هذه العلاقة التراتبية بين قوى الحرية والتغيير ولجان المقاومة كانت عاملاً حاسماً في إسقاط نظام الإنقاذ الشمولي. فعوضاً عن المحافظة على مواصلة طرح نفسها للجان المقاومة كجبهة متماسكة لقيادة تحقيق أهداف الثورة، تشتت قوى الحرية والتغيير في كيانات مبعثرة تناصب بعضها العداء والتخوين مغلبة حسم التناقضات الفرعية فيما بينها على حسم التناقض الرئيسي مع مناصري النظام الفاسد. والأدهى من ذلك قيام عدد من كيانات قوى الحرية والتغيير بنقل هذه التناقضات الثانوية للجان المقاومة التي كانت في الأساس تعاني من ضعف استعدادها لتعضيد قدراتها الميدانية المشهودة باكتساب المهارات الضرورية بانخراطها في دورات مكثفة لبناء القدرات التنظيمية والسياسية. فقد عجزت قوى الحرية والتغيير/تقدم عن بذل الجهد لاستمالة لجان المقاومة للانخراط في دورات تدريبية تساعد على تأطيرها في تنظيم هرمي، واكتساب المهارات السياسية التي تمكنها من المشاركة الفاعلة في الجبهة المناهضة للحرب. وعوضاً عن اغتنام السمعة المرموقة التي اكتسبتها لجان المقاومة في أوساط المجتمع الدولي بدورها الطليعي في إسقاط نظام الإنقاذ، فرَّطت قوى الحرية والتغيير/تقدم في استقطاب هذا الكيان المُجرَّب لدعم جهود وقف الحرب وإعادة الإعمار.
لقد ظلت التناقضات في السياسة السودانية خلال الفترة الانتقالية مدفوعة بالطبيعة المعقدة والديناميكية للعلاقات الاجتماعية والأيديولوجيات في السعي للسيطرة على السلطة. وتجلَّت هذه التناقضات الجوهرية والثانوية بين اللاعبين الرئيسيين بطرق مختلفة، مما أدى إلى التوترات والصراعات المسلحة والإحتراب. وتضمنت التناقضات الرئيسية خلال الانتقال عداءات أساسية بين الأيديولوجيات والكيانات السياسية المختلفة. وكشفت ثورة ديسمبر أن التناقض بين النظام السابق (الإسلاميين) والشعب السوداني هو التناقض الأبرز والمهيمن. حيث تغذى هذا التناقض الجوهري من تهميش النظام السابق لمعارضيه من غالبية الشعب عبر "التمكين" الذي أفرز فساداً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً غير مسبوق، شهدت به قيادة "الإسلاميين" التاريخية ممثلة في أمينهم العام وعلى مرأي مشاهدي القنوات الفضائية الرائجة. وبالتوازي مع ذلك، فإن التناقض بين القيم الديمقراطية المتمثلة في المساواة الاجتماعية والسياسية التي طرحتها ثورة ديسمبر، وواقع عدم المساواة الصارخ الذي يتبناه النظام (الإسلامي) كان ولا يزال تناقض جوهري لدوره في تقويض شرعية المؤسسات الديمقراطية وبالتالي إشعال السخط السياسي المؤدي لإجهاز الشعب على نظام الإنقاذ.
وفي المقابل، كانت التناقضات الثانوية بين قوى ثورة ديسمبر خلال الفترة الانتقالية بداية نسبية وعابرة، تنطوي على اعتبارات شخصية كمية، ولكنها في غياب الحنكة السياسية تحولت إلى عداء نوعي بين فصائل الثورة المتمثلة في قوى الحرية والتغيير. وقد أدى سوء التقدير في تسلسل معالجة التناقضات الجوهرية والثانوية إلى عرقلة تحقيق أهداف ثورة ديسمبر. وكان هذا السلوك المسؤول الأول عن تورُّم مؤيدي النظام السابق، الذين لعبوا دوراً بارزاً في إشعال الحرب وتأجيجها. ولا يخفى أن العامل الأبرز وراء نجاح ثورة ديسمبر في إسقاط النظام (الإسلامي) كان إدراك مناوئي سلطة الإنقاذ لتقديم التناقض الأساسي مع النظام الشمولي الفاسد على التناقضات الهامشية بين معارضي ذلك النظام الشمولي. وبالمثل، كان العامل الوازن وراء تعثر الفترة الانتقالية هو استمرار قوى الحرية والتغيير في الإلتهاء بالتناقض الثانوي بين قوى ثورة ديسمبر وإغفال تناقضها الجوهري مع النظام البائد.
وإذا سلمنا بأن اضمحلال الحنكة السياسية قد لعب دوراً بارزاً في الفشل السياسي خلال الفترة الانتقالية، فإن تغييبها سيكون أبلغ أثراً في إنهاء الحرب المستعرة في البلاد. فعلى اللاعبين الرئيسيين المدنيين والعسكريين إدراك أن وقف الإحتراب ينطوي على مرحلتين متتابعتين غير متوازيتين ولا مجال للتداخل بينهما. تنطوي المرحلة الأولى على وقف إطلاق النار الإنساني بمراقبة وحماية عسكرية إقليمية ودولية. وتشمل مهام هذه المرحلة فتح الممرات الانسانية الآمنة لإيصال الإغاثة والمساعدات الإنسانية، ووقف انتهاكات حقوق الإنسان وحماية المدنيين، وعودة النازحين والراغبين من اللاجئين إلى مدنهم وقراهم، وعودة النشاط الاقتصادي والاجتماعي في الريف والحضر وحمايته. وتقتضي الحنكة السياسية حصر هذه المرحلة فقط في طرفي الإحتراب الجيش والدعم السريع، والوسطاء الإقليميين والدوليين، مع ضرورة استبعاد حواضنهما السياسية من المدنيين بحيث لا يلعبون دوراً يتجاوز المراقبة عن بعد. ذلك أن إقحام السياسيين في هذه المرحلة الأولى يفسدها ويحبط تحقيق مراميها باختزال قضاياها في جدال عقيم للسياسيين الداعمين لطرفي الاقتتال تستضيفه القنوات الفضائية.
أما المرحلة الثانية لإنهاء الإحتراب فتنطوي على فضاء آمن للعمل السياسي المثابر يمهد لاستعادة ألق وبريق شعارات ثورة ديسمبر المغدورة بمشاركة واسعة من القوى الحية المدنية سيما النساء والشباب. وتلعب القوى المدنية الديمقراطية الداعية لوقف الحرب وفي مقدمتها قوى الحرية والتغيير/تقدم الدور الوازن في المرحلة الثانية شريطة استيعابها لمفهوم التسلسل والتدرج في معالجة التناقضات الجوهرية مع مناصري النظام السابق، والتناقضات الثانوية مع مناصري أهداف ثورة ديسمبر. بحيث ينحصر دور الجيش والدعم السريع في هذه المرحلة الثانية على المراقبة عن بعد بحيث يؤدي هذا الدور لانسحابهما التام من الساحة السياسية بعد الاندماج في جيش مهني قومي واحد وموحد، قانع بدوره النمطي المتمثل في حماية الحدود وحفظ الأمن وتأمين التحول المدني الديمقراطي.
ومن ثم فإن دلالة استصحاب الفطنة والحنكة السياسية لإنهاء الحرب تنطوي على نأي السياسيين عن المرحلة الأولى والاكتفاء بمراقبتها، وابتعاد العسكريين عن المرحلة الثانية والاكتفاء بتأمينها وحمايتها. إذ أن أي مشاركة من الجانبين في مرحلة الآخر ستفسد المرحلتين معاً.
وحتى تتمكن ثورة ديسمبر من استعادة زخمها المفقود ومسارها القاصد نحو تحقيق "الحرية والسلام والعدالة" لا بد من الإقرار بأن المسؤولية التاريخية لانحراف الثورة عن استكمال أهدافها تقع على عاتق جميع اللاعبين الرئيسين خلال الفترة الانتقالية، بما في ذلك النسخ المنسلخة والنسخ المتحورة من قوى الحرية والتغيير، وتجمع المهنيين المتشظي، ولجان المقاومة المنغلقة، والجيش المسيس، والدعم السريع المُخترَق، والحركات المسلحة المتأرجحة والقاصية عن قواعدها. ويظل فهم "التدرج والتسلسل" في معالجة التناقضات الجوهرية مع النظام السابق والتناقضات الثانوية بين فصائل الثورة هو العلامة الفارقة بين السياسي الفَطِن اللبيب، ومن هو دون ذلك. وتبقى السياسة هي مهارة تحقيق المُمكن بأقل الخسائر. ويا لها من خسائر فادحة تكبدها الوطن بسبب قصور جميع اللاعبين الرئيسيين خلال الفترة الانتقالية عن استيعاب الأسبقيات والتسلسل في معالجة التناقضات "الجوهرية" و"الثانوية" في حلبة العراك في غير معترك بين المدنيين والعسكريين!
melshibly@hotmail.com