الدبلوماسية المفتري عليها (1-2) …. بقلم: خالد موسي دفع الله

 


 

 

Kha_daf@yahoo.com

 

 

في قصته القصيرة (الدبلوماسي) يصور المبدع الروسي أنطوان تشيخوف، مشهد موت أمرأة الجنرال، وبعد جدال طويل بين الحاضرين ، إنتدبوا له أقرب أصدقاءه ليخبره بالنبأ الفاجع في مكان عمله.فلما شخص أمامه طفق يتأرجح بين النفي والأيجاب، تارة يبلغه بالنبأ ، وبعد برهة  يتراجع فينفيه.وبعد طول حديث، وأطنان من الكلام المستهلك،لم يفهم الجنرال شيئا، هل ماتت زوجته، أم أنها حية ترزق؟. ولما أعيته الحيلة قال لصديقه: لم أكن أعلم أنك دبلوماسي الي هذه الدرجة.

 تزخر قواميس الأقوال والأمثال السائرة في جميع اللغات بأرتال من النصوص والأمثال والمأثورات عن الدبلوماسي والدبلوماسية، وكلها تنحاز بطريقة ما الي حربائية الفعل، ورمادية الأقوال، ومنها أن الدبلوماسي  إذا قال (نعم) فأنه يعني (ربما)، وإذا قال (ربما) فأنه يعني (لا) وإذا قال (لا) فأنه لا ينتمي الي الدبلوماسية بواشجة مهنية، بل هو للعسكرية أقرب. ومنها أن الدبلوماسي هو (رجل شريف أرسلته حكومته ليكذب بدلا عنها لدي الدول الأخري). وفي تعبير آخر أكثر سخرية يقول كوفي بوشيا رئيس وزراء غانا المتوفي في عام 1972، والذي يعتبر أول أفريقي يدرس في كلية لندن بأكسفورد في بداية أربعينات القرن الماضي، وهو كذلك أول أفريقي ينبه الي ضرورة الأحتفاظ بالنظام الأهلي في النظام السياسي الحديث لأفريقيا من خلال أطروحته لرسالة الدكتوراة عام 1947 عن دور الزعيم الأهلي في النظام السياسي الحديث لقبيلة الأشانتي . يقول كوفي بوشيا إن الدبلوماسي هو "من  يتذكر عيد ميلاد المرأة ولكن لا يتذكر كم عمرها". وقد أسهم القادة العسكريون في التاريخ، بزيادة تلك الأقوال والمأثورات لأنهم يعتبرون أن الدبلوماسية تقف حجر عثرة ضد منطق القوة العاري وتتعارض مع جموح طموحاتهم العسكرية. وما تزال العلاقة، بين المؤسسات العسكرية والدبلوماسية في كل دول العالم، تضج بكثير من التوترات لأختلاف الوسائل والطرق لتحقيق المصلحة القومية، ولعل أشهر خلاف في التاريخ الحديث هو الذي تم بين كولن باول وزير الخارجية الأمريكي ودونالد رامسفيلد وزير الدفاع في عهد بوش الأبن حول منطق الحرب علي العراق. في هذا الصدد  يقول القائد الفرنسي المشهور شارلس ديجول صاحب الجمهورية الخامسة المتوفي في عام 1970 ( الدبلوماسيون مفيدون في الجو الصحو، ولكن عندما تمطر فأنهم يغرقون في كل قطرة ماء). وفي المقابل يقول القائد العسكري روجرز( الدبلوماسيون مهمون لبداية الحرب، مثلما الجنود مهمون لأنهائها)، وتعكس هذه المقولة طبيعة الدور الذي لعبته غابريل غلاسبي السفيرة الأمريكية في بغداد قبل غزو صدام حسين للكويت. ولكن رغم هجائية تلك الأقوال، فأن الدبلوماسية، معنية بأدارة العلاقات الدولية عن طريق التفاوض لا الحروب. ، لأنها إذا تقاصرت عن أداء دورها فأن قعقعة السلاح ستكون هي الوسيلة الوحيدة لحل النزاعات. لذا فأنها ستبقي صوت العقل الوحيد في هذا العالم المجنون. ويكشف كتاب (السفيرفي العصر الحديث) الذي كتبه صحافي أمريكي عن يان الياسون سفير مملكة السويد الأسبق في واشنطون، والذي تقلد منصب وزير خارجية بلاده، ورئيس الجمعية العامة في الأمم المتحدة، كما عمل في السودان مبعوثا خاصا للأمين العام للأمم المتحدة لدارفور. يخلص هذا الكتاب بعد رصد دام ثلاث سنوات متصلة لحياة إلياسون، الي أن السفير منصب يلفه الغموض لحساسيته الشديدة، لذا فهو يتطلب كثير من التضحيات ونكران الذات. 

نالت وزارة الخارجية كفل من النقد، والتجريح والتقريع والأحتجاج في معمعان الخطاب السياسي التهريجي السائد بدوافع شتي، منها ما هو صادر من رفقاء السلاح الدبلوماسي ممن جارت عليهم بوائق السياسة، فخرجوا بقرارات الصالح العام الي الأسواق والمهاجر البعيدة. وهؤلاء من أصحاب الظلم البين الذين تخطاهم القسطاس المستقيم،وكان الأولي أنصافهم، ورد أعتبارهم الأدبي والمهني دون تأخير. وصنف آخر أخذته المعارضة السياسية كل مأخذ ، فأنتقي من مؤسسات الدولة ما يصب عليه جام غضبه، ووجد في الخارجية ضالته. ونسبة لأنتشار السفارات في الخارج، وكثرة أصحاب الحاجات والمعاملات القنصلية، وجد الشانئون في سجلات المراجعات والمعاملات القنصلية ما ظنوه أدلة قاطعة علي قصور أداء وزارة الخارجية، وضعف مهنية الدبلوماسيين. وصنف آخر، ظل دائم الأنتقاد للفئة التي قذفت بها رياح التاريخ للخدمة الدبلوماسية،يأخذون عليهم أنهم من أصحاب الولاء السياسي لا الكفاءة،وبعض هؤلاء ممن نالوا المؤهلات للألتحاق بالخدمة الدبلوماسية،ولكن حالت دون حلمهم المشتهي حوائل بعضها سياسي دون شك، وبعضها ضيق مواعين الجغرافيا، حيث مال التعيين في العقدين الأخيرين الي مراعاة التمثيل الجغرافي، والجهوي لمختلف بقاع السودان، لأستدراك المظالم السابقة. وأنا أكثر الناس تأييدا لهذا النهج دون مواربة، حيث أحتكر الخدمة الدبلوماسية طوال العقود السابقة،أبناء المدن والحضر ممن نالوا تعليما جيدا، أو أتصالا معقولا بالخارج، مما أنعكس سلبا علي توازن التمثيل الجغرافي في المؤسسات السيادية. ولكن الكثرة الكاثرة، تظن أن الخدمة الدبلوماسية هي بقرة الخدمة المدنية الحلوب، حيث تكثر فيها الأمتيازات، وأحلام السفر والتنقل، وتمثيل السودان في المحافل المخملية. وهؤلاء أبعدوا النجعة،لأن معايير الخدمة الدبلوماسية في كل العالم، تكاد تكون موحدة، ما عدا أختلافات طفيفة في تفاصيل العمل، والأداء والهيكل الراتبي. والخدمة الدبلوماسية في السودان،بحكم طبيعة وظروف الدولة المعروفة  تعتبر في أدني سلم الأمتيازات الدبلوماسية، مقارنة بدول العالم الأخري، كما أن المخصصات والأمتيازات تخضع لمعايير مهنية بحتة وليست شخصية لأحسان تمثيل البلاد في الخارج، شأننا في هذا شأن كل دول العالم في التمثيل الدبلوماسي.

إقتبس البعض من كتاب المحبوب عبد السلام "دائرة الضوء وخيوط الظلام"،عن تجربة الأنقاذ في عشريتها الأولي،حيث أشار الي أن وزارة الخارجية في أول عهد الأنقاذ تم رفدها بثلة من أهل الولاء ليحملوا تراث وادبيات التغيير الي الوزارة، سيما وأن معظمهم كانوا من أصحاب السابقة في العمل الخارجي. كما شمل التعيين السياسي عددا من السفراء، الذين كانوا في سلك الدولة ممن ليست لهم سابقة في العمل الأسلامي. يقول المحبوب "لم تقتصر معوقات الأصلاح لوزارة الخارجية، علي تقصير السفراء الجدد، أو تورطهم في المشاكسات مع زملائهم الأدني،فقد كانت بوجه عام بعضا من الصورة العامة،لأعراض المشاكسة، والأنسجام مع عناصر الحركة الداخلة للخدمة المدنية بوزاراتها ومؤسساتها وبين المستقلين القدامي الحارسين لنظمها وضوابطها،أو المأسورين لجمودها وفراغها،والماهرين في ذات الوقت بحيلها وأحابيلها.وإذ تمثل وزارة الخارجية حالة مثالية بصرامة هيكلها،وإغراء أمتيازاتها، كان للقادمين الجدد نصيب كبير من الأزمات الأصلية والمفتعلة،مع الدبلوماسيين المهنيين القدامي). ولعل بعضا من وصف المحبوب لم يجافي الحقيقة، رغم مبالغته في تضخيم التوتر العابر الذي نشب بين القادمين والقدامي كما عبرت أدبيات مايو بعد المصالحة الوطنية في 1977. ولكن الثابت أن هذه المجموعة لم تكن الأولي في التاريخ السياسي للسودان التي تدخل الي وزارة الخارجية بدافع الولاء السياسي، ولكن ربما تكون الأبعد أثرا نسبة لطبيعة التغيير السياسي في السودان. وتفتقت عبقرية الأحتجاج الخفي لقدامي الدبلوماسيين فأشاعوا أن القادمين من أصحاب الولاء لا الكفاءة، كما أطلقوا عددا من المصطلحات الكاريكاتورية مثل ( الكارير والكرور). ولكن سرعان ما أندغمت هذه المجموعة في سلك الدبلوماسية المهنية المحضة، فعملوا تحت قيادة السفراء المهنيين،وأثبت معظمهم كفاءة مشهودة، سارت بهم الي سلم الترقي المهني، فأستووا في السلم التراتبي المعروف دون حساسيات. وكثير من هؤلاء يقودون بكفاءة مشهودة سفينة الدبلوماسية السودانية في العديد من عواصم العالم ، وإدارت وزارة الخارجية المختلفة. عليه لا يوجد هذا الفصل الحاد الذي أشار اليه بعض الناقدين في مقالاتهم، بين الطاقم الدبلوماسي القادم والقديم في وزارة الخارجية علي أسس سياسية، أو أيدلوجية.

لقد شهدت الدبلوماسية السودانية تحولات كبيرة، بحكم طبيعة التحديات التي مرت بها الدولة، أضافة الي التغييرات التي شهدتها الدبلوماسية الكوكبية في أطارها المهني جراء تفاعلها مع مقتضيات السياسة الدولية.فالحملة الشرسة التي تعرض لها السودان، من حصار جائر، وعزلة دولية، وأعتداءت عسكرية،وعقوبات أقتصادية، تصدت لها وزارة الخارجية والدبلوماسية السودانية ببسالة ومهنية عالية، ، وقدمت في هذا الصدد أستشارات عالية القيمة، وقادت الجهود الدولية لمحاصرة،وتقليل حجم التآمر الدولي علي السودان. هذا فضلا عن مشاركتها الفاعلة في تفجير النهضة الأقتصادية في السودان، من خلال جذب الأستثمارات،وأبتدار سياسة التوجه شرقا لكسر الحصار الأقتصادي، وأستقطاب الرساميل الدولية للأستثمار في مجال النفط والطاقة. وقد وصف معهد الوقف الديمقراطي ، في أستطلاع للرأي في السودان عام 2005 أن وزارة الخارجية، حظيت بالمرتبة الأولي بأعتبارها أفضل الوزارات أداءا ونجاحا في المنظومة الحكومية. كما صدرت تقريظات عالمية لأداء الدبلوماسية السودانية، عند ضرب مصنع الشفاء، حيث حصل السودان علي تأييد كل المنظمات الأقليمية والدولية، مما أحرج موقف الولايات المتحدة داخل الأمم المتحدة، حيث ظل طلب السودان العادل، هو إرسال بعثة تقصي حقائق دولية من مجلس الأمن للتحقق من مزاعم واشنطون في المصنع.

يقع السودان في المنزلة بين المنزلتين في شأن التعيين السياسي، حيث لا يقتفي أثر النهج المصري الذي يحصر التعيين السياسي رغم محدوديته في كبار ضباط المخابرات، وجنرالات الجيش،ولا يسرف في التعيين مثل الديمقراطيات الراسخة في العالم الغربي. فالعرف السائد في الولايات المتحدة مثلا يقصر التعيين السياسي علي ثلث السفراء فقط. فالرئيس كلنتون مثلا عين في عهده 417 سفيرا، منهم نسبة 72.18 % من داخل الخدمة الدبلوماسية، ونسبة  27.82 % تعيينا سياسيا. أما الرئيس بوش الأبن فقد عين 453 سفيرا في عهده ، منهم نسبة 69,98% من داخل الخدمة، و نسبة 30,02 % تعيينا سياسيا. وبلغ عدد السفراء الأمريكيين الذين عملوا في السودان منذ العام 1960 أحدي عشر سفيرا، بلغت نسبة التعيين السياسي بينهم 8,3% أي سفيرا واحد. وذلك مقارنة بالسفراء الأثني عشر الذين عملوا في القاهرة، حيث بلغت نسبة التعيين السياسي بينهم 7,7%. ولعل المفارقة الأساسية تكمن في نسبة التعيين السياسي وسط السفراء الأمريكيين الذين عملوا في كل من الرياض وتل أبيب، حيث بلغت نسبة التعيين السياسي للسفراء الأمريكيين في المملكة السعودية 42,1%، أما في أسرائيل فقد بلغت نسبتهم 26,7%. ورغم مراعاة الأدارات الأمريكية المختلفة لنسبة الثلث في التعيين السياسي، إلا أن رابطة السفراء الأمريكيين، ما زالت تنتقد وتحتج علي هذه النسبة التي تراها مرتفعة وغير مبررة، ولكنها كما هو معلوم تخصص لمنسوبي الحزب الفائز في الأنتخابات، وترتبط فقط بفترة الأدارة المعنية علي سدة الرئاسة، أي أن السفير يذهب من حيث أتي مع نهاية فترة عمله ولا ينضم الي سفراء وزارة الخارجية الأمريكية. يذهب الظن الثابت الي أن السودان ما زال يحتفظ بنسبة أقل من 17% في التعيين السياسي للسفراء. وهي نسبة مرتفعة لطبيعة الأوضاع السائدة في السودان،كما أنها تهدد الأستقرار المهني بضرورة الأعتماد علي سفراء المسار البيروقراطي.

إن الأصرار الظالم علي إعتقال وزارة الخارجية في عهد وزيرها الهمام د.منصور خالد، أو سفرائها النابغين مثل السمحوني لهو جهل فاضح بمقتضيات التاريخ،وتكريس لعقدة الأجيال المستفحلة في الحياة السياسية والأجتماعية في السودان، وهي ذات العقلية التي إعتقلت السودان في ثورة أكتوبر، وأختزلت كرة القدم في السودان في عهد عثمان الديم، وجكسا، والفن في مرحلة كرومة وسرور والكاشف. للجميع الحق في إنتقاد وزارة الخارجية كمؤسسة للخدمة العامة، أو سياسات الدولة الخارجية، التي تخضع للمراجعات والأستدراكات، ولكن الجنوح الي إتهام الزملاء بمنهج naming and shaming وكل من أنضم للعمل في وزارة الخارجية ، خلال العقدين السابقين من خلال التصنيف الساذج بين أهل الولاء والكفاءة، لهو تجني جارح، وجهل بحقائق الواقع والتاريخ، هذا فضلا عن أنه بصق علي تاريخ حافل من الخدمة المشتركة..

أختم هذه الحلقة بكبسولة من كلاسيكيات قصص الدبلوماسية، إذ ذكر الراوي أن سفيرا عمل مترجما للرئيس نميري أثناء لقائه مع الرئيس السنغالي، والشاعر الفذ ليوبولد سينغور، وأثناء اللقاء أوحي ذلك السفير للرئيس نميري أن يطلب من سنغور إلقاء أحدي قصائده لأن ذلك من شأنه أن يكسر الحواجز ويفتح ابواب التواصل الودي بينهما، سيما وأن سينغور يحب أنشاد قصائده علي زعماء القارة. ولما أستجاب سنغور وبدأ في إلقاء القصيدة، أنسجم ذلك السفير في فواصل القوافي وتأمل المعاني، مما جعله ينسي مراسم الترجمة الفورية للرئيس نميري. ولما قاطعه الرئيس طالبا منه ترجمة القصيدة، لوح إليه بيده طالبا منه الأنتظار حتي ينهي سنغور ذلك الألقاء الملائكي قائلا بالدارجة( بعدين، بعدين)، وحينها أنتفض الرئيس نميري وأنتهره علي الفور، ومن ثم طالب بمحاسبته وأرجاعه الي وزارة الخارجية فورا. أما القصة الأخري فهي مرتبطة بالدكتور حسن الترابي الذي تقلد منصب وزير الخارجية في الديمقراطية الأخيرة. وكان أن تدخل لأنجاز بعض الأجراءات المتعلقة بأحدي السفارات الأسيوية.فقرر سفير تلك الدولة التعبير عن شكره وأمتنانه للسيد الوزير، فكان أن أرسل اليه زجاجة خمر. ولا شك أن سفير تلك الدولة لم يكلف نفسه مراجعة السيرة السياسية للدكتور الترابي وزير الخارجية، حتي ينتقي له الهدية التي تناسبه. وحتي اليوم لم يعرف بعد مصير الزجاجة، هل عادت الي مهديها، أم تمت مصادرتها بواسطة السعاة لصالح المزاج العام. ويحكي الوناسون أن السيدة الأولي فاطمة خالد سبق وأن رافقت زوجها فخامة الرئيس عمر البشير الي أحدي دول الشام في بداية عهد الثورة، فلما أستضافهم السفير السوداني في مأدبة عشاء رسمية تليق بمقام الرئاسة،وسط الطنافس،والثريات والتشريفات الملكية همست السيدة الأولي في إذن الرئيس قائلة:(هسي إذا بقيت سفير مش أحسن ليك من رئيس مجلس قيادة الثورة الما جايبة همها دي) لا أدري إذا كان هذا العرض ما زال ساريا، لأن كثير من السفراء مستعدون لمبادلته مواقعهم.. 

 

 

آراء