“الدِّين والدَّولة .. مشروع رؤية لفك الاشتباك”، كتاب جدير بالاطلاع عليه
صديق عبد الهادي
22 January, 2024
22 January, 2024
صديق عبد الهادي
Siddiq01@gmail.com
صدر للكاتب السوداني الأستاذ جمال عبد الرحيم صالح، من "منشورات دار المصورات"، كتاب تحت العنوان المتصدر لهذا المقال وهو "الدين والدولة ...مشروع رؤية لفك الإشتباك". وقبل أن أُلقي الإضاءات التي اود، فهناك إشارة ضرورية لابد منها في حق مؤلف الكتاب. الأستاذ جمال عبد الرحيم باحث مجيد، مهموم بالبحث في الفكر عموماً وفي قضايا الفكر الديني خصوصاً وفي ذلك نجده مجذوباً بقضايا الفكر الإسلامي وبدراساته المقارنة، وهو جذبٌ شغِف، تفصح عنه المعالجات الحصيفة لكل القضايا التي تناولها في كتاباته، وخاصة تلك التي يحتويها هذا الكتاب الذي نحن بصدده.
سيلحظ القارئ وسيتلمس سريان الجهد البحثي المتعمق بين مفاصل جمل ونصوص وفقرات الكتاب. إن الذي يميزُ بين كل المجيدين في الأفعال، ولا سيما في حقل البحث، ليس هو التجويد والإجادة لوحدهما، وإنما كذلك المحبة المقترنة بالفعل محل التجويد نفسه. وذلك مما يمكن أن يقال في شأن تعلق جمال بالبحث في الفكر الإسلامي، إذ يبحث فيه بمحبة جارفة بينها والبرود الأكاديمي بونٌ أفيح. ومما يعضد من هذا القول هو ما أنتجه وما أصدره حتى الآن من كتب غير الذي بين أيدينا، وهي "فتح العقل المسلم" (2015)، "الحجاب، سترٌ للبدن أم إغلاقٌ للعقل" (2021)، و"الشريعة بين تعاليم الدين وأوهام البشر...مشروع رؤية لتأسيس فقهٍ بديل" (2021). وهذا علاوة على الأوراق البحثية والمقالات العلمية في ذات مجال الفكر الديني والفكر الإسلامي وغيرهما من المجالات ذات العلاقة المباشرة وغير المباشرة بهما. هناك ملاحظة قد تكون عابرة، ولكن لا يضير إبداؤها، وهي أن هذه العناوين وبعناية سكها تلك، تقف كافيةً للنم عن توقعٍ لا يخيب! أولم يندرج في الأثر القول السائر أن "الجواب" أو قلْ "الكتاب" يكفيك عنوانه.
جاء الكتاب الذي نحن بصدده، وكما أسلفنا، تحت عنوان "الدِّين والدَّولة… مشروع رؤية لفك الاشتباك"، وهو عنوانٌ له دلالته. إنه عنوانٌ يشير ودون مواربة إلى حقيقتين، قد يتوقعهما القارئ الفطن من الوهلة الأولى، وهما الحمولة الفكرية التي تربض بين ضفتي الكتاب، ذلك أولاً، وثم ثانياً الجهد البحثي الذي قد تضمنه. بالفعل، كان بحثاً في أمهات المظان الأصل، ليس فيه توسل ملحاح لـ "العنعنة البحثية" السالكة، من شاكلة "كما أورده فلانٌ أو ذكره علانٌ"!. وكما هو معلومٌ، أن ذاك توسلٌ طالما لجأ ويلجأ إليه عددٌ ليس بالقليل من البحاثة تحت قلة الحيلة وإغراء الخمول والكسل وعدم الصبر على عناء التنقيب. وكلها سماتٌ صائلة ومتأصلة في مجال البحث. جاء الكتاب بمحمولتيه تَيْن، بالرغم من رشاقته وعدد صفحاته الذي لم يتعد المئة وأثنتين وتسعين صفحة، من القطع المتوسطة.
إحتوى الكتاب على مقدمتين، أولاهما للمفكر الراحل كمال الجزولي وثانيتهما للكاتب، وكذلك على سبعة أبواب، منها المتوسط ومنها القصير.
جاءت الكتابة فيه مكثفة، فبالرغم من نجاعته، وكما هو معلوم، في وضع حدٍ للحشو واللغو و"اللت والعجن" المنفر إلا انه ومن جهةٍ أخرى ينطوي التكثيف كذلك على بخلٍ لا تخطئه العين، سيما حينما يكون معلوماً أن للكاتب تلك القدرة البائنة والفاضحة لنفسها في شأن التوسع والإسترسال الممكنين في موضوع بحثه.
إنه كتابٌ ممتعٌ معرفياً، إذ أنه ومنذ البداية يشدك إليه شداً حينما تجد نفسك في أسْرِ تلك المقدمة الفخيمة والباثقة التي خطها قلم المفكر والأديب الراحل الأستاذ كمال الجزولي. إنها مقدمة رصينة الفكرة، مفرداتها منتقاةٌ بدقةٍ تأصلُ لعادة الراحل كمال المشهودة في تجويد اللغة، وتؤكدُ لدأبه المعروف أيضاً في الحفر المعرفي لأجل إجلاء الأفكار. إلتقط كمال في سهولةٍ أحد أهم الأفكار المحورية التي قام عليها البحث، حين قال " وفي هذا الكتاب الذي بين أيدينا يبدي الباحث، منذ البداية، انتباهة مرموقة باتِّجاهين: فمن ناحية، يرى أن مصطلح «فصل الدِّين عن الدَّولة» يضئ المطلوب في السُّودان بأكثر مِمَّا يفعل مصطلح «العلمانيَّة»؛ أمَّا من ناحية أخرى فإنه يلاحظ أن القضيَّة، في جوهرها، «فكريَّة» بأكثر منها «سياسيَّة»". فذلك الإلتقاط الحصيف بذله كمال في يسرٍ للقارئ وهو ليس في عجلة من أمره، ولكن برغمه، كأني به يقول دعوني أعد المدخل الصحيح الذي لابد منه في سبيل قراءة منتجة لهذا العمل البحثي المتميز، وقد كان، حيث قدم إضاءات تاريخية ومعرفية ذات قيمة حول علاقة الدين بالدولة، وحول مفهومي "العلمانية" و"فصل الدين عن الدولة" وذلك من وحي رصدٍ وتشريحٍ متمكن للتاريخ الأوربي، قديمه وحديثه. وفي تبريره لذلك يقول، "مع ذلك، وبرغم عدم ملاءمة مصطلح «العلمانيَّة» لحواراتنا الفكريَّة أو السِّياسيَّة في السُّودان، بفعل كثافة الظلال الأيديولوجيَّة والسَّايكولوجيَّة التي فُرضت عليه من خلال الصِّراع، فلا بُدَّ من الإلمام بتاريخانيَّته وفكرويَّته الغربيَّتين، حيث ثمَّة عروة وثقى لا انفصام لها بينه وبين مفهوم «فصل الدِّين عن الدَّولة»، فما انطرح واحدهما إلا واستتبع الآخر ضربة لازب". لقد أوردتُ هذا النص من مقدمة كمال، تحديداً، بقصد الإشارة إلى حقيقة أن كمال كعادته لا يَتَجَمّل حينما يتعلق الأمر بالفكر وبضروراته. كتب كمال ذلك النص وذهب في تقصي تجلياته على أبلغ ما يكون، وذلك بالرغم من إشارة جمال، ولا أقول حتم أنفها، أي الإشارة، التي وردتْ في مستهل الباب الأول حول "أزمة العقل الجمعي المسلم"، حيث كتب جمال وأشار قائلاً، "فأمر معالجة علاقة الدِّين بالدولة عبر استدعاء ذات الأدوات التي ناقشت بها أوروبا تلك العلاقة، لن تدفع ذلك النقاش للوصول لغاياته، نسبة لاختلافات جوهرية وعريضة بين المحمولات الدينية والثقافية عند المقارنة بين العقلين الأوروبي والإسلامي" (ص 17). ولربما!، ولكن تسديدة كمال "التاريخانية" و"الفكروية"، أعتقد انها كانت أدقّ وأصوب، وبل ضرورية.
جاء الباب الأول من الكتاب تحت العنوان "أزمة العقل الجمعي المسلم"، مشفوعاً بتبيانٍ شمل تجليات تلك الأزمة وأسبابها. مثّل ذلك مدخلاً موفقاً وشكّل مقدمةً ضروريةً وارضيةً مطلوبةً لتقوم عليها أطروحة الكاتب ومعالجاته لتفاصيلها، اي تفاصيل الأطروحة.
من التجليات المهمة لازمة العقل الجمعي المسلم التي أشار إليها الكاتب "الميل المفرط لتبسيط الأشياء" وربط ذلك بحقيقة "سيادة الإفتاء كعماد للمعرفة العامة" في الحياة العامة. وهذه ملاحظة دقيقة أعانت الكاتب كثيراً في تشريح الدور التاريخي الذي لعبه "الإفتاء والفقه الموروث" في تشكيل وعي المسلم بإعتباره، أي الإفتاء والفقه الموروث، يمثل نشاطاً فكرياً مركزياً في المسيرة الفكرية للدين الإسلامي مما عزز الإنطباع للعقل الجمعي المسلم بأن "دينه ينطوي على كل شيء"، "إن هذا الميل للاعتقاد الشديد لدى الفرد المسلم بأن لدينه اختصاص بكل جوانب الحياة، يؤكده ذلك الولع الذي يبديه العقل المسلم في إيجاد صلة مزعومة بين تعاليم دينه، وبين مستجدات العلم، بدلاً عن أن يكون هو ذاته مساهماً فعالاً في إنتاج ذلك العلم" (ص19) . وعلى هذا النحو من المعالجة الفكرية أخضع الكاتب للنقد مجمل المفاهيم التي تناولها.
إنه، ورغم كثافة الأعمال والمقاربات الفكرية والسياسية التي تستهدف معالجة قضية الدين والدولة، إلا أن الكتاب تفرد بفكرة رئيسية تفتح الباب أوسع من ذي قبل لتقعيد الحوار وتضييق دائرة الخلاف بين مناصري دعوة الدولة الدينية ورافضيها، ومن ثم عودة ما لله لله وما لقيصر لقيصر! تتجلى هذه الفكرة من خلال تحديده وتعريفه لمنظورين أو مسارين ومحورين مختلفين، لمعالجة قضية علاقة الدين بالدولة، يعتقد أن التشابك وعدم التمييز بينهما أضاف تعقيدات أسهمت في تأخير معالجة أمر تلك العلاقة.
فالمحور الأول، كما يرى الكاتب، ينظر للدين من حيث اعتباره مرجعاً وإطاراً للحكم والسلطة، أي المصدر الذي يستمد الحاكم سلطته ومشروعيته منه. بمعنى آخر، هل يستمدها من السماء، وذلك عبر المؤسسة الدينية وبمباركتها، على طريقة "لن أخلع قميصاً ألبسنيه الله"، أم يستمدها من الشعب سواء بالانتخاب الحر أم بغيره بدون زج الدين في الأمر، كما هو الحال في النظام العلماني؟
أما المحور الثاني فينظر للدين باعتباره مصدراً للقوانين؛ أي من أين تستمد القوانين مشروعيتها، هل من نصوص القرآن والسنة وآراء الفقهاء الموروثة والمستحدثة؛ أم تصاغ وفقاً لاحتياجات المجتمع، ومستوى تطوره، والخبرات التي تراكمت لديه، والعمل على توفيق قوانينه مع المبادئ الأساسية التي تقوم عليها الأديان وتلك التي توصلت لها الإنسانية، كما هو الحال في الدولة العلمانية؟
ولتوضيح أهمية هذا التقسيم، واستناداً على تجربة حكم الإسلامويين في السودان، باعتبار فرادتها حيث شملت جانبي التنظير والتطبيق، نجد أن الشقة بين دعاة الدولة الدينية ومعارضيها، ضاقت بشكل لافت ومدهش، حيث تخلى الإسلامويون عن النظر للدين كمصدر للسلطة ومرجعية لها. فقد أسقطوا بناءً فقهياً كاملاً يختص بالتعامل مع مسائل السياسة وحكم الناس، أو ما يسمى بالسياسة الشرعية، التي بنيت على اجتماع السلطتين الدينية والزمنية في يد واحدة، حيث أن القاعدة الأصولية تشير إلى أن "الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع" كما يشير الإمام الماوردي. إضافة لذلك تقوم السياسة الشرعية على طيفٍ واسعٍ من القواعد، مثل فقه الولاء والبراء، وفقه الجهاد، وأحكام الغنائم والخراج، وما إلى ذلك. استدل الكاتب على قفزة الإسلامويين هذه، بما أورده من مواد أساسية تضمنها دستور 2005 الذي صاغته الحركة الإسلامية، حيث كأمثلة لها أن جمهورية السودان دولة ديمقراطية لا مركزية تتعدد فيها الثقافات واللغات وتتعايش فيها العناصر والأعراق والأديان، وأن السودان وطن واحد جامع تكون فيه الأديان والثقافات مصدر قوة وتوافق وإلهام، وأن السيادة للشعب، وأن الدستور هو القانون الأعلى للبلاد، وأن سلطة الحكم وصلاحياته تستمد من سيادة الشعب وإرادته، وأن المواطنة هي أساس الحقوق المتساوية والواجبات لكل السودانيين، وأن على المواطن السوداني أن يدين بالولاء لجمهورية السودان وأن يمتثل لهذا الدستور ويحترم المؤسسات التي أُنشئت بمقتضاه ويحمي سلامة أرض الوطن، وغير ذلك من المبادئ التي تحفل بها دساتير الدول "العلمانية"!
بتنصل الإسلامويين عن فقه السياسة والحكم، تقلصت دائرة الارتباط بين الدين والدولة لتتعلق فقط بمصدرية القوانين. وفي هذا يورد الكاتب الكثير من الأدلة والنماذج على تنصل الإسلامويين عن الكثير من مبادئ وأسس فقه المعاملات الموروث، حيث تمَّثل التنصل في شقين، أحدهما يتعلق بالقوانين التي وضعوها، ونسبوها للدين الإسلامي، حيث تجاوزت تلك القوانين عن قواعد معروفة مثل أن شهادة المرأة وشهادة غير المسلم منقوصة عن تلك التي للرجل المسلم، أو أن دية المرأة ودية غير المسلم تمثل نصف تلك التي للرجل المسلم، وغيرها من القواعد المتفق عليها بين المذاهب الفقهية المختلفة؛ بينما يتمثل الشق الآخر في التملص عن تطبيق تلك القواعد الباقية، كالحدود والقصاص، بأعذار مختلفة، حيث خلتْ سجلاتُ المحاكم والسجون عن تنفيذ أي عقوبات تذكر في هذا الإطار.
لقد أثبت الكاتب، ومن خلال استخدامه للنصوص الدينية ولقواعد الفقه الموروث نفسه، أنه أصبح بالإمكان الآن تحويل مسار المعركة الفكرية والسياسية لمصلحة قوى الاستنارة لتضع تلك التيارات في موقع الدفاع، ومن ثمّ الهزيمة؛ وهو أمر لن يتم بالنجاح المأمول بدون أن يجد الإرادة السياسية والدعم السياسي من القوى السياسية الفاعلة. وهذه هي المسألة الرئيسية كما يراها!
وكذلك وعلى النهج نفسه، عالج الكاتب قضية النص في مراوحته بين معنييه المباشر والمجازي. وقد كانت تلك معالجةً موفقةً، هي الآخرى.
في إضاءته للجذور التاريخية لأحد أسباب الأزمة، راعت إنتباهي الإشارة الموضوعية التي أبداها الكاتب حول حقيقة أن الرسالة المحمدية جاءت في ظروف تاريخية لم تكن الجزيرة العربية قد خبرت وجود دولة مركزية تاريخياً، كما كان حادثاً بالنسبة للأمم التي كانت تعاصرها مثل الفرس والروم وغيرهما من الأمم التي خبرت تجارب وقيام للدولة المركزية، "نزلت الرسالة المحمدية قبل أكثر من 14 قرناً بأرضٍ جدباء من كلِّ النواحي، وهي شبه الجزيرة العربية، حيث لم يكن هنالك وجود لدولة بالمعنى المفهوم. لقد كانت القبيلة هي الشكل الاجتماعي الأعلى، وأعرافها تمثل الإطار الأخلاقي والقانوني لها، كما ساد اقتصادها نمط الإنتاج الرعوي الراكد بطبيعته. كل ذلك ألقى بظلاله القاتمة على الدولة الجديدة الناشئة ذات المركز الموحد التي كانت تحتاج بشدة لمنظومة فكرية ذات طبيعة مختلفة عن الموروث."(ص 25). وهنا يستحضرني التحليل العلمي الذي تقدم به ذات مرة المفكر الكويتي الراحل دكتور أحمد البغدادي في تناوله لتاريخ الدولة الإسلامية، حيث أشار إلى ان قيام الدولة المركزية حتي في شكلها الأولي يرتبط دائماً بالتطور الإقتصادي والإجتماعي والثقافي وبتطور الحياة عموماً وخاصةً عندما تتطور الدولة نفسها وتتوسع، و قد ذكر بأن ذلك هو السبب من وراء إنتقال مركز الدولة الإسلامية من مكة إلى المدينة ومن ثم إلى دمشق ومنها إلى بغداد …الخ وكل تلك هي دول وشعوب ذات تاريخ إقتصادي وحضاري وثقافي مشهود وعريق، وهو ما لم تكن قد حظيت به مكة!. فلذلك لم يكن لمكة ما يؤهلها لتكن الحاضنة الدائمة للدولة الإسلامية المتوسعة والتي أصبحت ديناميكيتها اكبر بكثير من امكانيات المجتمع المكي، الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والثقافية. وهذا التحليل ولحدٍ كبير يعزز مما ذهب إليه جمال في هذا الصدد.
من الملاحظ أن الكاتب إكتفى بالتوصيف الفكري، أي بأن القضايا هي قضايا فكرية من الدرجة الأولى، وهذا صحيح، ولكن كان من المتوقع أن يذهب الكاتب إلى أبعد من ذلك التوصيف، ويبذل إهتماماً أكثر بالقاء بعض الضوء على جذور الصراع الإقتصادي/ الإجتماعي الذي كان يكمن من وراء تَشكُّلْ تلك القضايا الفكرية، وبل إلى مَرَدِّه يكون تفسيرها. غشى الكاتب ذلك طفيفاً بذكر بعض المفردات المرتبطة بالمفاهيم، (ص70-74)، ولكنه لم يتأنَ لدى مفاهيم الصراع الإقتصادي الإجتماعي نفسها. إنه، لو توقف قليلاً، كان سيقوي بذلك من عارضة الحجة الذكية التي تبناها حين أشار إلى حقيقة تنازل تيارات الإسلام السياسي وغيرها من المؤسسات الدينية وبدون مبرر نظري، في شأن علاقة الدين بالدولة. فالسؤال لماذا حدث ذلك التنازل الأبتر؟ ذكر الكاتب شقاً من الإجابة حينما عزا تنازل تلك المؤسسات الدينية للإستجابة للتطور الذى أصاب الحياة، "لقد فعلت كل ذلك فقط انصياعاً لسنة التغيير في حياة الناس، بدون تقديم أي أساس نظري يسند تنازلها هذا، وهو أمر يؤكد قابلية القوى الرافعة المناهضة لمدنية أو علمانية الدولة للهزيمة." فالشق الثاني من الإجابة، وفي إعتقادي أنه الأهم، هو ضمان صون المصالح الإقتصادية والمزايا الإجتماعية لتلك القوى الإجتماعية التي تمثلها تلك المؤسسات الدينية، حيث أصبح التمنطق بالتشدد ليس بكفيلٍ على حماية تلك المصالح بمثلما قد يفعل الإنحناء في وجه عاصفة التغيير، أو بمثلما قد يفعل التواؤم مع التطور الذي أضحى ينتظم العالم. فقد أصبحت مصالح جماعات الإسلام السياسي الإقتصادية والإجتماعية والسياسية، وكما هو جليًٌ للمتمعن، جزءاً من العولمة التي تطوق العالم، اليوم.
خاتمة/
أعتقد أن كتاب "الدين والدولة…مشروع رؤية لفك الإشتباك" يمثل إضافة حقيقية، ليس للمكتبة، كما درج القول، وإنما إضافة لخزانة ولترسانة الفكر السوداني، ذلك الظاعن في وجهة التغيير. أبدى الأستاذ جمال عبد الرحيم في كتابته لهذا السفر جسارة فكرية وثراء معرفي كبيرين، يغمط عليهما. فكل ما يمكنني قوله هو أن جمال قد إنتصر لإنفتاح العقل وإنحاز للفعل الإنساني الساعي لصياغة الحياة وفقاً لإرادة الإنسان نفسه. وشأنه في ذلك شأن كل المفكرين المستنيرين الذين عرفهم التاريخ.
وختاماً، أقول أن هذا الكتاب جديرٌ بالإطلاع عليه.
Siddiq01@gmail.com
صدر للكاتب السوداني الأستاذ جمال عبد الرحيم صالح، من "منشورات دار المصورات"، كتاب تحت العنوان المتصدر لهذا المقال وهو "الدين والدولة ...مشروع رؤية لفك الإشتباك". وقبل أن أُلقي الإضاءات التي اود، فهناك إشارة ضرورية لابد منها في حق مؤلف الكتاب. الأستاذ جمال عبد الرحيم باحث مجيد، مهموم بالبحث في الفكر عموماً وفي قضايا الفكر الديني خصوصاً وفي ذلك نجده مجذوباً بقضايا الفكر الإسلامي وبدراساته المقارنة، وهو جذبٌ شغِف، تفصح عنه المعالجات الحصيفة لكل القضايا التي تناولها في كتاباته، وخاصة تلك التي يحتويها هذا الكتاب الذي نحن بصدده.
سيلحظ القارئ وسيتلمس سريان الجهد البحثي المتعمق بين مفاصل جمل ونصوص وفقرات الكتاب. إن الذي يميزُ بين كل المجيدين في الأفعال، ولا سيما في حقل البحث، ليس هو التجويد والإجادة لوحدهما، وإنما كذلك المحبة المقترنة بالفعل محل التجويد نفسه. وذلك مما يمكن أن يقال في شأن تعلق جمال بالبحث في الفكر الإسلامي، إذ يبحث فيه بمحبة جارفة بينها والبرود الأكاديمي بونٌ أفيح. ومما يعضد من هذا القول هو ما أنتجه وما أصدره حتى الآن من كتب غير الذي بين أيدينا، وهي "فتح العقل المسلم" (2015)، "الحجاب، سترٌ للبدن أم إغلاقٌ للعقل" (2021)، و"الشريعة بين تعاليم الدين وأوهام البشر...مشروع رؤية لتأسيس فقهٍ بديل" (2021). وهذا علاوة على الأوراق البحثية والمقالات العلمية في ذات مجال الفكر الديني والفكر الإسلامي وغيرهما من المجالات ذات العلاقة المباشرة وغير المباشرة بهما. هناك ملاحظة قد تكون عابرة، ولكن لا يضير إبداؤها، وهي أن هذه العناوين وبعناية سكها تلك، تقف كافيةً للنم عن توقعٍ لا يخيب! أولم يندرج في الأثر القول السائر أن "الجواب" أو قلْ "الكتاب" يكفيك عنوانه.
جاء الكتاب الذي نحن بصدده، وكما أسلفنا، تحت عنوان "الدِّين والدَّولة… مشروع رؤية لفك الاشتباك"، وهو عنوانٌ له دلالته. إنه عنوانٌ يشير ودون مواربة إلى حقيقتين، قد يتوقعهما القارئ الفطن من الوهلة الأولى، وهما الحمولة الفكرية التي تربض بين ضفتي الكتاب، ذلك أولاً، وثم ثانياً الجهد البحثي الذي قد تضمنه. بالفعل، كان بحثاً في أمهات المظان الأصل، ليس فيه توسل ملحاح لـ "العنعنة البحثية" السالكة، من شاكلة "كما أورده فلانٌ أو ذكره علانٌ"!. وكما هو معلومٌ، أن ذاك توسلٌ طالما لجأ ويلجأ إليه عددٌ ليس بالقليل من البحاثة تحت قلة الحيلة وإغراء الخمول والكسل وعدم الصبر على عناء التنقيب. وكلها سماتٌ صائلة ومتأصلة في مجال البحث. جاء الكتاب بمحمولتيه تَيْن، بالرغم من رشاقته وعدد صفحاته الذي لم يتعد المئة وأثنتين وتسعين صفحة، من القطع المتوسطة.
إحتوى الكتاب على مقدمتين، أولاهما للمفكر الراحل كمال الجزولي وثانيتهما للكاتب، وكذلك على سبعة أبواب، منها المتوسط ومنها القصير.
جاءت الكتابة فيه مكثفة، فبالرغم من نجاعته، وكما هو معلوم، في وضع حدٍ للحشو واللغو و"اللت والعجن" المنفر إلا انه ومن جهةٍ أخرى ينطوي التكثيف كذلك على بخلٍ لا تخطئه العين، سيما حينما يكون معلوماً أن للكاتب تلك القدرة البائنة والفاضحة لنفسها في شأن التوسع والإسترسال الممكنين في موضوع بحثه.
إنه كتابٌ ممتعٌ معرفياً، إذ أنه ومنذ البداية يشدك إليه شداً حينما تجد نفسك في أسْرِ تلك المقدمة الفخيمة والباثقة التي خطها قلم المفكر والأديب الراحل الأستاذ كمال الجزولي. إنها مقدمة رصينة الفكرة، مفرداتها منتقاةٌ بدقةٍ تأصلُ لعادة الراحل كمال المشهودة في تجويد اللغة، وتؤكدُ لدأبه المعروف أيضاً في الحفر المعرفي لأجل إجلاء الأفكار. إلتقط كمال في سهولةٍ أحد أهم الأفكار المحورية التي قام عليها البحث، حين قال " وفي هذا الكتاب الذي بين أيدينا يبدي الباحث، منذ البداية، انتباهة مرموقة باتِّجاهين: فمن ناحية، يرى أن مصطلح «فصل الدِّين عن الدَّولة» يضئ المطلوب في السُّودان بأكثر مِمَّا يفعل مصطلح «العلمانيَّة»؛ أمَّا من ناحية أخرى فإنه يلاحظ أن القضيَّة، في جوهرها، «فكريَّة» بأكثر منها «سياسيَّة»". فذلك الإلتقاط الحصيف بذله كمال في يسرٍ للقارئ وهو ليس في عجلة من أمره، ولكن برغمه، كأني به يقول دعوني أعد المدخل الصحيح الذي لابد منه في سبيل قراءة منتجة لهذا العمل البحثي المتميز، وقد كان، حيث قدم إضاءات تاريخية ومعرفية ذات قيمة حول علاقة الدين بالدولة، وحول مفهومي "العلمانية" و"فصل الدين عن الدولة" وذلك من وحي رصدٍ وتشريحٍ متمكن للتاريخ الأوربي، قديمه وحديثه. وفي تبريره لذلك يقول، "مع ذلك، وبرغم عدم ملاءمة مصطلح «العلمانيَّة» لحواراتنا الفكريَّة أو السِّياسيَّة في السُّودان، بفعل كثافة الظلال الأيديولوجيَّة والسَّايكولوجيَّة التي فُرضت عليه من خلال الصِّراع، فلا بُدَّ من الإلمام بتاريخانيَّته وفكرويَّته الغربيَّتين، حيث ثمَّة عروة وثقى لا انفصام لها بينه وبين مفهوم «فصل الدِّين عن الدَّولة»، فما انطرح واحدهما إلا واستتبع الآخر ضربة لازب". لقد أوردتُ هذا النص من مقدمة كمال، تحديداً، بقصد الإشارة إلى حقيقة أن كمال كعادته لا يَتَجَمّل حينما يتعلق الأمر بالفكر وبضروراته. كتب كمال ذلك النص وذهب في تقصي تجلياته على أبلغ ما يكون، وذلك بالرغم من إشارة جمال، ولا أقول حتم أنفها، أي الإشارة، التي وردتْ في مستهل الباب الأول حول "أزمة العقل الجمعي المسلم"، حيث كتب جمال وأشار قائلاً، "فأمر معالجة علاقة الدِّين بالدولة عبر استدعاء ذات الأدوات التي ناقشت بها أوروبا تلك العلاقة، لن تدفع ذلك النقاش للوصول لغاياته، نسبة لاختلافات جوهرية وعريضة بين المحمولات الدينية والثقافية عند المقارنة بين العقلين الأوروبي والإسلامي" (ص 17). ولربما!، ولكن تسديدة كمال "التاريخانية" و"الفكروية"، أعتقد انها كانت أدقّ وأصوب، وبل ضرورية.
جاء الباب الأول من الكتاب تحت العنوان "أزمة العقل الجمعي المسلم"، مشفوعاً بتبيانٍ شمل تجليات تلك الأزمة وأسبابها. مثّل ذلك مدخلاً موفقاً وشكّل مقدمةً ضروريةً وارضيةً مطلوبةً لتقوم عليها أطروحة الكاتب ومعالجاته لتفاصيلها، اي تفاصيل الأطروحة.
من التجليات المهمة لازمة العقل الجمعي المسلم التي أشار إليها الكاتب "الميل المفرط لتبسيط الأشياء" وربط ذلك بحقيقة "سيادة الإفتاء كعماد للمعرفة العامة" في الحياة العامة. وهذه ملاحظة دقيقة أعانت الكاتب كثيراً في تشريح الدور التاريخي الذي لعبه "الإفتاء والفقه الموروث" في تشكيل وعي المسلم بإعتباره، أي الإفتاء والفقه الموروث، يمثل نشاطاً فكرياً مركزياً في المسيرة الفكرية للدين الإسلامي مما عزز الإنطباع للعقل الجمعي المسلم بأن "دينه ينطوي على كل شيء"، "إن هذا الميل للاعتقاد الشديد لدى الفرد المسلم بأن لدينه اختصاص بكل جوانب الحياة، يؤكده ذلك الولع الذي يبديه العقل المسلم في إيجاد صلة مزعومة بين تعاليم دينه، وبين مستجدات العلم، بدلاً عن أن يكون هو ذاته مساهماً فعالاً في إنتاج ذلك العلم" (ص19) . وعلى هذا النحو من المعالجة الفكرية أخضع الكاتب للنقد مجمل المفاهيم التي تناولها.
إنه، ورغم كثافة الأعمال والمقاربات الفكرية والسياسية التي تستهدف معالجة قضية الدين والدولة، إلا أن الكتاب تفرد بفكرة رئيسية تفتح الباب أوسع من ذي قبل لتقعيد الحوار وتضييق دائرة الخلاف بين مناصري دعوة الدولة الدينية ورافضيها، ومن ثم عودة ما لله لله وما لقيصر لقيصر! تتجلى هذه الفكرة من خلال تحديده وتعريفه لمنظورين أو مسارين ومحورين مختلفين، لمعالجة قضية علاقة الدين بالدولة، يعتقد أن التشابك وعدم التمييز بينهما أضاف تعقيدات أسهمت في تأخير معالجة أمر تلك العلاقة.
فالمحور الأول، كما يرى الكاتب، ينظر للدين من حيث اعتباره مرجعاً وإطاراً للحكم والسلطة، أي المصدر الذي يستمد الحاكم سلطته ومشروعيته منه. بمعنى آخر، هل يستمدها من السماء، وذلك عبر المؤسسة الدينية وبمباركتها، على طريقة "لن أخلع قميصاً ألبسنيه الله"، أم يستمدها من الشعب سواء بالانتخاب الحر أم بغيره بدون زج الدين في الأمر، كما هو الحال في النظام العلماني؟
أما المحور الثاني فينظر للدين باعتباره مصدراً للقوانين؛ أي من أين تستمد القوانين مشروعيتها، هل من نصوص القرآن والسنة وآراء الفقهاء الموروثة والمستحدثة؛ أم تصاغ وفقاً لاحتياجات المجتمع، ومستوى تطوره، والخبرات التي تراكمت لديه، والعمل على توفيق قوانينه مع المبادئ الأساسية التي تقوم عليها الأديان وتلك التي توصلت لها الإنسانية، كما هو الحال في الدولة العلمانية؟
ولتوضيح أهمية هذا التقسيم، واستناداً على تجربة حكم الإسلامويين في السودان، باعتبار فرادتها حيث شملت جانبي التنظير والتطبيق، نجد أن الشقة بين دعاة الدولة الدينية ومعارضيها، ضاقت بشكل لافت ومدهش، حيث تخلى الإسلامويون عن النظر للدين كمصدر للسلطة ومرجعية لها. فقد أسقطوا بناءً فقهياً كاملاً يختص بالتعامل مع مسائل السياسة وحكم الناس، أو ما يسمى بالسياسة الشرعية، التي بنيت على اجتماع السلطتين الدينية والزمنية في يد واحدة، حيث أن القاعدة الأصولية تشير إلى أن "الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع" كما يشير الإمام الماوردي. إضافة لذلك تقوم السياسة الشرعية على طيفٍ واسعٍ من القواعد، مثل فقه الولاء والبراء، وفقه الجهاد، وأحكام الغنائم والخراج، وما إلى ذلك. استدل الكاتب على قفزة الإسلامويين هذه، بما أورده من مواد أساسية تضمنها دستور 2005 الذي صاغته الحركة الإسلامية، حيث كأمثلة لها أن جمهورية السودان دولة ديمقراطية لا مركزية تتعدد فيها الثقافات واللغات وتتعايش فيها العناصر والأعراق والأديان، وأن السودان وطن واحد جامع تكون فيه الأديان والثقافات مصدر قوة وتوافق وإلهام، وأن السيادة للشعب، وأن الدستور هو القانون الأعلى للبلاد، وأن سلطة الحكم وصلاحياته تستمد من سيادة الشعب وإرادته، وأن المواطنة هي أساس الحقوق المتساوية والواجبات لكل السودانيين، وأن على المواطن السوداني أن يدين بالولاء لجمهورية السودان وأن يمتثل لهذا الدستور ويحترم المؤسسات التي أُنشئت بمقتضاه ويحمي سلامة أرض الوطن، وغير ذلك من المبادئ التي تحفل بها دساتير الدول "العلمانية"!
بتنصل الإسلامويين عن فقه السياسة والحكم، تقلصت دائرة الارتباط بين الدين والدولة لتتعلق فقط بمصدرية القوانين. وفي هذا يورد الكاتب الكثير من الأدلة والنماذج على تنصل الإسلامويين عن الكثير من مبادئ وأسس فقه المعاملات الموروث، حيث تمَّثل التنصل في شقين، أحدهما يتعلق بالقوانين التي وضعوها، ونسبوها للدين الإسلامي، حيث تجاوزت تلك القوانين عن قواعد معروفة مثل أن شهادة المرأة وشهادة غير المسلم منقوصة عن تلك التي للرجل المسلم، أو أن دية المرأة ودية غير المسلم تمثل نصف تلك التي للرجل المسلم، وغيرها من القواعد المتفق عليها بين المذاهب الفقهية المختلفة؛ بينما يتمثل الشق الآخر في التملص عن تطبيق تلك القواعد الباقية، كالحدود والقصاص، بأعذار مختلفة، حيث خلتْ سجلاتُ المحاكم والسجون عن تنفيذ أي عقوبات تذكر في هذا الإطار.
لقد أثبت الكاتب، ومن خلال استخدامه للنصوص الدينية ولقواعد الفقه الموروث نفسه، أنه أصبح بالإمكان الآن تحويل مسار المعركة الفكرية والسياسية لمصلحة قوى الاستنارة لتضع تلك التيارات في موقع الدفاع، ومن ثمّ الهزيمة؛ وهو أمر لن يتم بالنجاح المأمول بدون أن يجد الإرادة السياسية والدعم السياسي من القوى السياسية الفاعلة. وهذه هي المسألة الرئيسية كما يراها!
وكذلك وعلى النهج نفسه، عالج الكاتب قضية النص في مراوحته بين معنييه المباشر والمجازي. وقد كانت تلك معالجةً موفقةً، هي الآخرى.
في إضاءته للجذور التاريخية لأحد أسباب الأزمة، راعت إنتباهي الإشارة الموضوعية التي أبداها الكاتب حول حقيقة أن الرسالة المحمدية جاءت في ظروف تاريخية لم تكن الجزيرة العربية قد خبرت وجود دولة مركزية تاريخياً، كما كان حادثاً بالنسبة للأمم التي كانت تعاصرها مثل الفرس والروم وغيرهما من الأمم التي خبرت تجارب وقيام للدولة المركزية، "نزلت الرسالة المحمدية قبل أكثر من 14 قرناً بأرضٍ جدباء من كلِّ النواحي، وهي شبه الجزيرة العربية، حيث لم يكن هنالك وجود لدولة بالمعنى المفهوم. لقد كانت القبيلة هي الشكل الاجتماعي الأعلى، وأعرافها تمثل الإطار الأخلاقي والقانوني لها، كما ساد اقتصادها نمط الإنتاج الرعوي الراكد بطبيعته. كل ذلك ألقى بظلاله القاتمة على الدولة الجديدة الناشئة ذات المركز الموحد التي كانت تحتاج بشدة لمنظومة فكرية ذات طبيعة مختلفة عن الموروث."(ص 25). وهنا يستحضرني التحليل العلمي الذي تقدم به ذات مرة المفكر الكويتي الراحل دكتور أحمد البغدادي في تناوله لتاريخ الدولة الإسلامية، حيث أشار إلى ان قيام الدولة المركزية حتي في شكلها الأولي يرتبط دائماً بالتطور الإقتصادي والإجتماعي والثقافي وبتطور الحياة عموماً وخاصةً عندما تتطور الدولة نفسها وتتوسع، و قد ذكر بأن ذلك هو السبب من وراء إنتقال مركز الدولة الإسلامية من مكة إلى المدينة ومن ثم إلى دمشق ومنها إلى بغداد …الخ وكل تلك هي دول وشعوب ذات تاريخ إقتصادي وحضاري وثقافي مشهود وعريق، وهو ما لم تكن قد حظيت به مكة!. فلذلك لم يكن لمكة ما يؤهلها لتكن الحاضنة الدائمة للدولة الإسلامية المتوسعة والتي أصبحت ديناميكيتها اكبر بكثير من امكانيات المجتمع المكي، الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والثقافية. وهذا التحليل ولحدٍ كبير يعزز مما ذهب إليه جمال في هذا الصدد.
من الملاحظ أن الكاتب إكتفى بالتوصيف الفكري، أي بأن القضايا هي قضايا فكرية من الدرجة الأولى، وهذا صحيح، ولكن كان من المتوقع أن يذهب الكاتب إلى أبعد من ذلك التوصيف، ويبذل إهتماماً أكثر بالقاء بعض الضوء على جذور الصراع الإقتصادي/ الإجتماعي الذي كان يكمن من وراء تَشكُّلْ تلك القضايا الفكرية، وبل إلى مَرَدِّه يكون تفسيرها. غشى الكاتب ذلك طفيفاً بذكر بعض المفردات المرتبطة بالمفاهيم، (ص70-74)، ولكنه لم يتأنَ لدى مفاهيم الصراع الإقتصادي الإجتماعي نفسها. إنه، لو توقف قليلاً، كان سيقوي بذلك من عارضة الحجة الذكية التي تبناها حين أشار إلى حقيقة تنازل تيارات الإسلام السياسي وغيرها من المؤسسات الدينية وبدون مبرر نظري، في شأن علاقة الدين بالدولة. فالسؤال لماذا حدث ذلك التنازل الأبتر؟ ذكر الكاتب شقاً من الإجابة حينما عزا تنازل تلك المؤسسات الدينية للإستجابة للتطور الذى أصاب الحياة، "لقد فعلت كل ذلك فقط انصياعاً لسنة التغيير في حياة الناس، بدون تقديم أي أساس نظري يسند تنازلها هذا، وهو أمر يؤكد قابلية القوى الرافعة المناهضة لمدنية أو علمانية الدولة للهزيمة." فالشق الثاني من الإجابة، وفي إعتقادي أنه الأهم، هو ضمان صون المصالح الإقتصادية والمزايا الإجتماعية لتلك القوى الإجتماعية التي تمثلها تلك المؤسسات الدينية، حيث أصبح التمنطق بالتشدد ليس بكفيلٍ على حماية تلك المصالح بمثلما قد يفعل الإنحناء في وجه عاصفة التغيير، أو بمثلما قد يفعل التواؤم مع التطور الذي أضحى ينتظم العالم. فقد أصبحت مصالح جماعات الإسلام السياسي الإقتصادية والإجتماعية والسياسية، وكما هو جليًٌ للمتمعن، جزءاً من العولمة التي تطوق العالم، اليوم.
خاتمة/
أعتقد أن كتاب "الدين والدولة…مشروع رؤية لفك الإشتباك" يمثل إضافة حقيقية، ليس للمكتبة، كما درج القول، وإنما إضافة لخزانة ولترسانة الفكر السوداني، ذلك الظاعن في وجهة التغيير. أبدى الأستاذ جمال عبد الرحيم في كتابته لهذا السفر جسارة فكرية وثراء معرفي كبيرين، يغمط عليهما. فكل ما يمكنني قوله هو أن جمال قد إنتصر لإنفتاح العقل وإنحاز للفعل الإنساني الساعي لصياغة الحياة وفقاً لإرادة الإنسان نفسه. وشأنه في ذلك شأن كل المفكرين المستنيرين الذين عرفهم التاريخ.
وختاماً، أقول أن هذا الكتاب جديرٌ بالإطلاع عليه.