الرد الثاني لقصي همرور على تعقيب بدر موسى ورد بدر عليه

 


 

 

رد قصي همرور على بدر موسى


تحياتي،

في الواقع، رغم ان كتابة الاستاذ محمود عن التنمية يمكن توريخها إلى الخمسينات من القرن المنصرم، إلا أن الربط بين الحرية والتنمية كتب عنه نيريري تحديدا منذ 1968. في كتابات سابقة (منشورة، ويمكن الاطلاع عليها) ذكرت أن مخطوطة الاستاذ حول التعليم، في خطابه إلى مدير معهد بخت الرضا، في 1958، تُعدّ مخطوطة في التنمية بامتياز. لكن تلك المخطوطة لم تتحدث عن الربط بين التنمية والحرية مثلما ربط بينهما نيريري بصورة واضحة ومفسّرة في 1968.

(وعموما، ففي كتابتنا القادمة المتعلقة بالمساهمة المهمة للأستاذ محمود في قضايا التنمية، سنوضح أن تعريف الأستاذ للتنمية مختلف ونادر، لكن الأستاذ نفسه قام بتنزيل ذلك التعريف وشرحه، في 1974، بصورة تقترب من الفهم المطروح للتنمية عند نيريري وعند تقرير مفوضية الجنوب، وهذا اقتراب حميد وأصيل، لأن العقول التي تفكّر بأصالة وصدق تتقارب وهذا شيء طبيعي).

الحكم بأني قدّمت نيريري على الأستاذ محمود مجرد حكم لا أساس له، لأني أكتب عن الأستاذ ومساهماته التنموية منذ 2008 بينما أنت تقف فقط على مقالة أو مقالتين نشرتهما مؤخرا لتقول إني تحدثت عن نيريري أولا ومن ثم ذلك يعني أن قدّمت نيريري. مثل هذه الطعونات غير المسنودة لا تؤدي غرضا إلا محاولة إضعاف موقف الشخص الآخر أمام مجموعة معيّنة من الناس، وهم في هذه الحالة الجمهوريون--فكأنك تستنفر الجمهوريين حين تقول لهم انظروا قصي يقدّم شخصا آخر على الأستاذ محمود في حديثه عن التنمية ولذلك فلا بد أنه غير جدير بالاستماع أو لا يحترم الأستاذ بالقدر الكافي. أعتقد أن هذا أسلوب غير موفق.

عموما هنالك كتابات قادمة، فرغنا من مسودتها الأولى وهي في طور المراجعة والتنقيح، وفيها تفصيل أكبر. حتى هذه المعلومة ليس المؤلف ملزما بذكرها ولكن ذكرناها لمصلحة المتابعين، فإن كان لديك اهتمام وصبر يمكنك انتظارها وإن كانت لا تهمك فأرجو أن لا تحسب لي كم كلمة كتبت وكم كلمة تركت، فهذا ليس مما لك فيه حكم.

أما حديثك عن أن أطروحة نيريري للتنمية تنطلق من العلم المادي، إلى آخره، فمجال التنمية مجال معروف ومبوّب، وهو حديث نسبيا لكن ليس حديثا جدا، ونيريري كتب في ذلك المجال وعمل فيه، وبما أنه من الواضح أنك لم تقرأ ما كتبه نيريري من قبل، كما من الواضح أنك غير ملم بخلفيته الدينية والتزامه الأخلاقي، إلخ، فليست لدي تعقيبات على هذه النقطة حاليا. فقط يمكن القول إن التراث الإنساني أوسع وأخطر بكثير من التبويبات التبسيطية التي تريد إقصاء كل شيء وتسفيه كل شخص لا يشبه توجهها ووصفه بالقصور.

أما الحديث عن أن الأستاذ محمود لا يمكن وصفه بالافروعمومية، فحديث ربما يشير لنقصان المعلومات عن الافروعمومية وما تعنيه. الظن بأن الافروعمومية تعني إقصاء الانتماء الإنساني يصدر فقط من الذين لم يعرفوا عن الافروعمومية الكثير. إذا فكّرنا بهذا المنطق فيمكن كذلك أن نقول إن الاستاذ لا يمكن أن يكون منتميا للسودان لأنه منتمي للإنسانية جمعاء، ونعرف أن هذا منطق لا أساس له. (عموما إذا كان لديك اهتمام بهذه النقطة، يمكنك الاطلاع على كتاب "سعاة افريقيا" الصادر في 2020، وفيه تناول لمثل هذه النقطة--تحت عنوان الانتماء الاستراتيجي والانتماء الإنساني).

كما ذكرنا من قبل، فإننا كتبنا مقالا طويلا في التعليق على كتاب صديقنا الدكتور عبدالله الفكي البشير، وشاركناه وتناقشنا حوله مع الدكتور ومع آخرين، بمودة واحترام، واتفقنا على الاختلاف في بعض المسائل وهو اختلاف طيب لأنه غير مشوّش برعونات ولا يضير ساحة الفكر تنوّع الآراء ذلك. وبما أننا استوفينا النقاش بين بعضنا فإن كل واحد بعد ذلك سيستمر في عرض ما يراه الحق في الساحة العامة، وهذا شيء طبيعي. أشرنا في ذلك المقال لنقاط معيّنة، فيها إنصاف من ناحية ونقد من ناحية، وفي كلتا الناحيتين التزمنا فيها بأدوات النقاش الموضوعي والاحترام حتى في حالات الاختلاف، ولم ندّع الصواب المطلق، وهذا مبلغ ما يمكن أن يُطلب من أي شخص يكتب في قضية عامة. وكما ذكرنا فسنسعى للتوسّع في تلك النقاط لاحقا. لكن مع وجود ذلك المقال، ومع حقيقة أننا نكتب في موضوع التنمية منذ 14 عاما، وذكرنا الكثير مما كتبناه من قبل صدور الكتاب المذكور، فليس هنالك ما يدعوك للتعجب من عدم ذكرنا لذلك الكتاب تحديدا في كل مقال نكتبه، لأن الكتاب المذكور إن كان يشغلك ويعجبك بهذا الشكل هذه الأيام فهذا حقك لكن لا يحق لك أن تفرض مشهدك على الآخرين، خاصة وأن هؤلاء الآخرين من المهتمين بموضوع التنمية ويكتبون وينشرون فيه من قبل صدور ذلك الكتاب بسنوات.

أخيرا، لأي كاتب حق اختيار تبويب مقالاته، وترتيبها وفق ما يراه مناسبا (إذا كانت ذات علاقة ببعضها البعض)، ومحاولة اختيار وقت نشرها بما يفيد مصلحة القراءة والتداول والنقاش. هذا مجال إدلاء بآراء مسنودة في قضايا عامة، مع تحمّل مسؤوليتها. هذا ما نحن بصدده.


تحياتي مرة أخرى:

(1) كتابتي عن المقارنة بين مقولة الاستاذ "ساووا السودانيين في الفقر حتى يتساووا في الغنى" تعود إلى العام 2015. عليك تصحيح معلوماتك (والغريب أن ذكرت ذلك بوضوح ولكن يبدو أنك لا تقرأ ما أقوله بأدنى قدر من الموضوعية). لا يمكن أن يكون الملهم لهذا الحديث كتاب صدر في 2021 ولم أسمع عنه شيء قبل ذلك. أكثر من ذلك، ربما لا تعلم أني نشرت كتاب "حوكمة التنمية" في 2020، وفيه تناول لهذه المسائل كذلك.... رجاء صحّح معلوماتك. ذكرت لك من قبل أنك معجب ومشدود بكتاب عبدالله الذي صدر مؤخرا، وهذا من حقك، لكن لا يحق لك أن تمسح التاريخ وتنكر ما للآخرين من مساهمات وتنسبها كلها لجهة واحدة، عن جهل لا عن معرفة.

(2) في مقارنتي بين طه ونيريري، ذكرت بصورة واضحة أن هنالك اختلافات أخرى كثيرة بين الاثنين وأني هنا اتحدث عن مناطق التلاقي الكثيرة والمثيرة للانتباه وأضعها لاعتبار القراء، أي لم أقرر كثيرا بشأن ما يستخلصه القراء من هذه المقارنة (فقد يرفضها البعض وقد يحتفي بها البعض الآخر، وهذا ما حدث وما هو متوقع). أيضا فإن المقارنة نفسها ليست شيئا سيئا، لكن بعض المقارنات قد تكون ناقصة وبعضها أكبر مما تزعم لنفسها. هذه فروقات تظهر في عملية المقارنة نفسها وفي نقدها. (وبالمناسبة فحين أقول إن المقارنة الفلانية ناقصة معلوماتيا ومنهاجيا، فإني كتبت في إيضاح ذلك وأنوي الكتابة أكثر، وهذا رأي موضوعي، بينما تنظر له أنت وكأنه مسبة.. رفقا بنا وبنفسك).

الشيء الأهم من هذا كله: أنا أساهم بآراء، وأذود عنها بما لدي من معرفة وقدرات ربط. لا أزعم سلطة ولا أقول إن قولي هو الفصل وهو "الحق الذي يجب الرجوع إليه،" ولكني أقدمه كما أراه وأنا مسؤول عنه. أنت من الواضح أنك لا تتعامل مع حديثي بهذه الطريقة، وترى أن اختلاف الرأي وراءه ما وراءه، وتنصحني بالرجوع للحق وما إلى ذلك. فياخي: إذا كان هذا هو ما تريد قوله لي في النهاية، فقد وصلت رسالتك، وليست مسؤوليتك بعد ذلك ما أختاره أنا. إذن بإمكانك أن توفّر على نفسك وعلى غيرك الوعظ في غير مكانه.


رد بدر موسى على تعقيب قصي همرور


تحياتي قصي.. حديثك أعلاه لا يستحق الرد، كونه مفارق للعلمية والموضوعية ومجافي للباقة والاحترام، وغلبت عليه الشخصنة واختيار التجريح، الأمر الذي يكشف عن العجز وضعف الحجج، ولهذا سأهمله غير آبهٍ بما جاء فيه من ادعاءات جوفاء، وخطرفات بلهاء، وحذلقة ركيكة، ومكابرة سافرة، ومفضوحة.. فقط هناك نقطة واحدة تستحق الرد، حتى نحمي القراء من التضليل، ونستشعر بحاجتنا للمزيد من القراءة والاطلاع، قبل إصدار الأحكام التقريرية.. لقد جاءت النقطة في قولك بأن حديث الأستاذ محمود عن التنمية والحرية لم يظهر إلا في العام 1974، وهذا قول غير صحيح البتة، وكان الواجب عليك أن تقول "حسب علمي".. فلقد أوضح عبدالله في كتابه: أطروحات ما بعد التنمية الاقتصادية: التنمية حرية- محمود محمد طه وأمارتيا سن (مقاربة)، أن الأستاذ محمود تناول تنمية الموارد البشرية والتحرير من الخوف والمرض والجهل والفقر منذ مايو 1952، عندما أصدر كتاب (قل هذه سبيلي)، وكذلك في كتاب (الإسلام) الذي صدر عام 1960، وأشار له بعدد كبير من المقالات.. لهذا قلنا إن على المتخصصين أن يقبلوا على كتاب عبد الله بذهن وقلب مفتوحين، فالكتاب يُعلم المتخصص في التنمية، ويعينه على معرفة رؤية الأستاذ محمود تجاه التنمية، والتي غابت عن المتخصصين من الجمهوريين وغير الجمهوريين..

فقد أورد عبد الله في كتابه ذلك الربط الذي لم تره أنت، وقد فصل فيه، وفي مواضع عديدة. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، يقول عبدالله إن الأستاذ محمود قد كتب في كتاب، قل هذه سبيلي (1952): "علي الحكومة المركزية واجب تنمية الموارد الطبيعية للثروة ونقول هنا أن أهم هذه الموارد المورد البشري فإن على عدده ونوعه تتوقف تنمية الثروة المعدنية والنباتية والحيوانية فواجب الحكومة أن تنمي عدده وأن تستجيد نوعه بالرعاية الصحية والتعليم... غاية الحياة انجاب الفرد السعيد وهي غاية الحكومة الصالحة.. والفرد السعيد من تمتع بجمال الجسم، وجمال العقل. ولا يتوفر جمال الجسم، وجمال العقل للفرد الا إذا حقق فرديته التي ينماز بها عن سائر أفراد القطيع. ولكي يحقق كل فرد فرديته لا بد من الحرية وعلى رأسها الحرية من الخوف. والحرية من الخوف تقوم على حريتين إثنين هما الحرية من الفقر، والحرية من الجهل ولكفل هاتين الحريتين اللتين هما إرهاص للحرية من الخوف وجب أن تكون الحكومة اشتراكية، ديمقراطية. فالاشتراكية للحرية من الفقر، والديمقراطية للحرية من الجهل". (محمود محمد طه، قل هذه سبيلي، 1952).

وهناك الكثير الكثير، مما أورده عبد الله في كتابه، حيث جاءت في كتاب الإسلام (1960) للأستاذ محمود، وفي عدد من مقالات الأستاذ محمود وبياناته التي صدرت ونشرت في الخمسينات، وبداية الستينات.. وللحق، يجب القراءة والاطلاع على المصادر قبل إطلاق الأحكام، لأن التخصص لا يسعف في نقص المعرفة والمعلومة، فهذا أمر يتطلب التواضع والجلوس للقراءة في المصادر، بدلاً من إطلاق الأحكام والتقرير الخطأ.. وكون المرء ظل يكتب منذ 14 عاماً لا يعني إلمامه ومسكه لزمام الأمر، فعلينا التواضع، فعلم الله واسع، وهناك الكثير الكثير الذي علينا التنقيب عنه والبحث فيه. ونحن نعرف أن عبد الله يمتلك مواد كثيرة وجديدة، منها على سبيل المثال لا الحصر، نحو 225 مقالاً للأستاذ محمود، وهي تعادل نحو (9) أضعاف مما هو منشور من مقالات الأستاذ محمود لدي الجمهوريين، وقد ظل عبد الله يجمع فيها، إلى جانب مواد أخرى، على مدى سنين من دار الوثائق القومية في الخرطوم ودار الكتب بمصر وبريطانيا، كما أعلن عن ذلك في كتبه ومحاضراته.. وقد ذكر بأنه سينشر مقالات الأستاذ محمود في كتاب يتكون من خمسة أجزاء، فرغ بالفعل من وضع مسودته، كما ذكر في إحدى محاضراته..

ختاماً علينا أن نتذكر بأن الفكرة الجمهورية تنطوي على ما يفوق توقعاتنا وتصوراتنا، ونحن لا نزال في عتباتها الأولى..



bederelddin@yahoo.com

 

آراء