كتب الأستاذ د. صديق امبدة (ارجع للأصل في قائمة عابدين):
في أولا: في تقديري كان الأفضل والأوفق لو كتب الأخ عشاري آراءه في الدين الإسلامي بمعزل عن رأيه في المقال .... و أنا على يقين من أن الأخ عشاري لا يخاف تبعات أرائه في الدين (أو في غيره) لكنه ، في رأيي ، جانب الصواب في إبدائها من خلال تأويل مقال الأستاذ عوض.
الأخ صديق:
السبب وراء همي بمقال عوض هو تحديدا التعرض لموضوعي الأساس، وهو ثلاثية "الإسلامية والإسلام والمسلم". ومقال الأستاذ عوض يأخذ فعاليته فقط بسبب تقاطعه مع هذه المسألة الجوهرية، وبسبب بحث عوض عن الأسباب التحتانية لنذالة الإسلاميين، وهي إسلاميتهم، مما أصلا قدم له عوض مؤشرات جيدة في مقاله.
ليس الموضوع رأيي في "الدين الإسلامي"، بل هو بالدرجة الأولى رأيي في "الإسلامية" العقيدة السياسية الفاسدة، والتي لا يمكن انتقادها إلا بانتقاد هذا "الإسلام"، لأن الإسلام بقرآنه وشريعته هو برنامج هذه العقيدة السياسية الفاسدة.
لكن، بالطبع، لا معنى لانتقاد "الإسلام" في موقعه في وجدان المسلم العادي، غير الإسلامي.
فالإسلام واحد، لكن يتم استخدامه بطريقتين مختلفتين ولغرضين متباينين لا مقارنة بينهما أصلا، الإسلام عند المسلم العادي، والإسلام عند "الإسلامي" الذي نعرفه. وحين يتم استخدام الإسلام من قبل الإسلاميين، بتنزيله في جهاز الدولة، يجب أن ننزع عن الإسلام بكامل خطابه كلَّ قدسية، وأن نخضعه للانتقاد، مثله مثل أي نص آخر يأتي به سياسي لتبرير سياسته المفضلة في أجهزة الدولة (التشريعية والقضائية والتنفيذية والاقتصادية وفي ترتيب الحياة الخاصة بواسطة الحكومة)
فالقدسية مخصصة فقط للإسلام حين يكون هذا الإسلام خارج جهاز الدولة، أي تحديدا حين يكون في وجدان المسلم الذي يعيش حياته بالطريقة التي يراها، ولا يسبب ضررا لأحد باستخدامه ذلك إسلامه.
والفصل ممكن، كما يمكن توصيله بلغة سلسلة للمسلمين، وللجميع. دونما حاجة لخدع المسلمين أو الاستهبال عليهم، بمثل حجة الأستاذ حمدنا الله عبد القادر عن لزوم اختفاء الشيوعيين لكي لا تكون للجماهير حساسيات. ومثلما يتم في خطاب المثقفين أن الجماهير مسلمة فحساسة. والنقطة المهمة هي أن انتقاد الإسلام بنبوته وقرآنه وشريعته عمل فكري وفلسفي، ومن ثم لابد من ترجمة لغة هذا الانتقاد، دون تمييعها، لكي تكون متاحة في أوضاع الفهم الماقبل فلسفي للإسلام، الفهم عند الإنسان المسلم العادي المعتقد في إسلامه، والذي لن يقتل أحدا فقط بسبب أن له رأيا مغايرا في الإسلام. فقط الإسلامي، هذا الجبان المحتال، هو المستعد لتعذيب وقتل كل من يخالفه الرأي بشأن الإسلام، وهو أصلا سن قوانين تافهة لهذا الغرض.
ثانيا: مأخذي على مقال الأخ عشاري أنه من حيث لم يحتسب ... أدخل الأستاذ عوض في إشكالية، فهل يقوم عوض بالرد بأنه لم يقصد ما ذهب إليه عشاري، أم يسكت و"يلبس" تبعة (أو تهمة) الموافقة على التأويل؟
لا أعتقد أن عوض "دَقَّة قديمة" مثل صديق امبدة الذي يعتقد، حتى في يومنا هذا، أن الإلحاد "تهمة" يتم التبرؤ منها!
فماذا ستفعل يا صديق بالسودانيين الملحدين؟ هل تعتمدهم جميعهم كـ "متهمين"؟ يشوفوا ليهم بلد تانية غير سودانك؟
هنا بالطبع أجدك مثلك مثل الإسلاميين. بينما يتعين عليك، إذا كنت ديمقراطيا حقا، ومثقفا يفكر، أن ترفض أصلا مثل هذا التصنيف الغريب للسودانيين وفق مقاربة الإسلام أو الابتعاد عنه.
فمجرد أن الشخص ولد وفي اسمه محمد أو أحمد لا يعني أنه سيكون معتمدا الإسلام طيلة حياته، بل يمكنه الخروج من الإسلام، إن أراد، والعودة إليه إن أراد، ثم الخروج منه نهائيا، دائما وفق إرادته الخاصة، دون حق لأي شخص في أن يتحشَّر في قراراته بشأن المقامية الدينية.
وأقول لصديق، لم أُدخِل عوض في أية إشكالية حسب تصورك. وحتى إن كنت أدخلته في "إشكالية"، فما المشكلة حين يكون ذلك بالكتابة الحرة المرتكزة على بيناتها والمحترِمة لنص المقال الذي كتبه الأستاذ عوض؟
كذلك يمكن لعوض أن يردد شعر المتنبئ:
"أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهرُ الخلق جرَّاءها ويختصمُ".
وهو عوض أصلا فعل ذلك، حتى الآن.
وفي جميع الأحوال، يجب ألا ننسى أن السلطة القضائية الإسلامية الفاسدة لا تحكم وفق وقائع، أو قوانين سديدة، أو محاكم نزيهة، أو بسبب أقوال مني، فالأمر كله فساد إسلامي في فساد إسلامي، حيث يتم تقرير الحكم مسبقا من قبل جهاز الأمن في هذا الحالة، وحتى الحكم بالبراءة يقرره جهاز الأمن إما للمخارجة من الورطات التي يدخلهم فيها الإسلام وهم أصلا له في جهاز الأمن كارهون، أو لبث انطباع كاذب أن القضاء الإسلامي عادل يحترم حرية الرأي!
ثالثا: ومن حيث لم يحتسب عشاري أيضا فقد أعطي المقال لذوي الغرض ربما حجة إضافية في تجريم المقال وكاتبه ... وقد يفتح بابا لتأويل مقالات لكتاب أخرين، وبابا آخر لاغتيال الشخصية بدعاوي الإلحاد في تأويل المقالات في هذا الجو المكفهر والملبَّد بغيوم الهوس الديني والتكفير، مما قد يؤثر سلبا علي جرأة الكتَّاب والمعلِّقين علي الامور السياسية والاجتماعية وعلي موضوع استغلال الدين في السياسة.
أما عن قول صديق بتقديمي "حجة إضافية لذوي الغرض لتجريم المقال وكاتبه"، فهذه حجة ضعيفة، خاصة وصديق أضاف إليها خوفه من "التأويلات"، ومن فتح باب "لاغتيال شخصية عوض بدعاوى الإلحاد".
أقول لصديق، وما المشكلة في الإلحاد؟ بما في ذلك إلحاد عوض المفترض؟
وليتذكر صديق أن الأنبياء كانوا أول الملحدين، حين فارقوا أديان أهلهم وأجدادهم، بسبب ما اكتشفوا أنه أكثر إفضاء إلى الصدق مع أنفسهم وإلى مصلحة مجتمعاتهم؟
ومنذ متى كان "الإلحاد" سبة، فيتم بها اغتيال الشخصية؟
فصديق امبدة قلب الأمر رأسا على عقب، فاغتيال الشخصية الحقيقي هو إسناد "الإسلامية" لشخص غير إسلامي.
أما إسناد الإلحاد لشخص فلا يعني شيئا، لأن الإلحاد مجرد مقامية دينية، مثل أن تقول هذا الشخص مسلم أو هو مسيحي، فلا فرق بين ذلك وأن تقول إن الشخص "ملحد".
مثلما أن تقول هذا رجل، وهذه امرأة، أو هذا جعلي وهذا دينكاوي، لا فرق، إلا إذا كنت هنا عنصريا معتمدا للتمييز العرقي، فإسلامي، ومن ثم سيكون في تقديرك، غصبا عنك، أن الملحد يجب قتله.
أما أن تقول هذا الشخص "إسلامي" فذلك يعني أنه معتمد عقيدة سياسية فاسدة رصيفة النازية والفاشية والاستالينية والرأسمالية المتوحشة. فـ "إسلامي" عبارة تقييمية عرَّفها إسلاميو الحركة الإسلامية السودانية، بممارساتهم الفعلية، بأنها تنطوي بالضرورة على الإجرام والفساد، والأرشيف التاريخي الحاضر والمتاح كتابا مفتوحا فيه الإثبات بالبينات الدامغة أن العقيدة السياسية هذه الإسلامية، في ممارستها، تعني الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، والتعذيب الإسلامي، وتعني الإفقار ونهب المال العام. ولا يهمنا إلا الممارسة الفعلية ليس فقط في حالة الإنقاذ، بل في تاريخية الدولة الإسلامية حين نقرأها قراءة صحيحة.
فأسألُ صديق امبدة، من قال إن عوض ملحد أو غير ملحد؟ فهذا أمر شخصي خاص بعوض، والشخص غير مطالب بالتصريح عن إلحاده أو عدم إلحاده، وكل شخص أصلا يمكن أن يكون خليطا في هوياته المتعددة.
رابعا: لو كَتب مثل هذا المقال أحد غلاة التكفيريين أو المكايديين من مؤيدي الإنقاذ لقامت الدنيا عليه ....
هذه النقطة الرابعة لا معنى لها.
خامسا: من الآثار الجانبية أو الطلقات الطائشة للمقال ما يفهم منه أن عوض قد جبُن عن قول ما يريد ، إذ جاء في المقال "أن الأستاذ عوض حين قارب الإجابة الصحيحة.....ازور عن الإفصاح عن الإجابة التي يعرفها وتجنب الإقدام لملاقاتها أو الاشتباك معها.." او قول عشاري في مكان آخر أن " عوض أراد أن يقول إن السبب في تدمير السودان هو الإسلام مستعملا إيحاءات غامضة .."
غير صحيحة قراءة صديق أني قلت إن عوض "جبن" حين "ازوَرَّ على الإفصاح عن الإجابة" في اتجاه الإسلام. والبيان في كامل مقالي وليس في انتقاءات صديق الغرضية.
فالصحيح هو أنا جميعنا نَزْور أحيانا في سياق الكتابة عن المضي قدما فيما تفرضه عملية الكتابة نفسها، بمنطقها وتداعياتها.
لأن الحقيقة معقدة أصلا، وذات أبعاد. وحتى حين نكتب بقطعية، نعلم أنه لابد من وجود أبعاد أخرى قد لا نراها. ولا يمنعنا ذلك من أن نكون قطعيين، لأنا نريد أن نبين نقطة محددة، لا أن نمسك بالعصاة من منتصفها لا تؤدب أحدا، مثلما يفعل صديق امبدة.
وأرى أن عوض كان في واقع الأمر قطعيا في جميع الادعاءات التي قدمها، وحتى حيرتَه بين طريقين كانت شكلية، لأنه أصلا كان اختار، في تقديري، الطريق الصعب الخطر، ولهذا السبب تحديدا قرر الإسلاميون ملاحقته في المحكمة، وقراءتهم في جهاز الأمن لعوض كانت صحيحة مائة بالمائة، أنه قصد "الإسلامية والإسلام"، رغم أنهم خافوا من مقاربة هذا البعد في مقال عوض، ولم يقدموه بل اكتفوا بتهمة "الأخبار الكاذبة"، هنا مثلهم مثل صديق امبدة الذي يخاف أيضا من جَرَّة حبل "الإسلام"!.
فازورار عوض أمر مقبول لا غبار عليه، خاصة وأنه ازورار لم يؤثر على القراءة الصحيحة لمقاله، وهي في تقديري أنه يقصد "الإسلامية بإسلامها"، وحتى إذا نفى ذلك عوض، لن يكون لنفيه أي أثر، فالنص هو الذي يتحدث أصالة عن نفسه، وليس الكاتب.
وأجد كتابة عوض راقية تماما في هذا الجانب، وشُجاعة، وهو طرح السؤال الصحيح، وفي ذلك فارق عوض المثقفين الآخرين الفُرَّار الذين يُعتمون على الموضوع أصلا، بخطابهم عن الإلحاد والتأويلات والجو الصعب والأمور، على طريقة صديق امبدة. وكأنه يمكن انتقاد الإسلاميين دون ملاقاة برنامجهم الأصلي الأساس، وهو الإسلام بقرآنه ونبوته وشريعته. دائما كتاب د. محمد محمود، وأرشحه لصديق امبدة.
سادسا وأخيرا" : اختلف أيضا مع الأخ عشاري في رأيه في الأستاذ خالد التجاني رئيس تحرير صحيفة إيلاف، ....
أقول لصديق: "الغافل من ظن أن الأشياء هي الأشياء" (الفيتوري).
فقد كتبت عشرات الصفحات في عدة مقالات في انتقاد مظهر المعقولية في كتابة الأستاذ خالد التيجاني النور، وأرى كتابته أدخل في المخادعة، لأنها تتصنع المعقولية والتهذيب والديمقراطية، بينما هي تدعم الإنقاذ، وحتى السماح بنشر مثل مقال عوض في إيلاف لا يعني عندي الكثير. المهم هو تفكيك خطاب الأستاذ خالد، وما قدمته هو نتيجة تفكيكي لخطابه الذي أتابعه بسبب قدراته على هذا النوع من الكتابة.
علما أن جهاز الأمن يستخدم عددا من الشخصيات التي تتصنع الديمقراطية، داخل السودان وخارجه، لتشوينهم لاختراق المعارضة، ومنهم كتاب ومؤلفون، وهي ذاتها "خدعة الجزولي دفع الله" و"خدعة حسين أبو صالح"، الإسلاميان المخادعان اللذان طرحا نفسيهما كديمقراطيين، ثم كشفا عن ألوانهما الحقيقية بعد التسلل إلى حكومة الانتفاضة.
وفي جميع الأحوال، أظل لدى موقفي إزاء الأستاذ خالد التيجاني النور، ليس فقط في المقال الأخير بل في المقالات السابقة التي كتبتها. ولا يغير من ذلك أني أحمل لخالد قدرا من التقدير، بسبب تعقد ظاهرة الإسلامية ذاتها، وبالطبع ليس كل إسلامي شرير بالضرورة، انظر شباب الإسلاميين في العشرين الذين يقتاتون أوهام الإسلام في الدولة،. وليس كل إسلامي شرير بذات درجة الشر، فخالد من المحرضين والمسهلين لنظام الإنقاذ، بينما هنالك الإسلاميون الأشرار العتاة العصاة، مخططو الإبادة الجماعية لشعب النوبة، ولشعوب جنوب السودان، وللشعوب الأفريقية في دارفور، وخالد مسؤول أخلاقيا وسياسيا إن لم يكن قانونيا، لأنه من هؤلاء المسهلين الصامتين بشأن هذي جرائم الإسلاميين، أما كتابته المغلفة عن الفساد في الإنقاذ أو عن الحريات فلا قيمة لها يلغيها صمته إزاء الجرائم العالمية الخطيرة، بينما مخططوها ومنفذوها طلقاء.