السفير عُمَر عبد الحميد عَدِيْل “من نبلاء الدبلوماسية السُّودانية”

 


 

 

أحمد إبراهيم أبوشوك


(1)

تمهيد

أكرمني السفير جمال محمد إبراهيم بنسخةٍ من كتابه القيم عن "عُمَر عَدِيْل من نبلاء الدبلوماسية السُّودانية"، والصادر عن دار مدارات للطباعة والنشر والتوزيع بالخرطوم في 2024. ويتكون الكتاب من 255 صفحة من القطع الصغير، مقسمة إلى مقدمة، وأحد عشر فصلًا، وخاتمة، وملاحق، وشكر وتقدير، ومراجع. ويُصنَّف الكتاب في دائرة "السيرة الغيرية" (biography)، التي تُعدُّ ضربًا من ضروب التأريخ المكتوب، بحكم أن محورها الأسس يدور حول سيرة عُمَر عبد الحميد عَدِيْل (1923-1976)، وجمع شتاتها المتناثر في مظانه المكتوبة، ورواياته الشفوية، ومواده التصويرية والصوتية، ثم وضعها في سردية تأريخيةٍ مبوبةٍ، تجمع بين الخاص والعام، وتقيِّم عطاء صاحب السيرة في ضوء منجزاته الوظيفية، التي ارتبطت في جلَّها بالعمل الدبلوماسي الرفيع في هيئة الأمم المتحدة. ومن محاسن الصدف أن يكون كاتب هذه السيرة الغيرية هو السفير جمال محمد إبراهيم، الذي يتمتع بملكةٍ شعريةٍ عاليةٍ، وذوقٍ روائيٍ رفيعٍ، عضدهما بتأهيله الأكاديمي في علم الاجتماع، حيث حصل فيه على درجة البكالوريوس-بمرتبة الشرف في جامعة الخرطوم عام 1973، ثم التحق بوزارة الخارجية عام 1975، وترقى في سُلّمها الوظيفي إلى أن بلغ منصب سفير جمهورية السُّودان لدى الجمهورية اللبنانية (2006-2009)، البلد الذي يُشكل أحد منارات التنوير المعرفي في الوطن العربي. وإلى جانب عمله الدبلوماسي ظل السفير جمال كاتبًا راتبًا في الصحف السُّودانية والعربية الشهيرة؛ وصاحب إصداراتٍ متنوعة، نذكر منها: "امرأة البحر أنت"، مجموعة شعرية، (2007)؛ و"الدبلوماسية الكولونيالية: ملاحظات وقراءة في الوثائق البريطانية عن نشأة وزارة الخارجية السُّودانية" (2009)؛ و"دفاتر القبطي الأخير"، رواية، (2017)؛ و"مؤانسات في أدب الرسائل" (2024). كما أنَّ علاقته بصاحب السيرة علاقة مهنية؛ علمًا بأن جمالًا قد التحق بوزارة الخارجية السُّودانية بعد أن غادرها السفير عَدِيْل بأحد عشر عامًا، وقبل عامٍ من تاريخ وفاته في العاصمة السُوريَّة دمشق عام 1976. ويؤكد جمال أنَّ معظم أبناء جيله من الدبلوماسيين لم تكن لهم معرفة وثيقة بعَدِيْل، السفير المحترم والنبيل، الذي يُعدُّ من "أميز سفراء الجيل المؤسس" للدبلوماسية السُّودانية، ومن أبرز الدبلوماسيين الذين كان يُشار إليهم بالبنان في أروقة هيئة الأمم المتحدة، قبل أن يأتي جيل الدبلوماسيين، الذين يرفعوا سباباتهم في أوجه الآخرين، دون أدنى اعتبارٍ لآداب الخطاب الدبلوماسي ومعايير الإتيكيت المرعية في المحافل الدولية. ويقودنا هذا الإقرار إلى طرح سؤال استهلالي مزدوج:



(2)

مَنْ السفير عُمَر عبد الحميد عَدِيْل، وإلى أي جيل ينتمي؟

عُمَر عبد الحميد عَدِيْل من مواليد عام 1923 بقرية الباجا التابعة لمركز مروي سابقًا، بمديرية دنقلا (الولاية الشمالية حاليًا)؛ وترجع أصوله إلى إحدى الأسر الوافدة من دراو بصعيد مصر في أواسط القرن التاسع عشر الميلادي، والتي تصاهرت مع بعض وجهاء المنطقة وأسرة السادة الأدارسة التي استقر فرعها الرئيس بحي الموردة بأم درمان. وحسب رواية المؤلف، درس عَدِيْل مراحله المتوسطة بمدينة عطبرة، ومنها انتقل إلى كلية غردون التذكارية، التي غادرها بعد أن أكمل عامه الثاني، وجلس لامتحان الخدمة المدنية، وحصل على وظيفة كتابية متواضعة في إدارة السكك الحديدية السُّودانية (1942-1943)، ثم قوة دفاع السُّودان (1943-1945)، ثم إدارة الجمارك (1945-1947)، ثم إدارة الشرطة (1948-1956). وأثناء عمله بإدارة الشرطة التحق عَدِيْل بجامعة إكستر البريطانية، ونال فيها دبلوم القانون، الذي أهلَّه لمواصلة دراسته الجامعية بجامعة لندن، حيث حصل فيها على بكالوريوس القانون. وبفضل هذا الكسب الأكاديمي والعمل الميداني المتميز رُقِّي عديل إلى وظيفة حكمدار في الشرطة. ونقلًا عن السفير خليفة عباس العبيد في كتابه "أشتات الذكريات"، يذكر المؤلف جمال محمد إبراهيم أن عَدِيْلًا انتدب من إدارة الشرطة للأشراف على جرد أرشيف مكتب حاكم عام السُّودان البريطاني آنذاك، وتحويل الملفات الخاصة بالشؤون الخارجية إلى وكالة الشؤون الخاصة، التي كانت بمثابة حلقة وصل بين مكتب الحاكم العام والحكومة الانتقالية المنتخبة (1954-1956)، وشكلت الوكالة لاحقًا نواة وزارة الخارجية السُّودانية. (الفصل الأول، عُمَر عَدِيْل: التكوين والبدايات، ص 39-44).


عَدِيْل والعمل الدبلوماسي

احتوت العشرة فصول الباقية من الكتاب (الفصل الثاني -الحادي عشر) على عرض وتحليل لسيرة عُمَر عَدِيْل في العمل الدبلوماسي، بعد انتقاله إلى وزارة الخارجية بدرجة وزيرٍ مفوضٍ عام 1956. وثَّق كاتب السيرة بطريقة قلمية رائعة لفترة عمله بوزارة الخارجية السُّودانية، والوظائف التي شغلها، والاسهامات المبتكرة التي قدَّمها، بدءًا برئاسة لأول بعثة دبلوماسية للسودان في إيطاليا (1956-1959)، حيث كان مقيمًا في روما، وممثلًا للسودان غير مقيم في كل من النمسا وألبانيا. وبعدها اختير مندوبًا دائمًا للسودان في هيئة الأمم المتحدة. وأثناء فترة عمله بهيئة الأمم المتحدة، اُختير رئيسًا لمجموعة المندوبين الدائمين الأفارقة (1960-1964)، ورئيسًا للجنة السياسية الأولى بالجمعية العامَّة (1962). وبعد انتهاء فترة عمله بمندوبية السُّودان عام 1964، انتقل للعمل موظفًا أمميًا في هيئة الأمم المتحدة، حيث شغل العديد من المناصب المهمة التي أحصاها جمال في سفره القيم، ونذكر منها رئاسته لجنة الأمم المتحدة للأشراف على الانتخابات الخاصة بتقرير مصير جزر "كوك" عام 1965، التي صَوَّت سكانها للاتحاد الحر مع نيوزيلاندا، كما عمل ممثلًا مقيمًا لبرنامج الأمم المتحدة للإنماء بالعراق (1966-1972)، ثم سوريا (1972-1976) حيث وافته المنية عام 1976.


(3)

ما أهمية هذا الكتاب؟

تكمن أهمية كتاب "عُمَر عَدِيْل من نبلاء الدبلوماسية السُّودانية" في النقاط الآتية:

أولًا: يوثق الكتاب لسيرة علمٍ من نبلاء الدبلوماسية السُّودانية، الذين وصفهم السفير كمال محمد عبد الرحمن بـ"الأفذاذ الذين أرسوا أساس الخدمة السُّودانية الدبلوماسية، وهم فئة من أهل اللسان والحُجى، جعلوا رفعة السُّودان وأهله همهم الأول، خدموا بشرف وأمانة، وحافظوا على اسم السُّودان خفاقًا." (عُمَر عَدِيْل من نبلاء الدبلوماسية السُّودانية، ص 217). ولذلك تصلح سيرهم ومذكراتهم أن تكون مادة تدرَّس في المعاهد الدبلوماسية.

ثانيًا: يعكس الكتاب كفاءة عَدِيْل المهنية، التي أهلَّته ليكون رئيسًا لمجموعة المندوبين الدائمين الأفارقة في هيئة الأمم المتحدة، ورئيسًا للجنة السياسية الأولى في الجمعية العامَّة في دورتها لسنة 1962/1963، وممثلًا للأمين العام لهيئة الأمم المتحدة في معالجة أزمة الكنغو، التي أعقبت اغتيال باتريس لومومبا Patrice Lumumba)‏)، أول رئيس وزراء منتخب لجمهورية الكونغو الديمقراطية، في 17 يناير 1961. وعبر هذه المنصَّات الأممية الثلاث والمنصات المماثلة لها الأخرى، استطاع عَدِيْل أن يقوم بأدوار مشهودة في مناصرة قضايا التحرر الوطني في أفريقيا وآسيا، ويدافع بصوتٍ عالٍ عن حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره. والدليل على ذلك البيان الذي أدلى به أمام اللجنة السياسية الأولى في دورتها السادسة عشر، المنعقدة بتاريخ 19 ديسمبر 1961، وننتخب منه النص الآتي:


"أعلن الجانب الفرنسي بكل وضوحٍ في "لوقرين"، أنهم يستثنون "الصحراء"، وهي تساوي أربعة أخماس [مساحة] الجزائر، من تطبيق مبدأ تقرير المصير. لا يتوقع أحد أن تقبل الحكومة الجزائرية بذلك. كل البلدان الأفريقية التي نالت استقلالها، نالته على كامل أراضيها، ولن تكون الجزائر استثناءً. لقد وضح موقف الحكومة الجزائرية متوافقًا مع رغبة كل الشعب الجزائري حول ذلك الجانب الحساس، في الأضراب الوطني العام الذي دعت إليه الحكومة الجزائرية المؤقتة في 5 يوليو الماضي (1960). لم يثبت ذلك الأضراب العام، والذي كانت نسبته مئة في المئة، رفض نوايا التقسيم، بل عكس تأييد الشعب الجزائري الصلب للثورة الجزائرية... إن إضراب الخامس من يوليو، كان بالحق استفتاءً ممهورًا بالدم، بل هو تصويت جاء مؤيدًا لسياسات وإجراءات الحكومة المؤقتة الجزائرية حول فصل الصحراء عن الجزائر، تجدنا سعداء للتصريح الذي أطلقه الرئيس الفرنسي في الخامس من سبتمبر 1961، إذ قال: "الذي أعرفه أنه لا يوجد جزائري واحد يصدق أنَّ الصحراء ليست جزءًا من الجزائر." (إبراهيم، ص 88).


وختم السفير عَدِيْل هذا البيان، الذي يُعدُّ من أقوى المرافعات التي قُدمت عن القضية الجزائرية في أروقة الجمعية العامَّة لهيئة الأمم المتحدة، بقوله: "إنَّ واجبنا المطالبة الفورية بأن يعود كل من الجزائر وفرنسا إلى التفاوض، بغرض التوصل إلى الحل السلمي. ذلك الحل هو الذي يتيح للشعب الجزائري أن يختار مصيرة وأقداره بكامل حريته، وعلى أساس حقهم الثابت والشرعي لنيل الاستقلال، ووحدة الشعب الجزائري، ووحدة ترابه بما في ذلك الصحراء." (إبراهيم، ص: 92-93)

والدليل الثاني أن عَدِيْل استطاع أن يضع إطارًا تأسيسيًا لمناقشة قضايا المستعمرات في أفريقيا وآسيا والقيم الحاكمة للدول المُستَعمِرة، ويتجلى ذلك في البيان الذي أعده وألقاه نيابةً عنه السفير فضل عبيد، في 5 ديسمبر 1960، وفيه كشف عورات الدول الاستعمارية، ونظرتها الدونية إلى الآخر، ومسوغاتها غير المقنعة لنهب خيرات البلاد التي استعمرتها. ونستشهد في هذا المضمار بالفقرة الآتية:


"مفهومان تبنتهما القُوى الاستعمارية الكولونيالية، وسادا خلال أعوامٍ طوالٍ. الأول منهما، هو في ادعائهم السيطرة على الشعوب، بمبرر حملهم رسالة حضارة لتلك الشعوب. المفهوم الثاني، هو أنهم كُلِّفوا بهذه المهمة لأنهم الأعلى والأسمى. ولعل هذا المفهوم الثاني قد تغلغل في ذهنية بعض القوى الكبرى إلى الدرجة التي تحوَّل معها إلى سياسة شريرة وشيطانية، مثل الكولونيالية نفسها، والتي نسميها الآن العنصرية. لا يحتاج الأمر لعمق نظرٍ ليستبين المرؤ خطل ذلك الادعاء، وعبثية مثل تلك النظريات. كلمة حضارة هي من الكلمات العظيمة، التي استعصت على التعريف إلى حدٍ كبيرٍ. إنَّ نظريات الاستعلاء العرقي لم تفض بمروجيها إلا إلى فظائع لا يمكن تجنبها، وأنَّ التاريخ كثيرًا ما أعاد نفسه. ليس من التبسيط في شيء، إن زعمنا أنَّ مثل تلك النظريات تُستخدم غطاءً للتمتع باستغلال الشعوب ومبررًا للاستحواذ على الثروات المادية من أراضيهم، واستنزاف قدراتهم وعرق جبينهم في كل ذلك. غير أن فطرة البشر لا تقبل ولا تتحمل سيطرة الأجنبي، والظلم والإذلال الذي يصاحبه. إنه لمن الطبيعي إذن، أن ينخرط البشر في المقاومة والنضال؛ لاستعادة حقٍ أصيلٍ وُلِدوا به. بدأت حركات مقاومة الاستعمار الكولونيالي، بداية شبه معزولة، والاستعمار الكولونيالي نفسه كان في بداياته. كانت المعاناة أثقل، والظروف تساعد، والخسائر لا تُعد ولا تُحصى، ولِكَمْ استعصى حصر الأرواح والضحايا الذين فقدوا، ومُلئت السجون بمن سماهم الكولونيالي المستعُمَر مخربين، وهم في الحقيقة بشر محبون للحرية، وإن إرادة الخالق ألهمتهم تصميمًا تجلَّى في سعيهم لاستعادة ما فطرهم الله عليه، فثاروا ضد الظلم وضد عدم المساواة." (إبراهيم، ص: 60-61).


لا جدال في أنَّ هذا البيان، والبيانات المماثلة التي أصدرها السفير عَدِيْل ونقلها السفير جمال محمد إبراهيم إلى العربية، قد شكلا تحدٍ حقيقي للدول الاستعمارية الأعضاء في الجمعية العامَّة للأمم المتحدة، ووجدا تأييدًا واسعًا من ممثلي الدول الأفريقية والآسيوية حديثة العهد بالاستقلال، وأعطيا إشارات إيجابية لحركات التحرر الوطني، التي كانت تقاوم ضد الاستعمار "الكولونيالي" في الجزائر، وأنجولا، وروديسيا، وموزنبيق، والكمرون، والكنغو؛ وتناهض سياسة التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، وتطعن في شرعية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. وسببت أيضًا مثل هذه البيانات الجريئة معاناة لأصحابها داخل أروقة الجمعية العامَّة للأمم المتحدة وخارجها؛ لأنها اصطدمت بحوائط صد الدول الاستعمارية المنيعة، وكلَّفت بعض أصحابها سداد ضريبة موافقهم الأخلاقية.

ثالثًا: نتيجة لهذا العطاء المتفرد والمتحدي للكبار في آن واحد، واجه السفير عَدِيْل داخل أروقة الأمم المتحدة مكر بعض النافذين من أصحاب القرار في الجمعية العامة والأعضاء الدائمين في مجلس الأمن؛ ومن الشواهد الدالة على ذلك أن اسمه كان من ضمن الأسماء المتداولة لتولي منصب الأمين العام لهيئة المتحدة بالوكالة، إلى حين انعقاد الدورة (16) في سبتمبر 1961 لانتخاب رئيس جديد، يحل محل داغ همرشولد (1953-1961)، الذي تحطمت طائرته بين  الكنغو وروديسيا (زامبيا)، ولم يُعرف إلى تاريخ هذه اللحظة الجهة التي نفذت الحادث الذي أودى بحياة أكبر موظف أممي في العالم. وفي عام 1964 رُشِّح السفير عَدِيْل لمنصب رئيس الجمعية العامَّة، بحكم أنه كان رئيسًا للمجموعة الأفريقية في الجمعية؛ إلا أنه واجه تحدٍ مدروسٍ بترشيح مرشحين آخرين من القارة الأفريقية، هما السفير آليكس كوايسون ساكي (Alex Quaison‐Sackey)، المندوب الدائم لغانا، والسفير ناتان بارنيس (Nathan Barnes)، المندوب الدائم لليبيريا في الجمعية العامَّة. ولذلك وصف السفير جمال محمد إبراهيم ترشيح ثلاثة سفراء من القارة الأفريقية بأنه كان قرارًا غير "مريحٍ"، تعللًا بأن الدول الأفريقية الأعضاء في الأمم المتحدة كان من المفترض أن تتفق على مرشحٍ واحدٍ؛ لكن هذا لم يحدث في البداية، علمًا بأن السُّودان قد رشَّح السفير عَدِيْل رسميًا في 6 سبتمبر 1964، فضلًا عن ذلك أن عَدِيْلا كان رئيسًا لمجموعة المندوبين الدائمين الأفارقة في الجمعية العامَّة منذ عام 1960. لكن غانا دفعت بالسفير ساكي مرشحًا لها في 18 سبتمبر 1964، وليبيريا بالسفير بارنيس في 6 أكتوبر 1964. وأشارت بعض الصحف الأمريكية إلى رجاحة كفَّة عَدِيْل؛ لذلك يظن جمال محمد إبراهيم أن هناك اتصالات جرت خلف الكواليس، مناصرةً لساكي على حساب عَدِيْل، الذي عُرف ببياناته الناقدة للدول صاحب اليد العليا في الجمعية العامَّة. وفي خاتمة المطاف انسحب مرشحا السُّودان وليبيريا، وكان الفوز بالتزكية حليف المرشح الغاني ساكي، الذي يُعدُّ أول أفريقي يتولى رئاسة الجمعية العامَّة للأمم المتحدة آنذاك.

رابعًا: توضِّح سيرة السفير عَدِيْل طرفًا من أطراف الأزمة السُّودانية المتمثلة في عدم تقدير الكفاءة المهنية، وتقديم الولاء الحزبي الأدنى عليها، وتغليب تصفية الحسابات الشخصية على شفافية العمل العام. ولذلك عندما جاءت ثورة أكتوبر 1964، "فُصل [عَدِيْل] من وظيفته مندوبًا دائمًا للسودان لدي الأمم المتحدة؛ ولذلك يرى السفير إبراهيم طه أيوب أن عَدِيْلًا كان "من ضحايا شعار التطهير واجب وطني، الذي رفعه بعض غلاة الثوار... وكان محور عملية التطهير رجال الخدمة المدنية، الذين اتهموا بالحق وبالباطل بتأييد الحكم العسكري الأول [1958-1964] أو المهادنين له. في اعتقادي أن من سعوا ونجحوا في ابعاده، كانت لهم علاقات شخصية غير طيبة معه، والغريب أن الراحل لم يذكر أيًا منهم بأي سوءٍ، كلما جاء ذكر ثورة أكتوبر 1964 وما تلاها من مجزرة الخدمة المدنية." (إبراهيم، ص 214-215). ولذلك يُعدُّ شعار "التطهير واجب وطني" وسياسة "تمكين" الانتماء الحزبي على حساب الكفاءة المهنية في الوظائف العامة من آفات الخدمة المدنية والعسكرية، التي أسهمت في إفساد العمل الإداري والعسكري في السودان، وإفشاء المحسوبية والزبائنية السياسية، ونتيجة لذلك تدنى الأداء الوظيفي وفشلت مؤسسات الدولة من أداء الأدوار الوظيفية المناطة بها.

خامسًا: زبدة هذا العرض والتحليل أن كتاب جمال محمد إبراهيم عن الدبلوماسي الحصيف عَدِيل يحمل بين دفتيه الكثير من الدروس المفيدة في الارتقاء بقيم العمل الدبلوماسي، والنذر اليسير من العبر النافعة لبناء سودان المستقبل؛ لأن عملية إعادة الإعمار وبناء ما دمرته الحرب تحتاج إلى عزيمة راسخة، تنقل النخبة السياسية  من محور السياسة القائم على المكايدات الحزبية الضيقة إلى محور السياسات المستند إلى الخطط الاستراتيجية، وأهدافها المدروسة، ومبادراتها القابلة للتنفيذ حسب الظروف الموضوعية المحيطة بها، وآليات تنفيذها المناسبة، والمنفذين الأكفاء (أي وضع الموظف المناسب في المكان المناسب)، الذين تحركهم دوافعهم المهنية والأخلاقية وانتماءاتهم الصادقة تجاه الوطن الجريح وأهله الطيبين الأخيار، بعيدًا عن المحصصات الحزبية والمكاسب الشخصية الضيقة. ولذلك التهنئة مستحقة للسفير جمال محمد إبراهيم على انتاج هذا السفر المهم، الذي يزخر بالكثير من الدروس والعبر النافعة، ويمثل إضافة نوعية إلى المكتبة السودانية.




ahmedabushouk62@hotmail.com

 

آراء