السلالات الكوشية وأصل الإنسان

 


 

 

للتعميم الذي نرجو أن يكون مفيداً لغرض الشمول، نفضل تعريف مصطلح ‘الكوشيين’ الذي يشير إلى السكان الأصليين الذين يتحدثون أو تحدثوا في الماضي إحدى اللغات الكوشية أو إلى أولئك الذين يسكنون أو سكنو في الماضي سهول وهضاب ألإخدود الأفريقي العظيم، أعالي وأسافل وادي نهر النيل، المغرب العربي، جزرالكناري و السيشيل، ومنطقة البحيرات الكبرى.

والرابط هنا لغوي- جيني أكثر من كونه جغرافي أو عرقي. فقد يتكلم أحفاد الكوشيين الحاليين لغات مختلفة، وهذا متوقع، ولكنهم يجتمعون وراثيا في آخر جد مشترك لأبيهم وحبوبة لأمهم. حري عن القول أن اللغة الكوشية، إلى جانب اللغات المصرية القديمة، البربرية، التشادية، الأوموتية والإثيو- سامية، هم أعضاء في عائلة اللغة الأفرو- آسيوية." كلود رايلي، أستاذ اللسانيات الفرنسي الذي يعكف حاليا على فك شفرة اللغة المروية، يعتبر اللغتان الأفرو- آسيويتان، المصرية والكوشية هما اللغتان اللتان تحدث بهما سكان منطقة النوبة القديمة والتي يرجع أصلهما، بالإضافة اللغات النيل - صحراوية المعاصرة، إلى اللغة البروتو- كوشية.

أما التقسيم التوراتي للغات إلى كوشي/سامي فقد وجده اللغويون ملائماً ومريح في تبويب اللغات الإفريقية - الأسيوية. فعلى الرغم من أن الفهم العام السائد للشعوب السامية في شمال شرق إفريقيا هو التفرد والتميز والإختلاف، إلا أن أصل تراثها الثقافي والجيني يبقى كوشي إلى حد كبير. إنحدرت ما يسمى باللغات السامية لشمال شرق إفريقيا من لغة ‘الجييز’المنقرضة حاليًا والتي كانت نتاج هجين بين اللغة الكوشية القديمة المتحدث بها حالياً بين قبائل الأغاو في الهضبة الإثيوبية ولغات جنوب الجزيرة العربية المعاصرة آنذاك من سبأية، حميرية وغيرها. إلى يومنا هذا يوجد ما يقارب السبعين في المائة من التشابه المِعْجمي بين اللغتين التيغرية والتغرينية بالإضافة للقرابة اللصيقة لهذين الغتين من لغات ‘الأقاو – أوسطية’، ‘الشمال – بجاوية’، و لغات ‘السَاهَو – عفَّار’ الكوشية. أما اللغات السامية الأمهرية، الأقاروبا، الهراري والقوراقي فهي بدورها لصيقة من باللغات الكوشية السيدامية، الأرومية، والصومالية.

وراثيًا، سلالة الحمض النووي الأبوي- ‘E’و‘J’ وسلالة المايتوكوندريا الأمومية -‘L’ تغلب بشكل كبير بين المجموعات العرقية – اللغوية السامية والكوشية على حد سواء. أما السلالة الأبوية ‘J’ فتسمَّى بالمجموعة السامية بسبب إنحدار شعوبها من صلب أسلافها الناطقين باللغة السامية في شمال شرق إفريقيا وفي جنوب الجزيرة العربية من سكان مملكتي سبا وحِمْير.

نشأت السلالتان الأبويتان ‘A’ و ‘B’ في القارة - الأم إفريقيا وبقي أفرادها فيها على مدى التاريخ ليَتركَّز أحفادها بشكل أكبر بين سكان شرق افريقيا وحوض النيل. من بين هؤلاء، عاش جد- جدنا الأكبر في مكان ما في شرق إفريقيا، غالبا على شواطئ إحدى الأنهار التي تنبع من فوق هضبة الأخدود الأفريقي العظيم (أنهار أومو، أواش، النيل الأزرق) وذلك منذ حوالي مائتين وستة وثلاثين ألف عام. أما أحفاد – أحفاد هاتين السلالتين، السلالة ‘E’ - سكان وادي النيل القدماء، الصوماليون، وغالبية سكان الهضبة الإثيوبية والصحراء الكبرى من البربر(الأمازيغ)، فقد رأوا النور من قبل ثلاثة وسبعون ألف سنة وبلغ عمر آخر أسلافنا المشتركين منها (جد- جدنا الأكبر) حوالي ثلاثة وخمسون ألف عام.

بالنسبة للسلالات المنحدرة من جانب الأم، فقد عاشت جدة- جدتنا الكبرى التي إنتمت للسلالة ‘L’ في شمال - شرق إفريقيا منذ حوالي مائة وستين ألف عام خلت، لكنها لم تُهاجر خارج القارة الأم مطلقاً. أما أخواتها المُنتمينَ للسلالات ‘L6’ إلى L0’’ فقد أكثرن من الهجرة حتى تناقص عددهن تدريجياً من مسقط رأسهِنّ وفي تناسق عكس – طردي مع نمط التنوع والبعد الجيني وأقدميته. لذلك، أعلى نسبة لأفراد هذه السلالةَ (حوالي ستة وتسعون في المائة) توجد في أفريقيا جنوب الصحراء، تليها إفريقيا شمال الصحراء، ثم شبه الجزيرة العربية، ثم منطقة الشرق الأوسط، ليصل أدنى مستوى لها في ربوع القارة الأروبية.

بناءً على هذه السلالات الجينية والوصف الذاتي لمفهوم العرق والخصائص اللغوية والثقافية المشتركة، قام ‘تيشكوف ‘آت آل- (2009)’ بدراسة ‘للإحتشاد الجيني المُركَّب’ والتي على ضوئِها قُسَّم سكان العالم لأربعة عشر مجموعة سكانية (سلالة) من الأسلاف ستة منها توجد في القارة الأفريقية وهي مجموعات: الأفرو- آسيويون؛ النيليون- الصحراويون - الكوشيون؛ النيليون- الصحراويون- الشاديون؛ النيجر- كردفانيون؛ مجموعة الأقزام؛ ومجموعة الهازدا. من بين كل هؤلاء، واحد وسبعون في المائة من السكان الناطقين باللغة الأفرو -آسيوية تتمركز مع الكتلة الكوشية. في نفس منحى دراسة ‘تيشكوف. آت آل.’ لاحظت دراسة أخرى "للأحتشاد الجينومي التتابعي (2018)" أن إنتشار السلالات الأفريقية يتناسق مع البعد الجغرافي وكذلك مع أنماط الهجرة المغادرة لمسقط الرأس والمرتدة إليه بعد حين. فالسلالات الأفرو- آسيوية والجماعات الأثنية- اللغوية النيلية - الصحراوية تتواجد بكثافة في شمال وشمال شرق إفريقيا، حيت مهد إنسانها الأول.

دراسة أخرى للجينوم أُجريت بالاشتراك بين معهد علم الأحياء التطوري وجامعة ستانفورد في عام 2012 والتي أظهرت أن السلالات الجينية لسكان شمال إفريقيا تميل أكثر للعنصر الغير إفريقي، أكدت على حقيقة التحول الديمغرافي في المنطقة. فالإنسان الأول وصل إلى شمال إفريقيا منذ حوالي مائة وتسعون إلى مائة وأربعون ألف عام ليتعرض على مر العصور لهجرات الفينيقيون، الرومان، البيزنطيون، الأغاريق، الفرس، الآشوريون، الألبان، الأتراك، وغيرهم كثر أتو إلى القارة –الأم إفريقيا عابرين، أو غزاة، أو مستوطنين فإمتزجوا وتعايشوا وتناسلوا مع سكانها الأصليين. هذا، وعلى الرغم من حاجز العزلة الوراثية الذي فرضته الصحراء الكبرى بين سكان شواطئ البحر الأبيض المتوسط وأفريقيا جنوب الصحراء، إلا أن بصمتهم الجينية لم تنفصم من مصدرها الأصيل الضارب في القدم، بل أكدتها بتطوير سلالة E1b1b - EM78’ ’ التي تغلب بين شعب البربر (الأمازيغ)، و سلالالة ‘E1b1b -M81’ التي تميز العنصر القبطي – المصري.

عثمان عابدين عثمان
osmanabdin@gmail.com
مصادر:
(Krings et al., 1999); (Cruciani et al., 2004); (Semino et al., 2004); (Sanchez et al., 2005); (Michael, 2007); (González et al., 2007); (Camoroff, 2009); (Tishkoff et al., 2009); (Fadhlaoui-Zid et al., 2013) (Trombetta et al., 2015); (Solé-Morata et al., 2017); (Fregel et al. , 2018); (Rilly, 2010).

________________________________________
[1]والذي منشاءة القصة التوراتية المعروفة التي فيها سَخَط نوح على إبنه حام عندما شاح عن سِتْر عَورِهِ وهو نائما سكران، فدعى عليه أن يكون أبناىه عبيداً لأحفاد سام،

osmanabdin@gmail.com

 

آراء