السودانيون وإسرائيل

 


 

 



(1)

لا أشارك كثيراً من المعلقين والسياسيين قلقهم وانزعاجهم من حميمية العلاقات بين دولة جنوب السودان الجديدة والكيان الإسرائيلي، على الأقل ليس من وجهة مخاطر هذه العلاقات على  استقرار المنطقة أو المصالح العربية. فإسرائيل لا تحتاج إلى جنوب السودان حتى تقترب من المجال العربي، لأن لها حضور في قلب العالم العربي، خاصة مصر والأردن، وما خفي أعظم.

(2)

لإسرائيل كذلك وجود قوي سلفاً في الدول المحيطة بالسودان، خاصة كينيا ويوغندا واثيوبيا وارتيريا، وعليه فإن وجود سفارة لإسرائيل في جوبا، إذا وجدت مباني تشغلها، لن يكون إضافة كبرى لقدرات إسرائيل وأذرعها الدبلوماسية. فقط قد تكون هناك رمزية، من وجهة النظر الإسرائيلية، في خروج هذه المنطقة من خارطة "الوطن العربي" كما ظنت الأمر كذلك في كردستان العراق، مما يعزز الحلم الإسرائيلي بتفتت العالم العربي. ولكن حتى هنا يكفي أن تنظر إسرائيل إلى لبنان المجاورة وسوريا حتى يثلج صدرها. ولا حاجة بها للسفر بعيداً إلى جوبا.

(3)

من الأرجح أن دولة الجنوب الجديدة ستكون، بالعكس، عبئاً على إسرائيل، لأنها تحتاج إلى دعم كثيف في كافة المجالات حتى تقف على قدميها، خاصة مجالات البنية التحتية واحتواء الصراعات القبلية، والنزاعات مع دول الجوار، خاصة السودان الشمالي. وعليه قد يكون من مصلحة العرب تشجيع إسرائيل لتوثيق علاقاتها مع دولة الجنوب حتى تصرف قدراً كبيراً من طاقتها في معالجة مشاكلها، وانشغال الظالمين عبادة.

(4)

إذا كان هناك ما يثير انزعاجنا فهو بواعث هرولة السودانيين في الجنوب وغيره باتجاه إسرائيل، خاصة وأن دولة الجنوب ليست بحاجة إلى إسرائيل، كون الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ومعظم الدول الصناعية الكبرى، بل حتى الصين، تتزاحم منذ مدة على مساعدتها. وعليه فإنها ليست في وضع دول مثل زائير أيام موبوتو، وغيرها من الدكتاتوريات الهرمة التي كانت تحتاج دعم إسرائيل حتى تفتح لها الأبواب في الغرب. هذا مع العلم بأن إسرائيل لم تنفع موبوتو كما لم تنفع منغستو دكتاتور اثيوبيا السابق حين حان أجل تلك الأنظمة.

(5)

الهرولة باتجاه إسرائيل لا يمكن أن تكون كذلك بسبب قيمها الداعمة للضعفاء أو لتاريخها في دعم حركات التحرر. فإسرائيل دولة عنصرية قمعية لها تاريخ طويل في دعم أنظمة مثل نظام الفصل العرقي في جنوب افريقيا، إضافة إلى الأنظمة الدكتاتورية في افريقيا وأمريكا اللاتينية. وعليه فإن التقرب من إسرائيل هو بالعكس، تنكر للقيم التحررية ولنصرة المقهورين.

(6)

وهنا تكمن المشكلة، لأن الجيش الشعبي لتحرير السودان بنى عقيدته –في الظاهر على الأقل- على مقاومة التمييز العرقي ودعم حقوق المهمشين والمستضعفين، وظل يحارب الحكومات السودانية المتعاقبة بحجة أنها تنتقص حقوق البشر. وبحسب علمي فإن الحكومات السودانية لم تقم بإنشاء "مستوطنات عربية" في الجنوب أو في أي بقعة أخرى من السودان، تجبى إليها ثمرات كل شيء ويحرم أهل الأقاليم من خيراتها، ولم تحرم سكان البلاد الأصليين من الجنسية، أو تمنعهم من العودة إلى ديارهم. وعليه فإن احتضان دولة تتميز بهذه الممارسات، خاصة في ظل حكومة نتنياهو-ليبرمان التي يستحي كثير من الإسرائيليين من سياساتها، يؤكد أن التحرر ومحاربة الظلم لم يكن سوى شعارات عند قادة الجنوب.

(7)

بنفس القدر أثار انزعاجي تصريحات لأحد الناطقين باسم حركة العدل والمساواة في دارفور يقول فيها أنه سيلبي الدعوة لزيارة إسرائيل إذا جاءته (وعادة ما تصدر مثل هذه التصريحات عندما تكون الدعوة وصلت فعلاً وتقررت تلبيتها). والحركة في هذا تنسج على منوال غريمها عبدالواحد محمد نور الذي زار إسرائيل وافتخر بذلك، بعد أن كانت حركته فتحت مكتباً لها في إسرائيل.
(8)

مرة أخرى فإن المسألة هنا ليست في قدرة إسرائيل على استخدام حركات دارفور لخدمة مصالحها، فهذه الحركات تواجه مشاكل لا حصر لها، مما يجعلها عبئاً على أي حليف، عوضاً أن تكون رصيداً له. وبنفس القدر فإن حركات دارفور لا تحتاج إسرائيل لفتح الأبواب بعد أن نالت قضية دارفور من الدعم الدولي ما لم تنله قضية أخرى في العالم.

(9)

من هنا يستعصي على الفهم قيام حكومة الجنوب أو حركات دارفور بالهرولة باتجاه دولة عنصرية قمعية ذات سجل أسود في معاملة الأقليات، خاصة في ظل حكومتها الحالية التي يدعو بعض أركانها علناً للتطهير العرقي والإبادة الجماعية، إلا إذا كانت هذه الجهات قد فقدت بوصلتها الأخلاقية كلية، وهو ما يبدو أنه وقع فعلاً.

(10)

هذا الانحدار إلى درك أخلاقي سحيق من قبل حركات وقوى تدعي أنها تناضل من أجل الحرية والعدالة والمساواة، وتسارع مع ذلك إلى الوقوع في أحضان دول أصبحت في العالم كله رمزاً لعكس هذه القيم يشير إلى أزمة أخلاقية أوسع في الساحة السياسية السودانية تحتاج إلى مناقشة أوسع، وقد تكون السبب في تأخر التحرك المطلوب نحو نظام ديمقراطي حقيقي. وقد صدق الله تعالى، إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
Abdelwahab El-Affendi <awahab40@hotmail.com>

 

آراء