السودان: العبودية و أفاق التحرر ” 1-4″
العبودية في التعريف المعرفي أنواع، الأولي هي العبودية الخالصة لله، يقول الله تعالى في سورة لقمان " و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون" و هو الخضوع الكامل لله و أحكامه و نواهيه، و الإتمار بأمره، و اتباع شريعته. و الثانية هي عبودية بمعنى الرق استغلال الإنسان استغلالا كاملا و تجريده من كل حقوقه كأنسان، و هذه الثانية تخذت لها مواقع في تاريخ البشرية و الحضارات المختلفة، و لم تكن قاصرة علي مجتمع بعينه، بل سادت كل المجتمعات الإنسانية. و النوع الأخر هو العبودية الثقافية الناتجة عن انعكاسات من ثقافة العبودية الثانية، و هي عبودية تتحكم فيها الثقافة و طريقة التفكير في المجتمع الناتجة عن هذه الثقافة، و بالضرورة لها انعكاسات سالبة تعطل العديد من الطاقات الإبداعية في المجتمع، و مدعاة للنزاعات الثقافية. و المقال يتناول النوع الثالث من العبودية، و هي العبودية التي تحاول أن تخضع الجميع للتقيد بثقافة تشكل أكبر عائقا لتحرر الإنسان من قيود الإرث الثقافي و السياسي الذي كان سببا في فشل كل النظم السياسية التي مرت علي السودان، و ظلت النخبة السودانية السياسية تحافظ عليها دون أن تخضعها إلي المراجعة رغم سقوط نظم و قيام نظم أخرى كانت جميعها متأثرة بذات الداء، و هي ليست غفلة نخبة بل هل سياسة متعمدة.
الأسئلة التي تفرض نفسها على الواقع: هل ثورة ديسمبر ثورة ضد الثقافة التقليدية التي سيطرت علي البلاد منذ العهد السناري؟ أم هي محاولة فقط للإصلاح في ذات الثقافة التقليدية؟ هل النخبة المطروحة الآن في الساحة السياسية و هي جزء من تاريخ الفشل تستطيع أن تحدث تغييرا يحدث رؤية جديدة في الساحة السياسية؟ أم هي جميعها فرطقات في الهواء الهدف منها محاولة لتلميع نخب بديلة و لكنها لا تحمل أفكارا جديدة؟ و إذا كانت بالفعل قد خلقت واقعا جديدا لماذا لم تثير إشكالية داخل المؤسسات الحزبية في القيام بمراجعات فكرية؟ هل المؤسسات التعاني من الشللية و غياب الحرية و تمنع طرح الأفكار الجديدة داخلها تستطيع أن تخلق ثورة تغيير تؤدي إلي تحول ديمقراطي؟
في عام 1918م تم تأسيس نادي الخريجين بأمدرمان، و في احتفال الافتتاح قال مستر سمبسون مدير كلية غردون " أن النادي سيلعب دورا هاما في التاريخ" أختلف الناس في فهم المقولة أن كان النادي سوف يلعب دورا مؤثر في استقلال السودان، أم أن النادي الذي يضم النخبة التي تعلمت تعليما حديثا سوف يؤهلها أن تكون نواة لنخبة تحدث تغيير منهجيا و فكريا في المجتمع، و تتجاوز طريقة التفكير التقليدية التي كانت سائدة في المجتمع بسبب التعليم التقليدي، و التي كانت تؤكد على الاستمرار علي فكر العبودية المستترة في المجتمع، الخضوع الكامل للشيخ و الطائفة و العمدة و العادات و التقاليد و الأساطير، أي الهدف تقييد العقل و تكبيله تماما أن يخرج من القيود المجتمعية المضروبة عليه، حتى الطبقة الوسطى التي يقع عليها عبء الاستنارة في المجتمع و إنتاج ثقافة جديدة تنداح علي الثقافة التقليدية، أهملت قضية الاستنارة و سلمت نفسها تماما إلي رموز الثقافة التقليدية لكي تمنحها التأييد الذي يجعلها متحكمة في السلطة، و هنا لا يختلف عقل المدنيين و العسكريين جميعهم كانوا في اسر ثقافة العبودية، و يوظفوها توظيفا يساعدهم علي إطالة بقائهم فيها، و يحاربون أي تمرد يمكن أن يحدث علي هذه الثقافة، و هي التي عطلت ملكات الإبداع في المجتمع، الغريب في الأمر أن النخبة تغير السلم التعليمي ليس لخدمة التنمية و مسايرة العلوم و لكنها تغييرها لما تراه مناسبا لحمايتها، و يساعد علي تعبئة الجماهير ضد القوى التي تظهر تمردا علي ثقافة العبودية.
و في ذلك يقول أحمد خير في كتابه " كفاح جيل" عن التفكير السائد في عقد أربعينيات القرن الماضي " أخذت طبقة أخرى تجتاز طور التكوين و النشوء، و تلك هي طبقة الجيل الحديث في السودان، حديث في الترتيب الزمنى، و حديث لأنه الجيل الذي نال قسطا من العلوم العصرية، و نال حظا أوفر من التدريب و الصقل في دواوين الحكومة، و بدأ ينظر إلي الحياة و إلي المجتمع السوداني بمنظار عصري و يقدره تقديرا عصريا، و هو مزيج من الثقافة الدينية السليمة، و من الثقافة الأوروبية الجارفة" أن حديث أحمد خير و تطلعاته أن تلعب النخبة السودانية التي نالت قسطا من التعليم الحديث دورا جديدا في المجتمع يجعلها تتجاوز الثقافة التقليدية باكتسابها أدوات معرفية جديدة و طريقة للتفكير جديدة، و كان ذلك قبل استقلال السودان، و لكن مسيرة تاريخ السودان السياسي بعد الاستقلال أكدت النخبة لم تستطيع أن تتجاوز ثقافتها التقليدية المحكومة بثقافة العبودية، و الغريب أن أحمد خير نفسه لم يتحرر من الثقافة التي جعلته يتعامل مع العصبة العسكرية في نظام عبود، و يسقط كل شعارات الديمقراطية و الحرية التي كان ينادي بها، مما يؤكد مدى خضوع النخبة لتلك الثقافة.
كانت مقاعد السلطة تتبادلها عقليات السلطة الشمولية، رغم تنوع شعارات التحرر و الحرية و الديمقراطية وفقا للأيديولوجيات المطروحة في الساحة السياسية، و هي تمثل أدوات الاستقطاب الصدئة و المعطوبة، لذلك ظل الفشل مصاحبا كل النظم السياسية رغم تباينات شعاراتها لكنها كانت موحدة في طريقة التفكير، و عجزت النخبة أن تتحرر من مسببات الفشل لأنها لا ترغب في ذلك، لأنه يمثل لها حماية أيضا إذا استطاعت الوصول للسلطة. و العسكر رغم إنهم يرفعون في بداية انقلابهم شعارات التحرر سرعان ما ينكسونها و يعودون للصندوق القديم، لأن التحرر من الإرث التقليدي في السياسة لا يمكن تجاوزوها بشعارات، باعتبار أن الشعارات دون برنامج سياسي للتغيير واضح و مفصل تصبح ملء للفراغات تظل معلقة في الهواء، و يصبح دورها حالة من التخدير و الوهم في المجتمع، و النظم العسكرية لأنها جاءت للسلطة بالقوة تعتمد اعتمادا كليا علي الشعارات، و ليس لها مشاريع سياسية واضحة.
في اوائل عام 1983م كان تأسيس الحركة الشعبية بقيادة العقيد الدكتور جون قرنق، أصدرت منفيستو الحركة الشعبية ذو الميول اليسارية و المرجعية الماركسية، كان أول مرة يخرج برنامج سياسي ينادي بالتحرر من الإرث القديم، و يطالب المجتمع أن يتحرر من سلطة المركز و التحرر من سلطة المركز تعني تغيير طريقة التفكير، لذلك جعل الدكتور قرنق أداته للتحرر هي البندقية، و طالب من كل مناطق الهامش في السودان أن تحمل البندقية من أجل التحرير، فالبندقية رغم أنها أحدثت فرقعة عنيفة داخل المجتمع، و أدت إلي أن يحمل الهامش البندقية، لكن البندقية رغم علو منطقها إلا أنها أهملت أهم أداة في التغيير هي الحرية، غابت الحرية لخلافها مع بيئة البندقية و التي لا تتلاءم معها مطلقا، و غياب البندقية هو غياب كلمل أن يمارس العقل سلطته، و قد ظهر ذلك بصورة واضحة جدا بعد استقلال دولة جنوب السودان ظلت البندقية هي سيدة الموقف، و غابت كل شعارات التحرر و الحرية، و ظلت حركة التحرر رهينة لمنطق الثقافة التقليدية القائمة علي العبودية. عبودية الفرد للسلطة و للزعيم و للقائد و للقبيلة و الإثنية و المناطقية، لأن البندقية تغيب العقل و تعيق الإبداع في المجتمع. و أشكالية رؤية دكتور قرنق أنه لم يقدم أي معالجة لسيادة البندقية التي تخلق ثقافتها المناهضة لدعوة التحرر الفكري و الثقافي.
كتب ياسر عرمان الأمين العام للحركة الشعبية ورقة بعنوان "فرص المراجعة التاريخية .. علي ضوء ثورة ديسمبر و السلام في السودان" يقول في أحدى فقراته " إن الثورة الحقيقية هى وحدها من تستطيع هدم المجتمع القديم وبناء مجتمع جديد وفق منظور تاريخى قائم على المراجعة والنظرة النقدية لكامل التاريخ وما تمخض عنه من تناقضات فى بناء المشروع الوطنى، وتظل قضية المواطنة بلا تمييز هى إحدى القضايا الرئيسية التى دون حلها لن نستطيع بناء دولة حديثة وسلام دائم وديمقراطية وتنمية مستدامة فى السودان." عرمان يعد واحد من الذين يشتغلون بالفكر في طرح أرائيه، و يحاول أن يجعل ثورة ديسمبر أنطلاقة للتحرر من الإرث التاريخي التقليدي، و التي سماها فرص المراجعة التاريخية، و المراجعة عمل ذهنى يؤسس علي المنهجية، و ضمن مشروع سياسي متكامل. لكن منذ الثورة لم تظهر هذه المنهجية في خطاب النخبة التي قدمت لكي تشغل حقائب السلطة التنفيذية، و حتى الحاضنة السياسية، من خلال لهثها وراء المحاصصة تؤكد أنها حاضنة للثقافة التقليدية، لذلك أصدرت العديد من الشعارات التي تعتبر فزاعات لكي تحميها من النقد و تفنيد إدعاءتها، فهي تفكر بذات المنهجية القديمة، نقبض علي السلطة ثم نحدث عملية التحول الديمقراطي. نفس مقولات النظم الريديكالية في المنطقة العربية أن التحديات الأمنية سببا في جعلنا نؤخر عملية الديمقراطية، أن النخبة السياسية السودانية عاجزة أن تقدم رؤى سودانية 100% بل هي تحاول الاستلاف من مخلفات نظم شمولية إذا كانت يمينا أو يسارا.
و سوف نرجع لورقة عرمان؛ وفي محاولة أخرى أحداث فرقعة على الساحة السياسية، أسس عبد الواحد محمد نور مكتب له في تل أبيب، و قال أنه يعتقد أن السودان الجديد يجب أن تتغيير فيه العديد من القناعات التي أرتبطت بالعاطفة. و كان يعتقد أن علاقته باسرائيل تعد تحدي علي العقل السوداني الذي ارتبط بقضايا خارج حدوده و جعلها من المقدسات التي يجب أن لا تمس، و يعتقد نور أن هز الرموز و الإشارات المقدسة هي محاولة لإزالة الخطوط الحمراء المفروضة علي العديد من القضايا. و إذا رجعنا إلي ثورة ديسمبر لكي نبحث في مضامين شعاراتها، نجدها اعتبرت نفسها منصة جديدة لطرح الأراء الجديدة و لا تفرض أي خطوط حمراء، بل هي جعلت الشارع مصدر الأفكار في حدود الشعارات و أن كان أثر الأحزاب في بعضها واضحا. نواصل
zainsalih@hotmail.com