السودان: بحر الظلم الأعظم

 


 

 

 

 

المشهد الأول : جامعة الخرطوم خمسينيات القرن الماضي

ذات عام و في أحتفال ليوم مفتوح لأتحاد طلاب جامعة الخرطوم كان من المقرر أن يتحدث ضمن المتحدثين طالب قانون جنوبي .
هذا الطالب أنسحب في اللحظات الأخيرة معتذرا عن المشاركة في الحفل بسبب أن لغته العربية كانت في غاية الضعف ، وكانت لا تسعفه لقراءة كلمته بطلاقة مثل أقرانه الشماليين في قاعة الدرس ، فكان هذا الأمر كافيا ليكون مصدرا للتندر و السخرية عليه من جمهرة الطلاب .
في المساء رأى هذا الطالب الجنوبي في النادي أستاذه فعرض عليه أن يأتيه بمشروب ثم ليتجاذبا أطراف الحديث ، فقبل الأستاذ ذلك بكل لطف ، وعندما عاد بعد قليل الطالب الجنوبي وفي يده زجاجة الكوكاكولا وجد أستاذه يتجاذب أطراف الحديث مع مجموعة من زملائه الطلاب الشماليين ، فأحس بالأحراج و آثر الأنسحاب من المكان بهدوء .
كان هذا الطالب الجنوبي هو نائب رئيس الجمهورية السابق قبل و بعد أتفاقية السلام أديس أبابا التي وقعها الرئيس الراحل جعفر نميري مع الحركات الجنوبية المتمردة آنذاك ، و أحد أعظم الشخصيات الجنوبية التي مرت على تاريخ هذه البلاد القاضي السابق مولانا أبيل ألير كيواي .
أما هذه الموقف الأليم فيحكيه البروفيسور الأنجليزي باتريك كولنسون و الذي عمل في خمسينيات و ستينيات القرن الماضي في جامعة الخرطوم كأستاذ للتاريخ في مذكراته التي أعطاها عنوان ( نظرة الي القرن العشرين من مسافة أمنة ) .
يصف أستاذنا الراحل بشير محمد سعيد في تقديمه لكتاب أبيل ألير الشهير ( جنوب السودان ... التمادي في نقض المواثيق و العهود ) و الذي قام بترجمته للعربية بأنه أبيل ألير زعيم سوداني أشتهر بغزارة الثقافة و عمق الفكر وشجاعته و فصاحة اللسان و سعة الأطلاع و تعدد الخبرات .
دوره في أتفاقية السلام السودانية عام 1972 م و التي بذل فيها جهودا جبارة بعد أن عهدت إليه حكومة السودان إجراء أتصالات تمهيدية مع المتمردين الجنوبيين كان دورا مشهودا ، كُلل بتحقيق السلام في الجنوب لعشرة سنوات ، تم من خلالها المضي قدما في توفير أسباب الأمن للمواطن الجنوبي و تقديم الخدمات في مجالات الصحة و تعبيد الطرق و تشييد الكباري و تطوير الزراعة و غيرها من خدمات تفوق الخيال ، غير أن هذا الحلم لم يدم طويلا بعد أقدم النميري نفسه على نقض الأتفاقية وقال قولته الشهيرة ( هذه الأتفاقية ليست قرآن كريم ولا أنجيل منزل ) ، فكانت بذلك خطيئته الكبرى التي أنهار معها كل ما سعى إليه السيد أبيل ألير لسنوات طويلة في محاربة العنصرية و بناء جسور من الثقة بين الشماليين و الجنوبيين لكي ما يتعايشوا متسالمين في وطن واحد .
يسرد باتريك كولنسون قصة أخرى مشابه في نفس الكتاب حيث يقول : ذات مرة أتاني طالب في إحدى الدفع التي كنت أقوم بتدريسها و كان عدد هذه الدفعة خمسة فقط .
كان هذا الطالب الشمالي يرغب في أستعارة كتاب معين ، فأخبرته أن هذا الكتاب أعرته قبل أيام لزميله بول ( صار وزيرا في الديمقراطية لاحقا ) ، فرد عليه قائلا :
أديته لي هيلاري بول ؟
أنت قاصد ذلك العب ؟
( الكاتب ) : من أجل ديمقراطية صحيحة و وطن يسع الجميع حاربوا كل أنواع العنصرية و أعلوا من راية المواطنة فهي الترياق الوحيد الى لم شمل كل السودانيين .
********************
المشهد الثاني : أم درمان ثلاثينيات القرن الماضي
كتب عبدالفتاح المغربي مقالا في جريدة الحضارة قال فيه :
أنه شاهد في مدينة المنصورة بمصر ملجأ يضم الأيتام و يقوم على نظام حسن حيث يعلم الأطفال تعليماً صناعياً ، وقال أن مثل هذا الملجأ لا يكلف أكثر من مائتي جنيه ، و وقف عند هذا الحد فكان مجرد إعجاب بما رأى ذكره كخبر في الجريدة .
جاء بعده رمضان عبدالرحمن فكتب مقالا عنوانه ( ملجأ يتكون من قرش ) فعلق على حديث الأستاذ عبدالفتاح المغربي مقترحا أن يتم إنشاء هذا الملجأ عبر جمع قرش من كل مواطن حتى يتم تجميع مبلغ مائتي جنيه .
أستهوت الفكرة عددا من الشباب كانوا وقتها في الترام في طريقهم للمكاتب .
قرأوا المقال فقرروا أن يجتمعوا في مدرسة أم درمان الأهلية و منها دفع كل واحد منهم قرشا ليكونوا بذلك نواة لبداية المشروع ، و كان عددهم مائة و أحد عشر فردا ..... أبرزهم خضر حمد و يوسف المأمون و عبدالرحمن النور و عبدالله ميرغني و الشريف كرار محمد و محمد عبدالرحمن وتم أختيار بعد الأتفاق بينهم أن يكون خضر حمد أمينا للصندوق .
أخذوا بعدها بالطواف يوم الجمعة في الأسواق ليأخذوا من كل دكان قرش و أتسع العمل بعدها و أشترك معهم عدد كبير من الشباب و ظهر المشروع ، وبدأ بعض الناس يحاول الدخول في اللجنة المكلفة بإنشاءه للسيطرة عليها ، و قامت عدد من الصحف تهاجم هؤلاء الشباب في حملات صحفية متواصلة عندما فشلوا في سرقة مجهوداتهم .
وهكذا سارت الأمور الى أن قام الملجأ ، وتم أختيار البكباشي محمد نور رئيسا له و أحضر له ناظر مصري يدعى حسن الرشيد نور الذي أدى لهذا الملجأ أجل الأدوار و ترك بعدها هؤلاء الشبان الملجأ الذي سمي معهد القرش بعد أن أتموا المهمة الوطنية و رجعوا بعدها لأعمالهم .
ما يثير للتأمل في قصة بناء هذا الصرح الأم درماني و الوطني العريق هو ما جرى من أحداث بعد ذلك نقلا عن الأستاذ خضر حمد في شهادته التي سردها في مذكراته .
يقول الأستاذ خضر حمد أن فكرة نجاح ملجأ القرش قد أستهوت عدة جهات كوسيلة لجمع التبرعات ، فعندما ذهبنا لودمدني لجمع القرش وجدنا أناسا يوزعون تذاكر لجمع التبرعات لجامع في منطقة الحوش كتبوا عليها ( وملجأ القرش لجامع القرش ) !
وقد حصل صدام كلامي و صحفي بيني و بين الشيخ بابكر بدري في هذا الموضوع بعد أن قام الأخير هو الأخر بإصدار تذاكر من قرشين لدعم مدرسته الأحفاد عندما نقلها من رفاعة الى أم درمان و كتبت في جريدة ملتقى النهرين أهاجم هذه العملية و أستهجنها ، حيث لا يمكن ولا يجوز التبرع لها كمدرسة عامة وهي مدرسة لا تقبل إلا أولاد الأغنياء و أبناء البيوتات الكبيرة كأولاد السادة من آل المهدي و الأثرياء و أسرة بابكر بدري .
و الحقيقة أنني لم أكن معروفا للشيخ بابكر بدري ، وقد ألتقيته بعدها في مستشفى أم درمان و بصحبتي الشيخ عبدالرحمن النور في زيارة للشيخ بابكر إسحق ، و أخذ يبحث معي هجومي عليه و على مدرسته و الطريقة التي سلكها في جمع المال ، فقال لي أثناء النقاش أنه يريد أن يبني مجده ، فقلت له إن كنت تريد أن تبني المجد فهذه ليست الوسيلة المثلى لبناء المجد و ستعرف رأيي غدا في الجريدة .
وفي الغد كتبت فعلاً مقالاً في الجريدة أشرت فيه للمقابة وذكرت أيضا أن المجد الذي يبنى بالتبرعات التي تجمع من الفقراء لتأسيس المدارس الخاصة ، فما أهون المجد وما أسهله على كل مخلوق .
تقابلنا بعدها مرة ثانية في منزل الشيخ بابكر إسحق يوم أحتفل به أهله بسلامته ، فنادني الشيخ بابكر بدري و أراد أن يستشهد بالشيخ عبدالرحمن النور على أنه لم يقل لي بأنه يريد أن يبني مجده ، فقال له الشيخ بابكر إسحق لا تسألني يا مولاي فإنك إما أحرجتني أو أحرجتك ولكن الشيخ ألح في السؤال فأجاب بأنه فعلا قال إنه يريد أن يبني مجده و أنتهى النقاش بالصمت من الجميع .
( الكاتب ) : من أجل ديمقراطية صحيحة و وطن يسع الجميع أعيدوا للمواطن السوداني حقوقه في التعليم و الصحة و الخدمة الأجتماعية و قبل كل ذلك أعيدوا له أنسانيته .
المشهد الثالث : بيت السودان بلندن
Some people say that the best way to learn language is to live in a country where the language is spoken. You cannot do that this year but you can live there in imagination.
هذه العبارة و ترجمتها ( بعض الناس يقولون أن أفضل وسيلة لتعلم اللغة هو أن تعيش في بلد يتكلمها ، أنت كطالب لا تسطيع ذلك الأن ولكنك بأمكانك أن تعيش بخيالك في هذا البلد ) تطالعك في الصفحة الأولى في مقدمة كتاب اللغة الأنجليزية للصف الثاني الثانوي المعنون بسلسلة النايل كورس .
أحد أهم القصص المُقَطَعة و المُتَوَزعة على عدد من الدروس في هذا الكتاب قصة الطالب عثمان عبدالعزيز المتوجه لأكمال الدراسة العليا في بريطانيا في جامعة ريدينغ .
يبدأ معك الكتاب قصة الطالب عثمان عبدالعزيز منذ مطار الخرطوم الدولي مرورا بوصوله الى لندن ونزوله في بيت السوادن و حتى حضوره لليوم في الجامعة .
هذه الدروس قطعا لن تكون يوما في مخيلة طلاب السودان اليوم من جيل ثورة ما يعرف بالأنقاذ ، لأن الدولة التي كانت تبعث بفلذات أكبادها على حسابها الخاص منذ الأربيعينيات و الخمسينيات و حتى الثمانينات للتحصيل الأكاديمي العالي في مختلف الجامعات البريطانية ، أصبحت اليوم بدلا من ذلك تقذف بهم في معسكرات الدفاع الشعبي كوقود للحرب و الدمار و الهلاك .
دولة سممت عقول شبابها و صورت لهم أن قادة هذه الدولة رجال من أشباه أؤلئك الذين كانوا حول الرسول صلوات الله عليه و سلامه ، فبدلا أن يقدموهم الصفوف طلبا للتميز العلمي تقدموا بهم الصفوف للموت في جنوب السودان و دارفور و النيل الأزرق و جبال النوبة تحت فرية الجهاد والجهاد بريء منهم ومما دعاويهم .
في الصفحة 57 من الكتاب يصل عثمان عبدالعزيز الى بيت السودان و تستقبله مسؤولة تطمئن على أحواله ، تقدم له كافة المعلومات التي تخص إقامته المؤقت في البيت و البنك الذي سوف يصرف فيه شيك مرتب منحة حكومة السودان لطلابها ، ثم موعد القطار و مكان المحطة التي سوف ينتقل منها لمكان جامعته .
يسأل عثمان عبدالعزيز الموظفة في بيت السودان عن إمكانية قدوم زوجته و أبناءه لبريطانيا ، فترد عليه نعم لكن بعد تأكدنا من حصولك على سكن مناسب للعائلة !
ربما لا يعلم جيل اليوم أن التعليم الذي كان على نفقة الدولة من رياض الأطفال و حتى نيلك درجة الدكتوراة داخل أو خارج السودان هو حق أصيل لكل مواطن سوداني وهي سياسة شرعها المستعمر الأنجليزي و ظل كل حكام السودان ملتزمين بها حتى قبرها نظام الأنقاذ و طرد معها السفير البريطاني من الخرطوم .
بسبب هذه السياسة نبغ أطباء من قرى الجزيرة و فقهاء في القانون من قرى كردفان ، مهندسون من أطراف دارفور و علماء في الكيمياء من جبال النوبة و أفذاذ يشار لهم بالبنان في الزراعة و الفيزياء و الأقتصاد من أقاصي جنوب و شمال السودان .
يقول الطيب صالح و هو يمتلئ حرقة و حزنا :
أن بهذه الطريقة تعلم إخواننا الذين يصرفون الأمور في السودان اليوم ( الأنقاذيين ) بقدر ما يتأتى لهم من تصريف الأمور ، فهم أكثر من غيرهم يدركون أن الأمر لله من قبل و من بعد . لكنهم ردوا الجميل للوطن بأنهم عطلوا تلك السياسة و أوقفوا البعثات ، و أضافوا ضغثا أنهم شردوا شردوا أصحاب الأختصاص و العلم و الدراية ممن كان بوسعهم حل كثير من المشكلات .
أما بيت السودان غرب لندن في روتلاند غيت كان مآوى طلاب السودان و ملحقة ثقافية ضخمة أشرف عليه ثلة من أعظم رجالات التعليم في السودان ومنهم من وصل لمرتبة وكيل وزارة التربية و التعليم أمثال أ.عبدالفتاح المغربي و بشرى عبدالرحمن و عبدالحليم علي طه .
كان بحق ملاذا لكل السودانيين يموج على الدوام وفي مختلف الحقب الزمنية بالنشاط ، فيه غرف يقيم بها المبعوثون أول وصولهم ، إلى أن يتعرفوا على البلد ، ويذكر التاريخ للأمام عبدالرحمن المهدي رحمه الله أنه وبعد الأستقلال وفي زيارة له للندن وجده لا يتسع للسودانيين فأشترى ثلاث بيوت متلاصقة في نفس الحي رتلاند قيت و أهداها لحكومة السودان .
تناقلت الأخبار أن حكومة الأنقاذ وفي صفقة سرية باعته مع عدد من العقارات المملوكة لحكومة السودان في لندن مكملة بذلك سلسلة نشاطها المحموم لمحو هذا الوطن الأنسان و الأرض و الممتلكات من الوجود .
( الكاتب ) : من أجل ديمقراطية صحيحة و وطن يسع الجميع يجب أن نغلق صفحة سوداء من تاريخنا أسمها الأنقاذ ...
هي كابوس فظيع و حقبة يجب أن تكون فقط للنسيان .


teetman3@hotmail.com

 

آراء