السودان وحرب البقاء أو الفناء (جزء 2)

 


 

 

حرب البقاء أو الفناء هي البديل الأوحد في غياب الحوار.
برز جلياً اليوم تهدد النظام العالمي بفقدان مصداقيته بعد أن فشل في إثبات حسن النية التي باتت مشكلة تدعو لإصلاحات حتمية يحتاجها كما نري من كثرة الحروب، وانتشار الإرهاب والانقلابات العسكرية، ما عمّق التوتر بين القوى العظمى (والمحاور العالمية)، وعجز عن منع التعدي على الشعوب المستضعفة، بما يبدو استعماراً جديداً.
فتدهور حسن النية والتي شككت في استغلال الدول الكبرى لمصداقيتها في سياساتها للكسب بالهيمنة الاقتصادية، وغيّب ذلك العقلانية أو الحجة (الراشونيل) أساس الحوار البنّاء، وهو محور التبدل الأخلاقي الذي نراه الآن، وسبب الحروب التي استشرت بين عموم الدول.
شملت تداعيات النظام العالمي الجديد الرجوع للتعدي الحدودي بتمدد الأقوياء، وبالتماهي للتحايل لاستغلال ثروات الضعفاء بخلق تعاضد بينها وبين طغمة عسكرية، او بحماية الدكتاتوريات القائمة عليها، بنظرية الغاية تبرر الوسيلة (نظرية الأمير لماكيافيلي).
عندما كان العالم تحكمه القوة، بالوصاية، والاحتلال، والسخرة (العبودية والقنانة "أساس الاقطاع")،
إلى حين الإعلان العالمي لحقوق الانسان بوصية للجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 217 لعام 1948، لحماية الفرد في الجماعة جراء العنف والفاقة والاستغلال ونقض العهود، والتي تمخضت في أزمان بعيدة بالسياسات المجتمعية وبالأديان والتي تبلورت في العصر التنويري بالحوار، وفي حالات الاختلاف بين الفرد والجماعة بالحجة ، وهي أساس الحوار البنّاء.
تعثّر النظام العالمي الآن عند فلسفة "السلام الأبدي" للفيلسوف كانْت في الوصائية على حرية وحقوق الفرد في الجماعة، عقائدية، عرقية او اجتماعية، تعثّر بتغلّب شهية الدول العظمى للتمدد، مبرَّرَةً بفلسفة "الأمير" للفيلسوف "ماكيافيلي".
ولكن تبادلت القوى العظمى التجارب بالتمدد لفيتنام، لأفغانستان وحتى لمحاولة التحليق في مجال بعضها بعضاً مثل روسيا في كوبا على مشارف أمريكا، والصين في المكسيك أو كندا على مشارف أمريكا، وحتى استعمال أمريكا للعراق وإسرائيل على مشارف روسيا والمثل من روسيا استعمال سوريا على مشارف إسرائيل والعراق. ونما التذمر القومي إلى شعوبية دافقة طالت بالأخص الترادف الفرنسي الألماني الذي انتشر في أوروبا وتسبب في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وظل الترادف الفرنسي ألألماني يشكّل بلورة القوة الأوروبية، واليوم يعلن المستشار الألماني شولتز أن ألمانيا قررت تأسيس دفاعها بمبلغ 100 مليار يورو فوراً، وخصصت له 2% سنوياً من الدخل العام، وستضيّق الخناق على روسيا.
روسيا تشعر بعدم مصداقية النظام العالمي في استقطاب دول الاتحاد السوفيتي السابق للتحرّش بروسيا كدولة عظمى، فتكفي فضيحة أمريكا مع دول حلف الناتو في الكاسيت الذي نقل نظام دفاع أوكراني متطور لعراق صدام حسين عام 2002، واشتراك قوات أوكرانيا في حرب العراق. أصبح الناتو معارضاً لضم أوكرانيا بينما تسعى أمريكا لضمها للناتو، والمعارضة الأوكرانية لم يتم التغلب عليها لضم أوكرانيا للناتو. وأوكرانيا مسلّحة نووياً من روسيا، مما يجعل محاولة استقطابها لحلف الناتو بمثابة خنجرٍ مسدد في خاصرة روسيا.
وهكذا استغلت روسيا نقطة ضعف الحجة لتأمين الحوار البناء بالمخادعة في حربها في أوكرانيا لاجتثاث الشعوبية النازية ، وبضربها متحف ذكرى ضحايا المحرقة، وفعلاً أُسقِط في يد الحلفاء بضعف الحجة التي اهملوها كثيراً في التحكيم، سواءاً في غزو العراق، في الانسحاب المتعجّل من أفغانستان أو في خذلان سوريا، او وفي التحرُّش بروسيا عن طريق دول الاتحاد السوفيتي الأسبق.
والضرب على محطة زابوريجيا في جنوب أوكرانيا، ذات المفاعلات الستة، من أكبر المحطات النووية، فيه تهديد صريح على خلق "تشيرنوبيل" ثانية كفيلة بتلويث المنطقة بالإشعاع الذري. هكذا لوّحت روسيا بأنه قد بطل الصبر (كفاية) وقد بيّنت حجّتها أنها لا تطلب ما ليس من حقّها الذي يتطلّب تعريض العالم لدمار نووي.
يبدو موقف روسيا الأخلاقي إذا صحّ تسميته، ثورة على قيادة المبادئ التي انبنت عليها مواثيق الأمم المتحدة ، فعالجت بها قصور النظام الدولي الذي بدأ الكثيرون ينادون بإصلاحه. ذلك القصور أكبر مسبباته هو أن الدول الكبرى التي نالت زعامة العالم بحكم قوتها العسكرية والمادية، تجد نفسها في وجه مقامرات باهظة الثمن، تعارضها فيها شعوبها في كثيرٍ من الأحيان، فتدخل بها الديمقراطية سيفاً مسلطاً عليها، وتضعها في وضع ضعف، وذلك لأن القُوَى التي تعمل خارج القانون لها قوة وامتيازات لا تتحملها الأخلاق العالمية بعد، مثل الفضائح، وعجز القانون والضمير الإنساني من حفظ الأسرار. وليس ما يمنع التعامل معها بإجراءات شكلية، كالتي قامت بها روسيا بنجاح بشراء ذمم القائمين على مواقع الثروة العذراء التي لا زالت تحتاج لاستغلالٍ في إفريقيا وبعض الدول النامية في آسيا وأمريكا الجنوبية، وربما المساعدة في خلق مرتزقة لهم ليساعدوهم في قلب نظام الحكم، من دون محاسبةٍ من شعبها أو من العالم. فما تقوم به ما هو إلا أرادة شعوب، قد تكون غير واعية، ولكنّ ذلك لم تعالجه المواثيق الدولية من قبل. مثالٌ لذلك ما ذكرنا في الجزء الأول من هذا البحث، من مساندة الحكام المتسلطين في إفريقيا وبناء جيوش لهم من المرتزقة نظير حقوق استنباط ثرواتهم، أو كما قامت روسيا في مساعدة حافظ الأسد في سوريا ضد الإسلاميين بمعاونة إيران، بينما تمد إسرائيل بمواقع الإيرانيين في سوريا لضربهم، لأن الإيرانيين يتواجدون هناك مخالفةً للنظام العالمي، وتعامل روسيا خارج النظام العالمي كما ذكرنا يؤهلها ويزكيها لتلعب تلك الخدع مع إيران، فأصبحت علاقتهما معاً مثال "الصديق اللدود" أو "العدو الحميم".
في هذه الحرب يكمن مصير الاتفاقية الغربية مع إيران، وهي في لحظات توقيعها تحت ترجّيات أوروبا لتستمد منها ما حرمت منه من روسيا من مواد الطاقة والغلال بسبب العقوبات عليها، وهو الآن في يد روسيا، إحدى الموقعين، لأن العقوبات الموضوعة عليها لن توافق على رفعها من إيران حتى لا تُفعِّل عقوبات الغرب على روسيا نفسها، لأن مقاطعة المحروقات الروسية عادت على الغرب بزيادة أسعار المحروقات عالمياً مما عكس العقوبة على الغرب.
وإسرائيل بزيارة رئيسها بينيت لروسيا للوساطة، يخطرها بأن وساطته بمباركة أمريكا، ولكنه يعجز أن يبين أنه يرفض تنفيذه العقوبة على روسيا. وهناك تركيا التي سلّحت أعداء روسيا بمقاتلات الدرقدار الفعّالة، وفي نفس الوقت تسمح لروسيا باستعمال مضيق الدردنيل للبحر الأسود ومنه وهو بمثابة رئة للملاحة من شبه جزيرة القِرم حيث موانئها الوحيدة التي تعمل طول العام في مياه غير جامدة.
هذه بعض الأمثلة لفعالية النظام العالمي الحالي ضد نفسه.
فكما شرحنا أعلاه، أن الحوار الذي به تم الاتفاق من جميع الاطراف انبنى على فرض حسن النية بالعقلانية أو الحجة السائدة. إلا أن تجارب العالم أبانت محاسن لنظرية الأمير لم تكن في الحسبان
أما فطنة روسيا لها ليس لعدالتها، بل لقدرتها على التكيُّف دون التدخُّل في ترسيم مكارم الأخلاق، والتي يتّضح مما ذكرنا يفتقده النظام العالمي الحالي، فليست روسيا هي الموجَّه عليها التهديد، إنما على النظام العالمي الذي أثبت عجزه.
لسوء الحظ، العدالة العامة ومكارم الأخلاق تجدها في الإسلام الصحيح فقط، والذي لا يتبعه إلا القِلة بسبب المنقول من شرائعه، إلا أن القرآن حذر فيها الإنسان في حمله إياها كأمانة قبل الحذر من التفريط فيها، وهنا يستبين أن الأمانة هي عدم حرمان أو إتلاف مسببات الحياة والحرية للبشر، للحيوان أو للنبات، وما عدا ذلك فهو أمرٌ شوري بين الناس، لا قانون حاسم يمنع أو يفرض فوقه .
موقف السودان:
مبايعة دقلو والوفد المرافق بما فيه من ممثّلٍ لحركات التحرر في دارفور، لم تقدّم عن السودان أي سندٍ تعتد به روسيا، فهي تتعامل حرفياً مع الأفراد المرجفين الذين يتاجرون بأماناتهم كالانقلابيين في إفريقيا والدول المتخلفة، حيث لهم ثمنٌ يُشتَروْن به لحمايتهم ونصحهم قانونياً، وتدريعهم بوكالة شركات روسية تخدمهم سراً عن روسيا، وروسيا لديها المافيا الروسية الشهيرة وهي تخدّمها كأي دولة كبرى لها مافية.
المواقف مع ما يُسمّى بأصدقاء السودان
السودان الآن ليس تحت النظام العالمي الحديث فقد خالف كل بنوده بتحكم السلاح فوق إرادة الشعب، وانتشار الفساد والجريمة المنظمة. دول الجوار، يستمرئون خرق النظام العالمي في حق السودان دون المساس بهم، لنهبه والذي بدأ بالفعل دون حركة من النظام العالمي. كذلك الحال في كثيرٍ من الدول الإفريقية فقط بمستويات أقل من حجم النهب المقنن للسودان. يعتمد القائمون على تمزق النسيج السوداني في عهد سمسرة الرقيق، وإحيائه بواسطة النظام السابق الذي فعّل ذلك عن طريق إثارة النعرة العنصرية وعمل مليشيات الرق الإسلامي، بإحياء القبلية وقتل الصحوة الدينية بالتسييس الديني والصوفية الدجّالة، فقاموا بتهجير أعراق من السودان للخارج وتوطين أعراق من الخارج في السودان، وليست الهجرة من السودان والهجرة المعاكسة عيباً في ذاتها إذا ما تمت بالقانون الذي يتراضاه أصحاب الحق وهم المواطنون الوارثون للسودان، ولا مانع من استيعاب المزيد لمصلحة الجميع. إنما حرمان أي فرد من حق الحياة والتمتع بما وهب الله تعالى للبشر، فهذه خيانة الأمانة والحكومة السودانية الحالية ومن يساندها من العسكريين، ومن المواطنين ومن الدول المجاورة إمارتهم عليها لا حلّ لها إلا بإزالتها بكل ما يلزم، وهو حق البقاء وحده، الحرب حتى البقاء أو الفناء.
من دول الجوار، يبدو من هذه التحاليل أن السعودية هي أقرب من يمكن أن يثبت حسن النية بتوبة وليِّ عهدها محمد بن سلمان بترفّعه من المنقول من التشريعات، فهو بذا أقرب للأمانة التي لا يوجد الكثير ممن اتّبعها.
ومصر هي صديقة لروسيا، وقد يكون في إعادة النظر في حمل الأمانة ما يساعد على تعاونها مع السودان والسعودية في رسم نظامٍ عالميٍ جديد على نطاق ما فاءت به روسيا.
والخليج ضد التسييس الديني، ولكنه أسير المنقول من التشريعات وذلك لا يبعده كثيراً من عيوب التسييس الديني، فهناك التفرقة العنصرية وهي داء الشعوبية.
داء الشعوبية:
هذا هو المتسبب في فشل النظام العالمي الحالي والخطر الحقيقي الذي يتهدد العالم أجمع، أولهما أوروبا التي بدأ في تفكيك وحدتها، وفي أمريكا التي تعاني من انقسام تسبب به عرّاب الشعوبية والتفرقة العنصرية دونالد ترمب، وصاحب التصريحات والنظريات الشاذة التي عمّقت الخلل في النظام العالمي، كاقتراحه تسيير قطع بحرية مقاتلة تحمل علم الصين لضرب روسيا لخلق فتنة بينهما.هه!
داء الشعوبية من أسباب حروب أوروبا منذ الأزل ويزداد تفاقماً، ولم يكن باقي العالم ليعلم عنه إلا بعد الانقلاب العسكري للضباط الأحرار بمصر بقيادة جمال عبد الناصر الذي بعده استشرت العنصرية والشعوبية كالسرطان في الدول العربية والدول المتداخلة معها.
والشعوبية أسوأ فيروس بدأ تكاثره وباءً في السودان. وتسليح الشعب لحماية حقوقه بنفسه هو التجربة الوحيدة التي يمكن أن تنقذ السودان كما أنقذت أمريكا، كما وأثبت نجاح دوره عندما اعتدى الشعوبيون على الروتاندا في الكابيتول في انقسامٍ خطير، إلا أن النظام الأمريكي برهن ثباته بذلك الأساس القوي من الإرادة الوطنية.

izcorpizcorp@yahoo.co.uk
/////////////////////////

 

آراء