السودان ولعبة الفرصة الأخيرة في معتركات السياسة
دخل البروفيسور الحردلو علي فصل طلابه في جامعة الخرطوم قبل يوم من الإمتحان عبوسا قمطريرا وحائط برلين مسجي علي عتبة التاريخ، وقال لهم ستتضمن ورقة الإمتحان سؤالا واحدا وخرج كظيما محزونا.وفرح الطلاب لأن البروفيسور الحردلو قد كشف لهم الإمتحان علي غير عادته. وبالفعل وفي صبيحة اليوم التالي جاءت السؤال: حلل أسباب إنهيار الإتحاد السوفيتي.وفي ذات العام 1989 ضجت مساجد العاصمة إبتهاجا بنصر الغرب وأستطالت خطب الإئمة فرحا بسقوط دولة الشيوعية والإلحاد مشيرين أن الله أظهر آياته وقدرته ومعجزاته، وتباروا في تلاوة ما شاءوا من آيات سورة الروم التي بشرت المسلمين بنصر دولة الروم في أدني الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين. وأخرج د. التيجاني قبلها في تأملاته العميقة في فلسفة السياسة سفرا يوضح فيها حكمة التبشير بنصر الروم بعد هزيمة وغلب، وقال في تأملاته إن الله أراد أن يصرف نظر المؤمنين الي آفاق السياسة الخارجية وبناء التحالفات بعد دورة من الإستغراق في بناء الأمة والدولة في الداخل. أصوات قليلة أنتبهت الي الخلل المريع في توازن القوي الدولية بإنهيار الإتحاد السوفيتي وفسرت رؤيتها استنادا علي مبدأ التدافع القرآني وليس الفرح بسقوط دولة الإلحاد، وحذرت هذه الأصوات من بروز دولة القطبية الواحدة في السياسة الدولية، مما يعني مزيدا من الهيمنة والسيطرة علي مصائر العالم. كان حاج نور يقول في منبر جامعة الخرطوم فرحا: سقط صنم الإشتراكية والإلحاد. وكان الترابي يقول في منابره بعد أن فشل الإنقلاب الشيوعي التصحيحي ضد غورباتشوف: لقد هبت نفحة أنعشت الصدر بعودة الشيوعية الي روسيا لأنها جزء من ميزان التدافع مع الغرب. وكانت النخبة الإسلامية منقسمة بين خطاب حاج نور الذي بشر بسقوط صنم الإلحاد وبين أنطماس أمل الترابي الذي كان يدرك مآلات الإختلال في موازيين القوة الدولية وخطر إنفراد أمريكا وهيمنتها علي العالم. وبعد مضي تلك المرحلة كان غازي صلاح الدين يقول ضاحكا متهكما علي مثالية الطرح آنذاك : نعم لقد كنا أغرارا في السياسة الدولية.وضرب التيه النخبة الشيوعية في السودان وتلكأت علي سنن التأريخ ومقتضيات التغيير وأستعصت علي التجديد، وبدلا من تبني برنامج أشتراكي علماني مبرأ من وساوس الإلحاد في السياسة السودانية بمرجعيات متعددة منها النظرية الماركسية عادت تشرب الحميا من نفس الكأس القديمة وتستمع لصدي صوتها المشروخ علي مسرح التاريخ.وأفتقد التيار اليساري في السودان مفكرا صميما مثل أنتوني غيدن وهو يفترع مع بلير طريقا ثالثا في بريطانيا. وفي الغرب شحذ فرانسيس فوكوياما فكره وأستل قلمه وأخرج كتابه الشهير نهاية التاريخ الذي أكد فيه أن إنتصار مشروع الليبرالية الرأسمالية علي النموذج الشيوعي والإشتراكي يمثل نهاية التاريخ ، وفي تلك الأصداء خرجت الإستراتيجية القومية الشاملة وهي تبشر في فصل السياسة الخارجية التي يجب أن تدار بعزة وإستقلال ونصرة المظلوم بفرضية أنتهت الي بيع الأماني الخلب ببروز قطبية ثنائية آخذة في التشكل،فأبتلعنا الحصرم وفاتنا بلح المدينة وعنب الشام.
كنت أقف علي أمشاط قدمي وأنا أستمع الي الرئيس الروسي السابق غورباتشوف صاحب نظرية البروسترويكا والجلاسنوست في أروقة جامعة جورج ماسون بفريجينا عام 2007 وهو يخاطب حوالي 800 طالب ومهتم بقضايا السياسة الدولية ضمن البرنامج السنوي لشعبة التاريخ في الجامعة.وقد أدهشني غورباتشوف وهو يدافع عن خطواته الإصلاحية التي أتخذها وأدت الي تفكيك منظومة الدول الإشتراكية،وقال أنها كانت خطوة ضرورية لربح المستقبل دون التأسي علي الماضي، و حذر الغرب في محاضرته تلك من الجنوح في التعامل مع الصين وإبطاء خطوات الإصلاح الداخلي في روسيا.
عندما كان يقف غورباتشوف في جامعة جورج ميسون في أمريكا وهو يخاطب الطلاب عن رؤاه الإصلاحية كان جورج كينان أشهر دبلوماسي في القرن العشرين وصاحب نظرية الإحتواء يرقد مريضا عن عمر يناهز الخامسة والتسعين وهو يمضغ مرارة التنكر وغمط الحق في وزارة الخارجية الأمريكية. في عام 2005 توفي جورج كينان صاحب أشهر وأطول رسالة تلغرام في تاريخ الدبلوماسية العالمية في القرن العشرين عن عمر يناهز 101 عاما مخلفا وراءه تجربة حياة مليئة بالتأمل وزاخرة بالعظة والإعتبار. مات كينان وهو الأب الشرعي لسياسة الإحتواء الشهيرة ضد الإتحاد السوفيتي ولم يحظ بالتكريم اللائق به في أروقة وزارة الخارجية الأمريكية إذ كان يصفه البعص بالاكاديمي والمتحذلق. ولكن رغم غمط الحق الذي قاساه كينان إلا أنه أصبح لأسمه صيرورة ورنين في أروقة الأكاديميات والدراسات لأن تقريره المطول والذي حملته رسالة التلغرام من موسكو الي واشنطون أصبح هو الأساس الذي بنيت عليه سياسة الإحتواء الشهيرة.جاء كينان الي موسكو عام 1933 ضمن الفريق الأول لتأسيس أول سفارة لواشنطون في موسكو، وتقلد منصب القائم بالأعمال وكانت تؤرقه سياسة الصداقة التي كان يتبعها روزفلت تجاه ستالين فكتب بعد وفاة روزفلت ما أشتهر بأنه أطول رسالة تلغرام مكونة من 8 ألف كلمة شرح فيها رؤيته لسياسات وتوجهات الإتحاد السوفيتي الدولية، وبني فرضيته الأساسية علي أن الإتحاد السوفيتي لا يؤمن مطلقا بسياسة التعايش السلمي مع الغرب، وأن سياسة أمنه القومي ستقوم علي توسيع قاعدة نفوذه الدولية والسعي بشتي السبل لإضعاف الغرب وتدميره ومقاومة نفوذه في المستعمرات الخارجية ، وقال إن الإتحاد السوفيتي لا يؤمن بقوة المنطق ولكن يحترم منطق القوة وهو كثير التراجع عندما تكون القوة ضاغطة. وتوقع أن يستهدف الإتحاد السوفيتي مد نفوذه الدولي والإقليمي تجاه تركيا وإيران وأقترح لتحجيم تلك السياسة بناء شبكة تحالفات من بؤر المقاومة العالمية لإحتواء تمدد نفوذ الإتحاد السوفيتي إقليميا ودوليا. وعندما جاء الرئيس ترومان الي البيت الأبيض وفي ظل تهديدات ستالين ضد إيران وتركيا تبنت الولايات المتحدة رسميا سياسة الإحتواء التي أصبحت المعلم البارز لفترة الحرب الباردة، والتي بسببها حظي السودان بالأفضلية في برنامج العون الخارجي تجاه أفريقيا وظل السودان أكبر دولة متلقية للعون الأجنبي من الغرب في أفريقيا جنوب الصحراء لإستراتيجية موقعه في منطقة القرن الأفريقي.وهي ذات الفترة التي أستغلها الفريق عبود ومفكر النظام أحمد خير وزير الخارجية في بناء علاقات إيجابية مع المعسكرين وفتح أبواب السودان للمعونات الأجنبية، وعليه لا غرو أن تكون أنجح الزيارات الخارجية لرئيس سوداني علي مدي التاريخ الحديث هي زيارات الفريق عبود الي واشنطون وبريطانيا وألمانيا حيث حظي بإستقبالات شعبية حاشدة، ولم يكن ذلك بسبب ذكاء أستثنائي ولكنه بموجب مقتضيات السياسة الدولية وأنتهاز السوانح في ذلك الظرف التاريخي الحرج أثناء الحرب الباردة حيث كان الجميع يتسابقون لخطبة ود السودان. وفي ذات السياق فقد كشف الصديق والباحث الألماني الحاذق في شأن العلاقات الألمانية السودانية رومان ديكرت أن وزارة الخارجية في ألمانيا الغربية رفضت طلبا من الرئيس الألماني للتدخل مع الرئيس عبود لمراجعة سياسته تجاه طرد المبشرين إستجابة لطلب من كبار قادة الكنائس الألمانية. وكان تعليق دبلوماسي صغير علي خطاب الرئيس الألماني الموجه لوزير الخارجية أن مجرد تقديم هذا الطلب للرئيس عبود سيضر بعلاقتنا مع السودان في هذا الظرف العصيب لأن ألمانيا الغربية كان يهمها ألا يعترف السودان بألمانيا الشرقية وليس الإهتمام بطرد المبشرين. إضافة الي ذلك كشف الباحث ديكرت عن سر عتيد يتوسد الوثائق الألمانية وهو أن وزارة الخارجية الألمانية عن طريق سفارتها في الخرطوم بذلت أموالا سخية لحزب الأمة لإسقاط حكومة سر الختم الخليفة وهي ما تسمي بحكومة جبهة الهيئات التي سيطر عليه الحزب الشيوعي. وكان هدف الحكومة الألمانية حينها وقف تمدد النفوذ اليساري في السودان ومنع سيطرته علي السلطة السياسية وقطع شريان تحالفاته الإقليمية والدولية، فكان أن قررت تمويل حزب الأمة لجلب أنصاره من قري وأرياف النيل الأبيض وإشعال المظاهرات لإسقاط حكومة سر الختم الخليفة. ولم يكتف الباحث رومان ديكرت بالوقوف علي التقارير الرسمية التي أصبحت متاحة للباحثين بعد مرور الفترة القانونية حسب قانون حفظ المعلومات والوثائق الرسمية الألماني بل إطلع بمحض الصدفة علي المذكرات الشخصية للسفير الألماني الذي اشرف علي عملية التمويل ومتابعة إسقاط حكومة سر الختم الخليفة. ومازلت هذه المذكرات في حرز الأسرة الشخصي ولم تترجم أو تنشر بعد.وقد صدق حدس السياسة الخارجية الألمانية إذ بعد مرور أربعة أعوام فقط أعترفت حكومة جعفر نميري بدولة ألمانيا الشرقية، ولم تكتف حكومة نميري بذلك بل اسرعت بقطع العلاقات أيضا بعد الحرب العربية مع إسرائيل الأمر الذي دفع عبدالناصر لسؤال الرئيس نميري عن حكمة ذلك القرار وفي الوقت الذي أحتفظت فيه مصر بعلاقتها مع ألمانيا الغربية.
معلمان يسمان توجهات السياسة الدولية في الوقت الراهن هما: خروج الولايات المتحدة من نادي الدول المستورد للنفط الي مرتبة الدولة المكتفية وبعد ست سنوات ستنافس المملكة العربية السعودية علي لقب الدولة الأكثر إنتاجا وتصديرا للنفط في العالم نسبة لإستخراج النفط الصخري وتطوير تكنلوجيا فعالة ومتطورة. السمة البارزة الأخري هي عودة الجغرافيا السياسية الي أولويات السياسة الخارجية. هذان المعلمان سيحفران عميقا مجري السياسة الدولية لعقود قادمة. ومع بوادر هذه الإرهاصات التي تلوح في الأفق فإن إكتفاء الولايات المتحدة حاليا من النفط وقد وصل أنتاجها من النفط الي ثمانية ملايين برميل في اليوم وسيصل الي عشرة مليون العام القادم يعني زيادة نسبة نمو الإقتصاد الأمريكي بنسبة 1,3% في العام. سيؤدي خفض اسعار الطاقة الي تأثيرات إيجابية علي أسعار السلع والخدمات إذ سيوفر قطاع الكهرباء 30 بليون دولار في العام. يرافق ذلك في المقابل توسعا في إنتاج الغاز الذي سيصل الي 30 مليون برميل في العام وستتجه للتصدير أيضا . من أهم الآثار السياسية المترتبة علي أكتشفات البترول الصخري ونقل أمريكا الي مصاف نادي المصدرة للنفط هو خروج الشرق الأوسط من حزام الأهمية الإستراتيجية الحيوية للولايات المتحدة ، وبالتالي فإن هذا الإقليم لم يعد يحظي بالأهمية الإستراتيجية التي كان يتمتع بها في طيلة العقود الخمس الماضية، وستتركز أهمية الشرق الأوسط علي أمن إسرائيل وليس بإعتباره المصدر الحيوي للطاقة في الغرب.وستلتزم واشنطون الي حين بحماية منطقة دول الخليج ضد اي مهددات حقيقية من إيران وحلفائها في المنطقة. أول الآثار المترتبة علي هذا التغيير هو التحول الإستراتيجي للقوة الأمريكية من الشرق الأوسط الي آسيا الباسيفيكية لإحتواء تمدد نفوذ الصين العسكري والسياسي في المنطقة خاصة مع تصاعد التوتر بين الصين واليابان وظهور النزعة الوطنية في السياسة اليابانية ومحاولة إستعادة بناء ترسانة دفاعية جديدة لمواجهة التهديدات الصينية.
في المقابل عادت الي واجهة السياسة الدولة صراعات الجغرافيا السياسية مع غزو روسيا للقرم وأشتعال التوترات في أوكرانيا والحرب في العراق وسوريا ولبنان وليبيا. أدي سقوط حائط برلين وإنهيار الإتحاد السوفيتي الي تراجع أهمية الجغرافية السياسية في إستراتيجيات السياسة الدولية وحل محلها أجندات حقوق الإنسان والحكومة الرشيدة والتغير المناخي والتنمية المستدامة. وكان فوكوياما يقول أن أولويات الرأسمالية الليبرالية هو نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان وبناء نظام عالمي ديمقراطي يعزز الشراكات العولمية والمكاسب المشتركة يكون الغرب هو الرابح الأكبر في هذه الصفقة التاريخية. ولكن مع إشتعال الحروب الإقليمية بالقرب من أوروبا وبناء تحالفات جديدة خاصة من دول مثل الصين روسيا وإيران لإحتواء تمدد النفود الغربي والهيمنة الأمريكية أعاد للواجهة الأهمية الحيوية لمعادلات الجغرافية السياسية، وفي هدا السياق ستتضمحل أهمية الأجندة الموضوعية التي سادت حقل السياسة الدولية مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها. ولعل أهمية الجغرافية السياسية وتفوقها في الأولوية علي نشر قيم الديمقراطية باتت أكثر وضوحا في النموذج المصري واليمني والتقارب الأمريكي الإيراني لمحاربة داعش والسيناريوهات الجارية في ليبيا الآن.
في ظل هذه المقاربة يعتبر السودان أكثر الرابحين من تحولات أجندة السياسية الدولية والعودة الي مربع الجغرافيا السياسية من جديد لأن موقعه الجيوإستراتيجي هو الذي ميز السودان من قبل في موازين السياسية الدولية، ورغم أنفصال جنوب السودان وتوترات حروب الأطراف إلا أن السودان ما يزال يختزن مقومات القيادة الإقليمية للمنطقة مع أثيوبيا دون تقاطعات أو تعارضات حادة. ومع أنسحاب واشنطون التدريجي من المنطقة وتغير موقع الشرق الأوسط من حيث الأهمية الحيوية والإستراتيجية للولايات المتحدة بعد إكتفائها الذاتي من النفط وإعادة تركيزها السياسي والعسكري في آسيا الباسيفكية ومحاولات بروز نظام إقليمي عربي جديد يرتكز علي مقاومة النفوذ الشيعي ومحاربة الإسلام السياسي في المنطقة فإن أهمية السودان السياسية آخذة في التعاظم لأنه يمثل القاسم المشترك في رقعة شطرنج السياسية الإقليمية خاصة إذا نجح في الخروج ناجيا من نفق المحاور المتصارعة سيما في وجود معسكر آخر داعم للمقاومة الفلسطينية وداعي لترسيخ قاعدة التنافس الديمقراطي الحر بقيادة قطر وتركيا. وقد وعت بعض القوي الدولية الدرس عندما حاولت تجاوز السودان وأجراء تسويات شاملة في ملف جنوب السودان، فإكتشفت أن السودان عصي علي التجاوز. ومع تعزيز نفود السودان الإقليمي و إستقرار أوضاعه الإقتصادية وأنجاز التسوية السياسية المتوقعة وخروجه آمنا من مستنقع المحاور المتصارعة فإن السودان سيكون الرقم الأول في المنطقة من حيث أهمية معادلات الجغرافيا السياسية.إنها لعبة الفرصة الأخيرة بالنسبة للسودان خاصة وأن رياح التغيير بدأت تهب في أشرعة السياسة الدولية مما يتطلب مزيد من التفكير العميق لإنجاز المقاربة المطلوبة وأختراع دور جدي للسودان يتناسب واقعيا مع أمكاناته وقدراته وتطلعاته ومصلحته القومي
kha_daf@yahoo.com