السياسة الكلولونيالية في مجال محو الأمية في السودان الإنجليزي – المصري بين عامي 1946 و1956م
بدر الدين حامد الهاشمي
10 March, 2023
10 March, 2023
السياسة الكلولونيالية في مجال محو الأمية في السودان الإنجليزي – المصري بين عامي 1946 و1956م
أيريس سيري – هيرش Iris Seri – Hersch
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة وتلخيص لبعض ما ورد بمقال د. أيريس سيري – هيرش عن محو الأمية نُشِرَ عام 2011م في العدد الثالث من المجلة الأكاديمية البريطانية "تاريخ التعليم History of Education"، المجلد رقم 40، صفحات 333 – 356. وعنوان المقال الكامل (الذي آثرنا اختصاره) هو: Towards social progress and post – imperial modernity? Colonial politics of literacy in the Anglo -Egyptian Sudan, 1946 – 1956.. ونركز في هذا المقال على ما ورد في مقال الكاتبة عن تاريخ "دار النشر" ومجلتي "الصبيان" و"عافية".
تعمل سيري – هيرش الكاتبة أستاذة مساعدة في جامعة إيكس - مارسيليا بفرنسا. وهي متخصصة في التاريخ الحديث للسودان وفلسطين / إسرائيل. وكانت اطروحتها للدكتوراه عن تاريخ التعليم بالسودان بين عامي 1945 و1960م، ومنها استلت عدداً من الأوراق ونشرتها في عدد من الدوريات العالمية. وسبق لنا ترجمة عدد من تلك المقالات مثل "حول كتاب "تاريخ السودان" للمدارس الأولية بين عامي 1949 و1958م، والتعليم في السودان فِي إِبَّانِ سنوات الاستعمار (1900 – 1957م)؛ ومقالات متنوعة أخرى مثل مقال "مناهضة جار مسيحي: تصورات السودانيين عن إثيوبيا (الحبشة) في عهود المهدية الأولى"، و"إعادة التفكير في الدراسات السودانية بعد انفصال جنوب السودان عن شماله". وكانت الكاتبة قد فازت في عام 2013م بجائزة معهد الدراسات الإسلامية والعالم الإسلامي لأفضل أطروحة باللغة الفرنسية عن العالم الإسلامي.
ضمنت الكاتبة مقالها خريطة للسودان الإنجليزي - المصري، مع عدد من الصور لعددين قديمين من مجلة "الصبيان" ومجلة ربع سنوية كان يصدرها مكتب تعليم دارفور اسمها "عافية"، وبطاقة بريدية من "بخت الرضا" في الأربعينيات والخمسينيات كتب عليه شعار "كل واحد يعلم واحداً".
المترجم.
******** ********* *******
ملخص المقال: تناول هذا المقال سياسة محو الأمية التي وُضِعَتْ في أواخر سنوات الحكم الكلولونيالي للسودان. وقد اِسْتَقت الكاتبة المعلومات التي وردت بالمقال من مصادر أرشيفية باللغتين العربية والانجليزية لم يتم الاستشهاد بها من قبل. ويدور المقال حول سؤالين هامين: ما هي أغراض واستخدامات محو الأمية في نظر السلطات الكولونيالية؟ وما هي الوسائل التي اُسْتُخْدِمَتْ لنشر مهارات القراءة والكتابة في أوساط الشعب السوداني؟ ويذهب المقال إلى أن فِرَق محو الأمية المختلطة (المكونة من خبراء التعليم البريطانيين والسودانيين)، كانت ترى – عند وضع تلك المسائل في سياق السياسة البريطانية الامبريالية في أفريقيا - أن محو الأمية هو أداة بالغة الأهمية لتعزيز التقدم الاجتماعي والحداثة السياسية. ويركز المقال في تحليلاته على حملات محو الأمية، وما ورد بشأنها من أدبيات منشورة، بحسبانها وسائل تجريبية تمت الاستفادة منها لتعزيز واستدامة محو الأمية العربية في شمال السودان. ويمكن من خلال تسليط الضوء على المجلات التي أُصْدِرَتْ لتوزع في كافة أرجاء البلاد، أو تلك التي المخصصة لتلاميذ إقليم معين، فهم دور تلك المجلات المتعدد الأوجه كأدوات تعليمية وتربوية، وكأوعية للتصورات السياسية والثقافية والأيديولوجية، وللشبكات الاجتماعية، فضلاً عن اعتبارها منابر عامة عبر الشباب السودانيون المتعلمون فيها عن أنفسهم.
********* ********* *********
بخت الرضا : ذكر فينسنت ل. غريفث (عميد معهد بخت الرضا*. المترجم) في صفحة 139 من كتاب له صدر بعنوان "تجربة في التعليم" بأنه كان هناك في عام افتتاح "مكتب النشر" نحو 10,000 من الأطفال الذين يهجرون مقاعد الدراسة في المرحلتين الأولية (elementary) والصغرى (subgrade) كل عام، وهم لا يملكون إلا القليل من القدرة على الكتابة باللغة العربية؛ ولم تتح لمعظمهم فرصة القراءة مرة أخرى. وكتب أيضاً: "قد يظن أحد "الغرباء" بأننا فقدنا صوابنا بافتتاحنا لـ "مكتب النشر". ولم تنل عمليتي القراءة أو بناء الشخصية المزيد من الاهتمام، وكان أقصى ما حققه النظام التعليمي هو اختيار أقل من 10% من التلاميذ لتلقي المزيد من التعليم في المدارس الوسطى والثانوية".
ودفعت ندرة الكتب العربية بالسودان، وخاصة عدم وجود أي كتب خاصة بالأطفال فيه، إلى انتاج كتب أطفال تناسب الصبية السودانيين. وكان غريفث قد ذكر بأنه تمت تجربة 119 من كتب الأطفال المصرية في "أندية التلاميذ " بالسودان، غير أن تباين الخلفيات الثقافية بين التلاميذ المصريين والسودانيين، وعلو مستوى لغة تلك الكتب، جعلت التلاميذ السودانيين يصدون عنها. فتولى "مكتب النشر" مهمة كتابة ونشر مجلات للصغار لمنع ارتداد التلاميذ للأمية. وعملت المجلات التي صدرت على مستوى الدولة، وعلى مستوى المديريات، على حَدٍّ سَواء، كأساليب مميزة للتوزيع واستدامة مهارات معرفة القراءة والكتابة في أواخر الفترة الكولونيالية بالسودان. وكان وصول المواد المكتوبة لمناطق كثيرة في البلاد محدوداً للغاية، إذ أنها كانت تفتقر إلى وسائل مواصلات جيدة. وكانت أعداد ما يُنْشَرُ محلياً من المطبوعات قليلاً جداً حتى تم إنشاء مكتب النشر بالخرطوم. وبالإضافة إلى ذلك، كانت المطبوعات المحلية والأجنبية تخضع لرقابة مفرطة الصرامة مِنْ قِبَل السلطات البريطانية. فعلى سبيل المثال كانت تلك السلطات قد حددت العدد الأقصى للنسخ التي يمكن لكل جريدة أن توزعها (فعلى سبيل المثال حددت السلطات نشر 1,700 نسخة من "حضارة السودان" في عام 1938م؛ و1,500 نسخة من "الفجر" في عام 1935م؛ و2,500 نسخة من "النيل"). وحظرت السلطات الحاكمة إدخال مطبوعة "السودان" الأسبوعية التي كانت يصدرها من مصر تاجر سوداني في الفترة بين ديسمبر 1944 إلى يونيو 1945م بدعوى أنها كانت تساند الموقف المصري.
لقد أدت مجلات الشباب مجموعةً متنوعةً من الوظائف التي تجاوزت الجوانب التقنية والتربوية لممارسة مهارات القراءة والكتابة باللغة العربية. لقد كانت تلك المجلات بمثابة الأوعية التي حملت تصورات اجتماعية وسياسية وايديولوجية كانت تهدف في غالب الأحايين إلى تغيير وتحويل تصورات القراء وسلوكهم. وكانت تمثل أيضاً "شبكات اجتماعية" تغذيها الاتصالات المكثفة بين المحرر والقراء، وفيما بين القراء أنفسهم. وفي نهاية المطاف، مثلت تلك المجلات عند الشباب من متعلمي السودان منصات ومنابر عامة للتعبير. وسأعطي هنا مثالين لتلك التعددية الوظيفية هما مجلة "الصبيان" الأسبوعية، التي كانت توزع في كل أنحاء السودان، ومجلة "العافية" الفصلية، التي كانت توزع في المدارس بدارفور. (ذكرت الكاتبة في الحاشية بأنه كانت هناك أيضاً مجلة للأطفال تصدر في شرق السودان، وأخرى في جنوب السودان. المترجم).
********* ********* *********
مجلة الصبيان: صدرت مجلة "الصبيان" لأول مرة في ديسمبر 1946م بحسبانها مجلةً أسبوعية مخصصة لتلاميذ المدارس الأولية السابقين، الذين كانوا لا يجدون كتباً يقرؤونها. وكان لظهورها أهمية نوعية وكمية – إذ أنها كانت أول مجلة أطفال في العالم العربي، بحسب ما ذكره عبد الرحمن علي طه في ص 100 من كتابه – (ذكرت بعض المصادر المصرية أن مصر أصدرت عام 1870م أول مجلة عربية للطفل عنوانها "روضة المدارس المصرية" بإشراف رفاعة الطهطاوي. انظر الرابط http://www.alwasatnews.com/news/444295.html . المترجم). وكان توزيع مجلة الصبيان قد ارتفع من 10,000 نسخة في يناير 1947م إلى 20,000 نسخة في 1953م، وهي أعداد كبيرة مقارنةً بتوزيع معظم الصحف السودانية في تلك السنوات، الذي كان لا يتجاوز 5,000 نسخة. وكان التربويون الكولونياليون قد سعوا لتوزيع تلك المجلة بصورة موسعة جدا، لدرجة أنها صارت تصدر بخسائر مالية. وكانت توزع في المدارس الوسطى والمحلات التجارية في كل أرجاء البلاد. ووجدت "الصبيان" ترحيباً كبيراً عند السودانيين من كل الأعمار، ولا غَرْوَ، إذ أنها كانت تحتوي على مواضيع متنوعة شملت الأخبار المحلية والعالمية، والحكايات المسلية، والقصص المصورة، وبعض الألعاب والألغاز، والرسومات الكاريكاتورية، والقصص القرآنية والتاريخية والعلمية، وتلك التي تحض على مكارم الأخلاق، ورسائل من القراء وردود المحرر عليها. وكانت المجلة تحتوي على صفحتين للبنات (فيهما نصائح تربوية وتعليمية، وقصص عن عظيمات النساء، ودروس في طبخ الطعام والخياطة). وقد أخذت تلك المحتويات من مجلة الصبيان، العدد رقم 21 الصادر في 26 سبتمبر 1947م (وهو العدد الوحيد من المجلة الذي صدر قبل عام 1956م، والذي أتيحت لي فرصة تفحصه). وحملت أعمدة "الصبيان" المتنوعة آراءً سياسية قد تظهر أنها مجلة مستقلة سياسياً عن حكومة السودان. فعلى سبيل المثال، كانت الحكومة تعرض موقفها من القضايا السياسية السودانية كموقف موحد من بين العديد من وجهات النظر المتضاربة. ونشرت "الصبيان" في عددها المذكور أعلاه في باب الأخبار المحلية كل الانتقادات التي وجهتها صحف الخرطوم والحكومة المصرية ضد خطط بريطانيا لقيام سياسة برلمانية، وضد "سودنة" الإدارة. ونشرت كذلك في زاوية عنوانها "مسرح البطولة" مقالاً عن الرئيس الأمريكي توماس وودرو ويلسون (1856 – 1924م)، ومبادئه الأربعة عشر، التي كان من بينها مبدأ حق تقرير المصير. ونقل ذلك العمود للقراء صورةً للقارة الأوروبية وهي ضعيفة تعاني من الدمار الذي أوقعته عليها حربان عالميتان. وتسلط هذه العناصر المذهلة حقاً الضوء مجدداً على تعقيد الخطابات الاستعمارية البريطانية في السودان وعدم تجانسها، وكذلك تبين التناقضات بين التوجهات الليبرالية النظرية والممارسات السياسية الأكثر سلطوية. وإذا كانت تلك المجلة قد رفضت أن تعمل بحسبانها أداةً في يد الدعاية الحكومية، فإنها لم تدخر وسعاً في توجيه سهام النقد أيضاً نحو الفاعلين في السياسة السودانية. فلم تكف "الصبيان" عن انتقاد الأحزاب السياسية الكبيرة والقاء اللوم عليها لدورها في إشعال نيران التَحَزُّب والتشَيّع والشقاق، والعجز عن تشكيل قيادة سودانية موحدة تتولى التعامل مع المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة (أشارت الكاتبة في الحاشية إلى إرسال الساسة الاتحاديين (الأشقاء) والاستقلالين (الأمة) وفدين منفصلين إلى نيويورك، وذلك بعد فشل مجلس الأمن في حل النزاع بين بريطانيا ومصر حول "مسألة السودان" في سبتمبر 1947م. وتهدف المقالات المنشورة الأخرى - بشكل صريح أو خفي - إلى تعزيز التغييرات في المواقف الفردية والجماعية. واستخدمت المجلة لذلك الغرض قصتين قصيرتين لشخصيات معادية للبطولة للتأكيد على السمات السلبية مثل الغباوة، وعدم الانتباه، والغرور، والجهل، وانعدام المرونة والتصلب العقلي، وعدم القدرة على التكيف مع الظروف الجديدة. كانت تلك أخطاء ومثالب أخلاقية ينبغي تجنبها وحظرها إن أراد المرء أن يعيش حياة ناجحة. وكانت القصتان القصيرتان بعنوان: "التاجر والأبله" و"الأبله والداهية". وتم في العديد من أعمدة المجلة تشجيع القدرة على التفكير والجدل بطريقة نقدية، والنظر إلى كل ذلك بشكل إيجابي. فعلى سبيل المثال حض أحد الكتاب في مقال بذلك العدد من المجلة القارئ أن يبحث بنفسه في شأن معهد التربية ببخت الرضا، وأن يُكَوَّنَ رأيه الخاص عنه. وفي موضع أخر، رحب محرر المجلة بأي نقد بناء للمجلة يأتي من أي قارئ لها. ويحسبانها أداةً لتنمية المجتمع، جاءت في ذلك العدد مقالات عن تعليم الأطفال وصناعة الخزف بالسودان، وفوائد مكننة الزراعة (خاصة للخيش / الجوت والقنب) والصناعات المحلية الخفيفة.
وعملت المجلة كشبكة اجتماعية من خلال زاوية اسمها "عداد البريد"، وصفحات أخرى مختصة بالألعاب والألغاز والنكات التي يرسلها القراء. ومكنت وسائل الإعلام المكتوبة من تكوين مجتمع متخيل من الشباب المتعلمين يعيش في أجزاء مختلفة من السودان من خلال إقامة اتصالات بين مُرسِل transmitter واحد (هو المحرر) وأجهزة استقبال متعددة (هم القراء)، وبين القراء أنفسهم. وتشارك مجتمع القراء هذا "على الصعيد الوطني" في القصص والطرائف والتجارب الشخصية على نطاق غير مسبوق. واُسْتُقْبِلَتْ مجلة "الصبيان" مِنْ قِبَل مجتمع متعلم بصورة أوسع بكثير من أي منشورات سودانية معاصرة أخرى لثلاثة أسباب: توزيعها الأعلى والأوسع انتشاراً، وسهولة مستوى لغتها العربية، وتنوع محتوياتها. وفيما وراء تبادل الرسائل القصيرة عملت مجلة "الصبيان" في كثير من الأحيان باعتبارها منبراً للتعبير عن آراء المتعلمين الشباب. وكان محرر المجلة قد أشاد في عددها رقم 21 (الصادر في 26 سبتمبر 1947م) بقرائه الشباب لمشاركتهم الإيجابية في العدد السابق (رقم 20). وبهذا يمكن القول بأن "مكتب النشر" منح الشباب السودانيين فرصة للتمكين بإتاحته لهم تشكيل مجلتهم بأنفسهم.
********* ********* *********
مجلة عافية: صدرت بدارفور في عامي 1951 – 1952م مجلة ربع سنوية اسمها "عافية" لتوزع – حصرياً - في دارفور. وكانت أهدافها تماثل أهداف مجلة "الصبيان" التي كانت توزع في كل مناطق السودان. واستخدمت لجنة التعليم المحلية هذه المجلة من أجل الحفاظ على معرفة ومهارات التلاميذ في اللغة العربية، وتطويرها، خاصة عند التلاميذ الدارفوريين (مثل المساليت والفور والزغاوة) الذين يتحدثون بلغاتهم الأم، وعند التلاميذ السابقين الذين آبوا لقراهم المعزولة.
وذكرت المجلة في أول أعدادها (الذي صدر في يناير 1951م) أن المجلة ستسعى لنشر أخبار دارفور والسودان والعالم، وكذلك لنشر "التاريخ الحقيقي" على نحو صحيح ودقيق. وبالفعل، نشرت المجلة في أعدادها اللاحقة عموداً عنوانه "تاريخ دارفور" كان يكتبه مدير مديرية دارفور (كينيث. ك. د. هندرسون، 1903 - ؟). وأضفى هندرسون على ما كان يكتبه هالةً علمية بالاعتماد على ملاحظات باحث معاصر (اسمه جي. دي. لامبن Lampen، كان قد نشر بعض المقالات في مجلة "السودان في رسائل ومدونات". وكانت من أهداف مجلة "عافية" إطلاع التلاميذ الدارفوريين على معلومات عن مديريتهم، وعن بلادهم (السودان)، وعن العالم من حولهم، وهذا ما من شأنه أن يمنحهم شعوراً بالانتماء إلى مجتمعات بشرية مختلفة. وكانت من أهداف مجلة "عافية" المعلنة الأخرى هي إعطاء القراء إرشادات مفيدة حول الوقاية من الأمراض و"المشكلات الاجتماعية الأخرى". ونشرت المجلة في عددها الثاني نداءً للتعاون من أجل القضاء على مرض التهاب السحايا (السحائي)، وأهابت بالشباب الدارفوري المتعلم أن يتحمل مسؤوليته في معرفة المعلومات الصحيحة عن ذلك المرض، وأن ينقل وسائل وطرق الوقاية الصحيحة من المرض إلى بقية السكان من غير المتعلمين؛ وأن يؤدوا دور "قناة الاتصال" بين سلطات المديرية وسكانها. وعملت تلك المجلة الفصلية أيضاً بحسبانها أداةً لإصلاح المفاهيم والممارسات الاجتماعية بطريقة تسهل تنفيذ سياسات الحكومة الكلولونيالية في شأن الوقاية من الأمراض. وأخيراً، كانت مجلة "عافية" تقدم لقرائها بعض المواضيع المسلية، وتتيح لهم فرص التعبير عن أنفسهم في مختلف أعمدتها.
ملخص خاتمة المقال:
1. كانت السياسة الكلولونيالية في مجال محو الأمية في السودان جزءًا من مخطط واسع لهندسة اجتماعية توقعت مجيء حقبة ما بعد الاستعمار. وتؤثر محو الأمية على مختلف مجالات الحياة الخاصة والعامة، وتؤدي دوراً متعدد الأوجه في العمليات الموازية لفك الارتباط الكلولونيالي البريطاني والتمكين الوطني السوداني. وكان خبراء التعليم البريطانيين قد حددوا لنشر مهارة القراءة والكتابة وظيفة مثالية/ مؤمثلة idealized functionهي "تنوير" من يحكمونهم من الأهالي. وكان مصطلح "التنوير" شائعاً عند مسؤولي الحكومة الكلولونيالية. وفي بعض النواحي كانت أيديولوجية التنوير عندهم هي ترديد لأصداء الخطابات التبشيرية. ومن ناحية عملية، يمكن للدولة التواصل مع جزء كبير من السكان السودانيين باستخدام وسائل الإعلام المكتوبة والمطبوعة، مما يسهل تنفيذ السياسات الكلولونيالية.
2. ومن ناحية اجتماعية، كان نشاط القراءة والكتابة يشجع نوعاً جديداً من الاستقلال / التفرد الذاتي، وفي نفس الوقت يمكن الناس في مختلف المناطق من التواصل، وهذا مما من شأنه أن يسهل ظهور مجتمعات متخيلة جديدة. وغدت القراءة - بحسبانها نشاطاً ترفيهيا- شائعة بشكل متزايد في السودان. وتصور التربويون البريطانيون والسودانيون في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات تلك الوظائف والاستخدامات المختلفة لمحو الأمية على أنها مكونات أساسية للتقدم الاجتماعي والحداثة السياسية في مرحلة ما بعد الاستعمار.
3. من التضليل وعدم الدقة النظر إلى عملية "إنهاء الكلولونيالية /الاستعمار decolonization" في السودان على أنها جاءت نتيجةً لصراع قاده الوطنيون السودانيون ضد المسؤولين البريطانيين. ففي المجال التربوي/ التعليمي شملت تلك العملية البالغة التعقيد عملاً مشتركا لموظفي الخدمة المدنية البريطانيين والسودانيين لفترة رَبَتْ على عقد من الزمان. وينبغي تذكر أنه حتى بعد أن صار خروج الكولونياليين البريطانيين من السودان أمراً مقبولاً، لم تكن كل خطاباتهم ومواقفهم موحدة ومتماسكة، فكثيراً ما ظلت أراء ومواقف "المحافظين" و"التقدميين" منهم موجودة. وكتب غريفث في كتاب "تجربة في التعليم" الذي نشره قبل ثلاثة أعوام من الاستقلال ما ملخصه: " بدأنا نحن [التربويين] نتقبل الدوافع الوطنية قبل أن تقبل الحكومة بموقف المتعلمين السودانيين المهيمن، أو فكرة الحكم الذاتي في عصرنا". وكان التعليم في غالب سنوات الحكم الثنائي يَسْتَخْدِمْ في الحفاظ على النظام الكولونيالي وتسيير أعماله؛ إلا أنه صار يؤدي دوراً معاكساً لذلك الدور (الحكومي) بتحفيز من تربويين من أمثال غريفث وعبد الرحمن علي طه وهودجكن (يمكن النظر في مقال مترجم عن مكتب النشر بقلم هودجكن https://rb.gy/opmhe0. المترجم) كانوا هم الذين وضعوا السودان في مجالات سياسات ما بعد الكلولونيالية / الاستعمار من خلال تجاربهم التربوية، على الرغم من أن لتلك التجارب جذوراً راسخة في الفكر والممارسة الكلولونيالية نفسها.
4. عندما استقل السودان في 1956م كانت مجهودات المدارس وحملات محو الأمة قد زادت من معدل معرفة القراءة والكتابة عند السودانيين بنحو 13.5% (23% عند الرجال و4% عند النساء). غير أن توزيع معدل معرفة القراءة والكتابة في أنحاء السودان المختلفة كان متفاوتاً للغاية. فقد نال سكان مديرية الخرطوم نصيب الأسد في الفرص التعليمية مقارنةً بباقي السكان في مناطق البلاد الأخرى. ففي عام 1956م كان 23.6% من سكان مديرية الخرطوم البالغين قد أكملوا على الأقل المرحلة الأولية، بينما كانت النسب في المديريات الشمالية كما يلي: 7.2% في المديرية الشمالية و5.6% في مديرية النيل الأزرق، و4% في مديرية كسلا، و2.3% في مديرية كردفان، و1.2% في مديرية دارفور. أما في المديريات الجنوبية، فقد كانت النسبة في الاستوائية هي 4.5%، وفي بحر الغزال 1.9%، وفي أعالي النيل 1.1%. وارتفعت تلك النسب بعد نيل السودان لاستقلاله بفضل مجهودات الحكومات الوطنية، حيث بلغت في عام 2003م نسبة معرفة القراءة والكتابة عند السودانيين 61.1% (71.8% عند الرجال و50.5% عند النساء) وذلك بحسب احصائيات منظمة اليونيسف. وعلى الرغم من تلك الزيادة، إلا أن فرص التعليم لم تكن متوازنة في مختلف مناطق البلاد؛ إضافة إلى سياسات "التجانس الثقافي" عبر سياسات التعريب والأسلمة، التي أدت أدواراً سالبة في الصراعات المتلاحقة بين الأنظمة الحاكمة في الخرطوم والحركات المعارضة في المناطق الطرفية في جنوب وشرق وغرب البلاد (أُرْسِلَ هذا المقال للمجلة في يناير 2010م، أي قبل انفصال جنوب السودان. المترجم).
********** ********* ******
*ذكرت الكاتبة في مقال آخر لها (https://rb.gy/hx0b3f) ما نصه: " واجه المعلمون البريطانيون معضلة تمثلت في قيامهم بما يطلب منهم من تخريج قلة من صفوة المتعلمين السودانيين مؤهلين للعمل في سلك الإدارة الحكومية، وعلى استعداد في ذات الوقت لموالاة ومسايرة النظام الحاكم وعدم الخروج عليه. وبقيت مشكلة الاستعمار الكلاسيكية في إمكانية (تعليم "الأهالي" دون الوقوع في جريرة إفسادهم أو تحريرهم) ماثلةً أمام المعلمين البريطانيين بشمال السودان في ثلاثينيات القرن العشرين. وعبر غريفث، أول مدير لمعهد بخت الرضا، عن ذلك في كتابه "تجربة في التعليم: رواية لمحاولات تحسين تعليم البنين في المراحل الأولية بالسودان الإنجليزي - المصري المسلم 1934 – 1950م"، ربما ناصحا للمدرسين البريطانيين، إنه "ينبغي السعي للحصول على فنيين سودانيين وموظفين صغار لأداء المهام الضرورية – غير أن عدد هؤلاء يجب أن يكون أقل ما يمكن، كما هو حادث الآن. وليس هنالك أسوأ من أن تضعوا بذرة أي نوع من أفكار السلطة السياسية في رؤوسهم. لقد سمعت، بالمناسبة، أنهم يدرسونهم تاريخ الثورة الفرنسية في كلية غردون! ... ". ولام غريفث مدرسي المدارس الأولية السودانيين لمحاولتهم الدائبة تقليد الأوربيين تقليدا أعمى في الملبس، واتخاذ التدريس بحسبانه وظيفةً مكتبية، والكراسي والمناضِد (في الفصول). وكان يرى أن ما كان يسمى بـ "تعليم الأهالي" يجب أن يكون أقل أكاديمية، وأكثر ملائمة للبيئة المحلية السودانية. وكان يؤمن أن التعليم الأولي في السودان يجب أن يجعل التلاميذ "مزارعين أفضل"، وأن "يمنحهم شعورا بالكرامة في أوساط قبائلهم". (ترجمت البروفيسورة فدوى عبد الرحمن علي طه ذلك الكتاب، وصدر عن دار نشر جامعة الخرطوم عام 2014م. المترجم).
alibadreldin@hotmail.com
أيريس سيري – هيرش Iris Seri – Hersch
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة وتلخيص لبعض ما ورد بمقال د. أيريس سيري – هيرش عن محو الأمية نُشِرَ عام 2011م في العدد الثالث من المجلة الأكاديمية البريطانية "تاريخ التعليم History of Education"، المجلد رقم 40، صفحات 333 – 356. وعنوان المقال الكامل (الذي آثرنا اختصاره) هو: Towards social progress and post – imperial modernity? Colonial politics of literacy in the Anglo -Egyptian Sudan, 1946 – 1956.. ونركز في هذا المقال على ما ورد في مقال الكاتبة عن تاريخ "دار النشر" ومجلتي "الصبيان" و"عافية".
تعمل سيري – هيرش الكاتبة أستاذة مساعدة في جامعة إيكس - مارسيليا بفرنسا. وهي متخصصة في التاريخ الحديث للسودان وفلسطين / إسرائيل. وكانت اطروحتها للدكتوراه عن تاريخ التعليم بالسودان بين عامي 1945 و1960م، ومنها استلت عدداً من الأوراق ونشرتها في عدد من الدوريات العالمية. وسبق لنا ترجمة عدد من تلك المقالات مثل "حول كتاب "تاريخ السودان" للمدارس الأولية بين عامي 1949 و1958م، والتعليم في السودان فِي إِبَّانِ سنوات الاستعمار (1900 – 1957م)؛ ومقالات متنوعة أخرى مثل مقال "مناهضة جار مسيحي: تصورات السودانيين عن إثيوبيا (الحبشة) في عهود المهدية الأولى"، و"إعادة التفكير في الدراسات السودانية بعد انفصال جنوب السودان عن شماله". وكانت الكاتبة قد فازت في عام 2013م بجائزة معهد الدراسات الإسلامية والعالم الإسلامي لأفضل أطروحة باللغة الفرنسية عن العالم الإسلامي.
ضمنت الكاتبة مقالها خريطة للسودان الإنجليزي - المصري، مع عدد من الصور لعددين قديمين من مجلة "الصبيان" ومجلة ربع سنوية كان يصدرها مكتب تعليم دارفور اسمها "عافية"، وبطاقة بريدية من "بخت الرضا" في الأربعينيات والخمسينيات كتب عليه شعار "كل واحد يعلم واحداً".
المترجم.
******** ********* *******
ملخص المقال: تناول هذا المقال سياسة محو الأمية التي وُضِعَتْ في أواخر سنوات الحكم الكلولونيالي للسودان. وقد اِسْتَقت الكاتبة المعلومات التي وردت بالمقال من مصادر أرشيفية باللغتين العربية والانجليزية لم يتم الاستشهاد بها من قبل. ويدور المقال حول سؤالين هامين: ما هي أغراض واستخدامات محو الأمية في نظر السلطات الكولونيالية؟ وما هي الوسائل التي اُسْتُخْدِمَتْ لنشر مهارات القراءة والكتابة في أوساط الشعب السوداني؟ ويذهب المقال إلى أن فِرَق محو الأمية المختلطة (المكونة من خبراء التعليم البريطانيين والسودانيين)، كانت ترى – عند وضع تلك المسائل في سياق السياسة البريطانية الامبريالية في أفريقيا - أن محو الأمية هو أداة بالغة الأهمية لتعزيز التقدم الاجتماعي والحداثة السياسية. ويركز المقال في تحليلاته على حملات محو الأمية، وما ورد بشأنها من أدبيات منشورة، بحسبانها وسائل تجريبية تمت الاستفادة منها لتعزيز واستدامة محو الأمية العربية في شمال السودان. ويمكن من خلال تسليط الضوء على المجلات التي أُصْدِرَتْ لتوزع في كافة أرجاء البلاد، أو تلك التي المخصصة لتلاميذ إقليم معين، فهم دور تلك المجلات المتعدد الأوجه كأدوات تعليمية وتربوية، وكأوعية للتصورات السياسية والثقافية والأيديولوجية، وللشبكات الاجتماعية، فضلاً عن اعتبارها منابر عامة عبر الشباب السودانيون المتعلمون فيها عن أنفسهم.
********* ********* *********
بخت الرضا : ذكر فينسنت ل. غريفث (عميد معهد بخت الرضا*. المترجم) في صفحة 139 من كتاب له صدر بعنوان "تجربة في التعليم" بأنه كان هناك في عام افتتاح "مكتب النشر" نحو 10,000 من الأطفال الذين يهجرون مقاعد الدراسة في المرحلتين الأولية (elementary) والصغرى (subgrade) كل عام، وهم لا يملكون إلا القليل من القدرة على الكتابة باللغة العربية؛ ولم تتح لمعظمهم فرصة القراءة مرة أخرى. وكتب أيضاً: "قد يظن أحد "الغرباء" بأننا فقدنا صوابنا بافتتاحنا لـ "مكتب النشر". ولم تنل عمليتي القراءة أو بناء الشخصية المزيد من الاهتمام، وكان أقصى ما حققه النظام التعليمي هو اختيار أقل من 10% من التلاميذ لتلقي المزيد من التعليم في المدارس الوسطى والثانوية".
ودفعت ندرة الكتب العربية بالسودان، وخاصة عدم وجود أي كتب خاصة بالأطفال فيه، إلى انتاج كتب أطفال تناسب الصبية السودانيين. وكان غريفث قد ذكر بأنه تمت تجربة 119 من كتب الأطفال المصرية في "أندية التلاميذ " بالسودان، غير أن تباين الخلفيات الثقافية بين التلاميذ المصريين والسودانيين، وعلو مستوى لغة تلك الكتب، جعلت التلاميذ السودانيين يصدون عنها. فتولى "مكتب النشر" مهمة كتابة ونشر مجلات للصغار لمنع ارتداد التلاميذ للأمية. وعملت المجلات التي صدرت على مستوى الدولة، وعلى مستوى المديريات، على حَدٍّ سَواء، كأساليب مميزة للتوزيع واستدامة مهارات معرفة القراءة والكتابة في أواخر الفترة الكولونيالية بالسودان. وكان وصول المواد المكتوبة لمناطق كثيرة في البلاد محدوداً للغاية، إذ أنها كانت تفتقر إلى وسائل مواصلات جيدة. وكانت أعداد ما يُنْشَرُ محلياً من المطبوعات قليلاً جداً حتى تم إنشاء مكتب النشر بالخرطوم. وبالإضافة إلى ذلك، كانت المطبوعات المحلية والأجنبية تخضع لرقابة مفرطة الصرامة مِنْ قِبَل السلطات البريطانية. فعلى سبيل المثال كانت تلك السلطات قد حددت العدد الأقصى للنسخ التي يمكن لكل جريدة أن توزعها (فعلى سبيل المثال حددت السلطات نشر 1,700 نسخة من "حضارة السودان" في عام 1938م؛ و1,500 نسخة من "الفجر" في عام 1935م؛ و2,500 نسخة من "النيل"). وحظرت السلطات الحاكمة إدخال مطبوعة "السودان" الأسبوعية التي كانت يصدرها من مصر تاجر سوداني في الفترة بين ديسمبر 1944 إلى يونيو 1945م بدعوى أنها كانت تساند الموقف المصري.
لقد أدت مجلات الشباب مجموعةً متنوعةً من الوظائف التي تجاوزت الجوانب التقنية والتربوية لممارسة مهارات القراءة والكتابة باللغة العربية. لقد كانت تلك المجلات بمثابة الأوعية التي حملت تصورات اجتماعية وسياسية وايديولوجية كانت تهدف في غالب الأحايين إلى تغيير وتحويل تصورات القراء وسلوكهم. وكانت تمثل أيضاً "شبكات اجتماعية" تغذيها الاتصالات المكثفة بين المحرر والقراء، وفيما بين القراء أنفسهم. وفي نهاية المطاف، مثلت تلك المجلات عند الشباب من متعلمي السودان منصات ومنابر عامة للتعبير. وسأعطي هنا مثالين لتلك التعددية الوظيفية هما مجلة "الصبيان" الأسبوعية، التي كانت توزع في كل أنحاء السودان، ومجلة "العافية" الفصلية، التي كانت توزع في المدارس بدارفور. (ذكرت الكاتبة في الحاشية بأنه كانت هناك أيضاً مجلة للأطفال تصدر في شرق السودان، وأخرى في جنوب السودان. المترجم).
********* ********* *********
مجلة الصبيان: صدرت مجلة "الصبيان" لأول مرة في ديسمبر 1946م بحسبانها مجلةً أسبوعية مخصصة لتلاميذ المدارس الأولية السابقين، الذين كانوا لا يجدون كتباً يقرؤونها. وكان لظهورها أهمية نوعية وكمية – إذ أنها كانت أول مجلة أطفال في العالم العربي، بحسب ما ذكره عبد الرحمن علي طه في ص 100 من كتابه – (ذكرت بعض المصادر المصرية أن مصر أصدرت عام 1870م أول مجلة عربية للطفل عنوانها "روضة المدارس المصرية" بإشراف رفاعة الطهطاوي. انظر الرابط http://www.alwasatnews.com/news/444295.html . المترجم). وكان توزيع مجلة الصبيان قد ارتفع من 10,000 نسخة في يناير 1947م إلى 20,000 نسخة في 1953م، وهي أعداد كبيرة مقارنةً بتوزيع معظم الصحف السودانية في تلك السنوات، الذي كان لا يتجاوز 5,000 نسخة. وكان التربويون الكولونياليون قد سعوا لتوزيع تلك المجلة بصورة موسعة جدا، لدرجة أنها صارت تصدر بخسائر مالية. وكانت توزع في المدارس الوسطى والمحلات التجارية في كل أرجاء البلاد. ووجدت "الصبيان" ترحيباً كبيراً عند السودانيين من كل الأعمار، ولا غَرْوَ، إذ أنها كانت تحتوي على مواضيع متنوعة شملت الأخبار المحلية والعالمية، والحكايات المسلية، والقصص المصورة، وبعض الألعاب والألغاز، والرسومات الكاريكاتورية، والقصص القرآنية والتاريخية والعلمية، وتلك التي تحض على مكارم الأخلاق، ورسائل من القراء وردود المحرر عليها. وكانت المجلة تحتوي على صفحتين للبنات (فيهما نصائح تربوية وتعليمية، وقصص عن عظيمات النساء، ودروس في طبخ الطعام والخياطة). وقد أخذت تلك المحتويات من مجلة الصبيان، العدد رقم 21 الصادر في 26 سبتمبر 1947م (وهو العدد الوحيد من المجلة الذي صدر قبل عام 1956م، والذي أتيحت لي فرصة تفحصه). وحملت أعمدة "الصبيان" المتنوعة آراءً سياسية قد تظهر أنها مجلة مستقلة سياسياً عن حكومة السودان. فعلى سبيل المثال، كانت الحكومة تعرض موقفها من القضايا السياسية السودانية كموقف موحد من بين العديد من وجهات النظر المتضاربة. ونشرت "الصبيان" في عددها المذكور أعلاه في باب الأخبار المحلية كل الانتقادات التي وجهتها صحف الخرطوم والحكومة المصرية ضد خطط بريطانيا لقيام سياسة برلمانية، وضد "سودنة" الإدارة. ونشرت كذلك في زاوية عنوانها "مسرح البطولة" مقالاً عن الرئيس الأمريكي توماس وودرو ويلسون (1856 – 1924م)، ومبادئه الأربعة عشر، التي كان من بينها مبدأ حق تقرير المصير. ونقل ذلك العمود للقراء صورةً للقارة الأوروبية وهي ضعيفة تعاني من الدمار الذي أوقعته عليها حربان عالميتان. وتسلط هذه العناصر المذهلة حقاً الضوء مجدداً على تعقيد الخطابات الاستعمارية البريطانية في السودان وعدم تجانسها، وكذلك تبين التناقضات بين التوجهات الليبرالية النظرية والممارسات السياسية الأكثر سلطوية. وإذا كانت تلك المجلة قد رفضت أن تعمل بحسبانها أداةً في يد الدعاية الحكومية، فإنها لم تدخر وسعاً في توجيه سهام النقد أيضاً نحو الفاعلين في السياسة السودانية. فلم تكف "الصبيان" عن انتقاد الأحزاب السياسية الكبيرة والقاء اللوم عليها لدورها في إشعال نيران التَحَزُّب والتشَيّع والشقاق، والعجز عن تشكيل قيادة سودانية موحدة تتولى التعامل مع المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة (أشارت الكاتبة في الحاشية إلى إرسال الساسة الاتحاديين (الأشقاء) والاستقلالين (الأمة) وفدين منفصلين إلى نيويورك، وذلك بعد فشل مجلس الأمن في حل النزاع بين بريطانيا ومصر حول "مسألة السودان" في سبتمبر 1947م. وتهدف المقالات المنشورة الأخرى - بشكل صريح أو خفي - إلى تعزيز التغييرات في المواقف الفردية والجماعية. واستخدمت المجلة لذلك الغرض قصتين قصيرتين لشخصيات معادية للبطولة للتأكيد على السمات السلبية مثل الغباوة، وعدم الانتباه، والغرور، والجهل، وانعدام المرونة والتصلب العقلي، وعدم القدرة على التكيف مع الظروف الجديدة. كانت تلك أخطاء ومثالب أخلاقية ينبغي تجنبها وحظرها إن أراد المرء أن يعيش حياة ناجحة. وكانت القصتان القصيرتان بعنوان: "التاجر والأبله" و"الأبله والداهية". وتم في العديد من أعمدة المجلة تشجيع القدرة على التفكير والجدل بطريقة نقدية، والنظر إلى كل ذلك بشكل إيجابي. فعلى سبيل المثال حض أحد الكتاب في مقال بذلك العدد من المجلة القارئ أن يبحث بنفسه في شأن معهد التربية ببخت الرضا، وأن يُكَوَّنَ رأيه الخاص عنه. وفي موضع أخر، رحب محرر المجلة بأي نقد بناء للمجلة يأتي من أي قارئ لها. ويحسبانها أداةً لتنمية المجتمع، جاءت في ذلك العدد مقالات عن تعليم الأطفال وصناعة الخزف بالسودان، وفوائد مكننة الزراعة (خاصة للخيش / الجوت والقنب) والصناعات المحلية الخفيفة.
وعملت المجلة كشبكة اجتماعية من خلال زاوية اسمها "عداد البريد"، وصفحات أخرى مختصة بالألعاب والألغاز والنكات التي يرسلها القراء. ومكنت وسائل الإعلام المكتوبة من تكوين مجتمع متخيل من الشباب المتعلمين يعيش في أجزاء مختلفة من السودان من خلال إقامة اتصالات بين مُرسِل transmitter واحد (هو المحرر) وأجهزة استقبال متعددة (هم القراء)، وبين القراء أنفسهم. وتشارك مجتمع القراء هذا "على الصعيد الوطني" في القصص والطرائف والتجارب الشخصية على نطاق غير مسبوق. واُسْتُقْبِلَتْ مجلة "الصبيان" مِنْ قِبَل مجتمع متعلم بصورة أوسع بكثير من أي منشورات سودانية معاصرة أخرى لثلاثة أسباب: توزيعها الأعلى والأوسع انتشاراً، وسهولة مستوى لغتها العربية، وتنوع محتوياتها. وفيما وراء تبادل الرسائل القصيرة عملت مجلة "الصبيان" في كثير من الأحيان باعتبارها منبراً للتعبير عن آراء المتعلمين الشباب. وكان محرر المجلة قد أشاد في عددها رقم 21 (الصادر في 26 سبتمبر 1947م) بقرائه الشباب لمشاركتهم الإيجابية في العدد السابق (رقم 20). وبهذا يمكن القول بأن "مكتب النشر" منح الشباب السودانيين فرصة للتمكين بإتاحته لهم تشكيل مجلتهم بأنفسهم.
********* ********* *********
مجلة عافية: صدرت بدارفور في عامي 1951 – 1952م مجلة ربع سنوية اسمها "عافية" لتوزع – حصرياً - في دارفور. وكانت أهدافها تماثل أهداف مجلة "الصبيان" التي كانت توزع في كل مناطق السودان. واستخدمت لجنة التعليم المحلية هذه المجلة من أجل الحفاظ على معرفة ومهارات التلاميذ في اللغة العربية، وتطويرها، خاصة عند التلاميذ الدارفوريين (مثل المساليت والفور والزغاوة) الذين يتحدثون بلغاتهم الأم، وعند التلاميذ السابقين الذين آبوا لقراهم المعزولة.
وذكرت المجلة في أول أعدادها (الذي صدر في يناير 1951م) أن المجلة ستسعى لنشر أخبار دارفور والسودان والعالم، وكذلك لنشر "التاريخ الحقيقي" على نحو صحيح ودقيق. وبالفعل، نشرت المجلة في أعدادها اللاحقة عموداً عنوانه "تاريخ دارفور" كان يكتبه مدير مديرية دارفور (كينيث. ك. د. هندرسون، 1903 - ؟). وأضفى هندرسون على ما كان يكتبه هالةً علمية بالاعتماد على ملاحظات باحث معاصر (اسمه جي. دي. لامبن Lampen، كان قد نشر بعض المقالات في مجلة "السودان في رسائل ومدونات". وكانت من أهداف مجلة "عافية" إطلاع التلاميذ الدارفوريين على معلومات عن مديريتهم، وعن بلادهم (السودان)، وعن العالم من حولهم، وهذا ما من شأنه أن يمنحهم شعوراً بالانتماء إلى مجتمعات بشرية مختلفة. وكانت من أهداف مجلة "عافية" المعلنة الأخرى هي إعطاء القراء إرشادات مفيدة حول الوقاية من الأمراض و"المشكلات الاجتماعية الأخرى". ونشرت المجلة في عددها الثاني نداءً للتعاون من أجل القضاء على مرض التهاب السحايا (السحائي)، وأهابت بالشباب الدارفوري المتعلم أن يتحمل مسؤوليته في معرفة المعلومات الصحيحة عن ذلك المرض، وأن ينقل وسائل وطرق الوقاية الصحيحة من المرض إلى بقية السكان من غير المتعلمين؛ وأن يؤدوا دور "قناة الاتصال" بين سلطات المديرية وسكانها. وعملت تلك المجلة الفصلية أيضاً بحسبانها أداةً لإصلاح المفاهيم والممارسات الاجتماعية بطريقة تسهل تنفيذ سياسات الحكومة الكلولونيالية في شأن الوقاية من الأمراض. وأخيراً، كانت مجلة "عافية" تقدم لقرائها بعض المواضيع المسلية، وتتيح لهم فرص التعبير عن أنفسهم في مختلف أعمدتها.
ملخص خاتمة المقال:
1. كانت السياسة الكلولونيالية في مجال محو الأمية في السودان جزءًا من مخطط واسع لهندسة اجتماعية توقعت مجيء حقبة ما بعد الاستعمار. وتؤثر محو الأمية على مختلف مجالات الحياة الخاصة والعامة، وتؤدي دوراً متعدد الأوجه في العمليات الموازية لفك الارتباط الكلولونيالي البريطاني والتمكين الوطني السوداني. وكان خبراء التعليم البريطانيين قد حددوا لنشر مهارة القراءة والكتابة وظيفة مثالية/ مؤمثلة idealized functionهي "تنوير" من يحكمونهم من الأهالي. وكان مصطلح "التنوير" شائعاً عند مسؤولي الحكومة الكلولونيالية. وفي بعض النواحي كانت أيديولوجية التنوير عندهم هي ترديد لأصداء الخطابات التبشيرية. ومن ناحية عملية، يمكن للدولة التواصل مع جزء كبير من السكان السودانيين باستخدام وسائل الإعلام المكتوبة والمطبوعة، مما يسهل تنفيذ السياسات الكلولونيالية.
2. ومن ناحية اجتماعية، كان نشاط القراءة والكتابة يشجع نوعاً جديداً من الاستقلال / التفرد الذاتي، وفي نفس الوقت يمكن الناس في مختلف المناطق من التواصل، وهذا مما من شأنه أن يسهل ظهور مجتمعات متخيلة جديدة. وغدت القراءة - بحسبانها نشاطاً ترفيهيا- شائعة بشكل متزايد في السودان. وتصور التربويون البريطانيون والسودانيون في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات تلك الوظائف والاستخدامات المختلفة لمحو الأمية على أنها مكونات أساسية للتقدم الاجتماعي والحداثة السياسية في مرحلة ما بعد الاستعمار.
3. من التضليل وعدم الدقة النظر إلى عملية "إنهاء الكلولونيالية /الاستعمار decolonization" في السودان على أنها جاءت نتيجةً لصراع قاده الوطنيون السودانيون ضد المسؤولين البريطانيين. ففي المجال التربوي/ التعليمي شملت تلك العملية البالغة التعقيد عملاً مشتركا لموظفي الخدمة المدنية البريطانيين والسودانيين لفترة رَبَتْ على عقد من الزمان. وينبغي تذكر أنه حتى بعد أن صار خروج الكولونياليين البريطانيين من السودان أمراً مقبولاً، لم تكن كل خطاباتهم ومواقفهم موحدة ومتماسكة، فكثيراً ما ظلت أراء ومواقف "المحافظين" و"التقدميين" منهم موجودة. وكتب غريفث في كتاب "تجربة في التعليم" الذي نشره قبل ثلاثة أعوام من الاستقلال ما ملخصه: " بدأنا نحن [التربويين] نتقبل الدوافع الوطنية قبل أن تقبل الحكومة بموقف المتعلمين السودانيين المهيمن، أو فكرة الحكم الذاتي في عصرنا". وكان التعليم في غالب سنوات الحكم الثنائي يَسْتَخْدِمْ في الحفاظ على النظام الكولونيالي وتسيير أعماله؛ إلا أنه صار يؤدي دوراً معاكساً لذلك الدور (الحكومي) بتحفيز من تربويين من أمثال غريفث وعبد الرحمن علي طه وهودجكن (يمكن النظر في مقال مترجم عن مكتب النشر بقلم هودجكن https://rb.gy/opmhe0. المترجم) كانوا هم الذين وضعوا السودان في مجالات سياسات ما بعد الكلولونيالية / الاستعمار من خلال تجاربهم التربوية، على الرغم من أن لتلك التجارب جذوراً راسخة في الفكر والممارسة الكلولونيالية نفسها.
4. عندما استقل السودان في 1956م كانت مجهودات المدارس وحملات محو الأمة قد زادت من معدل معرفة القراءة والكتابة عند السودانيين بنحو 13.5% (23% عند الرجال و4% عند النساء). غير أن توزيع معدل معرفة القراءة والكتابة في أنحاء السودان المختلفة كان متفاوتاً للغاية. فقد نال سكان مديرية الخرطوم نصيب الأسد في الفرص التعليمية مقارنةً بباقي السكان في مناطق البلاد الأخرى. ففي عام 1956م كان 23.6% من سكان مديرية الخرطوم البالغين قد أكملوا على الأقل المرحلة الأولية، بينما كانت النسب في المديريات الشمالية كما يلي: 7.2% في المديرية الشمالية و5.6% في مديرية النيل الأزرق، و4% في مديرية كسلا، و2.3% في مديرية كردفان، و1.2% في مديرية دارفور. أما في المديريات الجنوبية، فقد كانت النسبة في الاستوائية هي 4.5%، وفي بحر الغزال 1.9%، وفي أعالي النيل 1.1%. وارتفعت تلك النسب بعد نيل السودان لاستقلاله بفضل مجهودات الحكومات الوطنية، حيث بلغت في عام 2003م نسبة معرفة القراءة والكتابة عند السودانيين 61.1% (71.8% عند الرجال و50.5% عند النساء) وذلك بحسب احصائيات منظمة اليونيسف. وعلى الرغم من تلك الزيادة، إلا أن فرص التعليم لم تكن متوازنة في مختلف مناطق البلاد؛ إضافة إلى سياسات "التجانس الثقافي" عبر سياسات التعريب والأسلمة، التي أدت أدواراً سالبة في الصراعات المتلاحقة بين الأنظمة الحاكمة في الخرطوم والحركات المعارضة في المناطق الطرفية في جنوب وشرق وغرب البلاد (أُرْسِلَ هذا المقال للمجلة في يناير 2010م، أي قبل انفصال جنوب السودان. المترجم).
********** ********* ******
*ذكرت الكاتبة في مقال آخر لها (https://rb.gy/hx0b3f) ما نصه: " واجه المعلمون البريطانيون معضلة تمثلت في قيامهم بما يطلب منهم من تخريج قلة من صفوة المتعلمين السودانيين مؤهلين للعمل في سلك الإدارة الحكومية، وعلى استعداد في ذات الوقت لموالاة ومسايرة النظام الحاكم وعدم الخروج عليه. وبقيت مشكلة الاستعمار الكلاسيكية في إمكانية (تعليم "الأهالي" دون الوقوع في جريرة إفسادهم أو تحريرهم) ماثلةً أمام المعلمين البريطانيين بشمال السودان في ثلاثينيات القرن العشرين. وعبر غريفث، أول مدير لمعهد بخت الرضا، عن ذلك في كتابه "تجربة في التعليم: رواية لمحاولات تحسين تعليم البنين في المراحل الأولية بالسودان الإنجليزي - المصري المسلم 1934 – 1950م"، ربما ناصحا للمدرسين البريطانيين، إنه "ينبغي السعي للحصول على فنيين سودانيين وموظفين صغار لأداء المهام الضرورية – غير أن عدد هؤلاء يجب أن يكون أقل ما يمكن، كما هو حادث الآن. وليس هنالك أسوأ من أن تضعوا بذرة أي نوع من أفكار السلطة السياسية في رؤوسهم. لقد سمعت، بالمناسبة، أنهم يدرسونهم تاريخ الثورة الفرنسية في كلية غردون! ... ". ولام غريفث مدرسي المدارس الأولية السودانيين لمحاولتهم الدائبة تقليد الأوربيين تقليدا أعمى في الملبس، واتخاذ التدريس بحسبانه وظيفةً مكتبية، والكراسي والمناضِد (في الفصول). وكان يرى أن ما كان يسمى بـ "تعليم الأهالي" يجب أن يكون أقل أكاديمية، وأكثر ملائمة للبيئة المحلية السودانية. وكان يؤمن أن التعليم الأولي في السودان يجب أن يجعل التلاميذ "مزارعين أفضل"، وأن "يمنحهم شعورا بالكرامة في أوساط قبائلهم". (ترجمت البروفيسورة فدوى عبد الرحمن علي طه ذلك الكتاب، وصدر عن دار نشر جامعة الخرطوم عام 2014م. المترجم).
alibadreldin@hotmail.com