السيد علي الميرغني والشريف يوسف الهندي والسيد عبد الرحمن المهدي وتصفية مؤسسة الرق في السودان

 


 

 

تمر هذه الأيام الذكرى السنوية لتقديم واحدة من الوثائق ذات الأهمية في تاريخ السودان، وهي المذكرة التي رفعها كل من السيد علي الميرغني والسيد عبد الرحمن المهدي والشريف يوسف الهندي لإدارة الحكم الثنائي بتاريخ 6 مارس 1925 معبرين فيها عن موقف سياسي معارض للنهج الذي اتبعته الإدارة للتخلص من مؤسسة الرق، واستحثوها على عدم إصدار أوراق الحرية دون تمييز (لأشخاص يعتبرون أن هذه الأوراق تمنحهم حرية من أي مسؤولية للعمل والتخلي عن أداء الالتزامات التي تقيدهم).

كان واضحاً أن الإدارة الاستعمارية التي أنهت حكم الدولة المهدية وسيطرت على السلطة في البلاد، تسعى إلى محاربة الرق وتصفية مؤسساته الموروثة، واتخذت إجراءات عملية تدريجية نحو القضاء عليه. فنصت المادة رقم (11) من اتفاقية الحكم الثنائي لسنة 1898 على المنع المطلق لإدخال الرقيق إلى السودان أو تصديره منه. وكانت هذه أول خطوة في سبيل الحد من تجارة الرقيق وتضييق الخناق عليه.

عبر كتشنر أول حاكم في إدارة الحكم الثنائي عن سياسة التحول التدريجي لإنهاء مؤسسة الرق في خطابه لمدراء المديريات في مارس 1899 حيث ذكر أن (الرق ليس نظاماً معترفاً به في السودان، ومع ذلك فطالما كان الخادم يقدم خدماته طوعاً للسيد فما من ضرورة للتدخل في شروط العلاقة القائمة بينهما. أترك لكم وفقاً لحسن تقديركم، حق اختيار أنسب الوسائل للقضاء على عادة الاعتماد على عمل الرقيق). ومنذ ذلك التاريخ بدأ الضغط على تجارة الرق ومحاولة قفل الأبواب أمامها، واستمرت سياسة التصفية التدريجية صعوداً وهبوطاً، إلا أن المؤشر العام لها هو إضعاف مؤسسات الرق ومحاولة تقزيمها وذلك بدعم من حركة عالمية هدفت إلى إنهائها. ثم عمدت الحكومة الثنائية إلى إصدار أوراق الحرية للأرقاء الذين يرغبون في الحصول عليها خاصة إذا كان السيد يسيء معاملة رقيقه.

في هذه الظروف حرر السادة الثلاثة مذكرة إلى مدير المخابرات في الخرطوم حثوا فيها الحكومة على عدم إصدار أوراق الحرية، على أساس أنه ليس هناك حاجة لإعطاء الرقيق هذه الأوراق، وأنه من مصلحة كل الأطراف بما فيهم الحكومة وملاك الأرض والأرقاء البقاء في الأرض للعمل في الزراعة. وكان واضحاً أن السادة الثلاثة على وعي بالتطور العالمي المتجه نحو إنهاء الرق، فبدأ خطابهم بالاعتراف بذلك التوجه وذكروا (لقد تابعنا سياسة الحكومة تجاه هذه الطبقة منذ إعادة الفتح. وطبيعي أننا لا نستطيع أن ننتقد أمراً توحد كل العالم المتمدن لإلغائه وهو واحد من الأمور التي يعنى بها القانون الدولي). وهذا الوعي الذي أوردته المذكرة في مكانه تماماً، فقد جاءت مذكرتهم بعد أربعة أعوام من صدور اتفاقية سان جرمان - إن – لاي لعام 1919، والتي أكدت العزم على ضمان القضاء الكامل على الرق بجميع صوره وعلى الاتجار بالرقيق في البر وفي البحر. كما أنها جاءت بعد عام من تشكيل لجنة الرق المؤقتة التي عينها مجلس عصبة الأمم في يونيو 1924 ووضعت تقريرها الذي سعى إلى تأكيد الرغبة في القضاء على الرق ووضع الوسائل لإنهائه.

أحال مدير المخابرات مذكرة السادة إلى السكرتير القضائي والسكرتير الإداري موضحاً أنها صيغت بعناية وأنها كانت محل مناقشات مستفيضة بين كتابها، كما نبه إلى الاتفاق الذي تم بينهم على مضمونها وهذا في حد ذاته يستلفت النظر، حيث أن الحالات التي التقت فيها كلمة الزعماء الثلاثة كانت قليلة، لاختلاف توجهاتهم السياسية ونظرتهم للحكم الثنائي.

اعتمدت المذكرة على عدة حجج يمكن تلخيصها في الآتي:
1- الرق في السودان لا يشبه الرق المتعارف عليه،
2- الأرقاء الذين يعملون في زراعة الأرض شركاء لملاك الأرض ولهم من الامتيازات والحقوق ما يجعلهم طبقة قائمة بذاتها، ولا يمكن تصنيفهم كأرقاء.
3- أهل السودان يعاملون الأرقاء كأفراد من العائلة
4- لو كان لأحد أن يتظلم فهم الملاك الذين أصبحوا تحت رحمة أرقائهم
5- تتطلب ظروف السودان الاهتمام بالعمل فالحكومة والشركات والأفراد يحتاجون لكل يد عاملة
6- أغلبية الأرقاء الذين أعتقوا لا يصلحون لأي شيء فقد جنح النساء نحو الدعارة وأدمن الرجال الخمر والكسل.

بالنظر للأسباب التي أوردتها المذكرة يتضح أن خمسة منها تتعلق بملاك الأراضي ومصلحتهم بينما شملت سبباً واحداً يخص الأرقاء، وهو الحجة الأخيرة التي نبهت إلى الخشية من جنوح النساء نحو الدعارة وإدمان الرجال الخمر. ويثير الانتباه أن المذكرة رغم الخشية التي أبدتها على مصير الأرقاء في حالة حصولهم على ورقة الحرية إلا أنها لم تسع إلى وضع معالجات تقلل من تبعات هذا المصير، فلم تشر على الحكومة بتبني خطة تأهيل وتدريب تؤدي إلى دمج الأرقاء في المجتمع كطبقة عاملة لها مهن تعينها على الاستمرار في العيش بكرامة وتمكنهم من حياة جديدة بعيداً عن الرق. وكان من الممكن الإشارة إلى بعض أوجه التدريب والتأهيل الممكنة مثل منح الأرقاء أراضي لزراعتها وتمويلهم من مؤسسات التمويل التي بدأت تفتح أبوابها في ذلك الوقت. أو استيعابهم في مهن مثل الجندية أو الشرطة.

لم تقترح المذكرة فترة زمنية يمكن أن يتم فيها التدرج نحو تصفية مؤسسة الرق إلى حين إنهائه بصورة كاملة، وإنما سعت إلى حث الحكومة على استبقائها دون خطة واضحة لإنهائها رغم مرور أكثر من خمسة وعشرين عاماً منذ أن بدأت إدارة الحكم الثنائي سياسة الانهاء التدريجي.

أثارت المذكرة تخوفاً على مصير الفتيات في حصولهن على ورقة الحرية وانحرافهن نحو الدعارة دون أن تنظر في وضعهن تحت خدمة أسيادهن وهن يقدمن ذات الخدمة التي تخوفت منها المذكرة. وقد وصف هذا الوضع تقرير مصلحة مخابرات الحكم الثنائي حين أشار إلى أوضاع الرقيق من النساء (ما أن تبلغ الفتاة سن المراهقة حتى تصبح فريسة لأحد ذكور العائلة. وقد تفرد لتعيش مع أحد الأبناء الشبان دون أن يمنع ذلك الآخرين من إقامة علاقة معها وربما تقدم كرمز لكرم الضيافة ترحاباً بضيف مرموق).

من غريب المنطق الذي أسست عليه المذكرة هو اعتبار الأرقاء شركاء لملاك الأرض ولهم من الامتيازات والحقوق ما يجعلهم طبقة قائمة بذاتها. ويهز هذا المنطق أن الشراكة اتفاق طوعي بين أطرافها، وليست علاقة جبرية يكره أحد الأطراف على البقاء فيها حتى لو اختار أن يحصل على ورقة حريته ويعيش بعيداً عنها.

النظر إلى التاريخ ومحاولة تحليله أمر مفيد لأغراض تجريده والتصالح معه وأخذ العبر والدروس، وليس لمجرد الاجترار. ومن هذا الباب فإن دراسة موقف الزعماء الثلاثة مهم لمعرفة دوافعه وإلى مدى كان موقفا صحيحاً ويعبر عما كان من المفروض أن يتم.

أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب
abuzerbashir@gmail.com
////////////////////////////

 

آراء