الشيخ المَحَـزَمْ شيخ الظأر

 


 

 

 

انتظرتُ تساقُط الرُطَب جَنيّا!. ضمن أسبوع ( الطب النفسي ) في جامعة الخرطوم في سبعينات القرن العشرين. شهدت ضمن كثيرين نماذج من الطب النفسي الشعبي السوداني، ورائده كان ( ليلة الظأر ) مثرة للدهشة. حضرت ضمن كثيرين لمُشاهدة : (الشيخ المُحَــزَمْ )، وهو من مشاهير شيوخ الظأر الذين استضافهم الأسبوع. أُقيمت الأستار من القماش الأبيض من حول الشيخ وجَوقـته .تُصاحبه مجموعة من النِسوة كبار السن، مع الطبول الأفريقية الإيقاع بأصواتها الإيقاعية الفخيمة، وهي تشبه ما اعتدنا أن نسمعه في إيقاعات :حفلات الظأر:

(الله ليل سيدي ..الله ليل سيدي.)

(2)
تتراقص الأغصان البشرية مع الإيقاع. تذوب الأنفس، ويتجلّى العقل الباطن بتُحفه النادرة. الشيخ المُحَــزَمْ يرتدي جُلبابه وعمامته، وفي وسطه عُمامة يتحَـزمُ بها، من الكتِف ومن الوسط .يبدأ الإيقاع بخُطى مُتسارعة إلى أن يبلغ الذروة. والشيخ المحَــزَمْ قائد الجوقة الإيقاعية. أشعار لا يمكِنك تبيّن أحرفها أو أشعاره، لأن الإيقاع هو المسيطر. تنغمس النسوة من كورال مع الشيخ تدرُجاً ضمن إيحاء إيقاعي، بطبول مُترّعــة الأصوات، ونحن نشهد كيف للذهن البشري، وهو يستدرج العقل الباطن، لينفُث محتوياته، فتتحرك إلى العلن.

(3)
تنفلت النسوة من قيود العادات وتنطلق الأجساد بلا وعي، تتخطى كل الممكن الاجتماعي. صرنا أمام ظاهرة نفسية تتجلى. يُسيطر العقل الباطن على حركات الأجساد، ثم ينطِق بأفواه النسوة غريب الحديث مما تقشعِر له الأبدان !
إنه العلاج النفسي الشعبي الذي يُمارس في بعض بقاع السودان، وإثيوبيا ومصر والصومال وغيرهم من بلدان العالم .وكما أفاد المُتحدِثين في ندوة الطب الشعبي الأولى التي عُقدت بقاعة الشارقة في عام 1984:إن الظأر يُعالج الكثير من الآلام البشرية التي تترسب في العقل الباطِن، وبالذات تخصيصاً في 90% من علاج مرض الهستيريا. وتحتاج جلسة الظأر لراحــة، يطلُب فيها العقل الباطن ما يشاء من النـزوات ليفُك الكدر عن ضحايا الكبت .

(4)

الظأر بين الروح والجسد :
نبدأ من التمهيد: نفك القيد عن كلمة (السّحر ) وتفكيك معانيها، من كلمة أحاطها الغموض ونـزلت عليها الكثير من النصوص الباترة المُحذرة في الأعراف الدينية، رغم أنها كلمة هُلامية تصلُح للأدب وللجمال وللدهشة، وللصفاء ولمعرفة النفس البشرية و الدخول لمجاهل الذهن البشّري. تنقله من أضابير الخوف والغموض إلى منصة التشريح. وكما يقول المثل ( إن عُرف السبب بطل العجب ) .
السِحر في اللغة :
سَحَر : صارَ في السَّحَر
وسَحَرَ عن الشيء: تباعد عنه
وسَحَر فلاناَ بالشيء: خَدعَه
وسَحَر الشيء عن وجهه : صرفَهُ
يقال سَحَرَهُ عن الشيء : استماله وسلب لُبه
يقال: سَحَر تهُ بعينها ، وسحَرَهُ بكلامِهِ
يقال: سَحَر المطرُ الأرض: أفسدها لكثرته
(سَحَّرَ ) فلاناً: سحَرَهُ مرة بعد مرة حتى تخبَّل عقله
و( السِّحر ُ ) كل أمرٍ يَخفى سَبَبهُ ويتخَيَّلُ على غير حقيقته
ويجري مجرى التمويه والخداع.
و ( السِّحرُ ) كل ما لطُف مأخذه ودقَّ .
السَّحري : آخر الليل قبيل الفجر السَّحُور: طعامُ السَحَر وشرابه
المسحُورة من الأرض : التي لا تُنبت

(5)
التفكّيك للسّحر :
يبدو أن السِحر من الغموض، والغموض مما خفي .يبطُل عند معرفة الطبائع وجلاء الطقس و صواحبه .الذهن هو مصيدة السَحر، بالالتفاف عليه يمكن خداعه. وعند انكشاف الخدعة يبطُل التعجّب وتنـزاح أربطة الغموض .

(6)
الزأر أو الظأر في اللغة :
ظأرت المرأة على ولد غيرها: عطفت عليه .
ظاءَرَت المرأة: اتخذت ولداً تُرضعه .
الظَّأرُ: كلُ شيء مع شيء مثله.
يبدو أن الظأر أو الظار غير ما عرفناه في لُغة العرب، لربما هو غريب عن مُجتمعاتهم وخَفيّ .
زأر الأسد: من الزئير.
الزار أو الظأر أو ظاهرة تُعرّف كما سبق تعريفها من البعض هي مسلك، يرتبط بالتعامُل مع العقل الباطن، مُخاطبته أو مُحادثته أو استعطافه، وتلبية طلباته ليُذهِب الكدر والكآبة عن صاحبه. يتم ذلك عن طريق وسطاء وتستخدم طرائق تختلف باختلاف المجتمعات .

(7)
قال مُعلّم الطب ( باراسيلسوس) :
{ فكّرت مليّاً في القوى السحرية لنفس الإنسان، وتكشّف لي الكثير من أسرار الطبيعة، وإني قائل لكم إن من عنده هذه القوة، بإمكانه أن يكون طبيباً حقاً. لو ملك أطباؤنا هذه القوة بالفعل لوجب، إحراق كتبهم ورمي أدويتهم في المُحيط، ولن يصيب العالم من جراء ذلك سوى الخير }
*
الجسد والروح كخلفية لموضوعنا:
بمرجعية سفر ( المادة والذاكرة ) لمؤلفه "هبري برغسون" وترجمة الدكتور" أسعد عربي درقاوي" ومراجعة الدكتور "بديع الكسم"، والذي يدرس العلاقة بين الروح والجسد، حول المعرفة الذهنية والمعرفة المادية وعلاقاتهما في ما يُسمى بالروح والجسد، يمكننا أن نورد الآتي:
التصور للمادة هو التصور الحاصل للحس العام عنهاـ هنالك وجود للشيء وجوداً مستقلاً عن الشعور الذي يُدرِكه. وهي ليست من حالاتنا الذهنية، وإنما الوجود المُستقّل عن وجودنا .الإدراك نتاج طبع الأشياء الخارجية في الأعصاب الناقلة لاهتزازات تنتشر إلى المراكز، وهي مسرح حركات ذرّية، والإدراك تابع لهذه الحركات الذرّية ومتوقف عليها.

(8)
إن الإدراك يتوقف على الحركات الذرّية للكتلة الدُماغية، ويتغيّر معها و تبقى مرتبطة ارتباطاً لا انفصام له عن بقية العالم المادي، وذلك يُبقي العلاقة الجدلية بين الوعي بالكون وإحساسه، وبين وجود الكون الموضوعي خارج إحساسنا .ليس التخيُل تذكُراً. إن الذكرى تميل كلما تحققت إلى أن تعيش في صورة، ولكن العكس ليس بصحيح. فالصورة الخالصة البسيطة لا تنقُلني إلى الماضي، إلا إن كنت قد ذهبت إلى الماضي باحثاً عنها، متتبعاً التقدّم المُستّمر لنقلها من الظلمة إلى النور.
*
الطاقة الروحية:
بمرجعية سفر "هنري برغسون" ( الطاقة الروحية ) بترجمة الدكتور "علي مقلد"، يمكننا قول الآتي :
1ـ إلى جانب الجسد المحدود في اللحظة الحاضرة زمنياً والمحصور في مكانه فضائياً، والذي يتصرف وكأنه إنسان آلي، ويتفاعل بصورة ميكانيكية مع التأثيرات الخارجية ويفرض عليه حركات ليست أتوماتيكية بل حركات حُرة. هذا الشيء يتجاوز الجسد من جميع الجهات وهو يبدع أفعالاً. إنه الأنا إنه ( الروح ) إنها( النفس ). والنفس قوة تستطيع أن تستّمد من ذاتها أكثر مما يُتصَوره البعض .رغم المقولات الكلاسيكية حول أن الروح لا تعمل بدون الجسد الذي تتبعه من الميلاد إلى الممات، فإن مكونات الروح والنفس والفكر والذاكرة، ربما يتيسر لها التطوّر من خلال الخلايا الوراثية. تنتقل عبر الأجيال، كتاب قديم مُتجدد! .

2ـ إن وعيكم يتلاشى حين تستنشقون الكلوروفورم، وينتشي الوعي إن شربتُم كُحولاً أو قهوة. إن التسمم الخفيف قد يولد اضطرابات عميقة في الذاكرة وفي الإحساس وفي الإرادة. أما التسمم الطويل، كما تخلّفه بعض الأمراض الوبائية، أو وجود خلل كيميائي تأثرت به الأنسجة. فإنه يورث عند الخسارة الكُبرى ..الجنون .إن الروح في الفضاء كما في الزمن تتجاوز الجسد، فالسمع والرؤية مثلاً يتجاوزان حدود الجسد. والذبذبات الكونية الآتية من البعيد تؤثر في العين والأذن ثم تنتقل إلى الدماغ. وتتحول في الدماغ لإحساس سمعي وبصري. إذن الإدراك داخلي في الجسد ولا ينتشر خارجه .

(9)
ذكر الدكتور "محمد أبو الفضل بدران" في كتابه ( أدبيات الكرامة الصوفيّة )
يقول الشيخ "محمد أحمد الطيب الحساني"( توفى عام 1988 ) ، وهو من مشايخ الطريقة الخلوتيّة، وله مقام مشهور بالقُرنة غرب مدينة الأقصر بمصر، كان الرجل كثير الصيام وهو يكتفي برشفات من الحليب دون الطعام، وكان مجلسه مُنظّم جداً وليس فيه ما يُخالف العُرف أو العقيدة .ولدى الشيخ مقولة جديرة بالاهتمام إذ يقول :

{ لحظاتنا كلها كرامات، وليس هنالك كرامة أفضل من كرامة العِلم}
*
لقد ذكر الدكتور" أبو الفضل" :{ لقد بات واضحاً في مجال المعرفة أن المُنتج غير العقلاني يلعب دوراً كبيراً في صنع التاريخ، وفي تحريك مُجرياته }
*
في التقمص : لقد ذكر الكاتب "محمد خليل الباشا" في سفره :( التقمّص وأسرار الحياة والموت ) أن هنالك كثير من المشاهير كانوا يقولون ( إنهم عاشوا في الأرض أكثر من مرة! )
ومنهم :ادواريونغ ـ وسويدنبرغ ـ هيوم ـ فولتير ـ بنيامين فرنكلين ـ عمانويل كانت ـ سان سيمون ـ غوته ـ ادغار الان بو ـ بلزاك ـ شوبنهور ـ لامارتين ـ هيغو ـ نيتشه و غيرهم.
*
كتبت الكاتبة ( غادة السمّان ) سفراً في أواخر السبعينات، لخصّت فيه تجارب شخصّية عن كثير من غرائب النفس البشرية، وذكرت كثيراً من الشواهد عن التقمّص لدى الدروز، وذلك في سفرها غير الروائي ( السباحة في بحيرة الشيطان ) وفي الكتاب الكثير من الغرائب .

(10)
نعود للطقوس التي تُستخدم كوسائل للوسيط، يستخدمها لخلق صلة وثيقة بينه وبين ( الآخر ) وفق مُعتقدات الأخير، وخلق أجواء من الرضا بين الوسيط و (الآخر ) وذلك لأنه بدونها يتعذّر الدخول لعالم العقل الباطن. ففي هذا العالم كل الأديان من سماوية وغيرها، لم تزل تجد من يؤمن بها، ولا يصلُح للوسطاء التشكيك في المعتقدات، وإلا سيفقدون الصلة التي هي الخيط الرابط، الذي يقودهم إلى اللاشعور .من هنا فإن الوسطاء لا يتعاملون من ( الآخرين ) برؤى نقدية، بل باستمالة مشاعرهم عبر معتقداتهم، لجعل الدخول للعقل الباطن مُمكناً .
*
لقد اصطرعت الأفكار حول ( هل العقل الباطن هو الشيطان أم أن هنالك آخر يسمى الشيطان وفق كثير من المُعتقدات ؟ ). لن أخوض الآن في قضية الشيطان ووجوده الحقيقي أم هو مُسمى يطلقونه على العقل الباطن، ولن أخوض في أمر التقمّص، لأنه ربما يقودنا لوجوه مُتعددة في الفلسفة التي تتعامل بالبحث عن الحقيقة بذهن مفتوح، وبين علوم النفس التي تتعامل مع المُعتقدات كمساكن للنفس البشرية ذات صلة وثيقة بوجدان البشر، ليس من السهل زعزعتها ، وعرضها للشك .

(11)
فتح العلبة:
نود هنا أن نشرح تجربة مصطلح (فتح العلبة). نـزعنا عنها شخوصها للتوضيح للقراء المظاهر التي تدور قبل بدء طقس ( فتح العلبة )، وتلك التجربة نقلاً عن أم درمان وأنموذج وسط السودان : في سبعينات القرن العشرين. مسرح اللقاء منـزل شيخ الظأر من بعد العصر .( السيدة فاطنة ) تحكي للشيخ المحزّم :
- والله يا شيخنا (زينب ) بِت أهلنا ليها أكتر من شهر تعبانة تلقاها خايفة دايماً. راجِلا قاعِد يجري معانا في الصغيرة والكبيرة والله ما قَصر بالفي والمافي. وديناها للدكاترة في المستشفى قالوا ما عندها حاجة، وحوّلونا للنفسية. أنا كلّمت راجِلا وقُلت أشورو و قال لي: الليل كُلو تلقاها ممحَّنة ومِبَحلِقا عيونا وخايفة، وقالوا سيد الرايحة بِفَتِش خشم البَقَرَة .
رد الشيخ :
- راجِلا قال شنو ؟
ردت ( فاطنة ):
- كلمناه بيك وقال لينا مافي ( شيخة ظأر ) بدل من (الشيخ ) ؟. وأنا قلتَ أشاورك .
هز الشيخ رأسه وقال :
- برسل ليكُم ( نفيسة )، مَرة شاطرة بتَفتَح ليكُم العِلبة، وتعرف ديل الأسيّاد ولا لأ. وتجيب لينا خَبر الأسياد الماسكِنَها و الخيوط، وإن شاء الله خير. لو ديل الأسيّاد بِنرَضِّيهُم إن شاء الله .
*
من بعد غروب اليوم الثاني قدمت ( نفيسة ) مُساعدة الشيخ، ومعها( فاطنة ) لمنـزل ( زينب ). وعند ما شاهدهما زوج (زينب )، لبس عُمامته سريعاً وغادر المنـزل .في الغرفة وقبل بدء طقس (فتح العلبة )، أخرجت (فاطنة ) الأطفال من الغرفة. طلبت من أختهم الكُبرى رعايتهم .وفي الغرفة ( زينب ) ترتدي ثوب يلتف حولها بغير مُبالاة، وتجلس في وسط ( السرير. تقترب منها ( نفيسة ) وتسلّم عليها بحنان. تبتدرها بملاطفة رقيقة، وتطمئنها أن الأسيّاد طيبون لا يؤذون أحد. طلباتُم بسيطة وإن شاء الله مقضية. وحاج ( عبد الرحمن )، تقصد زوجهاـ قال مُستَعد لكل طلباتهم، بس يرجِعُوك طيّبة لينا و لى أولادِك وأبو أولادِك. العَافية أهم من القِرِشْ .
يتم إحضار ( المُبخَر ) الفخاري وعليه جمرات. تفتح ( نفيسة ) حقيبتها الصغيرة وتخرج منها أنواع غريبة من ( البخور ) بألوان حمراء وخضراء، وسوداء، والريح التي تخرُج غريبة على الأنوف، ليس من البخور المُعتاد .تطلب ( نفيسة ) ثوباً أبيضاً ورائحة طيَّارة تُعطِر بها ( زينب ) .
الآن الثوب الأبيض يُغطي ( نفيسة ) وزينب . (نفيسة ) تجلس في المقعد المقابل (للسرير ) الذي تجلس فيه ( زينب ). الدخان الكثيف يغطيهما، وصارت نفيسة تطمئن ( زينب ) وتدعوها للاسترخاء، ثم تبدأ بذكر الكثير من الكلمات الإيحائية وبعض الطلاسم كأنها تُخاطب شخصاً بعينه. استمر الحال حوالي ربع الساعة. ثم بدأت ( نفيسة ) وكأنها تسأل عن الأسيّاد، وكأنها تُرحب بهم. بعد زمن بدأ صوت غريب يرُد من فاه ( زينب ) لا يشبه صوتها، ولا نبرته. غريب على المسامِع، ذكّري النبرات. وبدأ الترحيب مع فرح (نفيسة ) بأن الطقس قد أتى أُكله. بدأت (نفيسة ) تشرح للأسيّاد عن حال (زينب ) وحال أهلها القلقين عليها، وهم جميعاً مُستعدون لتلبية طلبات الأسياد ...
لن نخوض في التفاصيل الدقيقة، فالسماء مفتوحة. سنكتفي بظاهر الوصف، ونرجو أن نستسمحكم إذ أننا لن نُفصّل أكثر. للتفصيل مخاطره، ربما يجد من يُقلِد ويستخدم تلك المجاهل من لا يعرف عواقبها .

عبدالله الشقليني
7 نوفمبر 2019


alshiglini@gmail.com

 

آراء