الصادق المهدى: رحلة في العقل العرفانى الجريح
والجسد المسجى يمشى هادئا مطمئنا بين الجموع الحاشدة تحفه الدعوات والدموع ، والصبر يستحر أنين الفجيعة في اكباد الرجال ، ويفرى حشا النساء ونحيبهن الذى يحاكى الجمجمة و الصهيل. كان المعنى يغوص عميقا في صفحات التاريخ، أنه مع تعدد المناقب وعبقرية السيرة واسهامات الفكر و أرومة الأصل والمحتد تبقى سودانيته الخالصة شامة متفردة في بنائه العقلى ونسيجه النفسى وشوارده الوجدانية. أي أنه يمثل ما يجب أن تكون عليه الشخصية السودانية فى افضل تجلياتها، وهى تشتمل على هذا التوازن الخلاق . ام تراه ظاهرة تراكمية للكسب التاريخى لحالة المهدية الكامنة فى طورها الجديد؟ إذ لم يجعل من سابغ عمره المضرج بالدماء والاجتهاد والسجون حسينيات تحسن اللطم والتفجع وانشاد المواويل ، بل منارات مضيئة لإحسان الفعل والقول.
هذه المقاربة تتخذ طريقا وسطا، إذ لا تجفو عن ملامسة رقائق العرفان وانسانيات الرثاء بقدر قدحها فى محاولة لإكتشاف اهم سمات مشروعه السياسي والفكرى .
ان الشفرة في مقارباته السياسوفكروية هى أنه اجتهد فى أن يكون المنطقة الوسطى أو نقطة الالتقاء بين اليسار واليمين. أو بعبارة أخرى المعادل الموضوعى لطرفى الصراع الايدلوجى والسياسى في السودان، وهو ما وصفه د. التيجاني عبدالقادر بالثنائيات المدمرة بين إسلامي وعلمانى. وقد وجدت لهذا النزوع التوفيقى عند الصادق وان يكون نقطة التقاء اليسار واليمين جذورا فى رؤيته الفكرية للمهدية فى أنها حسب وصفه عبارة عن جسر يربط بين السنة والشيعة ومذاهب التصوف ومدارس الفكر ومذاهب الفقه الإسلامى المتعددة. لذا أراد الوسطية بوعى ليكون نقطة التقاء التيارات المتصارعة. قال لي في حوار سابق أنه حمى كيان الانصار من الاختراق الفكري بنزعة التجديد الدينى والتحديث مما اضعف تأثير الحركة الاسلامية علي الانصار، وبالدعوة للأفكار التقدمية مما عصم كيان الانصار من اختراق الاطروحات اليسارية.
لا تكتمل دراسة ابعاد هذه الشخصية الفذة الا من خلال ثلاث مزايا مازت شخصيته ووشمت نشاطه السياسي ووسمت اجتهاداته الفكرية.
وهو أنه مثقف موسوعى غزير الإنتاج حيث ترك آثارا مكتوبة تقترب من الألف مؤلف تضم الكتب والإصدارات والمحاضرات المكتوبة. واختط لنفسه منهجا فى الاجتهاد الفكرى حيث لازم منهج التجديد الدينى والاجتهاد فى حوار وجدل
( الاصل والعصر) ، وتبنى منهجا وسطيا معتدلا ابتعد فيه عن السلفية الانكفائية حسب تعبيره، منفتحا على ابتلاءات الحداثة والتعاطى مع منتجات وآثار الحضارة الانسانية. وهو زعيم سياسي جعل الديمقراطية منهجا وسلوكا وهدفا دفع من اجلها انضر سنوات عمره فى المنافي والسجون. وهو داعية للتحديث وسط كيانه وفى أجهزة حزبه. تميز بفضائل إنسانية نادرة وهي الانفتاح علي جميع شرائح المجتمع السودانى، والقدرة على الحوار و الاستماع للأصدقاء والمخالفين والتفاعل مع مختلف الاجيال. كان فى حياته مستودعا للحكمة وداعية للسلام. وهذا ما جعل الباحث الأكاديمي والكاتب السودانى د. عبدالوهاب الأفندي ان يصفه بأنه من زعماء السياسة القلائل الذين تفوق ايجابياتهم على السلبيات.
ويمكن تلخيص ملامح مشروعه فى التجديد الدينى، وتوطين الديمقراطية والاعتزاز بالإنسانيات والهوية السودانية، اضافة لإسهامه الفكري العميق فى قضايا التحولات الدولية والظواهر العالمية واهتمامه خاصة بالفكر السياسي والاجتماعي. وقد راهن فى كتابه ( الديمقراطية راجحة ورائجة) علي عودة الديمقراطية. ولا يزال السودان يكابد السعى نحو هذا الهدف خاصة بعد التحولات التى فرضتها ثورة ديسمبر.
تميز الإمام الصادق المهدى بفرادة مدهشة فى المزج بين التراث السودانى وأدوات الحداثة، وقد وسم نشاطه أثناء فترة الطلب الجامعى فى اكسفورد عبر الجمعيات المختلفة بالانفتاح علي مختلف التيارات الفكرية خاصة توجهات حزب العمال واهتمامه بالنقابات فى العمل السياسى وجدل دولة الرفاه الاجتماعى و مزايا وإشكاليات التوجهات الاشتراكية فى الاقتصاد.
الخروج من قوقعة التنميط:
يعتبر ضمن قلة من الزعماء والمثقفين والمفكرين الذين استطاعوا أن يكسروا بحنكة ودراية كل أشكال التنميط حول شخصيته. وان يتجاوز كل الأحكام القيمية التى حاولت أن تختزل تاريخه و ان تعتقل كسبه فى صورة نمطية رجعية وتقليدية ، وتشيع أنه أميل للتنظير والحديث المرسل من النزعة العملية و اتخاذ القرارات الحاسمة والناجزة . وفشلت محاولات اعتقاله المعنوي في مرحلة تاريخية محددة مثل ان ازمته هي التأرجح بين تقليدية الجزيرة ابا وحداثة اوكسفورد كما قال الراحل منصور خالد، أو أنه تلبسته حالة ترتوسكية وهو يتبضع في سوق الازياء الفكرية فى اكسفورد كما قال الشيخ الراحل حسن الترابى. او انه حريص علي اعادة انتاج دولة الزبير باشا وقطع التطور الطبيعى للدولة الوطنية عبر التنوع التاريخى والتنوع المعاصر بالأسلمة والتعريب القسرى كما اتهمه جون قرنق من قبل.
كثيرون كانوا ضحية للصورة النمطية التى صنعها المجتمع والرأي العام، ورغم المحاولات الشرسة للبعض اختزال اجتهاداته لمجرد انه محب للكلام ، الا انه أثبت عمليا أن الحديث والتواصل والكلام هو حالة ديمقراطية. وقال فى ندوة حاشدة كنت ضمن حضورها لمن ظن أنه يعيره بكثرة الشرح أن وسيلته كزعيم سياسى هى الإقناع بالمنطق والكلام و الجدل وهى جوهر مطلب الديمقراطية دون أن يحمل الناس علي رأي بأدوات الإكراه القسرى او الجبر ، لأنها من حيل الديكتاتوريين.
كأن التاريخ يعيد نفسه اذ كتبت صحيفة التايمز اللندنية في نعى الإمام عبدالرحمن يوم ٢٤ مارس ١٩٥٩ ان وفاته: "حادثة سياسية بالغة الاثر في قطر بدأ- ومنذ فترة- في إظهار أعراض عدم استقرار واسعة النطاق ينبغي مراعاة تداعياته بدقة وحذر ولكن عشيرة المهدى قوية الترابط وهذه الحقيقة ربما تكون افضل ضمان للاستقرار".
كأن التايمز تعيد احياء الماضى فى نسج فجيعة الحاضر. إذ يمضى الإمام الصادق المهدى إلي ربه فى ذات التحولات والظروف الدقيقة التى توفى فيها جده الإمام عبدالرحمن، وهناك مخاطر جمة تحيط بالسودان ، فى وقت أحوج ما تكون فيه البلاد لحكمته ورجاحة عقله ووسطيته. لكن كما قالت التايمز مراهنة وقتها أن عشيرته المترابطة ربما تكون احد ضمانات الاستقرار.
يخلط الغربيون بين كسب الإمام الصادق المهدى السياسي والاداء التنفيذى لتجربته السياسية رئيسا للوزراء خلال فترتين من عمر السودان الحديث، وبين كسبه الفكرى والثقافى و اسلوب زعامته الكارزمية لطائفة الأنصار.
إذ أن أبرز خصائص زعامته أنه لم يكن صورة مستنسخة من جده الإمام عبدالرحمن رغم انه مؤسس المهدية الجديدة، ولم يكن صورة فوتوغرافية من والده الإمام الصديق الذى عاجله الموت قبل أن يبرز ملامح مشروعه السياسي مكتملا. لذا حاول الصادق منذ تعلقه بالعمل السياسي أن يثبت أنه رقما مستقلا فى معادلة السياسة والدولة و تجديد البعث المهدوى، وانه ليس مجرد رقما طرديا متسلسلا في قائمة زعماء كيان الانصار، وقد مثل بالفعل تحولا نوعيا فى أسلوب القيادة ونمط الزعامة. لذا ظل الإمام الصادق المهدى أنه استثناء إذ ولد وفى فمه معلقة من فضة لكن لم يستسلم لحياة الدعة المتوفرة له وانخرط يشق طريقا عصيا بكسبه الذاتى أكثر من ارثه الاسرى وسط رمال السياسة المتحركة فى تاريخ السودان الحديث.وقال فى آخر رسائله قبل وفاته أنه دفع سنوات عزيزة من عمره ثمنا لمواقفه سجنا وتشريدا فى المنافى. لعلمه أن أكثر الناس ابتلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل دون أن يفت ذلك من عضده أو يضعضع من قوته وشكيمته.
قال عنه الطيب صالح أنه كان يمثل طاقة جديدة في الحياة السياسية فى ستينيات القرن الماضى كقيادة شابة مستنيرة تحمل الامل والتغيير أشبه بتلك الروح التى بثها جون كندى في أمريكا.
لعل فى شخصيته ما يغنى عن الشرح إذ يعرفه
المعجم التاريخي للسودان
Historical Dictionary of Sudan
الذي أنجزه الثنائي ريتشارد و كارولين لوبان بمشاركة روبرت كرامر.
اضافة لسيرته السياسية المعروفة قال المعجم إن اميز انجازاته هى حماسه وعمله لتحديث حزب الأمة وكيان الانصار، لكن أضعف حكومته في الديمقراطية الثالثة تردده في حسم مشروع الشريعة والأسلمة مما عوق التوصل لاتفاق مع الحركة الشعبية.
لاشك أن تعريف الصادق المهدى فى معجم الشخصيات الذى حرره ثلاثة من الأكاديميين الغربيين من ذوى الاختصاص فى الشأن السودانى تصلح نموذجا للحكم. حيث تم وصفه أنه كان متحمسا وعمل بجد لتحديث الكيان والحزب. لكنه اخفق فى حسم الهوية و التوجهات الثقافية للشعب السودانى لميله لمشروع الأسلمة وتردده فى إلغاء قوانيين سبتمبر اثناء فترة حكمه فى الديمقراطية الثالثة ، اضافة لعدم توصله الى اتفاق سلام مع زعيم الحركة الشعبية جون قرنق. وذلك ما وصفه الدكتور روبرت كولنز بأن قرنق والصادق بددا جهدهما فى مواجهات غير منتجة. ولعل الرسائل المتبادلة بين قرنق والصادق التى نشرت لاحقا تكشف جانبا مهما من روح تلك المواجهة السياسوفكروية، اذ حمل قرنق تطاول ازمة الجنوب الي ما اسماه ابتدار القوانيين الاسلامية بالتحالف مع الترابى منذ الستينات مما عمق من جراحات الأزمة الوطنية. هذا رغم أن أول كتب سلسلة التوثيق لسيرة الصادق المهدى التى حررتها بمهنية عالية الأستاذة رباح الصادق حمل اسم ( بينج ماريال) أي الرجل الكبير. وهو اللقب الذى أطلقه الجنوبيون علي الصادق فى زيارته الشهيرة إلي جنوب السودان فى ستينيات القرن الماضي . وذهب فى ذات الاتجاه الدكتور سلمان محمد احمد سلمان فى كتابه عن دور القوى الشمالية فى انفصال جنوب السودان حيث حمل كل القوى السياسية نصيبا من تراكمات الفشل فى تحقيق الوحدة الوطنية ودعم توجهات الانفصال المبكر بفعل التمادى فى نقض العهود والمواثيق حسب عبارة أبل ألير ،وفشل السياسات الوطنية فى معالجة الأزمات المتراكمة وعلى رأسها حزب الأمة بقيادة الصادق المهدى.
يصنف ابو القاسم حاج حمد جيل الإمام الراحل الصادق المهدى أنه وجد نفسه في حالة فراغ بعد تجاوز الترتيبات الدستورية لجيل الاباء لعام ١٩٥٦ من المورث الجغرافي اي الحالة الجغرافية السياسية التى صنعتها مصر والموروث الاقتصادي الذي خلقته بريطانيا عبر ما أسماه ( المجتمع المصغر) الذى تركه الاستعمار
و( القبضة الفوقية) التى شكلها الحكم مع زعيمى الختمية والانصار.
كان الصادق المهدى ممن وصفهم حاج حمد من النخبة الشمالية التى وجدت أن تحمل عبء السودان أكبر من قدراتها، لأن قاعدة النخبة الاجتماعية الحديثة لا تتجاوز ١٧% في المناطق الحضرية.وقال هم لم يصنعوا الوطن لكنهم ورثته.
وهو ذات ما عناه الراحل (علي مزروعى) عندما قال ان أزمة السودان تكمن فى أن القوة الاستعمارية وطنت ( البرامج الصلبة) في الشمال اى مشروعات الإنتاج الزراعي والاقتصاد الحديث والتعليم والبنيات التحتية وأنشأت ( البرامج الناعمة) في الجنوب وهى اللغة الانجليزية والثقافة العلمانية وتعليم الارساليات الإنجيلية.
لعل فى كتاب د. حيدر ابراهيم عن الديمقراطية السودانية إضاءات مفيدة فى سياق تحليل فشل الديمقراطية وردها لأربعة أسباب هي: اختلاط الدين بالسياسة، وتدخل الجيش فى السياسة، والوحدة الوطنية والفشل التنموى. وأشار إلي أزمة انعدام التنظير فى مفاهيم الديمقراطية والاكتفاء بالممارسة العملية والطقوس الشكلانية.
فى ذات السياق وصف الدكتور التيجاني عبدالقادر الديمقراطية الثالثة بأنها عشائرية الطابع اذ تعبر عن أزمة مزدوجة ثقافية وبنيوية ، وتقوم علي اختزال العملية الديمقراطية في الطبقة والعشيرة والحزب ثم يتم اختزال كل ذلك فى شخصية رئيس الوزراء. وهذا ما اشار اليه السفير الامريكي الاسبق دونالد بترسون بان حزب الامة يزخر بالكفاءات لكن كاريزما الصادق المهدى ألقت بظلالها الكثيفة عليه، هذا رغم اعتزاز الإمام بعملية التحديث والديمقراطية فى منظومة اتخاذ القرار.
الغربيون يزهدون فيه حاكما ويحبونه معارضا:
اثار فضولي الوجدان الغربى المنقسم ازاء الزعيم الراحل الصادق المهدى، اذ يزهدون فيه حاكما و يحبونه معارضا.
يقول هيرمان كوهين مساعد وزير الخارجية للشئون الافريقية في كتابه (التدخل في افريقيا):
" نبرة من الارتياح سرت وسط مسئولي افريقيا في الادارة الامريكية بسقوط حكومة الصادق المهدى الفاقدة للأمل والقدرة بواسطة الانقلاب". لمزيد من الإيضاح كنت سألت الإمام الراحل في جلسة نقاش يسرها بلطفه المعهود الحبيب محمد زكى في القاهرة عن اسرار الاجتماع الذي تم بينه وفريق امريكى خارج السودان قبل أن يتولى رئاسة الوزراء في ١٩٨٦. فقال أنه اجتمع مع وفد أمريكى مرتين قبل توليه منصب رئيس الوزراء في قبرص أواليونان . وان شروط الوفد الأمريكى كانت واضحة وهى التماهى مع المصالح والتوجهات الامريكية في المنطقة. وكان رد الإمام حينها مليئا بالعزة والوطنية إذ أكد علي استقلال القرار السودانى وأنه يدور حيثما دارت مصلحة السودان.
لم يعجب رد الإمام الوفد الأمريكى الذي تعززت قناعته علي أن الإمام كما كشفت التقارير التى عكفوا عليها حول شخصيته وتاريخه أنه شديد الاعتزاز بنفسه وكرامة اهله.
قال دونالد بترسون السفير الامريكى الأسبق في كتابه
Inside Sudan إن الصادق المهدى أضرت به سياسته الخارجية خاصة التوجه نحو إيران وليبيا. وكتب الدكتور كولنز في كتابه
Modern history of Sudan
ان الصادق المهدى: "وريث المهدية والذى رمز بتعليمه الغربى إلي الماضى التاريخى والي المستقبل. غير أن الصادق المهدى قد فشل فى الارتفاع إلي مستوى التحديات، ومن المفارقة أن الحال وصلت به في النهاية إلى تقليد نميرى فى الرغبة فى البقاء في السلطة علي حساب اى شيء آخر وهو ما دعاه لعقد صفقات سياسية مع الحزب الاتحادي والجبهة الإسلامية والجيش، ولكنه افتقر إلى مهارات سلفه وقد أدت كل العوامل السابقة إلى تقويض العملية البرلمانية".
ويمضى كولينز ليزعم أن تذبذب الصادق المهدى فى حسم قوانين سبتمبر حيث قرب اليه الاسلاميين الأصوليين وهمش العلمانيين.
لاشك أن الشهادة القاسية التى ذكرها الاكاديمى الامريكى روبرت كولنز عن الصادق المهدى تعبر اكثر عن عواطفه الداعمة لمشروع الحركة الشعبية والسودان الجديد بقيادة قرنق وتفتقد للنظر الموضوعى وأدوات الانصاف التاريخى. كولنز كان عضوا فى لجنة تحديد حدود ابيي بعد اتفاقية السلام الشامل.كما عمل مستشارا لحكومة جنوب السودان فى شأن النزاعات الحدودية مع السودان.
ولعل الباحث المدقق يلاحظ أن اتهامات الغربيين من السياسيين والأكاديميين للصادق المهدى تنحصر فى أنه فوت فرصة تاريخية لتمزيق قوانين سبتمبر الإسلامية ، وعجز عن تحقيق السلام مع قرنق. وهذا ما دعا الولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص للترحيب بإنقلاب الانقاذ علي الوجه الذى ذكره كوهين سابقا ليس ضيقا بالنظام الديمقراطى لكن لإعتقادهم أن توجهات سياسته الخارجية اضرت بالمصالح الأمريكية في المنطقة. ويعكس ذلك كما أسلفنا فى تعريف معجم السودان لشخصية الصادق فى أنه فشل فى إلغاء قوانين الشريعة.
تكشف سلسلة الكتب التوثيقية الهامة التى حررتها السيدة رباح الصادق بدقة عالية وحنكة فى توثيق السيرة الذاتية والسياسية للصادق المهدى التي صدرت فى خمس كتب مسلسلة حسب التدرج التاريخي انها قدمت اصدق صورة لتوجهات وخيارات الصادق المهدى السياسية وشرحت المتاعب التى واجهته، لعل أهمها أنه لم يكن يحكم منفردا بل مع شركاء متشاكسون كما قال حسب طبيعة الحكم الإئتلافى الديمقراطى. لكن رغم هذه الحقيقة الساطعة فإن الغربيين لم يتعاطفوا مع سنوات حكمه، لأنهم اختاروا دعم الجانب الآخر من معادلة الصراع وهو جون قرنق وحلفائه من دعاة السودان الجديد والمشروع العلمانى. لذا قال غازي صلاح الدين في كتابه عن "الإصلاح السياسي" أنه تفاجأ برد المبعوث الأمريكى الخاص دانفورث عندما طلب منهم الحياد لحل قضية جنوب السودان. فقال دانفورث ان أمريكا ليست محايدة فى الحرب مع الحركة الشعبية بل تدعم الجنوبيين. وكما درج الدبلوماسيون الأمريكيون علي القول فى الاجتماعات الرسمية فى ذلك العهد
We are not neutral but trying to be fair.
لسنا محايدين لكن سنجتهد لنكون منصفين.
لعل الصورة الذهنية للصادق المهدى في المخيلة الغربية ذات الاهتمام بالسودان تجعله فى مقام الحفيظ على تراث المهدية لكن لم تهتم بجهوده التحديثية في كيان الانصار وحزب الامة، بل حاكمته علي ما اسمته فشل فترة حكمه في الديمقراطية الثالثة. لكن سرعان ما استدركت خطأها مع تنامى ظاهرة الاسلام السياسي.
الإسلام والغرب بعد التفجيرات الارهابية:
عادت المؤسسات الغربية للاهتمام باجتهادات الصادق المهدى الإسلامية خاصة نهجه الوسطى المعتدل بعد انتشار الإسلام السياسى في المنطقة في مقارباته العميقة عن جدل الأصل والعصر.
و لعل افضل نموذج للاستشهاد ليست جهوده فى نادى مدريد أو منابر الوسطية الدولية لكن في المحاضرة القيمة التى قدمها فى معهد الدفاع فى الولايات المتحدة عن ( الاسلام والغرب) عقب أحداث ١١ سبتمبر فى العام ٢٠٠٢ وشاركت معه الزعيمة الباكستانية الراحلة بنازير بوتو. وقد كنت شاهدا وحضورا علي مدى تقدير المعهد والمختصين والمهتمين لإسهامه الفكري.
ابتدر المحاضرة وهى عبارة عن سياحة فكرية جمعت بين السياسة والفلسفة والتاريخ ومحددات العلاقات الدولية والصراع الحضارى بقوله إن أحداث ١١ سبتمبر احدثت آثارا عميقة علي المستوى الدولى مما يجعل إجالة النظر فى العلاقة بين الإسلام والغرب أمرا ضروريا وحتميا.
قدم الصادق المهدى نفسه فى هذه الندوة ليس بإرث عائلته التاريخي بل داعيا للحداثة والتوافق الوطنى، اذ اكد ان كل افكار التسوية السياسية لقضية الحرب الاهلية فى ادبيات حل النزاعات قدمها حزبه خاصة المواطنة بدلا عن الهوية الدينية. وقال رغم انه ينحدر من سلالة تاريخية مرموقة ارتبطت بالتحرر الوطنى والحكم فى تاريخ البلاد الا انه قرر العمل في السياسة وقاوم ثلاث ديكتاتوريات.
وقال الصادق عن نهجه السياسي أن جده الإمام عبدالرحمن نجح في تقديم نموذج تحديثى معتدل من نسخة الثورة المهدية، وأنه بعد تسلمه زمام القيادة توسع فى تحديث الكيان كمنظومة سياسية حديثة وجعل اتخاذ القرارات أكثر ديمقراطية.
انتقد الصادق فى الندوة تفكير النخب الغربية فى التعامل بأسلوب رد الفعل علي أحداث ١١ سبتمبر بما فى ذلك الاحتفاظ بالوضع القائم حينها مع استخدام القوة والأدوات العسكرية الخشنة للانتقام دون الدخول فى نقاش عميق حول أسباب ودوافع تلك الهجمات. وعضد منطقه باستشهاد من أدب شكسبير بأن المزايا فى طى البلايا أو المنن فى طي المحن مما يعنى ضرورة التعامل مع هذه المأساة والازمة بانها وفرت سانحة للمراجعة والتأمل والبحث عن الاسباب الحقيقية للظاهرة.
أن ما ذكره الصادق المهدى فى هذه الندوة يجد أصداء فى كتاب المستشرق اليهودى الراحل برنارد لويس فى كتابه (ما الخطأ)
What went wrong
وقد حملت المناظرة الفكرية التى جمعت برنارد لويس ومحمد أركون في مكتبة الكونقرس في العام ٢٠٠٣ تقريبا إلى إعادة التساؤل حول ارتباط العنف والارهاب بالحضارات، عندما قال لويس ما الخطأ والمسلمون يرتبطون بالعنف والحضارة الإسلامية تشتبك فى مشتركات إنسانية مع الحضارة الغربية. وكان تساؤل أركون ما الخطأ الذى جعل الحضارة والمدنية الغربية تحصد أرواح الملايين من البشر فى الحرب العالمية الثانية. والعالم الإسلامى كان ضحية للحرب ولم يكن جزء منها أو سببا فيها.
أكد الإمام الصادق المهدى فى الندوة أن الاستدلال بحديث بعض الأئمة وعلماء الإسلام أن تفجيرات ١١ سبتمبر هى عقاب سماوى لأمريكا، قاله ايضا كبار القساوسة ورجال الدين الغربيين مثل القس جيري فاويل فى امريكا نفسها. وانتقد الامام فى عرضه أطروحة صراع الحضارات لهنتجنتون وقدم استدراكات مهمة عليها مثل أن طالبان أو القاعدة لا تمثلان سهم الإسلام في الصراع الحضاري القائم. كما اعترض أيضا علي نهج بعض الساسة في الغرب الذين يدعون لمواجهة الأزمة الأمنية التي خلقتها التفجيرات بالوسائل العسكرية وأدوات القهر و الجبر والاكراه . ووصف بوضوح هجمات ١١ سبتمبر بأنها فعل سياسي استخدم العنف والإرهاب كوسيلة للتعبير والاحتجاج ومحاولة لتسويغ ايدلوجيا معزولة للأقلية الدينية لتبرير الإرهاب. وقدم تعريفا للإرهاب تجاوز فيه استخدام العنف لتحقيق غايات سياسية ليشمل توظيف ارهاب الدولة بواسطة الانظمة الدكتاتورية لإكراه وتعذيب المدنيين العزل.
ثم عرج في محاضرته القيمة إلي استعراض الآيات الواردة فى القرآن الكريم عن التسامح والتعايش واحترام الآخر المخالف، وناقش آيات السيف التى عدها البعض أنها نسخت آيات الاسماح حسب التعبير الجمهورى. وقال انه فصل كل هذه الرؤية في كتابه جدل الأصل والعصر وكتابه الذي صدر باللغة الانجليزية بعنوان
The Dialectics of Identity and Modernity
وقال ان كل الفتاوى الصادرة من العالم الإسلامى في هذا الصدد كانت رد فعل لنزعة المغالاة في معاداة الدين الاسلامى.
وانتقد السيد الإمام المركزية الغربية دون أن يسميها مشيرا أن فشل الغرب فى الإعتراف بالاسلام مقابل فرضية تفوق المسيحية كدين وحاضنتها الحضارة الغربية أصبح أمرا مفروغا منه، وهو ما عزز من رد الفعل الغاضبة و المناهضة من قبل المسلمين.
مذكرا بأن كثيرا من مفكرى الغرب مثل ارنولد تونبى طالبوا بأن يعترف الغرب بأن حضارته هى أبنة التعددية الثقافية وليست فعلا أوروبيا محضا.
وفى مقاربته لتعضيد أطروحة تونبى حدد ثلاثة مصادر للحضارة الغربية اولها نابع من داخل الثقافة الغربية الأوروبية. ثانيا ثورة عصر التنوير، وثالثها أن الحضارة الغربية هى ثمرة لتراكم الخبرة والمعرفة الإنسانية من جميع أنحاء العالم التى تتمثل فى حرية البحث العلمى ، الحريات الشخصية والعامة، وحقوق الإنسان والاقتصاد الحر وغيرها. لذا تبنت المجتمعات الإنسانية فى العالم هذه القيم والمنتج الحضاري الإنساني حسب جذورها الحضارية وخصوصيتها الثقافية.
وفى حديثه عن آثار العولمة قال إن توزيع الثروة والقوة الاستراتيجية أضعفت العالم الثالث لصالح القوى الكبرى وان تنمية (الجنوب) العولمى لا يمكن ان يترك لقوى السوق فقط. داعيا الغرب لإنتقاد نفسه والنظر لغبن الدول الفقيرة فى ظل توجهات العولمة الشرسة.
لعل الجزء الأهم من الندوة والذى تحدث فيه الإمام الصادق المهدى بشجاعة في معهد الدفاع بفرجينيا وفى حضور عدد من الدبلوماسيين والباحثين و جنرالات البنتاغون وخبراء وضباط محاربة الارهاب فى الوكالات المختلفة، تحدث فيه عن قضية فلسطين وأنها جزء من أسباب تغذية ظاهرة الإرهاب خاصة فى ظل التماهى والدعم الامريكى لتحقيق أهداف الحركة الصهيونية واغتصاب الحق الفلسطينى. لذا لم يكن غريبا أن يتصدى الإمام فى آخر عمره لدعاوى مشروع تطبيع السودان مع إسرائيل في إطار الاتفاق الإبراهيمي وقد أصدر ورقة مشهورة فصل فيها موقفه موردا الشواهد والمنطق والتاريخ .
وكشف الإمام في محاضرته تلك كيف انه حاول مع صديقه أحمد مختار امبو مدير اليونسكو الاسبق التوسط لحل أزمة الرهائن الأمريكيين فى طهران عام ١٩٧٩. وقال انه خلال رحلاته المكوكية للتوسط بين واشنطون وطهران وجد تمنعا إيرانيا قويا اعترف بمبرراته وزير الخارجية الامريكى جورج شولترز. كما اعترف به كتاب أمريكيين مثل مارك كيرتز فى كتابه ( غموض القوة) بقوله إن قضية الرهائن الأمريكيين فى طهران هو رد فعل علي تدخل أمريكا فى ايران وصنع انقلاب ١٩٥٣ علي مصدق ودعم نظام الشاه الديكتاتوري. كما تحدث مستشهدا أيضا بالتدخل الأمريكى في أفغانستان وان ظاهرة العرب الأفغان التى أنتجت بن لادن هى نتيجة طبيعية لدعم أمريكا للمجاهدين العرب أثناء فترة الغزو السوفيتي.
قال لم يكن بن لادن أو طالبان هما من صنع أمريكا مباشرة بل نتيجة لسياسة العزل بدلا من حكمة الاحتواء.
واستشهد بكتابات بعض المفكرين الاتراك عن احتمالات زيادة الحركات المتطرفة فى تركيا اذا استمرت سياسة عزل الاحزاب الإسلامية والعمل على دعم النظام العلمانى المتطرف فى تركيا. ولعل فى وصول اردوغان إلي سدة الحكم تصديقا لرؤيته النقدية بعد عقد من الزمان منذ قيام هذه الندوة..
وفى رسالة مباشرة وجهها للأمريكان قال ان جزء من الأزمة يكمن فى النقد الموجه للنظام الأمريكى وهو ان امريكا ديمقراطية فى الداخل و داعمة للديكتاتورية في الخارج.
وان الترياق لمناهضة الإرهاب هو بسط الديمقراطية وترسيخ دولة القانون. وان الغرب يفضل التعامل مع الأنظمة الديكتاتورية لان الديمقراطيين اقل مساومة علي المصالح الوطنية و يسعون لعلاقات متساوية ومصالح مشتركة عن طريق التفاوض.
لعل الإمام الصادق المهدى يشير فى هذه النقطة إلي موجدته الشخصية عن أزورار أمريكا عن دعمه ومساندته أثناء توليه منصب رئيس الوزراء فى الديمقراطية الثالثة (١٩٨٦-١٩٨٩)
وكما ذكرت في صدر هذا المقال فإن تأثير واشنطون علي توجهات وسياسة الصادق الخارجية كانت ضعيفة للغاية ، ولعل أوضح تجليات هذا الموقف رفضه لمقترحات الوفد الأمريكى الذى التقاه سرا مرتين خارج السودان. ولا شك ان ثقته فى نفسه وحرصه علي استقلال قراره الوطنى كانت سببا فى هذه الفجوة مع واشنطون التى سعدت لنهاية نظام حكمه لعلاقاته الممتدة مع ليبيا وإيران حينها.
وقال الإمام فى الندوة أنه توقع في كتابه ( تحديات التسعينات) استمرار حالة الحرب الباردة وانقسام العالم إلي فسطاطين .من يملكون الثروة والقوة وأسلحة الدمار الشامل فى جانب. وفى الفسطاط الآخر يقبع الضعفاء الذين لا يملكون. وسيسعون لمقاومة هذه الهيمنة بوسائل شتى مثل تفشى الإرهاب وزراعة ونشر المخدرات والهجرة غير الشرعية واختلالات في السياسات الصحية والمناخية وغيرها.
في الختام قال انه يقدر توجهات المجتمع الامريكى ونزوعه نحو التدين والمثالية. وان أمريكا التى استطاعت أن تشكل مستقبل العالم بعد الحرب العالمية الثانية وساهمت فى إنقاذ أوروبا واليابان وانتصرت علي القطب الشيوعي السوفيتي، فإن أمريكا تستطيع أن تقود العالم لمواجهة التحديات الجديدة لكن بعد إعادة النظر فى اختلالات خيارات سياساتها السابقة، وأن مقدرات الدولة الأمريكية يجب أن تتخطى حاجز المصالح الصغيرة واهداف اللوبيات الضيقة لخلق نظام دولى يتسم بالعدالة والفاعلية.
حظيت ورقته التى قدمها فى الندوة بإحتفاء ظاهر واهتمام بالغ من قبل الحضور. ورغم حديث الزعيمة الباكستانية الراحلة بنازير بوتو الا ان الاهتمام كان منصبا علي ورقة الامام لأنها جاءت صريحة وواقعية وحمل فيها الولايات المتحدة بعض المسئولية فى تنامى ظاهرة الارهاب خاصة انحيازها الاعمى للدولة الاسرائيلية علي حساب الحقوق الفلسطينية العادلة وقدم في الورقة سياحة فكرية وسياسية مهمة.
لعل أبرز سمات الورقة التى قدمها الإمام الصادق المهدى في معهد الدفاع عقب أحداث ١١ سبتمبر أنها لم تكن اعتذارية ولم يفرط في جلد وتقريع الذات بل تحدث بندية فكرية داعيا أمريكا لعدم الانجرار والتعامل برد الفعل بل دراسة أسباب الظاهرة.
اهتمام الاكاديميا بالقوانين الإسلامية فى السودان:
اهتم معهد موشي ديان لدراسات الشرق الأوسط وإفريقيا فى جامعة تل أبيب بإسرائيل بدراسات السودان التاريخي والمعاصر خاصة المهدية وحركات الإسلام السياسي في السودان. وقد أصدر المركز عام ١٩٩٩ دراسته الشهيرة التى أعدها د. فيسبورد عن ( التعاليم السياسية والدينية عند حسن الترابي) ، كما اصدر دراسته الاشهر عن القوانين الاسلامية فى السودان وتطبيق الشريعة في عهد نميري التى أنجزها الدكتوران أهرون لايش الأستاذ بالجامعة العبرية وغابيريل واربيرغ الأستاذ بجامعة حيفا، وهو باحث مهتم بالسودان حيث سبق وأن أصدر كتابا عن ( القومية الإسلامية والشيوعية في مجتمعات تقليدية. دراسة حالة السودان).
ظلت دراسة عودة القوانين الإسلامية في السودان سمنارا أكاديميا راتبا في الجامعة العبرية تحت اشراف الدكتور لايش، لكن ما يهمنا فى هذه المقاربة هى النظر في قضايا الاسلمة و تطبيق الشريعة عند الصادق المهدى .
ترجح الدراسات السائدة ان كل مشروعات الأسلمة عبر تاريخ السودان الحديث تستمد إلهامها ونموذجها الاول من الفترة المهدية، لكن يعتبر الصادق المهدى أن المهدية كانت عبارة عن جسر يربط بين السنة والشيعة ومذاهب التصوف والفقه المتعددة. وانا اعتقد ان اهم اجتهادات الإمام هي تخريجه وتحريره المهدية من سياقها العقدى إلي (المهدية الوظيفية) اى ان النظر للمهدية يجب ان يتم من خلال وظيفتها في البعث والاحياء الدينى وليس من خلال النظر فى الادلة والجدل الفقهى حول حقيقتها. وقد توسع فى هذا المبحث فى كتابه ( يسألونك عن المهدية).
يقول لايش واهرون في كتابهما عن التشريعات الاسلامية فى السودان، إن مفهوم الدولة الدينية عبر المقاومة السياسية راسخ في جينات المهدية. لكن يرى الصادق المهدى فى مؤلفاته أن الإسلام يملك الإجابة علي أسئلة الحداثة والدولة وتوفير التوجهات والمعايير الروحية والأخلاقية. وأنه لا يهم أن تكون الدولة الإسلامية تقليدية أو ثورية أو حديثة لكنها يجب أن تتقيد بالمباديء الدستورية التى تحض علي الكرامة الانسانية والعدل والحقوق. وينتقد المهدى ثلاثة عوامل اسهمت فى سوء فهم الاسلام لدى الغربيين وهى الحروب الصليبية والامبراطورية العثمانية والاستشراق. وان الاسلام قادر على شحذ الطاقة الحضارية للمسلمين لإحداث التغيير، وان الاسلام يقدم اجابات مقنعة علي قضايا العالم واوضاع الانسان عبر مختلف الازمنة التاريخية والنظم الاجتماعية والثقافية. ويرى المهدى ان ضمور الاجتهاد نسبة لتوظيف العلماء بواسطة السلطة كرس للتقليد الذى جمد العقل الاسلامى. وانه لا بد من توفير الشروط والمعايير اللازمة في المجتمع قبل تطبيق القوانيين الاسلامية. ويستشهد بان هناك ٢٤٥ آية في القرآن عن قضايا المجتمع. ٧٠ منها عن الاحكام الشخصية و٣٠ آية عن الجرائم و١٠ آيات عن الاقتصاد والتجارة و١٠ آيات عن الأوضاع الدستورية و٢٥ عن القضايا الدولية. واستخلص من هذه النسب فى القرآن علي تميز الإسلام بمبدأ ( المرونة) العالية فى استيعاب المتغيرات الاجتماعية. وان الحدود تدرأ بالشبهات والبينات والسياقات الظرفية.
وفى الإطار الاقتصادي يري الصادق ان الإسلام يعترف بالملكية الخاصة
وتكوين الثروات لكن شريطة دفع الزكاة والإنفاق علي الفقراء والمساكين وأعمال الخير. لذا لا يوجد تناقض بين الإسلام والاقتصاد الحديث. اما فى العلاقات الدولية فأن تصنيف الفقهاء لدار الحرب ودار الاسلام ودار العهد تعتبر تصنيفات كلاسيكية قديمة ، لأن الاسلام الحق يدعو للتعايش السلمى. وان الجهاد هو فقط للدفاع عن النفس وليس لفرض الاسلام بحد السيف. وان العلاقات الدولية فى الإسلام تقوم علي مفهوم التعايش علي رابطة الاخوة الانسانية، و قيم العدل واحترام العهود والمواثيق، وإقرار مبدأ التعامل بالمثل.
يستشهد لايش واهرون رغم اعترافها أن نموذج الدولة المهدية يمثل بؤرة الالهام لمقاربات الاسلام السياسي فى مراحل لاحقة أن الصادق المهدى يقدم رؤية مغايرة وهى أن تيار الانصار هو صناعة سودانية أصيلة نشأ في التربة السودانية علي عكس حركة الاسلاميين التى نشأت وتطورت فى الخارج واستزرعت من بعد في البيئة السودانية.
يستخلص لايش واهرون أن معارضة الصادق المهدى للتشريعات الاسلامية خاصة الحدود التى فرضها نميرى انطلقت ليس من مجرد المعارضة السياسية حيث كان الصادق يرى أنها هدفت لقمع المعارضين ، لكن عارضها اكثر من منطلقات فكرية واقعية حيث كشفت خطب الإمام فى تلك الفترة أن تطبيق الشريعة يتطلب توفير شروطا أساسية منها برلمان منتخب يعبر عن إرادة الأمة وتوفر العدل والحرية وتحقيق العدالة الاجتماعية. وكما قال فإن قطع يد السارق فى ظروف اقتصادية قاهرة كمن القاه مكتوفا في اليم وقال له اياك أن تبتل بالماء.
تتفق رؤية الاستاذ محمود محمد طه والصادق المهدى في معارضة قوانين نميرى الاسلامية فى ان القصد منها هو التنكيل بالخصوم والمعارضين وان تطبيق الشريعة يتطلب اجتهادات فى ظل مناخ ديمقراطي. وينسب البعض للصادق المهدى المنشور المشهور الذي لم يحمل اسم كاتبه بعنوان ( النظام السوداني والتجربة الإسلامية) في الفترة من ٢٩٨٣-١٩٨٥. رغم اتفاق المهدى ومحمود محمد طه علي معارضة قوانين نميرى الإسلامية ربما من منطلقات مختلفة، الا ان تلاميذ محمود وضعوا الصادق فى مرمى الخصومة السياسية وانبرى الدكتور القراى لنشر كتاب خصصه ليس للنقد الفكرى ، بل للتقريع السياسى بغير هدى أو كتاب منير.
علي عكس الصادق المهدى ومحمود محمد طه عمد الترابي الي تأييد القوانيين الاسلامية بدعوى ان ما لا يدرك كله لا يترك جله وان ما فعله نميرى خطوة فى الاتجاه الصحيح وان شابتها كثيرا من الاختلالات لكن تستكمل نواقصها ولا تلغى عوائدها ضربة لازب..
عاب الغربيون علي الصادق المهدى أنه رغم نقده الجهير لتجربة نميرى الإسلامية الا انه لم يجرؤ علي إلغاء القوانين عندما تقلد السلطة رئيسا للوزراء. وهو القائل انها لا تساوى ثمن الحبر الذى كتبت به.
وان تردده حسب زعمهم هو ما مكن للتيار الراديكالي من الاسلاميين من السلطة مع أبعاد العلمانيين عن التأثير والقرار، كما قال كولنز فى كتابه عن تاريخ السودان الحديث.
لكن كما كشف منصور خالد في برنامج (الذاكرة السياسية) الذى بثته قناة العربية
ان نميرى قرر تطبيق قوانين الشريعة ليسحب بساط الشرعية الدينية وحجج المعارضة السياسية من تحت اقدام خصومه لإطالة أمد حكمه.
ربما هذا يفسر أيضا موقف الصادق المهدى فى آخر فترات حياته عندما تحفظ علي تعديل القوانين ذات الطابع الاسلامى التى أقرتها حكومة عبدالله حمدوك رئيس وزراء الفترة الانتقالية، مؤكدا ان هذه التعديلات هى من مهام حكومة منتخبة تملك التفويض الشعبي وليس قرار حكومة انتقالية.
يشتجر حول منهج الإمام السياسي والفكرى ثلاث طوائف، حيث يراه التيار اليساري العلمانى في السودان أنه يمثل امتدادا للإسلام السياسي بل هو داعية للأسلمة والتعريب ضد الاقليات الثقافية وإنفاذ القوانين الإسلامية. بينما يراه الناشطون فى تيار الاسلاميين انه اقرب لليبرالية وقيمها العلمانية من قوى اليمين الراديكالية، وانه بهذا الموقف يعتبر داعما ومساندا للمشروع الليبرالي العلمانى.
اما الغربيون فيرون أنه ترياق مضاد للإسلام السياسي من باب المدافعة الديمقراطية وبسط الحريات واتباع نهجا وسطا معتدلا والتمسك بالحداثة وقيمها الليبرالية. ولعل تعدد وجهات النظر حول كسبه من مختلف تيارات الفكر وتوجهات السياسة تعكس قدرته الديناميكية على صياغة المواقف والمرونة العالية للتعامل مع تحديات الواقع، دون أن يفقد أصالة موقفه. وهو ما يعتبره البعض ترددا ومراوغة، لكنها ديناميكية كامنة تغذيتها المعرفة والحكمة للتعامل مع اقضية الواقع المتغيرة.
سقف المساومات ليس أبعد من توقعات القاعدة الشعبية:
يصدق علي مواقف الصادق المهدى السياسية والفكرية ما قاله صديقه غراهام توماس البريطانى صاحب كتاب ( موت حلم) ان الإمام الصادق المهدى لا يستطيع أن يحلق بعيدا فى مساومات السياسة اكثر من ما يتوقعه الانصار لانه زعيم وفّىٌ لزعامته وناسه.
ربما شفرة هذا الموقف هو ما عبر عنه الشاعر عبدالقادر الكتيابى في قصيدته عن الصادق المهدى التى كتبها فى العام ١٩٨٦.
علي الطلاق
مكاء صلاة اليمين عليك
وحج اليسار إليك نفاق
..لتعرف أن المنابر سوق
وان البضاعة انت..
وليس هناك امام وليس هناك رفاق
انى اخاف عليك اليمين اليسار
اخاف عليك بقايا التتار
وان تتحمل ما لا يطاق..
يمكن القول بعد هذا النقاش أن الصادق المهدى استطاع أن يحفر رافدا جديدا في مجرى المهدية الجديدة تحت مظلة ونهج مؤسس المهدية الثالثة الإمام عبدالرحمن المهدى. وسيظل السؤال الذي يؤرق الباحثين والدارسين لتراثه هل استطاع الصادق المهدى أن يؤسس للمهدية الرابعة.
فى اعتقادي أن الإمام الراحل استطاع أن يحدث تحولات جوهرية في كيان الانصار وحزب الامة وكذلك في محيط السياسة السودان ،وقدم إسهامات مرموقة فى مجالات الثقافة والفكر. كما قال البروفيسور حسن احمد ابراهيم ان الإمام عبدالرحمن كان رائد المهدية الجديدة واستطاع بقيادته الحكيمة وإتقان فن المناورة أن يعيد تأسيس المهدية علي اسس جديدة وانقذها من الاندثار ولعنة التاريخ.
رغم إشادة الباحثة هيزر شاركى بكتاب الدكتور حسن احمد ابراهيم عن السيد عبدالرحمن المهدى ودراسته عن المهدية الجديدة وتقريظ الكاتب لمناقب السيد عبدالرحمن من انه رائد حركة استقلال السودان الا انها تنتقد اعجابه الزائد كباحث أكاديمي محايد وقالت لا شك أن د. حسن ابراهيم وهو يشيد بالإمام عبدالرحمن كانت في ذهنه أنظمة الحكم في السودان كمثال للإسلام العقلاني المعتدل الوسطى المهموم بالقضايا الاجتماعية كرجل مسلم عملي وليس بمتطرف.
إضافة لدوره الريادى في بعث المهدية الجديدة فإن الإمام عبدالرحمن نجح فى ذلك بفضل مكانته الروحية وتميزه بالحس الواقعى واهتمامه بالرعاية الاجتماعية لكن العامل الحاسم هو الاقتصاد من خلال دائرة المهدى.
اما الصادق المهدى فلم تعرف له اهتمامات اقتصادية في إعادة بعث النفوذ الاقتصادي لدائرة المهدى التى قضت عليها السياسات المايوية خاصة برامج الإصلاح الزراعي والتأميم التى أشرف عليها الراحل أحمد سليمان المحامى. وركز الصادق المهدى علي اربعة عوامل مثلت رافدا هاما في مجرى المهدية الجديدة:
اولا: نجح في مسعاه نحو تحديث الحزب والكيان ونفخ فى روحهما طاقة تحديثية واعادة بنائهما علي شكل مؤسسي حديث. ويعد هو شخصيا أن هذه هى أبرز انجازاته. إضافة لذلك سعى حسب قوله فى بث روح الديمقراطية فى اتخاذ القرارات. وهذا يعد استدراكا علي قول المحجوب عام ١٩٦٦ عندما قال ان بيت المهدى أصبح يصطرع علي كراسى الحكم بإعتباره استحقاقا طبيعيا، مجردا أعضاء حزب الأمة من غير عائلة المهدى من أي دور سياسى فى الحكم.
ثانيا: ترك الإمام الراحل الصادق المهدى تراثا فكريا ومنتوجا ثقافيا وعلميا كبيرا مثل قاعدة حقيقية وانطلاقة جديدة لتصالح التراث المهدوى مع الحداثة المعاصرة. اذ لم يكتفى بتنقيح او اعادة تفسير التراث المهدوى بل قدم اجابات علي أسئلة الحاضر
خاصة دور الإسلام فى الدولة الحديثة. ولا شك ان اهم إسهاماته الفكرية إضافة لتحرير الموروث من المهدية العقدية إلي المهدية الوظيفية فى إعادة إدماج المهدية من جديد فى التيار الرئيس main stream في مجريات الفكر ومذاهب الفقه الإسلامى. إذ لم يعتد بمنهج المهدى في إلغاء المذاهب أو حصر مصادر التشريع فى مظان الرؤية الصالحة مثل أنبأني سيد الوجود كفاحا أو فى رؤية منامية. واعتمد الصادق في اجتهاداته ومقارباته التجديدية علي المصادر المتفق عليها بين الائمة من قرآن وسنة وإجماع وغيرها مع ضرورة تحرير الاجتهاد من شروط التعجيز ومحاربة الجمود والتقليد. وتبنى فى ادبياته المنشورة الاعلان العالمى لحقوق الإنسان وغيرها من الوثائق العالمية التى تحض علي الكرامة الانسانية والديمقراطية والعدل.
ثالثا: اعاد الاعتبار للعقل فى نهجه التجديدى فى مقارباته لإحياء تراث المهدية فى إطار حداثوى معاصر. ورغم غلظة الانتقادات التى انتاشته أنه أفرغ تراث المهدية من الطاقة الجهادية بدعوى التحديث الا انه يقدر بأنه استبدل الطاقة الجهادية لدى الانصار بالفعالية المدنية وهى ما تتسق مع اجتهاداته التحديثية.
رابعا: الإيمان بالديمقراطية فى العمل السياسي طيلة فترة نشاطه فى العمل العام.
ولم يكن السيد الإمام اعتذاريا فى منهجه ومقارباته الدينية. بل كان يصدر عن ثقة واعتزاز بمكانة الدين فى نفوس المسلمين وان التجارب التى شوهت الدين لا يعتد بها وهى ليست حكما علي عدالة الإسلام. ولعل الجانب الأبرز فى شخصيته أنه لم ينطوى علي عقد نفسية ودونية تجاه ( الخواجات) بل كان يتعامل معهم بندية فى مجال السياسة و الفكر والثقافة.
لعل أبرز صفاته كمثقف أنه لم يكن يتهرب من مواجهة الأسئلة الحرجة خاصة اتهامات المهدية فى نشر وتنشيط تجارة الرق
في يوليو ٢٠١١ صفق الصادق المهدى في كوالالمبور للباحث المغربي شوقى الحامل فى ورقته عن الرق فى شمال أفريقيا والتي صدرت لاحقا فى كتاب صادر عن جامعة كمبيردج بعنوان
Othering the black Afrians in Islamic tradition
احتفى الصادق المهدى بالورقة الناقدة لتاريخ الرق فى شمال أفريقيا فى الوقت الذى انزعج فيه علماء آخرين داخل المؤتمر انبروا للمدافعة عن تجربة الرق في شمال افريقيا زاعمين أنها اخف وطأة من غيرها .
رغم أن الإمام الراحل كان عقلانيا فى اجتهاده ومقارباته التجديدية الا انه كان عرفانيا أيضا يأخذ من فيوض الغيب والالهام ما يغذي به جدل الواقع ، وكما كان وجدانه جريحا بمثقالات التاريخ كذلك كان عقله وهو يوائم بين تقاليد موروثه وقيم الحداثة المعاصرة محاولا تقريب المسافة والمعنى والبون الشاسع بين اكسفورد والجزيرة ابا دون تفريط فى اصالته او افراط فى حداثته. وهى المقاربة التى اسقطت معاوية نور شهيدا للعقل بين تطلعات عقله المرتبط بالمدنية والفكر والادب الاوروبي وبين واقعه فى ام درمان كما قال عنه ادوارد عطية ، هذا رغم اختلاف السياق التاريخى والموضوعى بين الحالتين، حيث تنعدم المقارنة الا على سبيل الاستطراد وتوسيع الاستشهاد.
تجلى الانسانيات:
على المستوى الشخصى تشرفت بمقابلة الإمام الراحل بضع مرات فى سنوات الادراك والنضج والتمييز، ورغم انها قليلة العدد الا انها كانت غنية بالمعانى والدروس والعبر. وأسرنى بحسه الإنسانى الباهر واهتمامه بالناس من مختلف الاجيال. حيث قابلته في عهد الطلب ، وتشرفت بحضور نشاطه العام أثناء زيارته إلي واشنطون فى العام ٢٠٠٢ وانا دبلوماسي صغير يخب فى مداخل الترقى الدبلوماسي . كما قابلته فى داره بالقاهرة بمساعدة الأستاذ محمد زكى صاحب السخاء والوفاء والايادى البيضاء واستمتعت بالحوار والنقاش معه فى دروب الثقافة والتاريخ والفكر والسياسة. وسعدت عندما ختم حديثه بشهادة أعتز بها وقد انعم على بصفة اننى مثقف منفتح، متفاعل وجاد. وانه ما قتل نزعات المثقفين الا التهاون فى اخذ قضية الثقافة والفكر بالجدية المطلوبة اكثر من ازياء وزركشات المشافهة وطق الحنك.
عرجت على داره فى ام درمان لاقدم له كتابى (سيرة الترحال عبر الأطلنطي ) الذي تضمن مقالا مطولا عن تجليات كسبه السياسي والمعرفة بعنوان ( الصادق المهدى آخر زعماء المهدية ) بمناسبة الاحتفاء بعيد ميلاده السبعين. وعندما قدمت له الكتاب باحترام وتواضع قال ان اعظم الهدايا هى التى تناقش قضايا العقل والوجدان . وشكرنى علي الصنيع والتأليف.
ان التراث المكتوب الذى خلفه الامام الراحل الصادق المهدى يحتاج كما نوه الدكتور أحمد ابوشوك إلي دراسة موضوعية ابستمولوجية بعيدا عن العواطف
والأفراط في التقدير أوالتقتير. ولا شك ان سيرته ستكون ملهمة لأجيال قادمة تعترف له بالريادة والحكمة والشخصية الفذة والعطاء والتميز، وتشفع له تصاريف زمانه وتقديرات مواقفه. فقد مضى الامام و ترك تراثا غنيا وبصمة لا تمحى فى تاريخ السودان الحديث .وتبقى كلماته ومواقفه شاهدا علي كسبه، اذ لا يزال يسهر الخلق جراءها ويختصموا. كما ترك جبلا من المحبة فى قلوب مريديه، ما وسعهم الا ان يزيدوا على صخره وطوله فيرتفع ولا ينقص.
اللهم تقبل عبدك الصادق المهدى قبولا حسنا واجعل الجنة مثواه، ونحسب صادقين أنه حقانى عاد إلي الحق وان إلي ربنا الرجعى.
khaliddafalla@gmail.com