الضحك كعلاج

 


 

 


مقدمة: سبق لي نشر هذه المقالة الصغيرة في صحيفة "الأحداث" قبل أكثر من عقد من الزمان، ورأيت أن أعود إليها تصحيحا وحذفا وإضافة (مع تغيير العنوان من "في ونسة وضحك" إلى العنوان الحالي) إذ أن الأدبيات العلمية حول موضوع التأثيرات العلاجية المحتملة للضحك في ازدياد، والعلماء (كالعهد بهم) في اختلاف كبير حول جدواه؛ تماما مثل الفوائد العلاجية (المحتملة) لسماع الموسيقى الذي تذخر الأدبيات العلمية والطبية حوله بكثير من الاختلاف والتضارب والتشكيك (https://www.sudaress.com/sudanile/31020).
************ ************* ************
من منا لم يسمع أو يقرأ أو يصدق أن "الضحك خير دواء"، أو أن "الضحك ترياق"، أو "اضحك تضحك الدنيا لك، وابك تبكي وحدك"، وأمثال الغربيين مثل " A good laugh heals a lot of hurts ضحكة صافية تبرئ الكثير من الآلام" وغيرها؟
وأَعْتَقِدُ أن معظمنا يأخذ تلك المقولات على محمل الجد، ويعدها من "الثوابت" التي لا يأتيها الباطل من بين أيديها ولا من خلفها، رغم كل محاذير الضحك الاجتماعية العديدة القابعة في مؤخرة أدمغتنا من شاكلة "الضحك بلا سبب قلة أدب"، و "في موت... ما في سن تضحك" وغيرها.
والضحك مباح في الأصل كما ورد عند علماء المسلمين، لكنه إذا تجاوز الحدّ المعتاد بلغ درجة الكراهة التنزيهية. ورُوِيَ في الأثر حديث "ولا تُكثرِ الضَّحِكَ، فإنَّ كثرةَ الضَّحِكِ تميتُ القلب". وهنالك بعض الأحاديث الدالة على أن ضحك الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان تبسمًا في الغالب، وأنه عليه الصلاة والسلام في بعض الأحيان كان تبدو نواجذه إذا ضحك. ووردت كلمة "الضحك" ومشتقاتها في المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي الذي وضعه المستشرق الهولندي أ. ي. فنسنك (Arent Jan Wensinck، 1882 – 1939م) في سبعة مجلدات ضخمة، قرابة مئتي مرة.
أما في العالم الغربي، فقد تم تناول "الضحك" على مستويات مختلفة ومن أبوب عدة. فعند المسيحيين في سفر الأمثال أن "القلب الفرحان يطيّب الجسم مثل الدواء A merry heart does good like a medicine". ودرجت مجلة "ريدرز دايجست" على نشر نُكَت ومُلَح في صفحة ثابتة في كل أعدادها بعنوان "الضحك هو أَنْجَعُ دواء". وتم نشر الكثير من المقالات العلمية المحكمة والكتب وغيرها عن الضحك وأثره المحتمل على الصحة.
وفي صحف العالم ومجلاته الكثير من الأخبار (الفكهة أو المؤسفة، بحسب مزاجك) المتعلقة بالضحك وتأثيراته العلاجية التي تُنقل محرفةً، وغالبا دون إشارة لمصدرها الأصلي الصحيح. من تلك الأخبار ما قيل إن العلماء (هكذا!) قدروا أن الناس كانوا يضحكون في عام 1939م ما مدته 20 دقيقة في اليوم، تقلصت إلى 6 دقائق في عام 1980م، وصارت في "يومنا هذا" دقيقة واحدة فقط! ولا أحسب أن عاقلا يحسن الظن بموثوقية ذلك الضرب من الاحصائيات. وجاء في خبر آخر أن "الضحك المتواصل (؟!) يشكل تمرينا عضليا كاملا، إذ أنه يقوي 12 عضلة في الوجه، وينشط الدورة الدموية، ويعالج ارتفاع ضغط الدم، ويزيد من نشاط الجهاز المناعي، ويقلل من إفراز هرمونات الإجهاد (stress)، ويزيل الإكتام (الإمساك؟) بتنشيطه لعمل الجهاز الهضمي، ويزيد من مقاومة التهاب المفاصل، ويؤثر إيجابيا في نوعية النعاس والنوم. إذن فهو ترياق حقيقي ضد القلق والاكتئاب والاضطرابات اليومية الصغيرة وغير ذلك". وقد يعجب القارئ من هذا السيل من "المزاعم العلاجية والوقائية" الذي قد تثير في حد ذاتها الابتسام أو الضحك الساخر عند المتشككين في غالب من يُنشر مُبْتَسَرا ومختصرا في الصحف السيارة من أخبار "علمية" أو "طبية" دون تثبت أو ذكر للمصدر الأصلي، بحسبانه "كلام جرايد" أو "كلام واتساب" على أيامنا هذه!
تواصل منذ عدة أعوام نشر عدد لا بأس به من الأبحاث في الولايات المتحدة واليابان وبعض الدول الأوروبية عن فوائد الضحك في الشفاء من بعض الأمراض أو الوقاية منها. وكما هو معتاد نُشرت أيضا بعض الأوراق العلمية – الطبية التي تشير إلى أن فوائد الضحك الطبية ضئيلة لا يعتد بنفعها. وكانت الأدلة التي أوردها الباحثون في الماضي عن فوائد الضحك في تحسين الصحة النفسية والجسدية أدلة سردية anecdotal في غالبها. إلا أن بعض التجارب السريرية المنضبطة والمعشاة ( randomized controlled trial) قد أُجْرِيَتْ في السنوات الأخيرة لتحديد وجود ومدى تلك الفوائد.
وفي بداية التسعينيات نُشرت عدة مقالات علمية محكمة ذهبت إلى أن للفكاهة أدوارا إيجابية في ترقية نوعية الحياة الجسدية والنفسية عند مرضى السرطان. وعزت تلك الدراسات ذلك الى زيادة النشاط المناعي عند أولئك المرضى. وذكرت أبحاث من اليابان والولايات المتحدة أن هرمون الاجهاد الذي يفرز من غدة الكظر ينخفض انخفاضا ملحوظا عقب مشاهدة الشخص لفيلم كوميدي (وأحسب أن العكس لا بد أن يحدث أثناء وبعد مشاهدة أخبار ومقابلات بعض القنوات الفضائية في بعض البلدان!). ومن طريف الأبحاث اليابانية في أمر الضحك ذلك البحث الذي أجري على طلاب من جامعة أوساكا في أعمار من 19 إلى 23 ربيعا، وفيه قِيسَ تركيز مادة معينة في اللعاب تدل على مدى "الاجهاد" عند أولئك الطلاب عقب مشاهدتهم (في يومين مختلفين) لفيلم كوميدي ياباني، وفيلم أخر غير كوميدي. ووجد الباحثون أن تركيز تلك المادة الدالة على الاجهاد تنخفض انخفاضا كبيرا عقب مشاهدة الفيلم الكوميدي وليس الفيلم الآخر. وفي ذات الجامعة أجري بحث آخر على أطفال وبالغين يعانون من نوع معين من الالتهابات الجلدية ومن أرق وقلق يجعلهم يستيقظون من منامهم بالليل وهم يهرشون جلودهم. ثم عرض الباحثون على مجموعة عشوائية منهم قبل النوم فيلماh كوميديا (من مختارات "مستر بين")، وعرضوا على مجموعة أخرى فيلم عن الطقس وتقلباته. لاحظ الباحثون أن أعراض القلق والأرق والحكة والاستيقاظ من النوم ليلا قد انخفضت بصورة كبيرة عند الذين شاهدوا ذلك الفيلم الفكاهي، بينما أخفق ذلك الفيلم الآخر في إحداث أي تغيير يعتد به احصائيا في صحة المرضي المشتركين في تلك التجربة السريرية.
ومن جديد الأبحاث المنشورة في الآثار العلاجية المحتملة للضحك ما جاء في مقال استعراضي نشر عام 2019م في مجلة Complement Ther Clin Pract عن أبحاث "الضحك والصحة" لباحثين تركيين استعرضا فيه ما ورد من أبحاث عن طريقة العلاج التكميلي المسمية "يوغا الضحك Laughter yoga"، التي ابتكرها الطبيب الهندي مادان كاتاريا عام 1995م، وتشمل القيام بتمارين خاصة بالتنفس، وبالضحك بطريقة تجعل بمقدور الأشخاص الضحك من دونما سبب أو ما يمكن تسميته بـ "افتعال الضحك". وكانت الفكرة قد نبعت من خلفية "علمية" تذهب إلى أن الإنسان لا يستطيع التفريق بين الضحكة الطبيعية النابعة من الإحساس بالضحك وبين الضحكة المصطنعة. وخلص العالمان إلى أن "يوغا الضحك" وسيلة غير مكلفة وتخلو من الآثار الجانبية لتحسين وتعزيز الصحة عند كبار السن. ومن تركيا أيضا نُشر في عام 2019م بحث في العدد السادس والعشرين من مجلة سويسرية اسمها Complementary Medicine Researchخلص إلى أن مرضى السرطان الذين سيخضعون لعمليات جراحية ينتفعون بمشاهدة أفلاما كوميدية (تركية) تساهم في تقليل الشعور بالقلق وبالألم عقب العملية.
وتناول باحثون من جامعة وارسو في مقال نشروه عام 2019م في مجلة Brain and Behavior مسألة تأثير الدعابة على مرضى الاكتئاب، أكدوا فيه الفكرة القائلة بأن الدعابة (والضحك) عند الأفراد المعرضين للاكتئاب يمكن أن تكون أداة تكيف فعالة عند التعامل مع الاستجابات السلبية للأحداث السيئة، وبالتالي تقلل من قدرة تلك الأحداث على إحداث نوبات اكتئاب عندهم. ونشر أطباء وعلماء من كلية ستانفورد الأميركية في أكتوبر من عام 2020م بمجلة Hemodialysis International، نتائج تجربة عملية عن فوائد العلاج بالضحك (نصف ساعة كل أسبوع لمدة شهرين) أثناء عملية الغسيل الدموي عند مرضى الكلى في عشرة مراكز للغسيل بشمال كاليفورنيا، أثبتوا فيها انخفاض أعداد المصابين بالاكتئاب عند أولئك المرضى. وكما هي شيمة بعض البُحَّاث، ذكر المؤلفون أن نتائجهم هذه تحتاج لمزيد من الفحص والتثبت في أعداد أكبر من المرضى ولمدد أطول من المعالجة.
وهنالك مقال آخر تم نشره في أواخر نوفمبر من عام 2020م في دورية Contemp Clin Trials Commun عن بروتكول تجربة سريرية ستُجرى قريبا على أربعين طالبا (في جامعة زايد بالأمارات العربية المتحدة) عن تأثير وصف الضحك ثلاثة مرات يوميا لمدة أسبوعين (مثله مثل أي دواء يُوصف لمريض) على تحسين الصحة النفسية والعقلية والنوم والعافية (wellbeing) عند أولئك الطلاب.
ويلاحظ في كل الأبحاث السابقة الذكر التأكيد على خلو "الضحك" من أي آثار جانبية ضارة في المرضى الذين جُرِّبَ عليهم. غير أن مقالا استعرض كل الأبحاث التي أجريت على المتعالجين بالضحك بين عامي 1946 و2013م أشار إلى أن هنالك بعض الحالات النادرة جدا التي أحدث فيها الضحك آثارا ضارة، مثل حالة تلك المرأة المصابة بثقب في القلب، التي أصيبت بسكتة دماغية بعد أن قَهقَهت لثلاث دقائق متصلة. وهنالك حالات (نادرة) لأناس استنشقوا "موادا غريبة" وهم يستجمعون أنفاسهم بعد قهقهة طويلة. بل إن هنالك من خلع فكه وهو يقهقه. وذُكر في ذلك المقال أيضا أن بإمكان الضحك (مثله مثل السعال والعطس) أن ينقل العدوى.
بعد قراءاتي لتلك الأبحاث التي أوردت ذكرها آنفا وغيرها طافت بذهني ذكرى أيام الشباب الباكر عندما كنا نرتاد سينما الخرطوم جنوب لمشاهدة أفلام مصرية فكاهية، إلى أن "ترقينا" في التذوق بارتياد سينما الخرطوم غرب والنيل الأزرق لمشاهدة الأفلام الفكاهية الغربية، واستعدت بحبور السعادة التي منحتها لنا بعض المشاهد المضحكة في تلك الأفلام، والتي لا أشك في أنها ساهمت – بطريقة ما – في إذْهاب مظاهر القلق والتوتر والاكتئاب التي تظهر في تلك الفترة العمرية. لم نكن لنهتم أو نأبه يومها بمعرفة نتائج أي بحث علمي لنصدق أن مشاهدة الأفلام الكوميدية والضحك يسعد الانسان ويحسن من مزاجه وصحته على وجه العموم، فنحن نعلم ذلك علم اليقين من تجاربنا الشخصية.
قال لي صديق عندما حدثته عن هذه الأبحاث في أمر الضحك والصحة مستصغرا من شأنها بأن هذه "أبحاث شعوب مُتْرَفة مرفهة لا شأن لنا بها"، ولم يدع الفرصة تفوته ليوسع من سماهم بسخرية مُقْذِعة "علماء بتاعين ضحك" (على وزن "وزير بتاع لعب" التي ذاعت في عهد عبود!) بأنه يدرك بأن على هؤلاء الباحثين أن "يكسبوا (يقلبو) عيشهم" بطريقة ما، فإن أخفقوا في العثور على مسائل / مشاكل بحثية "حقيقية" يدرسونها، يخترعون لهم مسائل بحثية من أي نوع ويقومون بالبحث فيها ونشر نتائج تلك "الأبحاث" لأغراض الترقي الأكاديمي أو غير ذلك!
لم أوافق الرجال الساخر بالطبع، فأنا لا اِسْتَصْغَر ولا أحقر أي إضافة للعلم مهما بدت لنا - للوهلة الأولى - سخيفة أو عديمة النفع في وقتنا الحالي. وهنالك الكثير من الشواهد التاريخية على هذا الرأي.
********* ********** *****
للمزيد عن هذا الموضوع يمكن النظر في المقالات العلمية التالية لعلماء من بريطانيا وهولندا والدنمارك:
Mora-Ripoll R. (2010). The therapeutic value of laughter in medicine. Altern Ther Health Med.;16, 56
- van der Wal CN, Kok RN. (2019). Laughter-inducing therapies: Systematic review and meta analysis. Soc Sci Med. 232: 473-488.
Not So Funny: The Strange risks of laughter. https://tinyurl.com/ycp8vlym


alibadreldin@hotmail.com

 

آراء