كثيرا ما أفرد النفس البشرية السودانية امامي على منضدة التشريح والتحليل ، علي أجد صفة كلية جامعة أصف بها تلك النفس البشرية المختلفة الطباع والملتقية على أسس تربوية ثلاثية الابعاد (اسرية ومجتمعية وتعليمية ، فيها كثير من الثقوب )، والمائرة في التناقضات ، في تشابهها وتضادها ، في طموحها ،وجموحها وانقباضها ، في سماحتها ، وقبحها ، ومحدوديتها ، وعطاءها بلا حدود، تفردها بين الشعوب في كثير من الخلال والمثال ، و ضنها في التعامل البيني في نطاقاته الضيقة ، قبولها للأخر "الغريب" ، وتحفظها من القريب ، شفافيتها ، وانفتاحها ، دمدمتها وانكفائها ، معاييرها الدينية والاجتماعية ، سلوكها الديني ، والتقاليدي ، تعاونها وتعاملها ، وامتناعها ، حمقها واتساعها، وكرمها وشحها، فأجد أن السبب في ذلك هو شروخ في هيكل البنية التربوية الأسرية والمجتمعية والتعليمية ، ثلاثية الابعاد. *فالتربية الأسرية والمجتمعية* اهتمت بالعادات والتقاليد حتى اصبح سلوكنا وطبعنا في تعاملنا يندفع تلقائيا بذلك السلوك وقد تربينا على كوابح العيب ، بدلا عن الحرام ، "انت تقول لإبنك ان فعل ما لا يرضي ، عيب ، فينكبح الطفل، لأنك الرقيب عليه، لكنك لا تقل له لا حرام ، واذا قلتها فلا يفهمها وليس عنده استعداد فطري لفهمها ، فأصبح الطبع عندنا والرائج بيننا هي كوابح العيب ، لكن الطفل لو وجد خلوة وعدم رقيب فإنه يمارس العيب في اي من مراحل حياته ، بلا كابح ولا ضمير "الا من رحم الله " لإنعدام الرقيب ،؛ لكنه لو تربى على الحرام لعرف ان هنالك رقيبا هو الله يسمعه ويراه ولا يعذب عنه مثقال ذرة ، فتكون عواصمه وكوابحه الحرام اكثر من العيب ، لذا كثر عندنا الفساد في غياب الرقيب البشرى ولم نأبه كثيرا بالرقيب الرباني لاننا ببساطة لم نرب على ذلك (الا من رحم الله) . وتربيتنا الاسرية لم تحضنا بتاتا على حقوق الاخرين ، ولم توقفنا على حقوقنا وحدودنا على الوجه الأكمل المطلوب ، (فإننا ولعامل العادة والتقليد ، تطغى على تربيتنا العمليات المبكرة في زرع الانا وتغليب المنفعة الشخصية على المنفعة العامة والكلية ، وتقليب منفعة الذكر على الانثى بل تعييب الانثى بأكثر من الذكر ، مع ان العيب عند الله واحد والحرام هنا كمثل الحرام هناك ، لولا ان الانثى هي وعاء حامل للنطف ومزرعة لانتاج خلق الله ، لكنا يمكن ان نقتلها بسبب عيب وليس بسبب حرام ، وكثيرا ما نسمع ، جمل تربوية اسرية كثيرة تحض على الانا ، "ما تخلي حقك للرجال" "ما تبقى هوين ومسكين"، عمارك شنو؟" )، وصيغ تربوية تحط من قدر المرأة وذلها بالعيب اكثر من الحرام ، حتى تفلتت الشوارع لإمكانية تجريب الحرام الذي وصف بأنه عيب فقط ، وتهون احكام الشارع والمجتمع على الذكر في ارتكابه الحرام او ما يعيب عن ما اذا فعلت ذلك امرأة، فعاثت الشوارع وتطغى على معنانا العام الفساد الاخلاقي المعيب وليس المحرم ، هذه هي نتائج التربية "الدكاكينية" داخل الاسر والبيوت والمتسامحة في المجتمع والشوارع ، لأننا ببساطة لم نجد من يحضنا على الوعي بالتعاون مع الاخرين والحفاظ على حقوقهم الدينية والاجتماعية والوطنية والمعيشية فأصبحنا مثل سوق عكاظ ، ولم نرب على ان التعاون منعة وزيادة خير واكثار في الرزق واعمار للفرد والمجتمع والوطن ، فضاعت البينيات ، تجد الناس في المدن يبتنون العمارات بملايين الدولارات لكن السوح التي بينهم عبارة عن "كوش ومزابل ومراتع للذباب واحراش" لا احد يدفع جاره للتعاون في الوجه بينهما الذي يخصهما معا ، لتجميله، وهذا قادنا للمعنى العام للتعاون المجتمعي والذي افضى الى وطن يتيم لا يجد من يهتم به. *الميل للتقاليد والعادات* اخذ الكثير من *الطبع التديني* في بذل الحقوق والعدل والتزام الحدود، والاتكال على التربية الدينية والاخلاقية والتعاملات خارج الاسرة ، وتركها للمجتمع وللجماعات المذهبية وللقليل من التعليم الرسمي الديني ، ترك عندنا فجوة كبيرة جدا في تطبيق اخلاقيات الدين في الاسرة ، وفي العمل و في المجتمع ، ولأجل الله والوطن ، لذلك تكثر حالات التفلت في الاسرة والخلافات وأبوق الابناء وانكشارية ودكتاتورية الاباء وهضم حقوق الزوجات والنساء ولذلك تظهر التفلتات في القيم والاخلاق في الشوارع والمؤسسات وفي ادارة الدولة وفي المعارضة واصبح التعنصر والتصلب على الرأي والتصنيف والتعنيف والشقاق والجفوة ديدن الجميع (الا من رحم الله) ، وصار التخويف التربوي من العيب "فقط" داخل الاسرة يمارس عكسه بإنفلات شديد في الشوارع وفي المؤسسات ،اذا توافر عدم الرقيب والحسيب، ولأجل ثقوب التربية صار بيننا انفصال وانفصام تام بين الرعاة والرعية اعتبار من الاسرة والدولة وانفلات وانفراد بالقرارات واصبحت مؤسساتنا جزر منقطقة عن بعضها واصبحت حكوماتنا ومعارضاتنا في شقاق عظيم ، ونعيب زماننا والعيب فينا ، "جميعا". نخرج لشوارعنا ولمؤسساتنا فنجد أن تربيتنا الأسرية تحتاج لتطوير يجعلها تتمازج وتتكامل مع مجتمعنا السوداني ، ونجد هنالك اختلافات كثيرة بين البيت الذي يحضك على التحفظ وربما التوجس والانغلاق وبين الشارع المجتمعي الذي يدعوك على الانفتاح والتعامل والحوجة للاخر فيحدث الصدام الاولي ، وانعدام الرؤية وعدم القدرة على التعامل الايجابي التكاملي. *في تربيتنا التعليمية* (الضلع الثالث ) ، نجد انها خالية تماما الا القليل عن التربية الدينية في التعاملات وفي القيم وفي الاخلاقيات التي تحضنا على التكامل والعطاء الجمعي والانفتاح بحكم ان الذين وضعوها انفسهم تنقصهم التجربة والدراية بكثير من الأمور لقصور التربية الاسرية والتي قدمتهم للمجتمع ولوضع أسس التعليم نفسه ، مما جعل تعليمنا خاليا ايضا من القيم والتعاملات الانسانية والتفاعل مع الحياة والتربية الحياتية life orientation القياسية والتي يعنى بها العالم الاخر والتي عرف من خلالها حقوقه الخاصة وحقوق اسرته وحقوق ربه وحقوق الإنسان ، ومقاضيات التطور والتنمية من شفافية ، ومحاسبة ومشاركة وتكامل وعرف فيها حقوق وطنه الكلية والتكاملية ، وعرف فيها ما هي ماركة الوطن the National brand والتي يعتبرها الجميع خطا احمرا وعرف فيها حقوق الحرام في حق الوطن وحدود الخلاف وعرف فيها الذوق الاجتماعي والتربية في الشارع وعرف فيها حقوق الاخر في اخلاقيات الخدمة العامة والخاصة وعرف فيها كيفية تجويد الانتاج وهيكلة وتماسك وسريان المؤسسية ، واحترام عمله وزمنه وعلاقاته والتخلق بالاخلاق الجميلة التي يحض عليها ديننا الحنيف في مرتكزات المدنية هذه المرتكزات التي لم نتربى عليها في أي من ثلاثي التربية ، لا اسريا ولا اجتماعيا ولا تعليميا. وللتاريخ نقول ان الفرد السوداني كحالة فردية ، غني جدا بالعطاء الفكري والعملي الفردي ، ومنافس جدا اكاديميا محليا وخارجيا ، لكنه فاشل الى حد كبير اجتماعيا وتعامليا بإعتبار التربية المنغلقة على العادات والتقاليد المحلية . في الخارج ، تجد الواحد فينا اريحي الطباع مع اصحاب البلد التي يعمل فيها او يزورها ، اريحي في مؤتمراته ولقاءاته ، يعطي المعلومة ويتفاعل كالفراش الغرير ، لكنه في السودان يقتبص "يدكن" أهم المعلومات ليحتفظ بها ، خدمة لذاتيتة وتفرده ، ما يشي بطبع اناني يداخله الرياء وخوف مغبات المشاركة ، و تجده اريحي في عمله يؤديه باخلاص وبتفاني وبنبوغ وجودة وتفرد منقطعة النظير ، وداخل السودان يعتذر ببيئة العمل الغير مواتية ، وبعدم التعاون وعذره مقبول ومرفوض ، مقبول فعلا لأن عامل الأنا والذات و"الدسدسة" متوافرة في عموم الطبع السوداني في الداخل اكثر من الخارج ، واسباب ذلك كثيرة جدا منها التربية الاسرية الآخذة بالتعييب بدلا من الدين وبالعادة بدلا عن الدين و العبادة. الآن وقد إضطرتنا ظروف الحياة للخروج عن الوطن منذ اوائل الستينات ، وقد اختلطنا بكل اونواع الشعوب ، وكان التفاعل الحقيقي مع بعضهم وما زال ينتقصه كثير من الأخذ والعطاء ، بسبب تربيتنا الانكفائية ونظرتنا الاحادية للاخر ، وقد تربينا في زمان العمى والانغلاق والوفرة، ايام كانت تغترب عندنا كل شعوب العالم وايام كان السودان جنة الله في الارض وكانت الخرطوم باريس افريقيل وكان الريف لا يأبه بالمدن ولا يحتاجها ، وكانت ثقافاتنا وتراثنا المناطقي ثر وغني ، ان لم يك بالدين فبالطباع الحسنة ، العز والنخوة والمروءة والحياء والكرم ، لكنا من ناحية اخرى معيبة ، تربينا على اننا أفضل الشعوب وأطهر الشعوب وانبلها واعلاها شرفا وربما نسبا ومكانة ، وعند إغترابنا نحن واحتياجنا للأخرين اكتشفنا ان كثيرا مما كن نظن هو فاقد تربوي انفتاحي على خلق الله وعدم المام بثقافات الشعوب وشرخ في تربيتنا الاسرية التي ربتنا على العادات والتقاليد ولم تربنا على اخلاق المسلم وتعاملاته الربانية مع بقية الشعوب حتى نعطيهم المثال وناخذ منهم ما عندهم من انسانيات ومدنية. والآن وقد أوصلتنا ثقوب تربيتنا في السودان المعتمدة على العادات والتقاليد المجتمعية والتي عفى عنها الزمن وتخطتها متطلبات الحياة ، نجد نفسنا نسقط بين التربية الاخلاقية والتعاملات الدينية والانسانية الراقية التي يمكن ان تخلق بيننا وبين الاخرين ارقى حالات التعامل وان نكون مثالا حقيقيا في ادارة وطننا ومؤسساته وفي ادارة تعاملاتنا البينية وتعاملنا بيننا ومع الخارج ، وان ندير الخلاف الايدولوجي والخلاف السياسي والاختلاف في الرؤى ووجهات النظر في كل شيء بأفضل الطرق ، تلك الخلافات التي تجعل شيطان الخلاف يدب بينك وبين اقرب الناس اليك حتى في الاسرة الواحدة ، فلا تلتقيان الا على أبسط المشتركات ، وإن شئت فأنظر للكيفية الفردية ، التي نلعب بها كرة القدم وللكيفية التي ندير بها مؤسساتنا وبلادنا ، وانظر الى فعل ثقوب العامل التربوي بثلاثيته (الأسرية والمجتمعية والتعليمية)، والذي اوصلنا لما نحن فيه ، فلا تقل لي ان العيب في حكومة او معارضة او حزب او ايدلوجيا بعينها او شخص بعينه حاكما كان ام محكوما معارضا او مصالحا ، فإنما نعيب زماننا والعيب فينا ، وفينا جميعا ، بسبب تلك التربية المتجذرة في النفوس، وليس لزماننا عيب سوانا. نحن الأن نحتاج لمتخصصين في علم النفس الاجتماعي والى مرجعيات دينية ومحتمعية مدنية ونحتاج لعلمائنا ومفكرينا ، الصامتون ان يخرجوا من صمتهم في هذه المرحلة المفصلية من عمر السودان ، ونحتاج لعلماء التربية وعلماء النفس الاجتماعيين ونحتاج وعي اسري استثنائي ، ونتحتاج لمن يعيد النظر في وضع مناهجنا التبربوية التعليمية ، ونحتاج لوعي مجتمعي ، يعي ان العيب في اساس تربيتنا وليس في عضم الشعب والزول السودان وهيكل تفكيره وفطنته وفطرته ، ونحتاج لوزارات تخطيط اجتماعي حقيقية وواعية تضع لنا مناهج للسلوك الاجتماعي في شوارعنا وفي مؤسساتنا وفي بيوتنا وتخطط لنا توجهنا العام الحالي والمستقبلي ، وتربط ذلك بنواقص تربيتنا ، ونحتاج لحكومات واعية تدير وتطبق علينا اسلوب تربوي إداري حضاري ، يعرف حقوق الانسان ويحترم توجهاته وخياراته ويدير تنوعه ويدير علاقاته الاجتماعية وعلاقاته الخارجية وتنميته ونماءها ويحافظ على سيادته فيما يسمى البنية الهيكلة الهرمية والمؤسسية للدولة وان تتخلى حكوماتنا عن الطبع التربوي التقليدي والذي اساسه الانا والكنكشة والتفرد بالقرار والذي أسست له التقاليد والطباع ولم يطبق فينا حقوق الله ولا عدله وعدل رسوله حتى اذا اتتنا اي حكومة بمختلف توجهاتها وايدولوجياتها وجدنا فيها نفس الثقوب ونفس العيوب ، فما تفعله حكومة تدعى التقوى نجده من اخرى تدعى التمدن والحضارة والديمقراطية وتنادي بحقوق الغير ، لكن ما ان جلست على ذلك الكرسي المؤسس على تربينتا الخاطئة تساوى في فسادها وفشلها، أحمد بحاج أحمد . والله من وارء القصد الرفيع بشير الشفيع 2018/7/17 rafeibashir@gmail.com /////////////////