الطبَّال
بابكر فيصل بابكر
5 January, 2012
5 January, 2012
boulkea@yahoo.com
حدَّثني صديقٌ عاد للسودان بعد فترة إغتراب عن وقوعهِ على مقالٍ بصحيفة "آخر لحظة" لكاتبٍ سوداني من أصلٍ هندي, أو هكذا إعتقد, به الكثير من التمويه والمغالطات والتزييف, ووعدني بإحضار المقال الذي قرأتهُ لا حقاً وكان عنوانهُ " لا شبه بيننا ولا توافق : السودان والثورات العربية والإحتجاجات الغربية".
أراد كاتب المقال أن يقول للقارىء : لا مجال لأن يُصبح النظام الحاكم في السودان هدفاً تالياً للربيع العربي. وهذا رأيهُ الذي لا يُمكن لأحدٍ الحجر عليه, ولكن أن يسند هذا الرأي إلي حُججٍ فاسدة, يسوقها وكأنها حقائق نهائية و ثابتة, فهذا من التلبيس ( التخليط والتدليس) الذي لا يجوز.
يقول الكاتب نافياً وجود أوجه شبه بين نظام الإنقاذ والأنظمة التي إجتاحها ربيع العرب : ( لا بُدَّ لكل مُنصفٍ مبرأ من الشحناء, حتى ولو كان معارضاً للنظام في السودان, من أن يُقرَّ بأنَّ هذا النظام لا يُمت بأدنى صلة لتلك الأنظمة العربية التي قامت عليها الثورات الشعبية, حيث ينعدم وجه المقارنة, وتستحيل المقايسة ).
ونحن نقولُ لكاتب المقال بالفم المليان : إنَّ للإنقاذ صلة رحمٍ ودمٍ وقربى لا تنفك بتلك الأنظمة, وشائجها الفساد, والقمع و الإبتزاز , وفقدان الشرعية, و إهدار الموارد, واقتصادُ الريع.
إنَّ الفسادَ موجودٌ في السودان بذات القدر الذي كان عليه في مصر وتونس , وقد أزكمت رائحتهُ الأنوف, وفضلاً عن التقارير عديمة الجدوى التي يُصدرها المراجع العام كل سنة, فأنا أقول لك : أنَّ كل مواطن سوداني ممَّن تتحدثُ زوراً وبهتاناً بإسمهم يحكي لك عشرات القصص عن فساد السلطة والمرتبطين بها في مجال عمله أو أسرته الممتدة أو منطقته التي ينحدر منها . الفسادُ شواهدهُ لا تحتاج لعبقرية وإجتهاد, فهى ماثلة في الآف الاشخاص الذين يمشون بيننا, والذين كانوا قبل سنواتٍ قليلة لا يملكون شروى نقير فأصبحوا مليارديرات يُشار إليهم بالبنان.
إنَّ ما كان يُقال في مصر ويتناقل قصصهُ الناس قبل الثورة عن فساد رجال السُّلطة أمثال جمال مبارك و احمد عز و زكريا عزمي وغيرهم, وكان ينفيه صنوكم وشبيهكم "مجدي الدَّقاق" و رفاقه من أبواق النظام في الفضائيات والأجهزة الإعلامية, ثم تكشف صدقهُ بعد التغيير, هو واقعٌ في السودان اليوم, تتمُّ التغطية عليه بفقه " السُترة" العقيم, الذي إمتلأت حُججهُ ثقوباً كشفت كل عورات آكلي السُحت من مُشايعي النظام المتلفعين برداء الدين ومن لفَّ لفهِّم , الذين قلت أنت عنهم قبل أن تنخرط في زمرة الطبَّالين : أيديهم هُم هىَّ التى امتدَّت لقوتِ الشعب سارقة, و جيوبهم هُم هىَّ التى رَََبَتْ من الرِّبا. وقلت فيهم كذلك انَّ :
الدينُ صار سُلطة من حكِرهم
يطوِّعونه لنكرهم ومكرهم
ليسوا دعــاة ديـن
ليسوا مجـاهـدين
شراكة من المرابحين والمضاربين.
هؤلاء المُرابحون والمُضاربون هُم مَنْ تُدافعُ عنهُم اليوم, وتتساءلُ بثقةٍ مهزوزةٍ, ثم تجيب على نفسك بتدليسٍ مكشوف عن نظامهم الحاكم قائلاً : ( فهل يُمكن أن يُوصف هذا النظام بالمستبد بالسلطة ؟ وهو الذي أحرز الأغلبية في إنتخابات عامة مشهودٌ بحُرِّيتها ونزاهتها إقليمياً ودولياً ).
أمَّا نحن – ليطمئن قلبك - فنجيبك بالقول : نعم . هذا النظام مُستبدٌ بالسَّلطة منذ أكثر من عقدين من الزمن, قبض فيها على جميع أجهزة الدولة, وملأ مؤسساتها بمنسوبيه, واحتكر موارد الإقتصاد والمال, وانفرد بالسيطرة على الأجهزة النظاميِّة, وأمسك بنوافذ الإعلام الحكومية وغيرها, واستولى على الساحة السياسية. ثم أجرى إنتخابات " الخج" التي نافس فيها نفسهُ, والتي لا تختلفُ في حُرِّيتها ونزاهتها عن تلك التي كان يُجريها نظام مبارك أو نظام بن علي.
ثم يواصل كاتب المقال في التلبيس قائلاً : ( فإنَّ العقل الجمعي لشعبنا يُدرك أنَّ النظام قد أرسى البنية التحتية لنهضة شاملة قادمة ظهرت إرهاصاتها ).
ونحن من جانبنا نسأل كاتب السلطان: أىُّ نهضةٍ شاملةٍ هذه التي تتحدَّث عنها ؟ هل هى النهضة التي تقومُ على الإنجازات التي قال عنها القائل : " تلاتة كباري وشارعين وسد , قديتونـــــا قصــادهــــم قــــد" , والتي تم تشييدها بالقروض والديون " الربوية " التي ستقعُ أعباءها وأعباء خدمتها على كاهل الأجيال القادمة من أبناء السودان بعد ان أهدرت الحكومة 50 مليار دولار من عائدات النفط, أم هى النهضة التي مؤشراتها ما قلناهُ وكررناهُ مراراً من قبل :
نسبة الأميِّة التي إرتفعت مع المشروع الحضاري من 37 % الى 57 % , مع ارتفاع نسبة الأمية وسط المرأة الى 72 %، و بلوغ عدد اليافعين واليافعات الذين يُعانون من الأمِّية في سن المدرسة ثلاثة ملايين ومائة وخمسة وعشرين الف بحسب إحصاءات المجلس القومي لمحو الأميِّة ؟
أم التعليم الذي تنفق عليه دولة المشروع الحضاري 2 % فقط من ميزانيتها وهو رأس الرمح في أي عملية نهوض حضاري ؟
أم الإعتماد على الذات, الذي كانت محصلتهُ النهائية هى إنهيار الزراعة وغياب الصناعة , وتحوُّل شعار " نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع" الي نأكل ونلبس مما تزرع وتصنع الصين ؟
أم الإنتاج الزراعي الذي جعلنا نستورد 84 % من إجمالي إستهلاكنا السنوي من القمح البالغ 2.2 مليون طن ؟
أم الفساد الذي تقول إحصاءاته العالمية أنَّ بلادنا لا يفوقها فيه سوى الصومال, وميانمار, وأفغانستان ؟
أم مُرتبات قطاع الأمن والشرطة والدفاع البالغة 65 % من مجموع أجور و مرتبات الدولة ؟
ويواصلُ كاتب المقال حديثهُ عن طبيعة الإسلام التي رسَّخها نظام الإنقاذ قائلاً : (وقد حافظ على طبيعة الشعب السوداني المعتدلة التي تتجنب التشدد من من جهة, والتساهل من جهة أخرى, حيث لا تفريط ولا إفراط ).
ونحن نردُّ عليه متسائلين : من الذي جعل خفافيش الظلام التي كنت تتحدث عنها في الماضي تعشعش في خلايا مجتمعنا وتحتكرُ تفسير الدين ؟ من الذين ضيُّعوا ميراثهم من الجدود فى نبل المروءة ؟ من الذي تبنى الفكر الذي يُجابه الفكر بالرصاصة والمِدية والمولوتوف ؟ من الذي هيأ الأرضية والمناخ لمُفجِّري قبة الشيخ إدريس ود الأرباب ؟ من الذي فتح أبواب المساجد لدُعاة الكراهيِّة ورُسل القتل و كهنة التكفير وسفك الدماء ؟ في أىِّ عهدٍ من العُهود تم ذبح المُصليِّن داخل بيوت الله ؟ إنَّ النظام الذي تدافعُ عنه لم ينشر التديُّن المُتسَّلط والعنيف والمُتشدَّد فحسب, بل فعل ما هو أخطر : حوَّل الدِّين إلى طقوس وشكليات ونفاق ودجل. ألست أنت القائل في أهل النظام :
إمامُهم يُطرِّز الصُدور من تحت اللحِّى بأوسمة
بوسمةٍ كفحمةِ الدُّجى على وجوههم مُقسَّمة
منسوبة الى الشرف ، وما دروا بأنها عدم الشرف
معرَّة الأبد لمن سَلفْ ومن خلفْ
تصحبُهم كظلهِّم مُجسَّـمـة
يُزيِّفون شرع الله مُمسِكين مُرجفين
يُطوِّعون بعض شرع الله وفق أغراض السياسة
يُعطلون بعضَ شرع الله حيثما تملى ضرورة السياسة
يُحرِّفون شرع الله كيفما تضطرَّهم مصالحُ السياسة.
ويقولُ الكاتب إنَّ دولة الإنقاذ قد إتبَّعت سياساتٍ ديموقراطية كانت نتيجتها توفر ( حُرِّية التعبير والتنظيم وحُريِّة التعددية الحزبية المفتوحة ).
ونحن نقول لكاتب المقال إنَّ سقف حُرِّية التعبير الذي كان متوفراً في ظل حُكم نظام مبارك في مصر يفوقُ بعشراتِ المرَّات مساحة الحُرِّية المُتاحة في السودان اليوم, ومع ذلك ثار الناسُ عليه. وأنَّ التعددية الحزبية كانت أيضاً موجودة في مصر, ولكنها حُريِّة وتعددية لم تمنع السُّلطة من تزوير الإنتخابات , ولم تسمح بمحاسبة المفسدين , لأنَّ إحتكار السُّلطة كان كاملاً, ولأنَّ الفساد أصبح هيكلياُ, والجميعُ متورِّطون فيه بنسبٍ متفاوتة, وهو نفس الحال في السُّودان اليوم.
ما فائدة حُريِّة التعبير, وما جدوى الصحافة, إذا كان الإعلامُ يكشفُ الفساد , ويُسمي المتجاوزين والمُفسدين بأسمائهم, ويُطالبهم بالذهاب للسُّلطة القضائية ( وهل يقومُ قضاءٌ فى دويلةٍ خصُومها المستضعفون ؟ أو كما قلت) , ومع ذلك لا تحِرِّكُ الدولة ساكناً, بل تظلَّ الأمور كما هى وكأنَّ شيئاً لم يكن : "بيزنس آز يوجوال" كما يقول الفرنجة ؟
ويواصل كاتب المقال في التمويه قائلاً أنَّ الشعب " يُدرك أن النظام يمر بضائقة اقتصادية متوقعة جرَّاء الصرف على المرحلة الانتقالية، وتناقص موارد البترول بعد انفصال الجنوب، وذلك في ظل آثار الأزمات المالية والاقتصادية العالمية ".
ونحن من جانبنا نقول للكاتب أنَّ هذه التبريرات الواهية لا تنطلي على أحد. الضائقة الإقتصادية لم يتسبب فيها الصرف على المرحلة الإنتقالية, وهى كذلك ليست من أثر الأزمة المالية العالمية. السودان لم يتأثر مباشرة بالأزمة المالية لأنه لم تكن له أصلاً إستثمارات مالية في أسواق أوروبا أو أمريكا, وهو لم يتأثر كذلك كثيراً بطريقة غير مباشرة لأنه ليست لهُ صادراتٍ تذكر لم يتمكن من بيعها في أسواق العالم. والصرفُ على المرحلة الإنتقالية كان من موارد البترول و نسبتهُ لا تقارن بما أهدر من تلك الأموال التي تعرف أنتَ, ويعرفُ الكل كيف صُرفت, وفيمَ أنفقت.
الأزمة – يا حضرة الكاتب – أزمة هيكيلة مُرتبطة بالفلسفة والتوجُّه الإقتصادي الذي إختارهُ نظام الإنقاذ الذي تدافع عنه. وهذا هو أحد أوجه الشبه العديدة بينهُ وبين الأنظمة التي أطاحت بها ثورات الربيع العربي, فهى جميعاً أنظمة يقتاتُ إقتصادها على "الرَّيع" وليس "الإنتاج".
قد عَمَدَتْ رؤية حكومة الإنقاذ الإقتصادية إلى إغفال الزراعة والصناعة, وأهملتهما بل حطمتهما بالكامل, ولم توجِّه موارد البترول للإستثمار في هذين المجالين, ثم جاءت بعد فوات الأوان تذرفُ الدموع و تمنِّي الشعب بأساطير أسمتها "النفرة" و"النهضة" وهلم جرا.
يقولُ الفيلسوف الفرنسي رولان بارت إنَّ : (عُظماء الأمَّة هم مثقفوها) ,ويقول لينين إنَّ : (أقرب الناس إلى الخيانة هم المثقفون), وكلا العبارتين في رأيي صحيحتان وإن بدا عليهما التناقض.
إنَّ المُثقف العظيم هو الذي يلتزمُ جانب الشعب, ولا يُداهنُ السُّلطة, ولا ينزلقُ في متاهتها, ولا يرقصُ على إيقاعاتها النشاز, هو " المتنُ" وما عداهُ "الحاشية" التي تُدبِّج الكلمات والسُّطور والخطب التي تضرُّ ولا تنفع. المُثقف العظيم هو الذي يتمسَّك ببياض الرِّهان المحسُّوم : رهان الشعب, أمَّا المُثقف الخائن فإنهُ حتماً سيختنقُ بغبار البخور المَحروُق في بلاط السُّلطان, في إحتفالات التلميع ودقَّ الطبول. المُثقف الحُّر هو الذي يعُضُّ بالنواجز على وصيِّة "حلاج" القرن العشرين التي كتبتها انت على لسانهِ في منصِّة الإعدام :
على منصِّة الإعدام يكتبُ الوصيِّة
وصيِّة الى الأحرار أنْ يُساهروا على الحُريِّة
وأن يكونَ الدِّينُ دربهم الى الحُريِّة
وأن يكونَ الخبز زادهم الى الحُريَّة
وأن يكونَ قوتهم حُريِّة, ووقتهم حُريِّة
وعشقهم ومقتهم حُريِّة
وعيشهم وموتهم حُريِّة
فمن يُولى دبرهُ مصارع الحُريِّة
عيشتهُ دنيِّة ، ميتتهُ دنيِّة.
ولا حول ولا قوَّة إلا بالله