الطريق نحو الخروج من عنق الأزمة الوطنية (1-2)
محمد عبد الرحمن الناير (بوتشر)
8 January, 2023
8 January, 2023
●إنّ الأزمة الوطنية لم تكن وليدة اللحظة، إنما نتاج تراكم تأريخي للأزمات التي لم تجد المعالجات الناجعة ، فتطورت وتجذرت وتعمقت، حتي باتت عصية على الحل رغم المجهودات الداخلية والخارجية التي بُذلت ولا تزال تُبذل، فالأزمة السودانية تعود جذورها إلى ما قبل الإستقلال، ففي عام 1955 نشب أول تمرد مسلح بالسودان عُرِف بحركة "الأنانيا ون" التي ظهرت إحتجاجاً على الظلم والتهميش الذي حاق بجنوب السودان، وإبعاد الجنوبيين عن مراكز القرار بالدولة ومؤسساتها، وللمطالبة بحكم فيدرالي، في إطار السودان الموحد.
●لاحقاً ظهرت العديد من التنظيمات الإقليمية المطلبية التي تنادي "سلمياً" بالعدالة والمساواة في الحقوق والواجبات بين أقاليم السودان، مثل مؤتمر البجا في شرق السودان، وجبهة سوني في دارفور، وإتحاد عام جبال النوبة وتنظيم كومولو في كردفان، وإتحاد عام شمال الفونج في النيل الأزرق، وغيرها، إلا أن الحكومات "الوطنية" المتعاقبة التي ورثت السلطة من المستعمر لم تأبه لهذه المطالب المشروعة ، ومضت في تطبيق سياسات وممارسات رعناء فاقمت من الأزمة، بفرضها لمشروع سياسي أُحادي "إسلاموعروبي" في وطن متعدد ومتباين عرقياً وثقافياً ودينياً ، لتكون بذلك قد فوتت الفرصة في جمع السودانيين على مشروع وطني واضح المعالم، يعبر عن، ويقر ويحتفي بالتعدد والتنوع كمصدر للفخر والقوة والإلهام وليس مدعاة للفرقة والتناحر، ويضع الأسس الصحيحة لإدارة السودان، ومعالجة قضايا المواطنة والهوية وعلاقة الدين بالدولة، والإتفاق على كيف يُحكم السودان "وليس من يحكم السودان".
●جاءت "سودنة الوظائف" بعد خروج المحتل الأجنبي ، وما صاحبها من إجراءات ظالمة وعنصرية وجهوية، زادت من الغبن في الأقاليم المهمشة التي تم إبعادها من السلطة ووظائف الخدمة المدنية، فألقت هذه الإجراءات التي صاحب عملية "السودنة" حجراً في بركة أزمات السودان المتراكمة، وقد تغلبت الأنانية الحزبية والصفوية السياسية والإستئثار بالسلطة على حل أزمة الوطن.
●إرتكبت الحكومات "الوطنية" المتعاقبة أخطاء وخطايا وانتهاكات وجرائم جسيمة لا تزال آثارها تدمي خاصرة الوطن ، ومن أبرز أمثلتها أحداث "عنبر جودة" جنوب مدينة كوستي بولاية النيل الأبيض، التي وقعت في 16 فبراير 1956 ، وأودت بحياة حوالي 250 من المزارعين إختناقاً ، لا لشىء سوي انهم طالبوا بحقوقهم من عائدات إنتاج المشروع ، فتم وضع المئات منهم في سجن بلا نوافذ ، دون رحمة أو إنسانية ، فلقوا حتفهم، والمؤسف أن حكومة إسماعيل الأزهري قد طوت هذا الملف دون محاسبة الجناة والمتورطين في هذه القضية، وهي أول طعنة نجلاء للعدالة بالسودان.
●توالت الأحداث والأزمات مع تعاقب السنوات والحكومات إلى أن لاحت بارقة أمل للسلام والإستقرار بعد توقيع إتفاقية أديس أبابا بين نظام النميري وحركة الأنانيا ون في عام 1972، التي أوقفت الحرب لعشر سنوات، إلا أن جعفر نميري انقلب على الإتفاقية ، ووصفها ب "لا إنجيل أو قرآن "، فاندلعت الحرب مرة أخري بتمرد الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة د. جون قرنق عام 1983.
●استمر نزيف الوطن ومعاناته إلى أن جاءت إنتفاضة أبريل 1985 التي أطاحت بالدكتاتور جعفر محمد نميري ، فتجاوبت معها الحركة الشعبية لتحرير السودان وطلبت من القوى السياسية آنذاك تجميد قوانين سبتمبر المذلة والمهينة للكرامة الإنسانية ، التي طبقها نظام جعفر نميري في أواخر أيام حكمه، وإعلان وقف شامل لإطلاق النار، والدعوة لعقد مؤتمر دستوري لمخاطبة قضايا السودان، إلا أن أحزاب الصفوة السياسية في الخرطوم رفضت هذه المطالب، ومضت في طريقها بكل تعالي وغطرسة ، غير آبهة بالحركة الشعبية ، وبعد إنقضاء الفترة الإنتقالية التي حُدِدت بعام واحد، أجروا إنتخابات في بعض مناطق السودان، دون مشاركة مناطق عديدة في جنوب السودان، جاءت بحكومة إئتلافية برئاسة الصادق المهدي، تتألف من حزب الأمة والحزب الإتحادي الديمقراطي (الميرغني) والجبهة الإسلامية القومية (الترابي) ، فكانت حكومة ضعيفة ومتشاكسة، لم تستطع تحقيق شيء يذكر، فتشعبت الأزمات، وإنسد أُفق الحلول ، ووقعت في عهدها جريمة بشعة هزت ضمير الإنسانية لبشاعتها وأهوالها.
●في يوم 28 مارس 1987 نفذ حوالي عشرة آلاف من قبيلة الرزيقات محرقة الضعين ضد آلاف الجنوبيين من قبيلة الدينكا، الذين كانوا في القطار المتجه إلى مدينة أويل ، فقتلوا حوالي ألفين من الدينكا ، أغلبهم من النساء والأطفال والشيوخ ، والمؤسف أن حكومة الصادق المهدي لم تفشل في محاسبة الجناة فحسب بل اسقط نواب حزب الأمة والحزب الإتحادي الديمقراطي بالبرلمان ، مقترح تقدم به نائب برلماني من جبال النوبة لإجراء تحقيق حول هذه المجزرة، وفشلت الحكومة في حماية هؤلاء المواطنين الأبرياء ، ومنع وقوع المذبحة رغم علمها المسبق بإرهاصات وقوعها، مما فتح باباً من الأسئلة الحائرة التي لم تجد الإجابة حتي الآن...!!.
●بدلاً أن يتقدم رئيس الوزراء الصادق المهدي باستقالته من الحكومة لعجزه وفشله ويتحمل المسئولية بكل شجاعة ووطنية، انبري لإتهام الكاتِبين " عشاري أحمد محمود وسليمان على بلدو" مؤلفي كتاب "مذبحة الضعين" بالكذب الضار ، ووجه بملاحقتهما جنائياً وحظرهما من السفر ، مما يفهم في سياق رضاه عن هذه الجريمة إن لم يكن التواطوء والإشتراك، فتم طيء ملف القضية بأمر من حكومة "الديمقراطية الثالثة" ولم يفتحه أحد حتي الآن، رغم أن مثل هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم ، فلابد من محاكمة مخازي تاريخنا السياسي والإعتراف بجرائمنا وخطايانا والإعتزار للضحايا، دون إغفال لمبدأ تحقيق العدالة ومحاسبة الجناة وعدم الإفلات من العقاب...!!
●هكذا مضت الأمور بالسودان ، وسارت حكومة الصادق المهدي بكل خوارها وضعفها ، فعجزت في حل الضائقة المعيشية ومنع شبح المجاعة، وعجزت عن معالجة معضلة الأمن وتوفير الإستقرار السياسي ، ومعالجة ظواهر الجريمة التي تفشت، وعجزت في التعامل مع قضايا السلام والحرب، فعمدت إلى تكوين مليشيات قوامها من المواطنين والقبائل، عُرفت ب "قوات المراحيل" لتقوم بمهام القوات المسلحة، وكانت هذه المليشيات هي النواة الأولي لمليشيا " الدفاع الشعبي" التي أسسها نظام البشير.
●إزدادت الأزمة الوطنية وارتفعت وتيرة الحرب وتوسعت رقعتها، ودخلت فيها أبعاد عرقية وعنصرية بسبب مليشيات المراحيل ، وبعد هزائم مريرة مُنّي بها جيش الحكومة من قوات الحركة الشعبية ، وسقوط حامياتها بجنوب السودان الواحدة تلو الأخري ، حتي باتت جحافل الجيش الشعبي على تخوم مدن الدمازين والجبلين، فصدرت مذكرة من القوات المسلحة بتاريخ 20 فبراير 1989 التي كانت بمثابة إنقلاب على حكومة الصادق المهدي التي فشلت في الوفاء ببند واحد من المطالب التي وردت بالمذكرة.
●استفادت الجبهة الإسلامية القومية "الشريك في الحكومة" من مذكرة الجيش ، واستغلت الحالة التي وصلت إليها البلاد والتردي في كافة مناحي الحياة، فنفذت إنقلابها في صبيحة يوم الجمعة الموافق 30 يونيو 1989 الذي سُمِيّ ب" ثورة الإنقاذ الوطني" بقيادة العميد آنذاك عمر حسن أحمد البشير وبعض الضباط الإسلاميين وغير الإسلاميين الذين تم إستخدامهم كغطاء للإنقلاب، لعدم معرفة وجهته السياسية.
●تأزمت الأوضاع السودانية بعد الإنقلاب، الذي عمل جاهداً على فرض مشروعه الإسلاموي بالقوة، فشهد السودان أسوأ الممارسات الشمولية من قتل وتشريد وسجون وإعتقالات، فعمد النظام على إجراء جراحة عميقة على كافة مؤسسات الدولة، فشرد الآلاف من الكفاءات الوطنية في الجيش والأمن والشرطة والخدمة المدنية تحت دعاوي الصالح، أو ما عُرف ب "التمكين".
●أعلن نظام الإنقاذ الجهاد على الجنوبيين وجبال النوبة والنيل الأزرق ، وبذلك يكون قد حوّل مجري الصراع السياسي إلى حرب دينية، بين مسلمين وكفار ، ونصّب النظام نفسه حامياً للإسلام ووكيلاً لله في أرض السودان، وسط صيحات "الجهاد" وعقد القران للحور العين على "الشهداء" ، وانتشرت الأكاذيب وتنوع الدجل لاستقطاب الشباب وزجهم في محرقة الجنوب ، فزعموا أن الملائكة قاتلت معهم ضد "كفار الحركة الشعبية"، وآخرون يهرفون بأنهم شمّوا عطر الجنة ، وغيرها من أوهام الأبالسة، فنُصِبت المحارق لشعوب جنوب السودان وجبال النوبة والنيل والأزرق، فأُزهِقت أرواح أكثر من مليوني شخص، وأضعافهم تشردوا داخلياً وخارجياً.
●في غمرة جنون نظام الإنقاذ ، كانت خطاباته موجهة صوب أسلمة أفريقيا والعالم بحد السيف "فلترق كل الدماء"، وكانت أوهامهم وأهازيجهم تقول: (أمريكا روسيا قد دنا عذابها) و ( يوري موسفيني ما بكفيني، أنا عيني هناك لكلينتون داك)...!!
●جلبوا إلى السودان قادة الإرهاب والتطرف العالمي، أمثال أسامة بن لادن، وأيمن الظواهري، وشريف شيخ أحمد زعيم حركة الشباب في الصومال ، والإرهابي كارلوس، وقادة حركة حماس والكثير من قادة التطرف في الشيشان وطاجكستان وأفغانستان وغيرها من دول العالم، وكوّنوا في الخرطوم ما يسمي ب "المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي" في المؤتمر الذي انعقد في 1991 ، وذلك بهدف تحقيق تطلعات مشروعهم " الإسلاموي" وغزو دول العالم "الكافر"، لجهة أن مشروع الحركة الإسلامية لا يؤمن بالدولة الوطنية، فهو مشروع عابر للدول والقارات..!!
●بفعل سلوك نظام الإنقاذ المعادي للسلام العالمي ، وزعزعته للإستقرار بدول الجوار الإقليمي، أدرجت الولايات المتحدة الأمريكية السودان على قوائم الدول الراعية للإرهاب في عام 1993 ، وطالته سلسلة طويلة من العقوبات التي صدرت إما بأوامر تنفيذية رئاسية أو من خلال تشريعات الكونغرس، وهذه العقوبات تسببت بإلحاق خسائر سياسيّة وإقتصادية فادحة للسودان، وذلك بعد أن استضافته على أراضيها الإرهابي المتطرف " أسامة بن لادن" زعيم تنظيم القاعدة، وقد تعرض نظام البشير لضغوط أمريكية كبيرة وعقوبات إقتصادية مما أضطره لطرد بن لادن إلى أفغانستان عام 1996.
●في عام 1997 تعرض نظام البشير لعقوبات مالية وتجارية بقرار تنفيذي فرضه الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، فتم بموجب هذه العقوبات تجميد الأصول المالية السودانية، ومنع تصدير التكنولوجيا الأمريكية له، بالإضافة إلى إلزام الشركات والمواطنين الأمريكيين بإيقاف أي تعاون أو استثمارات مع السودان، وبعد تفجير سفارتي الولايات المتحدة الأمريكية في دار السلام "تنزانيا" ونيروبي "كينيا" في 7 أغسطس 1998، شنّت الطائرات الأمريكيّة بأمر من الرئيس الأمريكي "بيل كلينتون" غارات بصواريخ كروز لمواقع سودانية يعتقد لها علاقة بأنشطة أسامة بن لادن، وقد شمل القصف معسكرات تدريبية ومصنع "الشفا للأدوية" بالعاصمة الخرطوم، وكذلك تم إتهام نظام البشير بالتورط في تفجير المدمرة الأمريكية "يو إس إس كول" الذي وقع في 12 إكتوبر 2000 قبالة ميناء عدن اليمني، وقد أسفر الهجوم عن مقتل 17 بحاراً أمريكياً، أيضاً هجمات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية التي وقعت بالولايات المتحدة الأمريكية بواسطة أربع طائرات نقل مدني تجارية، تقودها أربع فرق تابعة لتنظيم القاعدة، والتي استهدفت برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، ومبنى وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاغون" بواشنطون ، وقد أشارت أصابع الإتهام في هذه الهجمات الإرهابية إلى تنظيم القاعدة وزعيمه أسامة بن لادن الذي استضافته الخرطوم.
●اندلعت ثورة كفاح مسلح في دارفور في 2001 بإعلان ميلاد حركة/ جيش تحرير السودان بقيادة الأستاذ عبد الواحد محمد أحمد النور ، وظهرت كذلك حركة العدل والمساواة بقيادة د. خليل إبراهيم محمد ، من أجل مناهضة نظام البشير عسكرياً بعد أن أوصد كل الأبواب السلمية لنيل الحقوق ورفع التمهيش التنموي والسياسي عن كاهل دارفور ، وإقرار مبدأ العدالة والمساواة بين جميع السودانيين ، وأن تكون المواطنة هي الأساس الأوحد لنيل الحقوق وأداء الواجبات، فبدلاً عن تجاوب النظام مع هذه المطالب المشروعة ، ويعمل على تحقيق السلام والإستقرار بالسودان وتجنب الحرب ومآلاتها ، إلا إنه استخدم الحلول الأمنية والعسكرية التي جربها في جنوب السودان وجبال النوبة والنيل الأزرق وشرق السودان وأثبتت فشلها وعجزها.
●عندما فشلت الآلة العسكرية والحلول الأمنية في حسم التمرد ، ودخول قوات حركة تحرير السودان إلى مدينة الفاشر وحرقها لعدد من الطائرات العسكرية التيى كانت بالمطار، وأسرت قائد سلاح الجو، ثم تواصلت المعارك والهزائم حتي باتت معظم مساحة إقليم دارفور خارج سيطرة الحكومة التي لا تسيطر إلا على المدن الكبري ، فلجأ نظام البشير إلى تجييش القبائل، وقسّم دارفور إلى "عرب وزرقة" بهدف حرف الثورة الوليدة عن طابعها ومشروعها المقاوم للنظام، فسلّح مجموعات عرقية ضد أخري، فظهرت مليشيات "الجنجويد" التي حرقت القري ونهبت الممتلكات، وإرتكبت جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، فتم قتل أكثر من 600 ألف شخص وشُرِّد الملايين إلى معسكرات النزوح واللجوء بدول الجوار ، فخرجت الأوضاع عن سيطرة الحكومة، وتدوّلت قضية دارفور.
●في يوم 13 إكتوبر 2006 وقّع الرئيس الأمريكي جورج بوش "قانون دارفور للسلام والمساءلة" الذي يؤكد أن النزاع في دارفور إبادة جماعية ، ويطالب بتوسيع قوة حفظ السلام التابعة للإتحاد الأفريقي.
●في مارس 2009 أصدرت الدائرة التمهيدية بالمحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق عمر البشير ، بناءًا لإرتكابه جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب في إقليم دارفور ، وبات البشير وعدداً من أركان نظامه مطلوبين لدي المحكمة الجنائية الدولية أبرزهم عبد الرحيم محمد حسين ، وأحمد محمد هارون ، وعلي كوشيب وآخرين من جملة قائمة ال 51 مطلوباً، فتدخلت الأمم المتحدة والمجتمع الدولي عبر المبعوثين والبعثات والمنظمات الدولية ، وعبر قوات حفظ السلام بدارفور تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وبذلك يكون السودان وبسبب فشل وممارسات وسلوك نظام البشير، قد استقبل أكبر بعثة حماية أممية في تأريخ الأمم المتحدة ، بقوة قوامها أكثر من 26 ألف جندي من القبعات الخضراء "يوناميد" والزرقاء "يونيسفا".
●وجد نظام البشير نفسه معزولاً وفي قبضة حصار إقليمي ودولي خانق، وملاحقات من المحكمة الجنائية الدولية، وفشلت إتفاقية السلام الشامل التي تم توقيعها في ضاحية نيفاشا الكينية عام 2005 بين حكومة الخرطوم والحركة الشعبية لتحرير السودان، من إنقاذه من ورطته الداخلية ورفع العقوبات والملاحقات الدولية عنه، رغم أن الإتفاقية قد أوقفت الحرب التي استمرت 21 عاماً في جنوب السودان وجبال النوبة والنيل الأزرق "مؤقتاً" وحققت نوعاً من الأمن والإستقرار في تلك المناطق ، إلا أن الحرب في دارفور لم تتوقف رغم توقيع مني أركو مناوي إتفاقية أبوجا 2006 وصار كبير مساعدي البشير.
●إن فشل نظام البشير في جعل "الوحدة جاذبة" كما نصت إتفاقية نيفاشا ، قاد ذلك إلى إستقلال جنوب السودان في عام 2011 عبر ممارسة حق تقرير المصير , وبذلك يكون السودان قد فقد ثلث سكانه وثلثي موارده النفطية والغابية وثرواته الحيوانية، وثلث أراضيه...!!
●تجددت الحرب مرة أخري في ولايتي جنوب كردفان/ جبال النوبة والنيل والأزرق، بعد أن رفض نظام البشير الإعتراف بهزيمته في انتخابات منصب والي ولاية جنوب التي فاز بها مرشح الحركة الشعبية لتحرير السودان، القائد عبد العزير آدم الحلو ، وبتجدد الحرب في المنطقتين وذهاب بترول الجنوب "شريان إقتصاد السودان" ، واجه نظام البشير أزمةً إقتصادية وسياسة وأمنية وإجتماعية خانقة، زادها إستشراء الفساد والمحسوبية ، وضياع الحد الفاصل بين المال العام وجيوب المسئولين الحكوميين ، فإندلعت خلافات وانشقاقات داخلية أقعدت الحزب الحاكم ، وهي نتاج الأطماع الشخصية والشللية والجهوية وكافة أمراض السياسة السودانية، فأصبح النظام كسيحاً غير قادر على مواجهة التحديات التي الماثلة.
● إن كلفة الحرب كانت باهظة الثمن على النظام، وقد قدرتها بعض الجهات بحوالي 5 مليون دولار يومياً ، ومع إرتفاع الأسعار بصورة جنونية وتدهور العملة الوطنية ، وإنعدم الخبز والوقود والدواء، صعبت الحياة على المواطنين الذين أرهقت الحكومة كاهلهم بالضرائب والجبايات والأتاوات، وتفاقمت أزمة النظام أكثر بعد أن أوصدت الدول والبنوك الأجنبية أبوابها في وجهه ، وفشلت كافة محاولات الجراحة الإقتصادية، وطباعة العملة "رب رب رب "، ورفع الدعم عن السلع والخدمات ، وفشلت كذلك سياسة تغيير الحكومة أو الوزراء في تهدئة الشارع المكتوي بنيران الغلاء وندرة السلع الضرورية، ووقف شبح الإنهيار الإقتصادي.
●في ظل هذه الأوضاع المتردية وغلاء المعيشة، اندلعت ثورة ديسمبر المجيدة ، التي انطلقت شرارتها الأولي من مدينة "مايرنو" بولاية سنار في يوم 6 ديسمبر 2018 حيث خرج طلاب المدارس في مظاهرات منددين بالغلاء ، وهتفوا بسقوط نظام البشير، ثم خرج متظاهرون بمدينة الدمازين بولاية النيل الأزرق في يوم 13 ديسمبر 2018 قوامهم من الطلاب وبعض المواطنين، فانتقلت عدوى الثورة والمقاومة إلى مدن؛ النهود ونيالا والابيض ومدني والفاشر والقضارف ، لتكتمل حلقاتها في مدينة عطبرة "مدينة الحديد والنار" في يوم 19 ديسمبر 2018 ، التي أحرق الثوار فيها دار حزب المؤتمر الوطني ، ما يعني إنتهاء أجل النظام عملياً وسقوطه فعلياً في أذهان الثوار والشعب السوداني، ومن ثم ، عمّت الثورة كل ولايات ومدن وقري السودان ، فكان شعارها الأوحد "تسقط بس".
●في العاصمة الخرطوم "قلب السودان النابض" كانت النهاية لأطول حقبة دكتاتورية مرّت على السودان، وقد شكّل إعتصام القيادة العامة بالخرطوم حدثاً مُهِماً ، وعنواناً للثورة السلمية الباسلة التي أبهرت العالم، وتغني بها الشعراء والفنانون، وكُلِّ مفتونٍ بالحرية والديمقراطية، بل حتي رؤساء الدول التي تعتبر من "عتاة ديمقراطيات العالم" قد أُعجِبُوا ببسالة وسلمية "كنداكات وشفاتة" السودان ، الذين كسروا حاجز الرهبة والخوف ، وصمدوا وقاوموا بطش الطغاة وهمجية عسس اللجنة الأمنية للبشير، بصدور عارية إلا من هتاف "سلمية سلمية ضد الحرامية" وإيمانهم بالإنتصار المستحق.
●فشلت كافة مؤامرات ومخططات البشير ولجنته الأمنية في فرض بقاء النظام في السلطة والإلتفاف على مطالب الثوار التي تمثلت في التغيير الشامل واسقاط النظام ، وظلت هتافاتهم الخالدة تخضب سماوات السودان ببشريات الخلاص والوحدة والسلام: "حرية سلام وعدالة" ، "مدنيااااو مدنياااااو" ، " يا العسكري المغرور كل الوطن دارفور"
، فإن تلك الهتافات والأهازيج الثورية والحماسية قد وحدّت وجدان الشعب السوداني، وكان إعتصام القيادة العامة بالخرطوم قد جسّد رمزية الوحدة الوطنية ، التي برزت فيها جماليات التعدد والتنوع ، وعظمة شعب السودان المعلم، الذي إبتلاه الله بسياسيين أقل من قامته...!!
●لم يكن أمام اللجنة الأمنية للبشير التي أمرها بفض الإعتصام بالقوة ، سوي الإنقلاب على رئيسها والتحفظ عليه في مكان آمن "كما قالوا في بيانهم الأول" في يوم الخميس الموافق 11 أبريل 2011 ، ليبدأ مسلسل سرقة الثورة وحرفها عن مسارها ، مع تمسك الثوار المعتصمين بمطالبهم ، فتدخل "الأجاويد" المحليين والإقليميين بأجنداتهم المختلفة والتي كلها لا تصب في مصلحة التغيير الشامل الذي تنشده السودانيات والسودانيون ، فدخلت قوي الحرية والتغيير في مفاوضات سرية مع العسكر، ثم أصبحت علنية بعد إفتضاح أمرها ، ولكي تتم التسوية وتبلغ مراميها، ضحي العسكر برئيس مجلسهم "عوض إبن عوف" ، الذي أُجبر على الإستقالة، ليس بسبب علاقته بالنظام البائد كما يشاع، فكل جنرالات اللجنة الأمنية هم صنيعة البشير ومن النظام البائد وبيادق حمايته، وما قامت الثورة إلا لإسقاط كامل النظام وليس من أجل تغيير الأشخاص والإبقاء على هيكل النظام المعطوب، فذهاب إبنعوف وإخراجه من المشهد أعطي المبرر للمضي في توقيع التسوية مع خلفه عبد الفتاح البرهان.
●رفض الثوار المعتصمون بالقيادة العامة كافة أشكال المساومة بأهداف الثورة ، وحِيّل وخداع العسكر وشركائهم في الحرية والتغيير، وبعد أن بات وجود الإعتصام مهدداً لإبرام أي صفقة إتفاق مع العسكر، اتفقوا على فض الإعتصام بالقوة ، فكانت ذرائعهم " تطهير منطقة كولمبيا" وفتح "السكة حديد" لمرور القطار، والإدعاءات بوجود ظواهر سالبة "خادشة للذوق العام" ، وغيرها من الأكاذيب، فأمروا قواتهم ومليشياتهم بقتل وسحل المعتصمين السلميين.
●في الساعات الأولي من صبيحة يوم 3 يونيو 2019 الذي يصادف يوم 29 رمضان، اقتحمت آلاف من القوات والمليشيات المدججة بكافة أنواع الأسلحة ساحة الإعتصام ، وأطلقت نيران أسلحتها على الثوار المعتصمين وهم نيام، فقتلت المئات بطريقة وحشية لم تفعلها حتي جيوش الإستعمار في مستعمراتها ، وتم ربط العشرات من المعتصمين بالحبال وألقوا بهم في النيل وهم أحياء ، وإمتلأ المكان برائحة الموت والجثث والرماد والبارود ، ووحشية ودموية "الإنكشارية الجدد" وطفحت مشارح الخرطوم بالجثث، وهناك المئات من المفقودين، وآلاف الجرحي والمصابين ،ومئات الذين ذهبت عقولهم من هول الفاجعة التي لا يتصورها بشر، فغطي الحزن كافة أرجاء السودان والمعمورة ، فتناثرت بيانات الشجب والإدانة والمطالبة بالقصاص ،وتكوين لجنة تحقيق دولية، ولكن........!!.
●لم يفق الشعب السوداني من هول الفاجعة لفقده فلذات أكباده بهذه الطريقة البربرية ، حتي عالجته قوي الحرية والتغيير " بفاجعة أخري بمواصلتها التفاوض مع جنرالات اللجنة الأمنية بعد أن اعلنت وقف التفاوض ، رغم رفض الثوار وأغلبية الشعب السوداني لهذه المفاوضات، وللتذكير فإن تحالف ما يسمي بقوي الحرية والتغيير هو جسم متسلق تم تكوينه على عجل بعد إندلاع الثورة، لإختطافها وفرملة عجلتها للحيلولة دون بلوغها محطتها النهائية، نسبة لتقاطعات وتشابك مصالح يعلمها الشعب السوداني جيداً، وأغلب أحزابها هي ذات القوي السياسية التي كانت تفاوض البشير في أديس أبابا عبر الوساطة الأفريقية فيما عُرف ب" الهبوط الناعم" وبعضها كان يستعد لنزول إنتخابات 2020 وأجري مناظرات لهذا الغرض ، وآخرين قد جري إستقبالهم بمطار الخرطوم ب"السجاد الأحمر" ووصفوا الثورة ب"دخان المرقة" وغيره من الأوصاف والنعوت القبيحة...!!.
●لم تترك قوي الحرية والتغيير دماء الشهداء ودموع أمهاتهم الثكالي تجف ، فأبرمت على عجل ودون حياء تسوية "شراكة الدم" دون التفات للشهداء ومشاعر ذويهم ، والأدهي والأمّر إنهم جعلوا من قتلة الثوار "شركاء في الثورة" ومنحوهم شرعية وإعتراف زائف، بدلاً عن محاسبتهم على جرائمهم في عهد البشير ومذبحة إعتصام القيادة العامة بالخرطوم وغيرها من المدن السودانية ، وبهذه الشراكة الثنائية قد أدخلوا السودان في مأزق جديد.
●بعد أن أدرك جنرالات العسكر ضعف قوي الحرية والتغيير وانفضاض الشارع من حولها ، وقد أضحت مكشوفة الظهير الجماهيري والسند الشعبي ، بعد أن أوهمتهم بأنها مفتاح الشارع ، وأن الثوار طوع بنانها ، انقلبوا عليها في يوم 25 إكتوبر 2021 كي ينفردوا بالسلطة على طريقة "سيسي مصر" وأعتقدوا أن رفض الشارع لقوي الحرية والتغيير يعني قبوله ومباركته للإنقلاب على "أربعة طويلة" ، فخابت تقديراتهم، ونسوا أن الشعب السوداني ليس هو ذلك الشعب الذي يتخيلونه..!!
●تمرد الشارع على الإنقلاب شاهراً سيف سلميته المجرب ووقف "ألف أحمر" خلف لاءاته الثلاثة، وقدّم أكثر من 122 شهيد ومئات المعتقلين، وآلاف الجرحي والمصابين ، ولا تزال شرارة الثورة متقدة لم تنطفي ولن تنطفي حتي تحقق هدفها المنشود الذي بات قريباً.
●فشلت كافة محاولات ومخططات الإنقلابيون وحلفائهم المحليين والإقليميين والدوليين، في تدجين الثورة وتسويق الإنقلاب محلياً أو خارجياً ، فأضحي إنقلابهم معزولاً ومنبوذاً كما الكلب الأجرب ، يسير من فشل لآخر ، وعجز في تكوين حكومة من استيلائه على السلطة، فاستفحلت الأزمة، ووصل السودان إلى حافة الهاوية، وبات يحيط به شبح التفكك والإنهيار من كل جانب ، وفشلت كافة مبادرات الحلول "الترقيعية" في خلق توافق أو إنفراج سياسي، فتدهورت الأوضاع الإقتصادية ودخلت البلاد مرحلة سيولة أمنية وانفرط عقد السلم المجتمعي ، ولم يعد المواطن السوداني آمناً حتي في العاصمة الخرطوم، وبات القتل والنهب والاغتصاب والإختفاء القسري ظاهرة يومية ، وتبدلت قيم المجتمع وعاداته، وانتشرت جرائم الإتجار بالبشر والمخدرات وتزوير العملات وغيرها، وازداد تشبث العسكر بالسلطة أكثر، خوفاً من المحاسبة على الجرائم التي إرتكبوها وحمايةً للأموال التي نهبوها ، وقاوموا أي عملية تغيير تبعدهم عن النفوذ والسلطة ، مع إنهم يُصرِّحُون ليل نهار بزهدهم عن السلطة ورغبتهم في العودة إلى ثكناتهم وتسليم السلطة للمدنيين ، ولكن واقع الحال يكذب مزاعمهم، وكل ما يقولونه من أقاويل لم يعد سوي إنحناء للعواصف الإقليمية والدولية والزلازل الداخلية، وكسباً للوقت، ريثما يرتبوا أوراقهم التي بعثرها صمود الثوار في المواكب والمليونيات ، وإصرار الشفاتة والكنداكات على إسقاط الإنقلاب وتكوين "حكومة الثورة" مهما كانت تكلفة الدماء والدموع والأشلاء..!!
#نقاوم_لا_نساوم
8 يناير 2023م
elnairson@gmail.com
/////////////////////
●لاحقاً ظهرت العديد من التنظيمات الإقليمية المطلبية التي تنادي "سلمياً" بالعدالة والمساواة في الحقوق والواجبات بين أقاليم السودان، مثل مؤتمر البجا في شرق السودان، وجبهة سوني في دارفور، وإتحاد عام جبال النوبة وتنظيم كومولو في كردفان، وإتحاد عام شمال الفونج في النيل الأزرق، وغيرها، إلا أن الحكومات "الوطنية" المتعاقبة التي ورثت السلطة من المستعمر لم تأبه لهذه المطالب المشروعة ، ومضت في تطبيق سياسات وممارسات رعناء فاقمت من الأزمة، بفرضها لمشروع سياسي أُحادي "إسلاموعروبي" في وطن متعدد ومتباين عرقياً وثقافياً ودينياً ، لتكون بذلك قد فوتت الفرصة في جمع السودانيين على مشروع وطني واضح المعالم، يعبر عن، ويقر ويحتفي بالتعدد والتنوع كمصدر للفخر والقوة والإلهام وليس مدعاة للفرقة والتناحر، ويضع الأسس الصحيحة لإدارة السودان، ومعالجة قضايا المواطنة والهوية وعلاقة الدين بالدولة، والإتفاق على كيف يُحكم السودان "وليس من يحكم السودان".
●جاءت "سودنة الوظائف" بعد خروج المحتل الأجنبي ، وما صاحبها من إجراءات ظالمة وعنصرية وجهوية، زادت من الغبن في الأقاليم المهمشة التي تم إبعادها من السلطة ووظائف الخدمة المدنية، فألقت هذه الإجراءات التي صاحب عملية "السودنة" حجراً في بركة أزمات السودان المتراكمة، وقد تغلبت الأنانية الحزبية والصفوية السياسية والإستئثار بالسلطة على حل أزمة الوطن.
●إرتكبت الحكومات "الوطنية" المتعاقبة أخطاء وخطايا وانتهاكات وجرائم جسيمة لا تزال آثارها تدمي خاصرة الوطن ، ومن أبرز أمثلتها أحداث "عنبر جودة" جنوب مدينة كوستي بولاية النيل الأبيض، التي وقعت في 16 فبراير 1956 ، وأودت بحياة حوالي 250 من المزارعين إختناقاً ، لا لشىء سوي انهم طالبوا بحقوقهم من عائدات إنتاج المشروع ، فتم وضع المئات منهم في سجن بلا نوافذ ، دون رحمة أو إنسانية ، فلقوا حتفهم، والمؤسف أن حكومة إسماعيل الأزهري قد طوت هذا الملف دون محاسبة الجناة والمتورطين في هذه القضية، وهي أول طعنة نجلاء للعدالة بالسودان.
●توالت الأحداث والأزمات مع تعاقب السنوات والحكومات إلى أن لاحت بارقة أمل للسلام والإستقرار بعد توقيع إتفاقية أديس أبابا بين نظام النميري وحركة الأنانيا ون في عام 1972، التي أوقفت الحرب لعشر سنوات، إلا أن جعفر نميري انقلب على الإتفاقية ، ووصفها ب "لا إنجيل أو قرآن "، فاندلعت الحرب مرة أخري بتمرد الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة د. جون قرنق عام 1983.
●استمر نزيف الوطن ومعاناته إلى أن جاءت إنتفاضة أبريل 1985 التي أطاحت بالدكتاتور جعفر محمد نميري ، فتجاوبت معها الحركة الشعبية لتحرير السودان وطلبت من القوى السياسية آنذاك تجميد قوانين سبتمبر المذلة والمهينة للكرامة الإنسانية ، التي طبقها نظام جعفر نميري في أواخر أيام حكمه، وإعلان وقف شامل لإطلاق النار، والدعوة لعقد مؤتمر دستوري لمخاطبة قضايا السودان، إلا أن أحزاب الصفوة السياسية في الخرطوم رفضت هذه المطالب، ومضت في طريقها بكل تعالي وغطرسة ، غير آبهة بالحركة الشعبية ، وبعد إنقضاء الفترة الإنتقالية التي حُدِدت بعام واحد، أجروا إنتخابات في بعض مناطق السودان، دون مشاركة مناطق عديدة في جنوب السودان، جاءت بحكومة إئتلافية برئاسة الصادق المهدي، تتألف من حزب الأمة والحزب الإتحادي الديمقراطي (الميرغني) والجبهة الإسلامية القومية (الترابي) ، فكانت حكومة ضعيفة ومتشاكسة، لم تستطع تحقيق شيء يذكر، فتشعبت الأزمات، وإنسد أُفق الحلول ، ووقعت في عهدها جريمة بشعة هزت ضمير الإنسانية لبشاعتها وأهوالها.
●في يوم 28 مارس 1987 نفذ حوالي عشرة آلاف من قبيلة الرزيقات محرقة الضعين ضد آلاف الجنوبيين من قبيلة الدينكا، الذين كانوا في القطار المتجه إلى مدينة أويل ، فقتلوا حوالي ألفين من الدينكا ، أغلبهم من النساء والأطفال والشيوخ ، والمؤسف أن حكومة الصادق المهدي لم تفشل في محاسبة الجناة فحسب بل اسقط نواب حزب الأمة والحزب الإتحادي الديمقراطي بالبرلمان ، مقترح تقدم به نائب برلماني من جبال النوبة لإجراء تحقيق حول هذه المجزرة، وفشلت الحكومة في حماية هؤلاء المواطنين الأبرياء ، ومنع وقوع المذبحة رغم علمها المسبق بإرهاصات وقوعها، مما فتح باباً من الأسئلة الحائرة التي لم تجد الإجابة حتي الآن...!!.
●بدلاً أن يتقدم رئيس الوزراء الصادق المهدي باستقالته من الحكومة لعجزه وفشله ويتحمل المسئولية بكل شجاعة ووطنية، انبري لإتهام الكاتِبين " عشاري أحمد محمود وسليمان على بلدو" مؤلفي كتاب "مذبحة الضعين" بالكذب الضار ، ووجه بملاحقتهما جنائياً وحظرهما من السفر ، مما يفهم في سياق رضاه عن هذه الجريمة إن لم يكن التواطوء والإشتراك، فتم طيء ملف القضية بأمر من حكومة "الديمقراطية الثالثة" ولم يفتحه أحد حتي الآن، رغم أن مثل هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم ، فلابد من محاكمة مخازي تاريخنا السياسي والإعتراف بجرائمنا وخطايانا والإعتزار للضحايا، دون إغفال لمبدأ تحقيق العدالة ومحاسبة الجناة وعدم الإفلات من العقاب...!!
●هكذا مضت الأمور بالسودان ، وسارت حكومة الصادق المهدي بكل خوارها وضعفها ، فعجزت في حل الضائقة المعيشية ومنع شبح المجاعة، وعجزت عن معالجة معضلة الأمن وتوفير الإستقرار السياسي ، ومعالجة ظواهر الجريمة التي تفشت، وعجزت في التعامل مع قضايا السلام والحرب، فعمدت إلى تكوين مليشيات قوامها من المواطنين والقبائل، عُرفت ب "قوات المراحيل" لتقوم بمهام القوات المسلحة، وكانت هذه المليشيات هي النواة الأولي لمليشيا " الدفاع الشعبي" التي أسسها نظام البشير.
●إزدادت الأزمة الوطنية وارتفعت وتيرة الحرب وتوسعت رقعتها، ودخلت فيها أبعاد عرقية وعنصرية بسبب مليشيات المراحيل ، وبعد هزائم مريرة مُنّي بها جيش الحكومة من قوات الحركة الشعبية ، وسقوط حامياتها بجنوب السودان الواحدة تلو الأخري ، حتي باتت جحافل الجيش الشعبي على تخوم مدن الدمازين والجبلين، فصدرت مذكرة من القوات المسلحة بتاريخ 20 فبراير 1989 التي كانت بمثابة إنقلاب على حكومة الصادق المهدي التي فشلت في الوفاء ببند واحد من المطالب التي وردت بالمذكرة.
●استفادت الجبهة الإسلامية القومية "الشريك في الحكومة" من مذكرة الجيش ، واستغلت الحالة التي وصلت إليها البلاد والتردي في كافة مناحي الحياة، فنفذت إنقلابها في صبيحة يوم الجمعة الموافق 30 يونيو 1989 الذي سُمِيّ ب" ثورة الإنقاذ الوطني" بقيادة العميد آنذاك عمر حسن أحمد البشير وبعض الضباط الإسلاميين وغير الإسلاميين الذين تم إستخدامهم كغطاء للإنقلاب، لعدم معرفة وجهته السياسية.
●تأزمت الأوضاع السودانية بعد الإنقلاب، الذي عمل جاهداً على فرض مشروعه الإسلاموي بالقوة، فشهد السودان أسوأ الممارسات الشمولية من قتل وتشريد وسجون وإعتقالات، فعمد النظام على إجراء جراحة عميقة على كافة مؤسسات الدولة، فشرد الآلاف من الكفاءات الوطنية في الجيش والأمن والشرطة والخدمة المدنية تحت دعاوي الصالح، أو ما عُرف ب "التمكين".
●أعلن نظام الإنقاذ الجهاد على الجنوبيين وجبال النوبة والنيل الأزرق ، وبذلك يكون قد حوّل مجري الصراع السياسي إلى حرب دينية، بين مسلمين وكفار ، ونصّب النظام نفسه حامياً للإسلام ووكيلاً لله في أرض السودان، وسط صيحات "الجهاد" وعقد القران للحور العين على "الشهداء" ، وانتشرت الأكاذيب وتنوع الدجل لاستقطاب الشباب وزجهم في محرقة الجنوب ، فزعموا أن الملائكة قاتلت معهم ضد "كفار الحركة الشعبية"، وآخرون يهرفون بأنهم شمّوا عطر الجنة ، وغيرها من أوهام الأبالسة، فنُصِبت المحارق لشعوب جنوب السودان وجبال النوبة والنيل والأزرق، فأُزهِقت أرواح أكثر من مليوني شخص، وأضعافهم تشردوا داخلياً وخارجياً.
●في غمرة جنون نظام الإنقاذ ، كانت خطاباته موجهة صوب أسلمة أفريقيا والعالم بحد السيف "فلترق كل الدماء"، وكانت أوهامهم وأهازيجهم تقول: (أمريكا روسيا قد دنا عذابها) و ( يوري موسفيني ما بكفيني، أنا عيني هناك لكلينتون داك)...!!
●جلبوا إلى السودان قادة الإرهاب والتطرف العالمي، أمثال أسامة بن لادن، وأيمن الظواهري، وشريف شيخ أحمد زعيم حركة الشباب في الصومال ، والإرهابي كارلوس، وقادة حركة حماس والكثير من قادة التطرف في الشيشان وطاجكستان وأفغانستان وغيرها من دول العالم، وكوّنوا في الخرطوم ما يسمي ب "المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي" في المؤتمر الذي انعقد في 1991 ، وذلك بهدف تحقيق تطلعات مشروعهم " الإسلاموي" وغزو دول العالم "الكافر"، لجهة أن مشروع الحركة الإسلامية لا يؤمن بالدولة الوطنية، فهو مشروع عابر للدول والقارات..!!
●بفعل سلوك نظام الإنقاذ المعادي للسلام العالمي ، وزعزعته للإستقرار بدول الجوار الإقليمي، أدرجت الولايات المتحدة الأمريكية السودان على قوائم الدول الراعية للإرهاب في عام 1993 ، وطالته سلسلة طويلة من العقوبات التي صدرت إما بأوامر تنفيذية رئاسية أو من خلال تشريعات الكونغرس، وهذه العقوبات تسببت بإلحاق خسائر سياسيّة وإقتصادية فادحة للسودان، وذلك بعد أن استضافته على أراضيها الإرهابي المتطرف " أسامة بن لادن" زعيم تنظيم القاعدة، وقد تعرض نظام البشير لضغوط أمريكية كبيرة وعقوبات إقتصادية مما أضطره لطرد بن لادن إلى أفغانستان عام 1996.
●في عام 1997 تعرض نظام البشير لعقوبات مالية وتجارية بقرار تنفيذي فرضه الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، فتم بموجب هذه العقوبات تجميد الأصول المالية السودانية، ومنع تصدير التكنولوجيا الأمريكية له، بالإضافة إلى إلزام الشركات والمواطنين الأمريكيين بإيقاف أي تعاون أو استثمارات مع السودان، وبعد تفجير سفارتي الولايات المتحدة الأمريكية في دار السلام "تنزانيا" ونيروبي "كينيا" في 7 أغسطس 1998، شنّت الطائرات الأمريكيّة بأمر من الرئيس الأمريكي "بيل كلينتون" غارات بصواريخ كروز لمواقع سودانية يعتقد لها علاقة بأنشطة أسامة بن لادن، وقد شمل القصف معسكرات تدريبية ومصنع "الشفا للأدوية" بالعاصمة الخرطوم، وكذلك تم إتهام نظام البشير بالتورط في تفجير المدمرة الأمريكية "يو إس إس كول" الذي وقع في 12 إكتوبر 2000 قبالة ميناء عدن اليمني، وقد أسفر الهجوم عن مقتل 17 بحاراً أمريكياً، أيضاً هجمات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية التي وقعت بالولايات المتحدة الأمريكية بواسطة أربع طائرات نقل مدني تجارية، تقودها أربع فرق تابعة لتنظيم القاعدة، والتي استهدفت برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، ومبنى وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاغون" بواشنطون ، وقد أشارت أصابع الإتهام في هذه الهجمات الإرهابية إلى تنظيم القاعدة وزعيمه أسامة بن لادن الذي استضافته الخرطوم.
●اندلعت ثورة كفاح مسلح في دارفور في 2001 بإعلان ميلاد حركة/ جيش تحرير السودان بقيادة الأستاذ عبد الواحد محمد أحمد النور ، وظهرت كذلك حركة العدل والمساواة بقيادة د. خليل إبراهيم محمد ، من أجل مناهضة نظام البشير عسكرياً بعد أن أوصد كل الأبواب السلمية لنيل الحقوق ورفع التمهيش التنموي والسياسي عن كاهل دارفور ، وإقرار مبدأ العدالة والمساواة بين جميع السودانيين ، وأن تكون المواطنة هي الأساس الأوحد لنيل الحقوق وأداء الواجبات، فبدلاً عن تجاوب النظام مع هذه المطالب المشروعة ، ويعمل على تحقيق السلام والإستقرار بالسودان وتجنب الحرب ومآلاتها ، إلا إنه استخدم الحلول الأمنية والعسكرية التي جربها في جنوب السودان وجبال النوبة والنيل الأزرق وشرق السودان وأثبتت فشلها وعجزها.
●عندما فشلت الآلة العسكرية والحلول الأمنية في حسم التمرد ، ودخول قوات حركة تحرير السودان إلى مدينة الفاشر وحرقها لعدد من الطائرات العسكرية التيى كانت بالمطار، وأسرت قائد سلاح الجو، ثم تواصلت المعارك والهزائم حتي باتت معظم مساحة إقليم دارفور خارج سيطرة الحكومة التي لا تسيطر إلا على المدن الكبري ، فلجأ نظام البشير إلى تجييش القبائل، وقسّم دارفور إلى "عرب وزرقة" بهدف حرف الثورة الوليدة عن طابعها ومشروعها المقاوم للنظام، فسلّح مجموعات عرقية ضد أخري، فظهرت مليشيات "الجنجويد" التي حرقت القري ونهبت الممتلكات، وإرتكبت جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، فتم قتل أكثر من 600 ألف شخص وشُرِّد الملايين إلى معسكرات النزوح واللجوء بدول الجوار ، فخرجت الأوضاع عن سيطرة الحكومة، وتدوّلت قضية دارفور.
●في يوم 13 إكتوبر 2006 وقّع الرئيس الأمريكي جورج بوش "قانون دارفور للسلام والمساءلة" الذي يؤكد أن النزاع في دارفور إبادة جماعية ، ويطالب بتوسيع قوة حفظ السلام التابعة للإتحاد الأفريقي.
●في مارس 2009 أصدرت الدائرة التمهيدية بالمحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق عمر البشير ، بناءًا لإرتكابه جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب في إقليم دارفور ، وبات البشير وعدداً من أركان نظامه مطلوبين لدي المحكمة الجنائية الدولية أبرزهم عبد الرحيم محمد حسين ، وأحمد محمد هارون ، وعلي كوشيب وآخرين من جملة قائمة ال 51 مطلوباً، فتدخلت الأمم المتحدة والمجتمع الدولي عبر المبعوثين والبعثات والمنظمات الدولية ، وعبر قوات حفظ السلام بدارفور تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وبذلك يكون السودان وبسبب فشل وممارسات وسلوك نظام البشير، قد استقبل أكبر بعثة حماية أممية في تأريخ الأمم المتحدة ، بقوة قوامها أكثر من 26 ألف جندي من القبعات الخضراء "يوناميد" والزرقاء "يونيسفا".
●وجد نظام البشير نفسه معزولاً وفي قبضة حصار إقليمي ودولي خانق، وملاحقات من المحكمة الجنائية الدولية، وفشلت إتفاقية السلام الشامل التي تم توقيعها في ضاحية نيفاشا الكينية عام 2005 بين حكومة الخرطوم والحركة الشعبية لتحرير السودان، من إنقاذه من ورطته الداخلية ورفع العقوبات والملاحقات الدولية عنه، رغم أن الإتفاقية قد أوقفت الحرب التي استمرت 21 عاماً في جنوب السودان وجبال النوبة والنيل الأزرق "مؤقتاً" وحققت نوعاً من الأمن والإستقرار في تلك المناطق ، إلا أن الحرب في دارفور لم تتوقف رغم توقيع مني أركو مناوي إتفاقية أبوجا 2006 وصار كبير مساعدي البشير.
●إن فشل نظام البشير في جعل "الوحدة جاذبة" كما نصت إتفاقية نيفاشا ، قاد ذلك إلى إستقلال جنوب السودان في عام 2011 عبر ممارسة حق تقرير المصير , وبذلك يكون السودان قد فقد ثلث سكانه وثلثي موارده النفطية والغابية وثرواته الحيوانية، وثلث أراضيه...!!
●تجددت الحرب مرة أخري في ولايتي جنوب كردفان/ جبال النوبة والنيل والأزرق، بعد أن رفض نظام البشير الإعتراف بهزيمته في انتخابات منصب والي ولاية جنوب التي فاز بها مرشح الحركة الشعبية لتحرير السودان، القائد عبد العزير آدم الحلو ، وبتجدد الحرب في المنطقتين وذهاب بترول الجنوب "شريان إقتصاد السودان" ، واجه نظام البشير أزمةً إقتصادية وسياسة وأمنية وإجتماعية خانقة، زادها إستشراء الفساد والمحسوبية ، وضياع الحد الفاصل بين المال العام وجيوب المسئولين الحكوميين ، فإندلعت خلافات وانشقاقات داخلية أقعدت الحزب الحاكم ، وهي نتاج الأطماع الشخصية والشللية والجهوية وكافة أمراض السياسة السودانية، فأصبح النظام كسيحاً غير قادر على مواجهة التحديات التي الماثلة.
● إن كلفة الحرب كانت باهظة الثمن على النظام، وقد قدرتها بعض الجهات بحوالي 5 مليون دولار يومياً ، ومع إرتفاع الأسعار بصورة جنونية وتدهور العملة الوطنية ، وإنعدم الخبز والوقود والدواء، صعبت الحياة على المواطنين الذين أرهقت الحكومة كاهلهم بالضرائب والجبايات والأتاوات، وتفاقمت أزمة النظام أكثر بعد أن أوصدت الدول والبنوك الأجنبية أبوابها في وجهه ، وفشلت كافة محاولات الجراحة الإقتصادية، وطباعة العملة "رب رب رب "، ورفع الدعم عن السلع والخدمات ، وفشلت كذلك سياسة تغيير الحكومة أو الوزراء في تهدئة الشارع المكتوي بنيران الغلاء وندرة السلع الضرورية، ووقف شبح الإنهيار الإقتصادي.
●في ظل هذه الأوضاع المتردية وغلاء المعيشة، اندلعت ثورة ديسمبر المجيدة ، التي انطلقت شرارتها الأولي من مدينة "مايرنو" بولاية سنار في يوم 6 ديسمبر 2018 حيث خرج طلاب المدارس في مظاهرات منددين بالغلاء ، وهتفوا بسقوط نظام البشير، ثم خرج متظاهرون بمدينة الدمازين بولاية النيل الأزرق في يوم 13 ديسمبر 2018 قوامهم من الطلاب وبعض المواطنين، فانتقلت عدوى الثورة والمقاومة إلى مدن؛ النهود ونيالا والابيض ومدني والفاشر والقضارف ، لتكتمل حلقاتها في مدينة عطبرة "مدينة الحديد والنار" في يوم 19 ديسمبر 2018 ، التي أحرق الثوار فيها دار حزب المؤتمر الوطني ، ما يعني إنتهاء أجل النظام عملياً وسقوطه فعلياً في أذهان الثوار والشعب السوداني، ومن ثم ، عمّت الثورة كل ولايات ومدن وقري السودان ، فكان شعارها الأوحد "تسقط بس".
●في العاصمة الخرطوم "قلب السودان النابض" كانت النهاية لأطول حقبة دكتاتورية مرّت على السودان، وقد شكّل إعتصام القيادة العامة بالخرطوم حدثاً مُهِماً ، وعنواناً للثورة السلمية الباسلة التي أبهرت العالم، وتغني بها الشعراء والفنانون، وكُلِّ مفتونٍ بالحرية والديمقراطية، بل حتي رؤساء الدول التي تعتبر من "عتاة ديمقراطيات العالم" قد أُعجِبُوا ببسالة وسلمية "كنداكات وشفاتة" السودان ، الذين كسروا حاجز الرهبة والخوف ، وصمدوا وقاوموا بطش الطغاة وهمجية عسس اللجنة الأمنية للبشير، بصدور عارية إلا من هتاف "سلمية سلمية ضد الحرامية" وإيمانهم بالإنتصار المستحق.
●فشلت كافة مؤامرات ومخططات البشير ولجنته الأمنية في فرض بقاء النظام في السلطة والإلتفاف على مطالب الثوار التي تمثلت في التغيير الشامل واسقاط النظام ، وظلت هتافاتهم الخالدة تخضب سماوات السودان ببشريات الخلاص والوحدة والسلام: "حرية سلام وعدالة" ، "مدنيااااو مدنياااااو" ، " يا العسكري المغرور كل الوطن دارفور"
، فإن تلك الهتافات والأهازيج الثورية والحماسية قد وحدّت وجدان الشعب السوداني، وكان إعتصام القيادة العامة بالخرطوم قد جسّد رمزية الوحدة الوطنية ، التي برزت فيها جماليات التعدد والتنوع ، وعظمة شعب السودان المعلم، الذي إبتلاه الله بسياسيين أقل من قامته...!!
●لم يكن أمام اللجنة الأمنية للبشير التي أمرها بفض الإعتصام بالقوة ، سوي الإنقلاب على رئيسها والتحفظ عليه في مكان آمن "كما قالوا في بيانهم الأول" في يوم الخميس الموافق 11 أبريل 2011 ، ليبدأ مسلسل سرقة الثورة وحرفها عن مسارها ، مع تمسك الثوار المعتصمين بمطالبهم ، فتدخل "الأجاويد" المحليين والإقليميين بأجنداتهم المختلفة والتي كلها لا تصب في مصلحة التغيير الشامل الذي تنشده السودانيات والسودانيون ، فدخلت قوي الحرية والتغيير في مفاوضات سرية مع العسكر، ثم أصبحت علنية بعد إفتضاح أمرها ، ولكي تتم التسوية وتبلغ مراميها، ضحي العسكر برئيس مجلسهم "عوض إبن عوف" ، الذي أُجبر على الإستقالة، ليس بسبب علاقته بالنظام البائد كما يشاع، فكل جنرالات اللجنة الأمنية هم صنيعة البشير ومن النظام البائد وبيادق حمايته، وما قامت الثورة إلا لإسقاط كامل النظام وليس من أجل تغيير الأشخاص والإبقاء على هيكل النظام المعطوب، فذهاب إبنعوف وإخراجه من المشهد أعطي المبرر للمضي في توقيع التسوية مع خلفه عبد الفتاح البرهان.
●رفض الثوار المعتصمون بالقيادة العامة كافة أشكال المساومة بأهداف الثورة ، وحِيّل وخداع العسكر وشركائهم في الحرية والتغيير، وبعد أن بات وجود الإعتصام مهدداً لإبرام أي صفقة إتفاق مع العسكر، اتفقوا على فض الإعتصام بالقوة ، فكانت ذرائعهم " تطهير منطقة كولمبيا" وفتح "السكة حديد" لمرور القطار، والإدعاءات بوجود ظواهر سالبة "خادشة للذوق العام" ، وغيرها من الأكاذيب، فأمروا قواتهم ومليشياتهم بقتل وسحل المعتصمين السلميين.
●في الساعات الأولي من صبيحة يوم 3 يونيو 2019 الذي يصادف يوم 29 رمضان، اقتحمت آلاف من القوات والمليشيات المدججة بكافة أنواع الأسلحة ساحة الإعتصام ، وأطلقت نيران أسلحتها على الثوار المعتصمين وهم نيام، فقتلت المئات بطريقة وحشية لم تفعلها حتي جيوش الإستعمار في مستعمراتها ، وتم ربط العشرات من المعتصمين بالحبال وألقوا بهم في النيل وهم أحياء ، وإمتلأ المكان برائحة الموت والجثث والرماد والبارود ، ووحشية ودموية "الإنكشارية الجدد" وطفحت مشارح الخرطوم بالجثث، وهناك المئات من المفقودين، وآلاف الجرحي والمصابين ،ومئات الذين ذهبت عقولهم من هول الفاجعة التي لا يتصورها بشر، فغطي الحزن كافة أرجاء السودان والمعمورة ، فتناثرت بيانات الشجب والإدانة والمطالبة بالقصاص ،وتكوين لجنة تحقيق دولية، ولكن........!!.
●لم يفق الشعب السوداني من هول الفاجعة لفقده فلذات أكباده بهذه الطريقة البربرية ، حتي عالجته قوي الحرية والتغيير " بفاجعة أخري بمواصلتها التفاوض مع جنرالات اللجنة الأمنية بعد أن اعلنت وقف التفاوض ، رغم رفض الثوار وأغلبية الشعب السوداني لهذه المفاوضات، وللتذكير فإن تحالف ما يسمي بقوي الحرية والتغيير هو جسم متسلق تم تكوينه على عجل بعد إندلاع الثورة، لإختطافها وفرملة عجلتها للحيلولة دون بلوغها محطتها النهائية، نسبة لتقاطعات وتشابك مصالح يعلمها الشعب السوداني جيداً، وأغلب أحزابها هي ذات القوي السياسية التي كانت تفاوض البشير في أديس أبابا عبر الوساطة الأفريقية فيما عُرف ب" الهبوط الناعم" وبعضها كان يستعد لنزول إنتخابات 2020 وأجري مناظرات لهذا الغرض ، وآخرين قد جري إستقبالهم بمطار الخرطوم ب"السجاد الأحمر" ووصفوا الثورة ب"دخان المرقة" وغيره من الأوصاف والنعوت القبيحة...!!.
●لم تترك قوي الحرية والتغيير دماء الشهداء ودموع أمهاتهم الثكالي تجف ، فأبرمت على عجل ودون حياء تسوية "شراكة الدم" دون التفات للشهداء ومشاعر ذويهم ، والأدهي والأمّر إنهم جعلوا من قتلة الثوار "شركاء في الثورة" ومنحوهم شرعية وإعتراف زائف، بدلاً عن محاسبتهم على جرائمهم في عهد البشير ومذبحة إعتصام القيادة العامة بالخرطوم وغيرها من المدن السودانية ، وبهذه الشراكة الثنائية قد أدخلوا السودان في مأزق جديد.
●بعد أن أدرك جنرالات العسكر ضعف قوي الحرية والتغيير وانفضاض الشارع من حولها ، وقد أضحت مكشوفة الظهير الجماهيري والسند الشعبي ، بعد أن أوهمتهم بأنها مفتاح الشارع ، وأن الثوار طوع بنانها ، انقلبوا عليها في يوم 25 إكتوبر 2021 كي ينفردوا بالسلطة على طريقة "سيسي مصر" وأعتقدوا أن رفض الشارع لقوي الحرية والتغيير يعني قبوله ومباركته للإنقلاب على "أربعة طويلة" ، فخابت تقديراتهم، ونسوا أن الشعب السوداني ليس هو ذلك الشعب الذي يتخيلونه..!!
●تمرد الشارع على الإنقلاب شاهراً سيف سلميته المجرب ووقف "ألف أحمر" خلف لاءاته الثلاثة، وقدّم أكثر من 122 شهيد ومئات المعتقلين، وآلاف الجرحي والمصابين ، ولا تزال شرارة الثورة متقدة لم تنطفي ولن تنطفي حتي تحقق هدفها المنشود الذي بات قريباً.
●فشلت كافة محاولات ومخططات الإنقلابيون وحلفائهم المحليين والإقليميين والدوليين، في تدجين الثورة وتسويق الإنقلاب محلياً أو خارجياً ، فأضحي إنقلابهم معزولاً ومنبوذاً كما الكلب الأجرب ، يسير من فشل لآخر ، وعجز في تكوين حكومة من استيلائه على السلطة، فاستفحلت الأزمة، ووصل السودان إلى حافة الهاوية، وبات يحيط به شبح التفكك والإنهيار من كل جانب ، وفشلت كافة مبادرات الحلول "الترقيعية" في خلق توافق أو إنفراج سياسي، فتدهورت الأوضاع الإقتصادية ودخلت البلاد مرحلة سيولة أمنية وانفرط عقد السلم المجتمعي ، ولم يعد المواطن السوداني آمناً حتي في العاصمة الخرطوم، وبات القتل والنهب والاغتصاب والإختفاء القسري ظاهرة يومية ، وتبدلت قيم المجتمع وعاداته، وانتشرت جرائم الإتجار بالبشر والمخدرات وتزوير العملات وغيرها، وازداد تشبث العسكر بالسلطة أكثر، خوفاً من المحاسبة على الجرائم التي إرتكبوها وحمايةً للأموال التي نهبوها ، وقاوموا أي عملية تغيير تبعدهم عن النفوذ والسلطة ، مع إنهم يُصرِّحُون ليل نهار بزهدهم عن السلطة ورغبتهم في العودة إلى ثكناتهم وتسليم السلطة للمدنيين ، ولكن واقع الحال يكذب مزاعمهم، وكل ما يقولونه من أقاويل لم يعد سوي إنحناء للعواصف الإقليمية والدولية والزلازل الداخلية، وكسباً للوقت، ريثما يرتبوا أوراقهم التي بعثرها صمود الثوار في المواكب والمليونيات ، وإصرار الشفاتة والكنداكات على إسقاط الإنقلاب وتكوين "حكومة الثورة" مهما كانت تكلفة الدماء والدموع والأشلاء..!!
#نقاوم_لا_نساوم
8 يناير 2023م
elnairson@gmail.com
/////////////////////