الطريق نحو الخروج من عنق الأزمة الوطنية (2-2)

 


 

 

●تحدثتُ في الجزء السابق من المقال، عن جذور الأزمة الوطنية التي أقعدت بالبلاد قبل إعلان إستقلال السودان 1956، وكيف أن هذه الأزمات المتراكمة قد استفحلت وتجذرت، وقادت إلى عدم الإستقرار السياسي، ونشوب صراعات مسلحة في عدد من الأقاليم، وبفعل التعاطي الرسمي السالب حيال هذه القضايا، وتحويل الصراعات السياسية إلى حروبات ذات طابع عرقي وديني، خلّفت ملايين من القتلى والجرحي والمصابين والمشردين داخلياً وخارجياً، وعجزت كافة الحكومات المتعاقبة في تحقيق سلام عادل وشامل ومستدام بالسودان، يخاطب جذور هذه الأزمات ويعالج أسباب نشوبها ويضمد إفرازاتها، والإبتعاد عن الحلول الأمنية والعسكرية التي فشلت منذ عام 1955 في حسم الصراعات، بل فاقمت من تعقيدات الأزمة، وكانت سبباً مباشراً لإنفصال جنوب السودان 2011.

●أشرتُ أيضاً إلى المحاولات والجهود المحلية والإقليمية والدولية لمعالجة الأزمة السودانية التي أضحت مهدداً للأمن والسلم الدوليين، لجهة أن أي تداعيات سالبة قد تحدث بالسودان سوف تتأثر بها دول الجوار الإقليمي، بحكم التداخل العرقي والإثني وتشابك المصالح ، وإتساع رقعة الحدود السودانية المفتوحة على سبعة دول، والتي يصعب السيطرة عليها، وما يفاقم من خطورة الأوضاع، إنتشار وتمدد المليشيات القبلية والجهوية، وظهور مليشيات جديدة في مناطق لم تكن مسرحاً للحرب من قبل ، وقد سمعنا بمليشيات "قوات درع الوطن" و "قوات درع الشمال" ، و "قوات درع البطانة"، فضلاً عن المليشيات التي أنشأها النظام البائد مثل مليشيا "شيبة ضرار" ومليشيا "كافي طيار" ، ومليشيات "الجنجويد" ، والمليشيات "الجنوبية" في داخل الأراضي السودانية، التي لا تزال تجد الرعاية والدعم من حكومة الخرطوم الحالية.

●اللافت للنظر وما يدعو للدهشة والإستغراب هو إعلان كيان مسلح، قوامه عدداً من الضباط المتقاعدين، أبرزهم الصوارمي خالد سعد المتحدث الأسبق باسم الجيش، عبر مؤتمر صحفي عقد بالخرطوم ، ولم تحرك حكومة الإنقلاب ساكناً، فسمعنا بإعتقالهم لبضع أيام ثم أُطلق سراحهم ، ولكن هنالك شكوك حول عملية الإعتقال هذه ، وقد اعتبرها البعض حيلة من الإنقلابيين لإبعاد التهمة عنهم، ولكن من المؤكد أن هنالك أطراف في الحكومة الإنقلابية قد أعطت هؤلاء الضباط ، الضوء الأخضر لتكوين هذه القوات، في إطار الصراع المكشوف بين جنرالات الإنقلاب ، فمن الإستحالة بمكان أن يتم إعلان هكذا قوة مسلحة بهذه الطريقة دون موافقة، وبإيعاز من أحد الإنقلابيين، لجهة أنها قوات جهوية وقبلية لا علاقة لها بقوات الدولة الرسمية، وبجانب هذا الكم الهائل من المليشيات التي تتناسل يومياً، هنالك الجيوش الحكومية "أم المليشيات" وجيوش الحركات ، فضلاً عن إنتشار السلاح في أيدي المواطنين بكافة ولايات ومناطق السودان دون حسيب أو رقيب.

●إن الأوضاع الماثلة بالسودان الآن، تمور على فوهة بركان، قابل للإنفجار في أي لحظة، مما يتطلب من جميع السودانيات والسودانيين، لا سيما الفاعلين السياسيين، تغليب مصلحة الوطن وسلامته وإستقراره، على المصالح الذاتية والحزبية الضيقة، والترفع عن الأنانية الشخصية والأطماع التنظيمية، وتقدير الظرف الحرج الذي يمر به السودان حق قدره ، فقد باتت وحدة وسلامة بلادنا مهددة على نحو غير مسبوق ، ويعيش وطننا لحظات تأريخية حرجة وفارقة، ومصيره بات مفتوحاً على كل الإحتمالات والسيناريوهات والمآلات ، فلستُ متشائماً إذ قلت، قد نصحو ذات يوم ، ولن نجد سوداناً نتصارع عليه.
لابد أن نتسامي فوق الآلام والجراحات، والدماء والدموع ، ونضع مدماك في جدار الوطن الآيل للسقوط، فقد حان الأوان لشعبنا أن يرتاح من رهق المعاناة الطويل ، ومن حق بلادنا علينا أن نكفكف أحزانها ، ونسّرج خيول مستقبلها الواعد.

●من أوجب وأجباتنا كسودانيين، إنتشال بلادنا من براثن الحروب وعدم الإستقرار السياسي والسيولة الأمنية وشبح الإنقلابات العسكرية التي أقعدت ببلادنا عن ركب التقدم والتطور والنماء، وننتهج نهجاً وطنياً مسئولاً ، لمخاطبة جذور الأزمة التأريخية بكل شجاعة، وأن نكون على أتم الإستعداد لدفع فاتورة وإستحقاقات كافة الإجراءات التي ستقودنا إلى بر الأمان، والإبتعاد عن تكرار الحلول السهلة والمجربة التي أثبتت عجزها وفشلها.
في مسيرة بحث الدولة السودانية عن السلام والإستقرار "الفردوس المفقود" ، تم توقيع حوالي سبعة وأربعين إتفاقية ثنائية وتسوية جزئية، إلا إنها قد فشلت جميعها في تحقيق السلام والإستقرار، وأذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

■مؤتمر المائدة المستديرة في جوبا 16 مارس 1965، بين الأحزاب الجنوبية والحكومة السودانية.

■إتفاقية أديس أبابا 1972، بين حكومة جعفر نميري وحركة الأنانيا (1).

■إعلان كوكادام بإثيوبيا 20 مارس 1986، بين الحركة الشعبية لتحرير السودان وحكومة الخرطوم.

■مبادرة الميرغني - قرنق بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا في 16 نوفمبر 1988.

■إتفاقية الخرطوم للسلام 1997، بين منشقين عن الحركة الشعبية بقيادة د. رياك مشار ومجموعة الناصر من جهة، وحكومة البشير من جهة أخري.

■إتفاقية فشودة للسلام، 1997، بين د. لام أكول أجاوين وحكومة البشير.

■إتفاقية السلام الشامل بنيفاشا 2005، بين الحركة الشعبية لتحرير السودان ونظام البشير.

■إتفاقية القاهرة 2005، بين التجمع الوطني الديمقراطي ونظام البشير.

■إتفاقية أبوجا 2006، بين حركة تحرير السودان مناوي ونظام البشير.

■إتفاقية أسمرا 2006، بين جبهة الشرق ونظام البشير.

■إتفاقية سرت 2007، بين حركة تحرير السودان الأم بقيادة أبو القاسم إمام الحاج وحكومة البشير.

■إتفاق التراضي الوطني 20 مايو 2008, الذي وُقِّع بمنزل الصادق المهدي بأم درمان، بين حزب الأمة وحزب المؤتمر الوطني الحاكم.

■إتفاقية الدوحة 2010، بين حركة التحرير والعدالة بقيادة د. التيجاني السيسي ونظام البشير.

■إتفاقية الدوحة 6 أبريل 2013، بين العدل والمساواة فصيل محمد بشر وحكومة البشير.

■توقيع الوثيقة الدستورية، 5 يوليو 2019 بالخرطوم بين المجلس العسكري وقوي إعلان الحرية والتغيير.

■إتفاقية جوبا، 3 أكتوبر 2020، بين فصائل الجبهة الثورية السودانية وحكومة د. عبد الله حمدوك.

■إتفاق البرهان - حمدوك ، 21 نوفمبر 2021، بالعاصمة الخرطوم.

■الإتفاق الإطاري، 5 ديسمبر 2022 بالخرطوم ، بين بعض مكونات الحرية والتغيير المجلس المركزي وجنرالات الإنقلاب.

(إن هذا الإتفاق قد وُلِد ميتاً وسيكون مصيره أسوأ من سابقاته، وأخشي أن يكون سبباً في تفتيت ما تبقي من السودان).

●قد يتبادر إلى الذهن سؤال: لماذا عجزت كل هذه الإتفاقيات في تحقيق السلام والإستقرار بالسودان؟
إجابتي: إن هذه الإتفاقيات والتسويات قد فشلت لأنها لم تخاطب جذور الأزمة بشكل سليم ، وهي قد صُممت لمخاطبة قضايا أشخاص وأطماع القوي الصفوية السلطوية ، وجميعها انتهت بمحاصصات ووظائف وإمتيازات، ولم تنعكس على حياة المواطنين، ورفاهيتهم ومعاشهم وعلاجهم وتعليم أبنائهم ، بل كانت وبالاً عليهم إذ إرهقت كاهلهم بالضرائب والجبايات لسد العجز في الموازنة التي تفشل في إشباع نهم المستوزرين الجدد والقدامي..!!.

●أيضاً من عوامل فشل الإتفاقيات الثنائية، هو التدخلات الإقليمية والدولية السالبة، ويجب الإقرار بأن هذه القوي الإقليمية والدولية ليست جمعيات خيرية ، فعندها أجندتها وأطماعها بما يتماشي ومصالحها التي قد تتعارض ومصالح السودان، وقد شاهدنا كيف عبثت المحاور الإقليمية بثورتنا المجيدة، فصارت بعض السفارات الأجنبية في الخرطوم تُملي شروطها على القوي السياسية السودانية، وأصبح تدخلها في الشأن السوداني سافراً ومفضوحاً، ومتجاوزاً لكافة الأعراف الدولية، دون مراعاة لمبدأ السيادة والكرامة الوطنية ، ومع ذلك يجب ألا نلومهم كثيراً طالما أصبح السودان "جنينة وخفيرها نائم"، ويحكمه من لا يصلح لإدارة شؤون قرية تتألف من عشرة بيوت..!!
ما أقوله، لا يعني أن نقف ضد التدخل الإقليمي والدولي ونرفض مساعدتهم لنا من أجل حلحلة مشاكلنا وأزماتنا ، فالسودان جزءًا من المنظومة الدولية وليس في جزيرة معزولة عن العالم، ولكن يجب أن يكون تدخلهم وفقاً للأعراف الدولية ولا يمس مبدأ سيادتنا وقرارنا الوطني.

●هنالك دول تربطها علاقات تاريخية وأزلية ومصالح متبادلة مع السودان ، ولها مصلحة مؤكدة في تحقيق السلام والإستقرار بالسودان ، وكانت مساهماتها دائماً إيجابية، وبالمقابل هنالك دولٍ تعمل على عدم إنتصار ثورتنا المجيدة، ولا تريد أن تري نظاماً ديموقراطياً في السودان حتي لا تنتقل إليها العدوى، وظلت تعمل سراً وعلانيةً على ديمومة أزماتنا الوطنية ، لأن حالة الحرب وعدم الإستقرار تجعل لا يستفيد من موارده وثرواته السودان الزراعية والحيوانية والمعدنية، ويصبح مجرد مخزن للثروات، وهذا ما تريده تلك الدول، التي سوف تتمكن من إحتلال المزيد من أراضينا ، وتسيطر على موانيء التصدير في البحر الأحمر، وتنهب ثرواتنا البحرية.

●إن الأسس الخاطئة التي قامت عليها هذه الإتفاقيات السابقة واستبعادها للسواد الأعظم من الشعب ، جعلها معزولة جماهيرياً، وتفتقد للتأييد والسند الشعبي، فقد تم تغييب دور السودانيين ومشاركتهم في مفاوضات وصنع هذه الإتفاقيات أو أخذ آرائهم حولها، لذا نجد غالبية الشعب لا يتحفل بتوقيعها، ولا يأبه إذا فشلت أو نكص عنها أحد طرفيها، وهي في جوهرها إتفاقيات ثنائية غير ملزمة لأحد من السودانيين سوي الأطراف التي وقعتها.

●من الخطل بمكان، يترك أمر تحقيق السلام والإستقرار ومناقشة القضايا الوطنية الكبري، لقوي صفوية صغيرة في "الحكومة أو المعارضة" كل همها الإستئثار بالسلطة وتقاسم كعكتها عبر إتفاقيات ثنائية ، متجاهلةً ومستبعدةً، غالبية الشعوب السودانية، التي تم إبعادها من المشاركة في إجراءات صُنع حاضر ومستقبل بلادهم ، وللأسف أن هذه الصفوة السياسية الصغيرة وبعد فشل كافة محاولاتها في حل الأزمة السودانية عبر الإتفاقيات الثنائية والتسويات الجزئية المُجربة، إلا إنها لا تريد الإعتراف، وتقر بهذا الفشل الذريع، ولم تحاول تجريب طرق وأساليب جديدة أكثر فاعلية ، وظلت تكابر في عناد غريب، بتصر على تطبيق وصفة "البصيرة أم حمد " ، وكأنها تملك "شهادة بحث" السودان، أو أن الوطن قد "وقع ليها في كِرتِلّة"، فأكاد أُجزم أن سكان " جمهورية الحاج يوسف" أكبر عدداً من جميع عضوية هذه القوي الصفوية مجتمعة...!!

●إن الطريق نحو الخروج من عنق الأزمة الوطنية، يبدأ بالإعتراف بالأزمة والإعتذار عن الجرائم التي وقعت، ومخاطبة جذور الأزمة التأريخية ، وإقرار سلام حقيقي، شامل وعادل ومستدام، ولكن السلام الحقيقي يكون على أرض الواقع وليس على أوراق الإتفاقيات الممهورة، ويستطيع هذا السلام توفير الأمن "الذي يحسه المواطن"، فالأمان لا يتحقق بالإنتشار الأمني الكثيف في الشوارع والطرقات فقط، فإذا لم يحس الشعب بالأمن والطمأنينة ، فلا معني للسلام حتي وإن تم نشر مليون جندي في كل ركن من أركان السودان، فكم من سلام قد تم توقيعه أمام شاشات التلفزة وكاميرات الإعلاميين ، فضاع بين أوراق الإتفاقيات وتفاصيلها، قبل أن يجف المداد الذي مُهر به في لحظة التوقيعات، ولم يعد له أثر في أرض الواقع، وفشل في إيقاف جرائم القتل اليومي وعمليات السلب والنهب، وحرق البيوت والممتلكات، وتشريد الآمنين.
كي نصل إلى سدرة منتهي السلام المفقود ، لابد من عبور الجسور التالية:

■نزع السلاح من أيدي المليشيات والقبائل، ويكون إحتكار العنف للجهات الرسمية حصراً.

■إعادة كافة المشردين من النازحين واللاجئين إلى مناطقهم الأصلية طوعاً، بعد طرد أي شخص أو مجموعة استولت على أراضيهم، سواء كان ذلك تم بإيعاز من الحكومة أو من تلقاء أنفسهم، وأن تلتزم الدولة بتعويضهم عن كل ما لحق بهم من أضرار وخسائر، تعويضاً فردياً وجماعياً ومعنوياً ، وفقاً للمعايير العالمية.

■تحقيق مباديء العدالة والعدالة الإنتقالية ومحاسبة كافة مرتكبو الجرائم والإنتهاكات، وتعاون الحكومة المطلق مع المحكمة الجنائية الدولية وتسليمها المطلوبين دون شروط، وضمان عدم الإفلات من المحاسبة والمساءلة عن كل الجرائم والإنتهاكات التي وقعت.

■قيام مؤتمر قومي داخل السودان ، لمخاطبة كافة القضايا والأزمات الوطنية وجذورها التأريخية، وإيجاد العلاج الناجع لها، تشارك فيه؛تنظيمات الشباب والنساء والمجتمع المدني والأحزاب السياسية وحركات الكفاح المسلح، والنازحين واللاجئين، وضحايا الخصخصة والتمكين والصالح العالم، نقابات الأساتذة والمدرسين، إتحادات الرعاة والمزارعين، الإدارات الأهلية والزعماء الدينيين، نقابات العمال والموظفين، والقضاة والمحامين، الكتاب والمفكرين ، الصحافيين والإعلاميين، المؤسسات العسكرية ، وجميع فئات ومكونات الشعب السوداني عدا النظام البائد وواجهاته.
يجب أن تشمل جلسات المؤتمر كافة أقاليم السودان، وتكون المداولات منقولة مباشر عبر كافة القنوات والإذاعات، حتى يتابع السودانيون كافة المداولات ليعرفوا ماذا ناقش المؤتمرون، وفيما إتفقوا وفيما إختلفوا ، عدا تلك المداولات المرتبطة بالأمن القومي، ولكن يجب توثيقها وحفظ إرشيفها للتأريخ.

■يجب أن تصبح مخرجات وتوصيات مؤتمر الحوار نصوصاً دستوريةً ملزمة ، وغير قابلة للإلغاء أو التعديل من أي جهة، وعلى ضوء هذه المخرجات يتم تشكيل حكومة إنتقالية مدنية بالكامل من شخصيات ثورية مستقلة ، تعمل على تنفيذ البرنامج والمشروع الوطني الذي أقره المؤتمر ، وأن تكون كافة مؤسسات الدولة تحت سلطة وتصرف رئيس الوزراء المدني، ويذهب العسكر إلى ثكناتهم، وتذهب الأحزاب السياسية لترتيب أوضاعها الداخلية، ومن ثم تنفيذ بند الترتيبات الأمنية للجيوش المتعددة وفق المعايير الدولية ، وتكوين جيش قومي واحد ، بعقيدة عسكرية وقتالية جديدة، ويجهز الجميع أنفسهم ،بما فيهم حركات الكفاح المسلح التي يجب أن تتحول إلى أحزاب مدنية، ويستعدوا للإنتخابات بنهاية الفترة الإنتقالية، التي يجب أن تكون شفافة ونزيهة ومراقبة دولياً، وتستند إلى تعداد سكاني وتوزيع دوائر سليم ....وحينها نبارك لكل من ينال ثقة الشعب ويحرز أعلي الأصوات !!

#نقاوم_ولا_نساوم

9 يناير 2023م
elnairson@gmail.com

 

آراء