الطيب صالح … من النيل الي الدانوب
مقدمة كتاب: الطيب صالح جسر بين الشرق والغرب
صدر في برلين مارس الماضي
Kha_daf@yahoo.com
هذا إحتفاء إلا أنه مقة، لأن المعارف عند أهل النهي ذمم.وهل كانت مشاعر المتنبئ أكثر عنفوانا وجيشانا في حضرة سيف الدولة من ذاكرة الإبداع السوداني، وهي تحتضن عراجين السرد المبهر، وإرتعاشات النص الآسر، لأن الطيب صالح رغم تحاشد الأضداد، لم يكن فيه الخصام، ولم تستكن فيه قافية الترجي أهو الخصم أم الحكم. و أغنتنا فيوض عرفانه الإبداعي وفضاءات قلبه الإنساني الكبير أن نسائله ليتنا بقدر الحب نقتسم.
إحتضنت برلين في الخامس والعشرين من سبتمبر 2011 ندوة ثقافية أقامتها السفارة السودانية بألمانيا بالتعاون مع فعاليات الجالية السودانية في برلين وبراندبورغ إحياءا لذكري الأديب الكبير الطيب صالح ، واحتفاءا بإبداعه الأدبي الذي بلغ شأوا عاليا من الإلهام والتأثير. وظل رغم كثافة ما أنتجته القريحة الأنسانية ضمن القائمة الذهبية لأفضل مائة رواية في تاريخ الأدب العالمي. فمنذ رحيله الفاجع في فبراير 2009 ظلت حواضر العالم تضج بالندوات والإحتفائيات تخليدا لذكراه، وجاءت برلين تسعي بصواعها تزدد كيل بعير.فقد تداعي لهذه الندوة عدد من المختصين و المهتمين الألمان، ونخبة من المثقفين والفنانين السودانيين والعرب، من الذين حملوا هم الأدب والفن العربي في تخوم المنافي والمهاجر والإغتراب. وظلوا يبحثون عن طينة التلاقح بين محمولاتهم الإبداعية وبين تراث فريدريخ شيلير ويوهان فولفغانغ فون غوته وغونتير غراس.جاءت هذه النخبة تحمل خصوصية المكان، وهي مثقلة بإنكسارات الهم العربي والحرف المبدع، وطقوس المنافي وإنشطارات الذات، و أسئلة الحداثة والتحولات العميقة في العالم العربي. يقول الطيب صالح عن هؤلاء، أي المثقفين العرب الذين يتقاسمون المهاجر الأوروبية عندما كان يقدم إحدي ندواته الأدبية في هامبورغ " جذبتني اول الامر بطبيعة الحال الوجوه العربية يغلب عليها السودانيون والسوريون، أيضا بعض المصريين وبعض الفلسطينيين وبعض العراقيين.هؤلاء عرب الشتات، وا رحمتاه للغريب في البلد النازح ماذا بنفسه صنعا". يقول وهو في ألمانيا أنه كلما فكر في عرب الشتات يطل عليه قول جوته"مبارك انسان يقف بعيدا يتأمل العالم بلا كراهية، يضم الي صدره روحا صديقة تشاركه الغبطة". إستلهاما لهذا البعد الإبداعي المركب من الجدليات والمعاني وفلسفة الصراع الحضاري بين الوافد والغريب، وجرثومة العنف المتفجر بين المتناقضات والذي إستكنه منه الطيب صالح مناسج غرسه، وصاغ منها منمنمات حرفه ، جاء إسم الندوة التي حملت عنوان) الطيب صالح جسر بين الشرق والعرب(. وهو كما يقول الناقد الألماني د. هانز بيتر كونش، إن رواية موسم الهجرة توطدت ككتاب مقدس لأدب ما بعد الكولونيالية، حتي قبل أن يكتب صامويل هانتجتون كتابه عن صراع الحضارات.
ظلت فكرة الإحتفاء بالطيب صالح تختمر في أذهان وقلوب محبي أدبه وأصدقائه ببرلين منذ ذكري رحيله الأولي ، ولكن مع قرب حلول ذكراه الثالثة تكاثفت الجهود برعاية كريمة من الدكتور بهاء الدين حنفي سفير السودان ببرلين ، وبدفع من الدكتور حامد فضل الله في التخطيط والإتصال وحشد المشاركين ، وبمثابرة في الإشراف والتنسيق من الملحق الإعلامي بالسفارة الأستاذة سمية الهادي، خرجت هذه الندوة من رسوم المجهول الي تجليات المعلوم. وتم ذلك بمشاركة واسعة في الإعداد والتنفيذ من فعاليات الجالية السودانية ببرلين.
منذ أن بدأت دور النشر الالمانية والسويسرية في ترجمة روايات الطيب صالح الي اللغة الالمانية منذ وقت مبكر من عقد الثمانينات، نشأت وشيجة أدبية عميقة بين المهتمين من القراء والمختصين الألمان وبين هذا الينبوع المتدفق من الإبداع الإنساني. و كما يكشف الدكتور حامد فضل الله في ورقته عن "الطيب صالح في عيون الألمان"، وهو طبيب وأديب سوداني من الجيل الأول الذي درس واستقر بألمانيا ، فأن بعض النقاد الألمان كانوا يرون الطيب صالح منذ الستينات أحد الأصوات الأفريقية الواعدة و إعتبروا رواياته نصوصا أدبية للبحث وكشف آثار ما خلفه الإستعمار في أفريقيا ، بينما يراه آخرون أنه صوت من أصوات الحداثة العربية. ورغم أن الطيب صالح زار ألمانيا مرات عديدة و في أزمنة متفرقة ، إلا أنه إهتم بتدوين حيثيات زيارته الي أرض جوته ونيتشه في بداية عقد التسعينات، خلال الرحلة التي رتبتها له دار لينوس للنشر في سويسرا بمناسبة إصدار الطبعة الثانية من روايته موسم الهجرة الي الشمال. زار خلال تلك الرحلة هامبورغ،كولون،كوبلنز، مانهايم،أشتوتقارت وميونخ.
" آه منك يا زمن النزوح"...هكذا يشكو الطيب صالح من الداء القديم، ويستروي زفراته الحري من داء الرحيل ، و عندما يوصي مصطفي سعيد الراوي في موسم الهجرة عن ولده يقول له: جنبه مشقة السفر. .. ولكن الطيب بقلمه الرشيق، وأسلوبه الساحر، ولغته المتفجرة يكتب عن المدن الألمانية كأمتع ما يكون أدب الرحلات ووصف المدن. وهو كثير الإستشهاد في هذه المقامات بغيلان الدمشقي والمتنبئ.إذ عرف عن الأول ثراء صوره الشعرية ،أما الثاني فيكفيه أنه كان يسميه الأستاذـ لأنه صاحب الشوارد والحكم ، والأعلي قامة في ديوان الشعر العربي، وأحد أشهر ضحايا داء الرحيل.يكتب الطيب صالح عن المدن كأنه يخاتل فيهن ربات الفن، ويكشف فواصل الجغرافيا وطبوغرافيا الواقع، وينزع عنهن حجب التاريخ كأنهن يبتردن علي الطريقة الألمانية في نهر الراين. ويصف ثقافة الشعوب وتقاليدها، ويصحب شعراءها ومفكريها كأنه كان أحد وراقيها أو صاحب حاناتها. والطيب صالح مثل نهر الدانوب أطول أنهار أوروبا ، ورغم أن هذا النهر ينبع في ألمانيا ويجري عبر عدة دول أوروبية إلا أن الدانوب لا يصبح دانوبا حتي يصل الي فيينا عاصمة النمسا، وينسي الناس من أين جاء وأين كان منبعه.
كان الطيب صالح معجبا بالإبداع الهندسي الخلاق للشعب الألماني، وبمبدعيهم من الفلاسفة والأدباء والشعراء، و اكتشف أن التواصل الأدبي الحميم مع الألمان رغم صعوبته إلا أنه استطاع أن يعبر حاجز اللغة، وقال إنه تأكد من ذلك عندما قرأ له ممثل ألماني محترف أسمه (ولفغانغ) فصلا كاملا من راوية موسم الهجرة في الترجمة الألمانية، وقال مشيرا الي ذلك الأداء "كان صوته وأداؤه كأنه إخترق ستار الكلمات الألمانية الي روح اللغة العربية الكامنة وراءها، كأن اللغتين إتحدتا وصارتا روحا واحدة". وظل الطيب صالح يعارض الصورة النمطية والقوالب الفكرية الجاهزة عن الشعوب خاصة تلك التي تصور الأفارقة بالكسل ، والإنجليز بالبرود والدهاء السياسي ، والفرنسيين بصناعة العطور والغواية، والألمان بالدقة والصرامة والايطاليين بالفوضي. وقال عن الألمان " في ظني هم ضحايا لغتهم وتاريخهم القريب.لغتهم تبدو خشنة فظة تطرق أذن السامع طرقا، وتؤكد الصورة الشائعة عنهم، أنهم صلفون مستبدون.لكن الذين عرفوا لغتهم وعايشوهم وعرفوهم، يقولون أنهم بخلاف ذلك تماما، فيهم رقة وطيبة وعاطفية أيضا". وأكد انه لا بد ان يكون في طبعهم جانب انساني متأصل وإلا كيف نفسر أنهم أنجبوا فلاسفة وفنانيين وموسيقيين عظماء. وقال إن الصورة النمطية السالبة عن الألمان هي بفعل دعاية الحلفاء ضدهم أثناء الحرب.
تسلط كتابته عن المدن الألمانية إضاءات كاشفة عن مواهبه المتعددة بإعتباره كاتبا شاملا، حيثما جري قلمه أبدع وأجاد، ويستوفي عبقريته في السرد، وعن تلك الغلالة الفنية الشفيفة عندما يوغل في الوصف و إستدعاء التاريخ.فهو يكتب عن هامبورغ ويصف مبانيها وتاريخ نشأتها وخصائصها التجارية والثقافية والعبقرية الهندسية التي صنعتها.يقف في هامبورغ علي حياة الشاعر الألماني العظيم غوته وعن روحانيته الشرقية وعن عقيدته التي مزجت بين الإسلام والحيوية المادية في المعتقدات الجرمانية القديمة. يكتب بكل هذا التدفق والحيوية والمعلومات التاريخية النادرة، دون أن يستخدم قوقول أو موسوعة ويكيبيديا الالكترونية، بل عدته في ذلك ثقافته الموسوعية التي لا تجاري، وعبقريته اللغوية الفذة التي لا تضاهي، وقدرته النادرة في البحث والإستقصاء وربط الحوادث و إستدعاء التاريخ. وبذات العنفوان الأدبي يتنقل بين المدن الألمانية واصفا حيواتها والحوادث التاريخية التي شكلتها ، فعندما يمر القطار بمدينة (ترير) يتذكر أنها مسقط رأس كارل ماركس، وأنها كانت من أهم المراكز الدينية في أوروبا. وفي كولون يتحدث عن المعالم التاريخية والكتدرائية و عن دور كولون المركزي في الربط بين خطوط السكة حديد حيث يغادرها ألف ومائة قطار في اليوم عندما زارها الطيب صالح قبل عقد من الزمان فما بالك بها اليوم. وبذات الحيوية يستعرض تاريخ وخصائص المدن الألمانية الأخري في كوبلنز ومنهايم وأشتتوقارت. وعندما يصل ميونخ يصف نشأتها و تاريخها وما تعج بها من متناقضات كأنه مدير متحفها الأول. وكتب في ميونخ عن الاستقلال التاريخي الذي نعمت به بافاريا وعن دورها المركزي في التاريخ القديم، وكيف انها كانت متعصبة للعقيدة الكاثوليكية وكيف أنها خاضت حرب الثلاثين عاما تحت راية البابا بمدينة روما.وتناول سيرة الإمبراطورية علي عهد فردريك بابورسيا في بافاريا، وتمدد نفوذه وكيف خضع له ملك إنجلترا هنري الثاني، مما جعل المؤرخون الانجليز يستنكرون ذلك،كما إستعرض تاريخ الإمبراطور فردريك الثاني وتحدث عن شخصيته التي بهرت معاصريه، واستحوذت علي إهتمام المؤرخين بعد ذلك نسبة لموهبته وعلمه ونفوذه وذكائه وعلاقته بالمسلمين واليهود وتمرده علي السلطة البابوية.
عندما يكتب الطيب صالح عن تاريخ زيارته لبعض المدن الألمانية فهو يكتب عن التاريخ الإجتماعي والسياسي للشعوب ،حيث يقودك عبر سياحة فكرية عميقة ومراجعات تاريخية ثرة الي إعادة تجسيم التاريخ القديم، ويبعث شخوصه، ومعاركه وإنجازاته وأحداثه حية حتي تكاد تظنها تسعي بين الناس. لهذا يكشف هذا الكتاب بوجه أو آخر عن علاقة الطيب صالح بألمانيا،ويشير الي ما يمثله الطيب صالح من قيمة فنية بإعتباره أحد رموز الحداثة في مسيرة الإبداع والثقافة العربية والأفريقية بالنسبة للألمان، ولعرب الشتات من النخب المهاجرة التي ما زال ضميرها مثقلا من عبء الأسئلة الحائرة وكيفية التفاعل الخلاق بين محمولاتهم الإبداعية وتراث الثقافة الألمانية.
تطالع عزيزي القارئ في هذا الكتاب جملة من الأوراق والمقالات النقدية والكلمات الإحتفائية. وإخترنا في ترتيب الكتاب، أن نركن الي التناغم الزمني في سيرورة وقائع الندوة، إذا قدمنا كلمة المفتتح التي ألقاها الدكتور حامد فضل مدير الندوة، وأعقبتها مباشرة كلمة د. بهاء الدين حنفي سفير السودان ببرلين. وكما سبقت وأن اشرت في هذا التقديم، فقد أثبتنا ورقة الدكتور حامد فضل الله عن الروائي الطيب صالح في عيون الألمان، كمقدمة ضرورية لخصوصية المكان ولفهم بعض المداخلات والأوراق التي سترد تباعا في الندوة.كما أن الورقة تقدم عرضا جيدا لجملة الآراء النقدية الصادرة من المترجمين والمختصين والمهتمين الألمان عن روايات الطيب صالح، وكذلك ما نشرته الصحف الألمانية من مقالات وتعليقات عن نعيه ورحيله الفاجع. إستمعت الندوة أيضا الي الدكتور خالد المبارك في ورقة عن الطيب صالح في سياق العلاقات العربية الأوروبية، حاول أن يسلط فيها الضوء علي ما يمثله الطيب صالح، والتيارات التي تجاذبته والقضايا الخلافية أو ما أسماه الحرب النفسية . والدكتور خالد كما هو معروف كاتب وأكاديمي سوداني عمل في جامعة الخرطوم كما تقلد عمادة معهد الموسيقي والمسرح ويعمل الآن مستشارا إعلاميا لسفارة السودان في لندن.
يتضمن الكتاب مقالا بالغ الأهمية للدكتور هانز بيتر كونش ترجمه الي العربية كل من الدكتور حامد فضل الله والأستاذ أمير حمد بعنوان " الإنجليزي الأسود علي ضفاف النيل" سلط فيه الضوء علي رواية موسم الهجرة بإعتبارها أنموذجا لأدب ما بعد الكولونيالية.
يشتمل هذا الكتاب علي ورقة قيمة للأديب والكاتب السوداني الدكتور عبدالرحمن الخانجي، الأستاذ بجامعة الملك سعود، لم تكن ضمن أعمال الندوة بعنوان "منسي: الطيب صالح ولعبة السّيرة الموازية" ، وهي ورقة رغم قيمتها الأدبية والنقدية، لم تجد حظها من التداول والنقاش،وقد وافق الدكتور الخانجي مشكورا علي نشرها ضمن أعمال هذا الكتاب. ولا غرو فقد ظل الدكتور عبدالرحمن الخانجي يرفد المكتبة الأدبية بدراسات عميقة الرؤي والتحليل لأدب الطيب صالح منذ كتابه الذي أحدث جدلا بين المهتمين وهو "قراءة جديدة في أدب الطيب صالح" ..وكما قال المستعرب الروسي برجانديزا ،بأن كتاب الدكتور الخانجي أضاف قيمة معرفية جديدة في قراءة روايات الطيب صالح خاصة في إكتشافه لمفهوم الشخصيات الدائرية التي تجعل لنفسها إمتدادات من خلال الشخصيات الفنية للطيب صالح مثل بندرشاه ومحيميد..وكذلك إشاراته القيمة حول نضوج الشخصيات الفنية والتسامي المبدع للغة وهي تمحو التداخل بين الزمان والمكان والحضور والغياب.
من الأوراق التي حظيت بالإشادة والإهتمام في الندوة هي تلك قدمها الدكتور حميد الخاقاني تحت عنوان (معضلة الهوية) وهو كاتب وأديب عراقي يعمل أستاذا للغة العربية وآدابها في جامعة مارتن لوثر بمدينة هالة بألمانيا.ويشير الكاتب أن الطيب صالح هو أحد أدوات معرفته بالسودان إضافة الي المنجزات الإبداعية الأخري لشعراء من السودان.وفي دراسته يطرح السؤال إزاء القطبية الثنائية: هل الهوية تصبح هاوية إذا أصبحت سجنا لأهلها؟
وكتب الأستاذ أحمد حسو وهو إعلامي وكاتب سوري مقيم في برلين، مرثية نثرية تحت عنوان (هل أقول وداعا) تعرض فيها لبداية تعرفه علي أدب الطيب صالح عندما كان طالبا في سوريا، وتعمقت معرفته الشخصية أكثر عندما زار مدينة كولون، و أعقبها تكليفه من إذاعة دويتش فيله بإعداد ملف عن الطيب صالح بمناسبة بلوغه السبعين. وتحدث الأستاذ حسو عن لعنة رواية موسم الهجرة علي الكاتب الذي يظن أنه كتب أفضل منها، إلا أنّ هناك إجماعا كونيا بأن موسم الهجرة هي الطيب صالح، والطيب صالح هو موسم الهجرة.
تحت عنوان (موسم الهجرة الي الشمال رواية عابرة للزمان والمكان) يقدم الأستاذ كريم الأسدي وهو شاعر وكاتب عراقي مقيم في برلين قراءة عميقة لما أسماه الجسر بين الشرق والغرب الذي أقامته الرواية ، وتناول أيضا في ورقته الشخصية السودانية في الرواية التي تتميز بالقدرة الكبيرة علي تحمل وإختزان الأسرار، وكذلك البعد التاريخي والسياسي لزمن وبيئة الرواية والمقارنة بين ثقافات الشعوب في الراوية. ورغم أن كلمة الدكتورة ريجينا قرشولي مترجمة موسم الهجرة الي الألمانية وهي الترجمة التي وجدت إستحسانا واسعا من قراء الألمانية، قد أشار الي جرء منها الدكتور حامد فضل في ورقته، إلا أننا قدرنا إثباتها منفردة لأنها تمثل رؤية خاصة من المترجمة للعمل الروائي الهام للطيب صالح ، حيث تأخرت ترجمة موسم الهجرة ثلاثين عاما من تاريخ صدورها بالعربية والإنجليزية. ولكنها في فترة وجيزة إحتلت قائمة الكتب الأكثر مباعا في سويسرا كما إحتلت صدارة الصفحات الأدبية في ألمانيا.الدكتورة روجينا هي أستاذة الأدب العربي بجامعة لايبزج بألمانيا. وقد ألقت كلمتها المشار اليها في أصيلة عقب وفاته، والتي ننشرها في هذا الكتاب تحت عنوان (الطيب صالح ينزع عن الموت سطوته).
وفي خضم هذه الأوراق يقف الشاعر الخنذيذ الأستاذ خالد فتح الرحمن، وهو شاعر وأديب سوداني يعمل دبلوماسيا ونائبا للسفير في سفارة السودان بهولندا ليشنف مسامع الحضور بمرثية دامعة بعنوان (هجعة المطمئنين الي الطيب صالح)..يلقي فيها بكل حنين القوافي، وتفجع أهل السودان حين يقول للطيب صالح : محبوك كثر.فيجيب حياؤه آ زول آ زول..ويقدم الأستاذ خالد فتح الرحمن شهادته كاملة غير منقوصة علي ضفاف النيل الثالث، ليس من باب التفجع والأسي ولكن من خلال رؤية نافذة وحميمية متدفقة لأنه يكتب عن هجعة المطمئنين لا عن جزع الراحلين.
وتحت عنوان (الذاكرة والمكان في روايتي موسم الهجرة والبحث عن الزمن المفقود لبروست) وهي دراسة أجراها الشاعر والأديب والقاص السوداني أمير حمد ببرلين بين التداخل والمقاربة النصية لموضوعي الزمان والمكان في موسم الهجرة للطيب صالح، ودراسة أندريه مورو حول رواية الزمن المفقود لبروست. ويتمتع الأستاذ أمير حمد إضافة الي شاعريته الوسيمة، ورؤيته النقدية النافذة، بطاقة نبيلة وهم متصل، لنشر روايات الطيب صالح وتخليد أعماله عبر النشر وتشجيع الدراسات النقدية حول إبداعه، وهو يعكف الآن علي إكمال سيناريو مقترح لرواية موسم الهجرة لإنتاجها كفيلم سينمائي يضيف قيمة فنية جديدة لهذه الراوية الخالدة .
أما الشاعر والكاتب السوري محمد زكريا الثقال ومن خلال ورقته (المنسي ذاكرة في الحاضر) يذهب بنا بعيدا ليسبر غور شخصية الرواية المحورية (منسي) ويقول إن الكاتب منحاز للإنسان في المنسي للقدرة علي الحياة والغرف منها. كما أنه مشغول بالمناخ العام والأحداث، لأنه يؤرخ للزمن وللسياق الذي تشغله الحيثيات. و(عن حبي التعيس مع موسم الهجرة ) تقول الدكتورة فبكة فالتر أستاذة علم الإستشراق في جامعة مارتن لوثر بألمانيا، أنها افتتنت برواية موسم الهجرة وقررت ترجمتها الي الألمانية إلا أن الناشر الذي اتصلت به في مدينة لايبزج رفض العرض مدعيا أن المرأة التي تحب أن تقتل بيد حبيبها إمرأة مريضة،مما أضاع حلمها بترجمة الرواية. وإطلعت الدكتورة فبكة لاحقا علي الرؤي النقدية للرواية من حيث كونها حدثا رمزيا يعالج العلاقة الكولونيالية المضطربة بين بلدين أو حضارتين.وترجمت الراوية بعد ذلك كما ذكرنا آنفا د. روجينا قرشلي.
يدلف بنا الكاتب والناقد محمد ناصر الي عوالم الدراسات المقارنة، حيث يجري تناصيا سرديا موازيا بين عرس الزين للطيب صالح، وقصة جريمة في قرية كاف لحسونة المصباحي. ويحاول الكاتب أن يعقد مقارنة بين الشخوص والحبكة وبيئة الحدث بين الروايتين.خص الندوة أيضا الأستاذ محمد أحمد جميل وهو كاتب وأديب سوداني، بمقالة نقدية تحت عنوان (عوليس الأسود). كما إخترنا في خاتمة المطاف المقالة التي حررها عن الندوة الأستاذ هجو علي هجو أستاذ الجيولوجيا بجامعة النيلين، والباحث في الدراسات العليا بألمانيا تحت عنوان (برلين تتذكر المريود) والتي نشرتها بعض الصحف والمواقع الإسفيرية.
صاحب الندوة معرضا فنيا حوي لوحات تشكيلية وصورا فتوغرافية. كما زين الفنان التشكيلي العراقي الأستاذ منصور البكري قاعة الندوة بالعديد من الصور والرسومات والتلوين لشخصية الطيب صالح، مما أضفي علي الندوة بعدا فنيا وتشكيليا جميلا.تعرف الفنان منصور البكري علي الطيب صالح في العراق عام 1974 أثناء دراسته الجامعية، كما شاهد فيلم الزين مما عرفه علي المجتمع السوداني أكثر. وأعجبه الأسلوب السحري والشاعرية المتدفقة في كتابات الطيب صالح. وجاءت مشاركته الفنية في هذه الندوة حبا وتقديرا لأدب الطيب صالح الذي يعتبره أفضل الأدباء العرب. إستوحي الفنان منصور البكري اللوحة الكبري من لون التراب السوداني لتكون رمزا للأصالة، وقد إخترنا إحدي لوحاته لتزين الغلاف الخارجي لهذا الكتاب. كما شاركنا بالعزف علي العود الفنان العراقي والموسيقي الشاب سيف كرومي والذي ينحدر من أسرة فنية مشهورة بالعراق. وجاءت مشاركته لتضفي بعدا جماليا لتنقلنا روحيا من ضفاف نهر أشبري ببرلين الي شواطئ نهر دجلة بالعراق علي إيقاعات المقامات العراقية المشهورة. شرف الندوة بالحضور المثقف العربي البارز الدكتور برهان غليون.
رغم غزارة الدراسات وكثافة المنتج النقدي عن أعمال الطيب صالح في جميع أنحاء العالم ، إلا أن الأوراق التي قدمت في الندوة ، وتضمنها هذا الكتاب التوثيقي تمثل إسهاما متميزا وتكتسب خصوصية رمزية للإرتباط الأدبي العميق للطيب صالح بألمانيا، من خلال ترجمة أعماله والإهتمام الذي حظيت به رواياته، هذا فضلا عن إرتباطها بالنخبة السودانية والعربية المثقفة بألمانيا والتي شاركت الطيب صالح هموم تجسير العلاقة بين الشرق والغرب. هدف هذا الكتاب الي توثيق وقائع الندوة، ونشر أوراقها ومداولاتها حتي لا يغتال صوتها بسيف النسيان أو أن يطفئ ضوؤها بريح التجاهل، ولتظل عملا هاديا للإحتفاء بالمبدعين السودانيين في مختلف المجالات.
لقد كان السودان قبل الطيب صالح نقطة بيضاء في خارطة الأدب العالمي ، وغدت بعد رحيله كرمكول وود حامد أشهر من الخرطوم، في عوالم الأدب. فالطيب صالح إحتضنته لندن، وغسلته في لجة الحنين وصقلته بالمعارف والتثاقف والشجن، وجمرته بالإغتراب فعكف علي تصوير إختلاجاته وذكرياته بإرتعاشات فنية مدهشة ولغة عبقرية، وصافحته باريس وبرلين وملبورن ونيودلهي وموسكو ومدن العالم الأخري المختلفة . وقدمته بيروت واحتفت به القاهرة حيث قدمه الناقد الكبير رجاء النقاش ووصفه بأنه عبقري الرواية العربية، كما خصته بإحدي جوائزها الأدبية الرفيعة.. وأحترمته الدوحة وكرمته أصيلة ، وأخرجت درته الكويت عن طريق خالد الصديق في عرس الزين، ومنحته سوريا لقب أفضل رواية عربية في القرن العشرين، واحتضن رفاته السودان. فقد أودع أهل السودان مقابر البكري كنزا عزيزا أو كما قال منصور خالد إننا "أودعناها رفاة حلم".. لم يكن الطيب صالح كشجرة الدليب التي ترمي بظلها بعيدا، بل كان كشجرة الهشاب التي تمنح أفضل ثمارها كلما أوغل فيها العمر، وغار النصل وتفتق الجرح.
إن سدنة أدبه هم المثقفون ومحبوه في العواصم العربية والعالمية، التي اتشحت بالسواد حزنا علي غيابه الأبدي، وهم الأدباء الشباب الذين أعطاهم الأمل وكشف لهم الطريق ، ومنحهم من عطفه و طاقته الإبداعية. أما ورثته في البعد الأنساني فهم البسطاء الذين ملأ أحلامهم كنجمة لا تنطفئ تضئ من زيتونة العرفان ، ورمزا لا يغيب يقتات من أيقونة الزيت المقدس. إن الطيب صالح ملك لهؤلاء، لأنه أحب بلا ملل وأعطي بلا كلل وحلم أحلام البسطاء، فلما نادته السماء إرتحل، لأن طريق العودة كان أشق. وها هي برلين تدفع نصيبها وقسطها الأدبي الأوفي في هذا السفر تخليدا لذكري عبقري الرواية العربية.