العسكر والثكنات (1 من 2)
حسام عثمان محجوب
23 April, 2023
23 April, 2023
السبت 22 أبريل 2023
فُجع معظم السودانيين بالمعارك الشرسة بين قوات "الشعب" المسلحة و"مليشيا" قوات الدعم السريع، وصار همهم الأول تأمين حياتهم وأهاليهم ومعارفهم، لا تخير الجانب الذي يدعمونه منهما. فهم يعرفون أن هذه ليست معركتهم، وأن الوطن والمواطنين هم الخاسرون فيها مهما كانت النتيجة.
رغم ما صاحب العملية السياسية من ترويج القوى المدنية الموقعة على الاتفاق الإطاري لحميدتي كمؤمن بالديمقراطية وحامٍ للانتقال الديمقراطي في مواجهة الكيزان داعمي البرهان وقادة الجيش، فإن أغلب المواطنين العاديين لم يستطيعوا ابتلاع تأييد مليشيا الدعم السريع وهي تحارب الجيش السوداني، متعللين بأنه رغم تغلغل الكيزان في الجيش وقيادته فإنه يبقى مؤسسة وطنية جلها مواطنون عاديون من غير أنصار المؤتمر الوطني، ويمكن إصلاحه بإبعاد قيادته بعد انجلاء دخان المعارك، فيعود العسكر للثكنات والجنجويد ينحل.
إلا أن أداء القوات المسلحة في أسبوع المعارك الأول صدم الكثيرين. فرغم البروباغندا وغياب المعلومات الموثقة، يبدو الحسم العسكري السريع غير محتمل، ورغم أن الأرجح أن حصار الجيش لمعسكر الدعم السريع قرب المدينة الرياضية كان بمثابة وضع الأصبع على زناد الحرب، إلا أن القوات المسلحة إما لم تكن مستعدة أو أنها أضعف وأقل كفاءة وخبرة ومهنية مما يظن غالب السودانيين الذين يعلمون حجم الأموال التي صرفت على القطاع الأمني على حساب الخدمات والتنمية الموجهة لهم.
إصلاح القطاع العسكري
الحرب الكريهة الدائرة الآن تدعو لإعادة النظر بجدية في مطلب إصلاح القطاع العسكري، وإخراجه من جحر المدى الزمني لدمج الدعم السريع في الجيش، إلى رحاب أوسع تصل إلى مراجعة ضرورة وجود القوات المسلحة نفسها كما عرفها الشعب السوداني في قمة مهنيتها وكفاءتها حين كانت جيش الهنا الموروث من الاستعمار.
لا شك أن تاريخ القوات المسلحة السودانية ذاخر برجال وطنيين شجعان مهنيين أبطال أكفاء حملوا الوطن في حدقات عيونهم ولم يضنوا عليه بشيء حتى أرواحهم. وتوصيف الجيش بأنه ورثة استعمارية لا يعيب منسوبيه، فهو مثله في ذلك مثل مظاهر الدولة الحديثة التي صنعها المستعمر وكانت مصادر فخرنا. وما أصاب الجيش من ضعف وانهيار وانحرافات وجرائم يشابه ما أصاب جل هذه المؤسسات صنيعة الاستعمار، من حكومة وخدمة مدنية ومؤسسات أكاديمية واقتصادية وبنى تحتية وغيرها. وقد دفع الجيش أثماناً عظيمة لفشل النخب الحاكمة في تأسيس الدولة السودانية الحديثة الديمقراطية، ومن أهم واجباتها إعادة بناء القوات المسلحة لتصبح مؤسسة وطنية تلعب دورها مع المؤسسات الأخرى لمصلحة الشعب السوداني.
يمكن التبرير لوجهة النظر التي تقول بضرورة إعادة بناء القوات المسلحة على أسس جديدة بالتمعن في بعض محطات تاريخ الجيش السوداني.
من هم أعداء القوات المسلحة؟
شاركت القوات المسلحة بتمثيل محدود في حروب خارجية مثل أكتوبر واليمن، وعمليات حفظ سلام في عدة دول، لم تكن حدود السودان في أي منها مهددة بشكل مباشر مع استثناءات معدودة. وكانت لها علاقات تمثل تهديداً أمنياً قومياً كالعلاقة مع مصر التي تبدأ بالتدريب ولا تنتهي بإقامة قادتها فيها بعد تقاعدهم أو هروبهم. وظلت حدود السودان مع مصر وأثيوبيا (وكينيا من قبل) مخترقة أو محتلة لعقود، ولم تستطع القوات المسلحة منع انتهاك النظام الليبي والعدو الإسرائيلي للأجواء والأراضي السودانية مراراً.
بينما كانت معظم العمليات العسكرية التي قام بها الجيش السوداني داخل أو على حدود البلاد حروباً أهلية متطاولة على "عدو" يمثل حركات مسلحة "متمردة" (مع روايات عن مواجهات مع بعض جيوش دول الجوار). ما لا يمكن الاختلاف عليه أن نتائج هذه الحروب لم تكن انتصارات كاسحة على أي من الحركات المتمردة بما يناسب فرق الإمكانيات البشرية والمادية، بل كانت أعداداً فوق الحصر من الضحايا المدنيين والعسكريين من الجانبين السودانيين. وكانت فترات الحكم العسكري للبلاد وبالاً عليها.
وفي حين ينظر البعض بفخر لأدوار الاستخبارات العسكرية في لعبة السلطة في بعض دول الجوار كدليل على نجاحات القوات المسلحة، فيجب تذكر أن عدداً من المليشيات والحركات خرجت من عباءة الاستخبارات العسكرية، وعلى رأسها أكثرها "نجاحاً" قوات الدعم السريع.
(يتبع)
husamom@yahoo.com
فُجع معظم السودانيين بالمعارك الشرسة بين قوات "الشعب" المسلحة و"مليشيا" قوات الدعم السريع، وصار همهم الأول تأمين حياتهم وأهاليهم ومعارفهم، لا تخير الجانب الذي يدعمونه منهما. فهم يعرفون أن هذه ليست معركتهم، وأن الوطن والمواطنين هم الخاسرون فيها مهما كانت النتيجة.
رغم ما صاحب العملية السياسية من ترويج القوى المدنية الموقعة على الاتفاق الإطاري لحميدتي كمؤمن بالديمقراطية وحامٍ للانتقال الديمقراطي في مواجهة الكيزان داعمي البرهان وقادة الجيش، فإن أغلب المواطنين العاديين لم يستطيعوا ابتلاع تأييد مليشيا الدعم السريع وهي تحارب الجيش السوداني، متعللين بأنه رغم تغلغل الكيزان في الجيش وقيادته فإنه يبقى مؤسسة وطنية جلها مواطنون عاديون من غير أنصار المؤتمر الوطني، ويمكن إصلاحه بإبعاد قيادته بعد انجلاء دخان المعارك، فيعود العسكر للثكنات والجنجويد ينحل.
إلا أن أداء القوات المسلحة في أسبوع المعارك الأول صدم الكثيرين. فرغم البروباغندا وغياب المعلومات الموثقة، يبدو الحسم العسكري السريع غير محتمل، ورغم أن الأرجح أن حصار الجيش لمعسكر الدعم السريع قرب المدينة الرياضية كان بمثابة وضع الأصبع على زناد الحرب، إلا أن القوات المسلحة إما لم تكن مستعدة أو أنها أضعف وأقل كفاءة وخبرة ومهنية مما يظن غالب السودانيين الذين يعلمون حجم الأموال التي صرفت على القطاع الأمني على حساب الخدمات والتنمية الموجهة لهم.
إصلاح القطاع العسكري
الحرب الكريهة الدائرة الآن تدعو لإعادة النظر بجدية في مطلب إصلاح القطاع العسكري، وإخراجه من جحر المدى الزمني لدمج الدعم السريع في الجيش، إلى رحاب أوسع تصل إلى مراجعة ضرورة وجود القوات المسلحة نفسها كما عرفها الشعب السوداني في قمة مهنيتها وكفاءتها حين كانت جيش الهنا الموروث من الاستعمار.
لا شك أن تاريخ القوات المسلحة السودانية ذاخر برجال وطنيين شجعان مهنيين أبطال أكفاء حملوا الوطن في حدقات عيونهم ولم يضنوا عليه بشيء حتى أرواحهم. وتوصيف الجيش بأنه ورثة استعمارية لا يعيب منسوبيه، فهو مثله في ذلك مثل مظاهر الدولة الحديثة التي صنعها المستعمر وكانت مصادر فخرنا. وما أصاب الجيش من ضعف وانهيار وانحرافات وجرائم يشابه ما أصاب جل هذه المؤسسات صنيعة الاستعمار، من حكومة وخدمة مدنية ومؤسسات أكاديمية واقتصادية وبنى تحتية وغيرها. وقد دفع الجيش أثماناً عظيمة لفشل النخب الحاكمة في تأسيس الدولة السودانية الحديثة الديمقراطية، ومن أهم واجباتها إعادة بناء القوات المسلحة لتصبح مؤسسة وطنية تلعب دورها مع المؤسسات الأخرى لمصلحة الشعب السوداني.
يمكن التبرير لوجهة النظر التي تقول بضرورة إعادة بناء القوات المسلحة على أسس جديدة بالتمعن في بعض محطات تاريخ الجيش السوداني.
من هم أعداء القوات المسلحة؟
شاركت القوات المسلحة بتمثيل محدود في حروب خارجية مثل أكتوبر واليمن، وعمليات حفظ سلام في عدة دول، لم تكن حدود السودان في أي منها مهددة بشكل مباشر مع استثناءات معدودة. وكانت لها علاقات تمثل تهديداً أمنياً قومياً كالعلاقة مع مصر التي تبدأ بالتدريب ولا تنتهي بإقامة قادتها فيها بعد تقاعدهم أو هروبهم. وظلت حدود السودان مع مصر وأثيوبيا (وكينيا من قبل) مخترقة أو محتلة لعقود، ولم تستطع القوات المسلحة منع انتهاك النظام الليبي والعدو الإسرائيلي للأجواء والأراضي السودانية مراراً.
بينما كانت معظم العمليات العسكرية التي قام بها الجيش السوداني داخل أو على حدود البلاد حروباً أهلية متطاولة على "عدو" يمثل حركات مسلحة "متمردة" (مع روايات عن مواجهات مع بعض جيوش دول الجوار). ما لا يمكن الاختلاف عليه أن نتائج هذه الحروب لم تكن انتصارات كاسحة على أي من الحركات المتمردة بما يناسب فرق الإمكانيات البشرية والمادية، بل كانت أعداداً فوق الحصر من الضحايا المدنيين والعسكريين من الجانبين السودانيين. وكانت فترات الحكم العسكري للبلاد وبالاً عليها.
وفي حين ينظر البعض بفخر لأدوار الاستخبارات العسكرية في لعبة السلطة في بعض دول الجوار كدليل على نجاحات القوات المسلحة، فيجب تذكر أن عدداً من المليشيات والحركات خرجت من عباءة الاستخبارات العسكرية، وعلى رأسها أكثرها "نجاحاً" قوات الدعم السريع.
(يتبع)
husamom@yahoo.com