العقد الاجتماعي وشعب النُّوبة
الدكتور عمر مصطفى شركيان
8 January, 2009
8 January, 2009
Shurkian@yahoo.co.uk
د. عمر مصطفى شركيان
تعود أزمات السُّودان الحاليَّة إلى حقب سحيقة، وقد ساهم في هذه المحن النسيج الاجتماعي الذي يتكوَّن منه هذا الشَّعب الفسيفسائي حتَّى بات يشكِّل الموروث السياسي بكل تناقضاته. فمن ذا الذي يتعمَّق في تأريخ السُّودان يجد أنَّه هاجر إليه أجناس من كل حدبٍ ينسلون، واحترفوا المهن والحرف المتعدِّدة حسبما تقتضيه الظروف الطبيعيَّة من مناخ، وماء وكلأ وصحراء وهلم جراً. وكما حدثت هجرة من الخارج إلى الداخل، حدث نزوح داخلي أيضاً. إذ أنَّ حركة التَّنقُّل الداخلي تنشأ من جراء العدوان الخارجي، ومن ثمَّ لا يجد الأهلون وسيلة غير النزوح الداخلي إلى أماكن آمنة، وهذا ما حدث للنُّوبة بعد العدوان على ممالكهم في السُّودان النيلي والوسطي. بيد أنَّ بعض المؤرِّخين يشيرون إلى حركة نزوح معاكس في فترة ما.
وقبيل غزو إسماعيل محمد علي باشا السُّودان في العام 1820م لم يكن هناك احتكاك بين النُّوبة والعالم الخارجي بعد أن تمترسوا في جبالهم واتَّخذوا منها بييوتاً وسكناً. بيد أنَّ ثمة عراك مع القوميات المختلفة المجاورة كانت تنشأ من حين إلى آخر. لكن، وفي الحق، لم تأخذ هذه النزاعات - قبل مجئ العدوان الخارجي الأثيم أو دخول الأديان السماوية الوافدة - منحى دينيَّاً يستدعي تكفير وتهجير الآخر فيما شجر بينهم. وهذا يعود إلى وحدة الاعتقاد الدِّيني والعرقي في المجتمعات الأفريقيَّة. وقد احتار الغرب في طبيعة الحروب الأفريقية لما فيها - في أغلب الأحيان - من رأفة وإنسانيَّة. وعلى الرَّغم من وصفها بالحروب القبليَّة في محاولة من البعض لصبغها بالوحشيَّة، إلاَّ أنَّ الهدف من هذه الحروب هو التغلُّب على، أو تخويف العدو، وتجنُّب قتله بقدر الإمكان. وما ارتداء القناع وإطلاق الصراخ الداوي عندما يحمو الوطيس إلا وسيلة من وسائل ارهاب العدو ليفر بعيداً عن أرض المعركة، وبذلك يتحاشى الموت. وفي بعض الأحايين، وحين ينهزم العدو كلياً ويمسى محصوراً، يقوم المنتصر بغض البصر وفتح ممرات آمنة، حتى يهرب العدو. وفي أحايين أخر يركن الطرفان إلى فترة الاستجمام، حيث يأكلون الطعام، ويتسامرون، ويتبادلون النكات وهم يتفكَّهون ويتندَّرون، حتى تُقرع طبول الحرب مرة أخرى وهم بعدئذٍ يستأنفون القتال. وفي السُّودان حدث ذلك القتال على النَّهج الأفريقي عندما إلتقى جيشي سلطان الفونج ومك (ملك) تقلي، حيث كان يستعر القتال بينهما نهاراً، وفي المساء يخلد كل فريق إلى هدنة ريثما يقبل الصباح. غير أنَّ مك تقلي كان يرسل موائد العشاء حافلة إلى الجيش الغازي كل ليلة، لأنَّهم ضيوفه، ما داموا مقيمين داخل أرضه، وإن أبدوا العداوة والبغضاء. ولما علم سلطان الفونج بحقيقة الأمر، انسحب من ميدان القتال، منهياً الحرب من جانب واحد، أسفاً على ما كان، وخجلاً من مقاتلة قوم على هذا الحظ العظيم من النبل؛ يصدون العدو الغازي في النَّهار، ويكرمون وفادته في اللَّيل، مثل الصندل الذي يعطر الفأس كلَّما أمعنت في تمزيقه وتهشيمه. وقد تبنَّت الحركة الشّعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان هذه الموروث الأفريقي الأصيل إضافة إلى العمل بقوانين جنيف للتعامل مع الأسرى، لذلك تحتفظ الحركة بأسرى حرب طيلة عمر نضالها الطويل. على العكس تماماً نجد حكومات السُّودان تقوم على تعذيب وإعدام أسرى الحركة، فضلاً عن كل من يشتبه فيه أنَّه يتعاطف مع الحركة (الطابور الخامس).
هذه هي تقاليد أفريقيا في الحروب. إذن، كيف تبدَّلت الحال وأخذت الحروب تأخذ طابعاً دموياً تقشعر منه الأبدان ويشيب عنه الولدان؟ هذا التحوُّل الجذري(Radical change) تمَّ بعد الغزو الآسيوي والأوربي إلى أفريقيا باسم الدِّين - أيَّاً ما كان - تارة وباسم الحضارة تارة أخرى. وقد نجمت، عن هذه الحروب الحديثة، إبادة جماعية وقتل للأطفال والنساء والسبي والاغتصاب والنزوح الجماعي بحثاُ عن مأمن ومسكن. وقد شهدنا ذلك إبَّان الغزو التركي-المصري للسُّودان. بيد أنَّ أكبر إفراز نتج عن هذه الحملات التركيَّة-المصريَّة هو تجارة الرِّق، وتفيض كتب التأريخ بحكايات مروعة عن هذه التجارة النحسة.
وقد تجلَّت هذه الفظائع بشئ من المبالغة في جبال النُّوبة، وقد استبسل أبناء النُّوبة من أجل حقوقهم الإنسانية أيما استبسال. باستعراض موجز لتأريخ جبال النُّوبة، كغيرها من الأقاليم المهمَّشة في السُّودان، نجد أنَّه زاخرٌ بالشخوص والوقائع ذات الطابع الأُممي في المقام الأول والوطني في المقام الثاني، ذلك لأنَّ الأُمة التي لا ماضي لها هي أُمَّة بلا جذور ولا إنتماء ولا تطلُّعات نابهة نحو المستقبل. إنَّ غرام النُّوبة بالذود عن أرضهم، والإبقاء علي مكتسباتهم الحضاريَّة، والحفاظ علي هويَّتهم وصيرورتها يعود في الأصل إلي جذور أحفادهم الذين كانوا للوطن مخلصين وعن العرض ذائدين.
وفي هذا الصدد تقول الباحثة اليابانية في تأريخ السُّودان الحديث - الدكتورة يوشيكو كوريتا: "إنَّ النُّوبة كانوا يوقعون عقوبة الجَّلد على كل من يقسم بالمهدي". هذا دليلٌ على رفضهم للسياسة الجديدة التي طالما حاول المهدويُّون فرضها عليهم قسراً. وقد إعترف المهدي "بجمهوريَّة النُّوبة العسكريَّة" كواقع محتوم إلى أن أُرسِل - في وقتٍ لاحقٍ - حمدان أبوعنجة لإخضاعهم بقوة السِّلاح، حيث إشتهرت حملات أبي عنجة بتخريب الدِّيار والإمعان في الدَّمار: إتلاف الزرع والضرع، وتقتيل النُّوبة وتذويقهم ألواناً من العذاب، واقتيادهم كأسرى حرب. تلك هي سياسة الدولة المهديَّة، التي لجأ مؤسسها - الأمام محمد أحمد المهدي - في المبتدأ إلي جبل قدير بجبال النُّوبة لإستمالة قلوب النُّوبة وحثِّهم على الانخراط في جيشه لمحاربة الحكومة التركيَّة-المصريَّة (1821- 1885م)، وإيصاله هو الآخر إلى حياض السلطة في الوقت الذي كان فيه سكان الحضر والشمال البحري - حتى تلك اللَّحظة - في شكٍ مريبٍ من إمكانيَّة نجاح المهدي في تسديد ضربة قاضية للسُّلطة يومئذٍ.
فقد انبنت سياسات أنظمة الحكم في السُّودان - كائناً ما كان - في التعامل مع النُّوبة على أساس أنهم عبيد، حيث لا ينفع معهم غير أسلوب القهر والقسوة. فنجد أنَّ العوامل التي دفعت إلى إيقاد ثورات الجِّهاديَّة - كسلا إبَّان حكم التركيَّة في آذار(مارس) 1865م، الأبيِّض 1885م والنُّهود في يوم 20 تموز (يوليو) 1891م - ترجع إلى الشُّعور السَّائد بين هؤلاء الجُّنود السوُّدانيين السُّود بأنَّ العرب ينظرون إليهم بنظرة احتقار، وإنَّ العصيان، الذي غالباً ما أخذ أشكالاً مختلفة، ما هو إلا وسيلة من وسائل "البحث عن حريَّتهم الإجتماعيَّة والتَّخلُّص من هذه النَّظرة ذات الصِّبغة العنصريَّة واللَّونيَّة. إذ أنَّ النَّظرة إليهم كعبيد ما زالت سائدة." كان معظم هؤلاء الجهاديُّون من الرَّقيق المحررَّين أو ذوي جذور تعود إلي زمان الرِّق، فلم تشفع عنهم أسماؤهم العربيَّة، أو أسماء زعمائهم مثل بشير علي وسرور النُّور وعلي يوسف، من إضطِّهاد رفاقهم في السِّلاح. أمَّا ثورة الجِّهاديَّة التي إشتعلت في الأبيض فقد احتمى زعماؤها بجبال النِّيمانج حيث وقعت معركة داميَّة قتل فيها محمود عبدالقادر قائد جيوش المهديَّة في 20 كانون الأوَّل (ديسمبر) 1885م. أمَّا الإحتراب الذي وقع في النُّهود بين قوات المهديَّة تحت إمرة محمود ود أحمد والثُوَّار الجِّهادويين تحت قيادة جهادوي يدعى عطرون ورتبته رأس ماية لم تقل ضراوة وشراسة عن أحداث الأبيِّض. وقد رُوِي أنَّ كان أكثر الفرق حماسة في قتال النُّهود فرقتي البرنجيَّة والملازميَّة.
يسرد بعض مؤرِّخي السُّودان الوقائع التَّاريخيَّة في هذا البلد على هوى النَّفس، ودون الاختيار الأمثل للمفردات، وذلك لحاجة في نفس يعقوب؛ وعندما ذكر الأستاذ المؤرِّخ عوض عبدالهادي العطا بأنَّه كان لدي حمدان أبي عنجة مفهومه "عن سكان الجِّبال بأنَّهم ذوي مفاسد ونفاق ينبغي مراقبتهم بدقَّة وخاصة عند اختلاط العربان بهم" لم يراع ما تحمله كلماته هذه من الهجاء المقذع. إنَّ هذا المفهوم المتَّسم بشئ من الكبرياء هو الذي أوغر صدر أبي عنجة ضد النُّوبة فقاتلهم، وفضَّل استرقاقهم على حريَّتهم، وهلك حرثهم ونسلهم: وإنَّ ثمة دماً يسيل أينما ولَّى أبوعنجة وجهه. إنَّ إطلاق الألفاظ النَّابية على القوم، سواء جاء ذلك من الأستاذ الكاتب أو من توهُّم أبي عنجة المحارب، دون الإشارة إلي هذه المفاسد أو أوجه النِّفاق يعطي الإنطباع بأنَّ القوم جربي والإبتعاد عنهم وعدم الإختلاط بهم وقاية علاجيَّة. وقد قسَّم عوضنا هذا المعارضة الجَّبليَّة وقتذاك إلي ثلاثة: معارضين من غير النُّوبة وهم الجِّهاديَّة وهم ذوو بأسٍ ومراسٍ شديد ولهم كفاءة عسكريَّة عاليَّة؛ النُّوبة وقد سبق الإشارة إليهم؛ ثمَّ المجموعات العربيَّة المتغلغلة في أوساط النُّوبة.
إنَّ الأسلوب القهري العسفي في الحكم وطريقة تطبيقه على الأهالي دون مراعاة لأحوالهم الإقتصاديَّة وعاداتهم وتقاليدهم قد دفع النُّوبة إلى الإستدراك بأنَّ جميع سلاطين الخرطوم - الأتراك منهم أوخلفاء أم درمان المهدويين - من طينة سياسيَّة واحدة؛ والأمر، في الأساس، لايعدو أن يكون تغيير في السَّادة. فلا غرابة من ظهور حركات - حركة مزيل الضَّلال أو المحن - أو إشاعات تنادي بإزالة الفساد ورفع الظُّلم عن النَّاس. تلك هي حالة الجِّبال في عهد المهديَّة.
الإنسان، بالطبع، مدني ولا بد له أن يعيش مع الآخرين ويتعاطى معهم شؤون الحياة اليوميَّة حتى تتحقَّق مصالحه وتنتظم أموره. وكنتيجة حتمية لذلك كذلك يظهر الخلاف والنزاع بين أفراد المجتمع، مما يستتبع بالضرورة قيام السُّلطة للفصل بين المتنازعين والحكم بين المختصمين بالقسط. إذن، فالسُّلطة السياسيَّة ضرورة أملتها ظروف المعاش والميعاد، بل لا بد منها من أجل قيام المجتمع البشري واستمراره، ومن أجل الحفاظ على الأمن والاستقرار، الأمر الذي يفضي بالضرورة إلى تحقيق الازدهار الاقتصادي والنمو العمراني والتطوُّر الحضاري. فالناس لا بد لهم من سلطة تعرِّفهم بمصالحهم الدنيويَّة وتكبح جماحهم الديني وذلك للحد من الغلو. لكن السؤال الذي يتردد دائماً إلى الأدمغة هو كيف يمكن أن يتعايش أناس ذوي اعتقادات روحيَّة متباينة وأهداف سياسيَّة مختلفة مع بعضهم البعض وفي سلام ووئام؟ وإذا أخذنا منطقة جبال النُّوبة نموذجاً نرى أنَّ تأريخ الصراع الدموي فيها مرَّ بمراحل مختلفة تشتد وتضعف حسب أسباب الصراع وأسلوب السُّلطة المركزيَّة في الخرطوم في التعامل مع المشكل. فقد فشل الأتراك في التوغُّل إلى جبال النُّوبة وإخضاع مملكة تقلي، على الرغم من نجاحهم في الحصول على أعداد ضخمة من العبيد النُّوبة وذلك باستعانتهم بالتجار السُّودانيين الشماليين الذين كانوا يقومون بأعباء "الغزوات" وبيع المعروضات في أسواق الأبيض، حتى كوَّنوا نفوذ سياسي لا يستهان به في المدينة وبدأوا يعزلون الولاة وينصبونهم كيفما يحلوا لهم.
أما في الحقبة البريطانية-المصريَّة (1898-1956م) فقد حاول الاستعمار فرض السُّلطة بالقوة في جميع أرجاء القطر. ونتيجة لهذه السياسة استمرَّت المواجهات الفرديَّة والقبليَّة بين النُّوبة والسلطة البريطانيَّة-المصريَّة في المنطقة آخذة في الإزدياد. وما ظهور الشريف محمد الأمين في تقلي في العام 1903م والتأييد الشعبي الذي حُظِيت به حركته إلاَّ واحداً من عدة إنتفاضات مسلَّحة بالجبال. لقد وجد الأمين دعماً من أهالي المنطقة والقرى المجاورة مما حدا به إلى إعتقال القاضي بمساعدة مك تقلي - آدم جيلى. إنَّ إلقاء القبض على الأمين وشنقه في ميدانٍ عام بالأبيِّض لم يطفئ نار الثَّورة التي باتت مؤجَّجة في الجبال. يقول البروفسير مارتن دالي مستطرداً: "في العام 1904م تمَّ إرسال دوريَّة عسكريَّة لتركيع النُّوبة بجبل شات وجبل الدَّاير لامتناعهم أن يعطوا الجِّزية عن يد وهم صاغرون، وكذلك لمنعهم من القيام باعتداءات على القبائل المجاورة". أمَّا الدَّوريَّة التي قادها حاكم كردفان شخصيَّاً إلى جبل مندل فقد مُنِيت بهزيمة ساحقة، ونصر معنوي للنُّوبة. ونجد كذلك أنَّ الحملة التي أُرسِلت لإلقاء القبض على مك كِترا فضَّلت الإنسحاب وسط شائعات تُنذِر بتحالف وشيك بين قبيلتين "نوباويَّتين" أو أكثر ضد الحكومة.
أمَّا حادث تلودي في 25 أيار (مايو) 1906م فكانت في أصلها - مهما خُفِيت دوافعها الفعليَّة - مؤامرة من قبل العرب المستوطنين في المنطقة، الذين ثاروا ضد السلطات المحليَّة عندما منعتهم الأخيرة عن مزاولة الإتجار بالرقيق من أبناء النُّوبة واستعبادهم. ففي هذه الأحداث طعن الشيخ عطيَّة صقر مأمور تلودي من خلاف حتى الموت، وكذلك لقي عددٌ من موظفي الحكومة حتفهم في هذه الوليمة القاتلة التي دُعِي إليها أعيان المدينة أُسوةً بالمأدُبة التي أقامها المك نمر - مك الجعليين - لإسماعيل باشا وإغتياله حرقاً في شندي في تشرين الأول (أكتوبر) 1822م. قامت الحكومة بحملتها العسكريَّة ضد العرب في مدينة تلودي يومي 17 - 18 حزيران (يونيو) 1906م وتمَّ تشريدهم من المنطقة.
مهما يكن من أمر، فقد ظهرت ثورات شتى في جبال النُّوبة للتعبير عن رفض أهالي النُّوبة السيطرة والقيود الاستعماريَّة ودفع الضرائب الخاصة التي كانت تُفرض على قبائل النُّوبة (ضريبة الدقنيَّة - Poll Tax)؛ تلك الضريبة التي كان يدفعها الشخص عن نفسه اعتبرها النُّوبة مذلِّة ومهينة لكرامة الإنسان النوباوي. ومن جانب آخر، كانت الذاكرة الشعبيَّة تختزن من المواقف السلبيَّة والتجارب المريرة ذات الصلة بتجارة الرق كثير إبَّان الحكم التركي-المصري؛ الشئ الذي غرس الشك - لأنَّ الشك مصدر اليقين لا غير - في نفوس النُّوبة وعزَّز المقاومة الشَّعبيَّة لأي شكل من أشكال التسلُّط الأجنبي. فكانت هناك أكثر من أثنتين وعشرين ثورة مسلحة ضد الوجود البريطاني-المصري في المنطقة من أجل تحرير الإرادة الوطنيَّة من الاستغلال الأجنبي، وقد صمت عنها - بضمير مستريح - سجل التأريخ الوطني في السُّودان وتقاعس أي تقاعس. ومن أبرز هذه الثَّورات حركة الفكي على الميراوي ضد سلطات الحكم الثنائي في العام 1915م، الذي استخدم أسلوب الكر والفر في منازلة السُّلطات، حتى تم تسليم نفسه بعد اتفاق تمَّ بينه وبين النظام. ثار الفكي علي ود ود المي المعروف بالفكي علي الميراوي - نسبة إلي قبيلة ميري - على النظام في العام 1915م، وقد عاونه في ذلك الشيخ محمد الفقير الجابوري - ناظر المسيرية أولاد سالم - الذي كان يلعب دور تاجر البندقيَّة، حيث استطاع الفكي علي أن يشتري منه بعض الأسلحة الناريَّة. وقف المسيريَّة الزُرُق في صف النُّوبة، وعندما علم العرب - حلفاء الحكومة في أيَّة عمليَّة عسكريَّة ضد النُّوبة - أنَّ المسيريَّة في خندقٍ واحدٍ مع الفكي علي رفضوا التَّعاون مع السلطة هذه المرَّة لئلا تتعرَّض حياة إخوانهم المسيريَّة للخطر. قرَّر الفكي علي السَّفر إلي الخرطوم لوضع مشكلته أمام الحاكم العام، لكن أُعتُرِض سبيله، وقُبِض عليه في كردفان، وتمَّ إرجاعه إلي مدينة تلودي - عاصمة الجبال وقتذاك - وحُكِم عليه بالإعدام. فعلى الرغم من الحراسة المشدَّدة عليه بينما هو في الطَّريق إلى مدينة كادقلي لتنفيذ حكم الإعدام فيها، استطاع الفكي علي أن يهرب في ليلةٍ ليلاء في شهر آب (أغسطس) 1915م. وبمساعدة شابو الإعرابي تمكَّن في العودة إلى جبال ميري وواصل النِّضال.
ومهما يكن من أمر الفكي علي، فقد لعبت الظروف المحليَّة والعالميَّة دوراً فعَّالاً في صالحه. كما ساهمت جغرافية وتأريخ جبال النُّوبة في انجاح ثورته. نذكر منها - على سبيل المثال لا الحصر - طبيعة الجبال الصَّعبة بما فيها من الأمطار الغزيرة والبعوض، وانشغال الحكومة بالتجهيز لمحاربة السلطان علي دينار - سلطان الفور - الذي أعلن ثورته هو الآخر، واستمرار الحرب العالميَّة الأولى (1914- 1918م). فشلت محاولة محافظ الجبال الأولى عندما بعث الشيخ محمد شعيب - أحد تجار تلودي - كوسيطٍ بينه وبين الفكي علي لحل النِّزاع سلميَّاً. وتحت اصرار المحافظ على منح الفكي علي أحد الخيارين لا ثالث لهما وصلت المفاوضات إلي طريقٍ مسدودٍ. كان يرى المحافظ أنَّ الفكي علي عليه فقط اختيار الكيفيَّة التي سوف يتمُّ بها إعدامه: شنقاً أم رمياً بالرصاص؟ حيث كان يعتقد العرب والنُّوبة حينئذٍ أنَّ القتل شنقاً وصمة عار في جبين المقتول. ففي تشرين الأول (أكتوبر) 1915م تدخَّل الحاكم العام، وطلب من محافظ الجبال تقديم تنازلات يقوم الفكي علي بموجبها تسليم نفسه. وبالفعل نجحت وساطة الشيخ شعيب هذه الكرَّة وسلَّم الفكي علي نفسه وأُرسِل إلى الخرطوم حيث تمَّ الحكم عليه بالإعدام بواسطة محكمة مدنيَّة، لكن عُدِّل الحكم بواسطة الحاكم العام إلى السجن المؤبَّد مع المعاملة الخاصة. عندما عاد الفكي علي إلي مدينة كادقلي في العام 1926م تقريباً أُعتُبِر شخصاً خطيراً على الأمن وصدرت تعليمات بنقله إلى مدينة الدَّلنج، التي عاش فيها كمعتقل سياسي حتَّى وافته المنيَّة في العام 1936م، بعد21 عاماً من معارضة النِّظام وعن عمرٍ ناهز السبعين سنة.
كذلك قامت في جبال النُّوبة ثورة لم تقل ضراوة وعنفاً من حركة الفكي علي الميراوي. ذلكم هو عصيان السلطان عجبنا بن أروجا بن سبأ، السلطان الثالث عشر لمنطقة الأما "النيمانج"، بالقرب من مدينة الدَّلنج، والتي تبعد 98 ميلاً جنوبي مدينة الأبيِّض. ومثلما أطلقت مهيرة بنت عبود في منطقة الجعليين في شمال السُّودان زغرودة مجلجلة ألهبت بها حماس الرِّجال واستثارت في نفوسهم الحمية والإقدام للقتال والتصدِّي للغزو التركي-المصري الغاشم، ناضلت ونافحت مندي ابنة السلطان عجبنا أي النضال، وتركت بصمات واضحة في حياة النَّاس في جبال النُّوبة، وقد تم تخليد ذكرها بمارش عسكري ما زال تعزفه فرقة سلاح الموسيقى بالجيش السُّوداني. أما والده، السلطان عجبنا، فقد أبلى بلاء حسناً والعدو في أمره احتار. إذ انتهت أحداث الدَّورية رقم 32 باعتقال السُّلطان عجبنا وكلكون في 28 شباط (فبراير) 1918م وإعدامهما. وقد قال عنه محمود دليل أنَّه "جاهد المستعمرين جهاداً كبيراً، ووجدوا فيه غلظة حتَّى أنَّهم استأسدوا عليه بقوات من سواري شندي وبعض الوحدات المتمركزة في الخرطوم والخرطوم بحري وخور شمبات، وأُسِر وجئ به لإعدامه شنقاً في ساحة بالسوق. وبينما كان السُّلطان عجبنا يساق إلى الموت والنَّاس ينظرون قال لهم قولته الشَّهيرة: "أي واحد ما شاف السُّلطان عجبنا يجي يشوفه اللَّيلة ويشوف الرجال تموت كيف!" ووصفه الدكتور حامد البشير إبراهيم أنَّه كان "قائداً نوبيَّاً جسوراً، فعندما حكم عليه بالإعدام في العام 1919م سأله الحاكم العسكري ماهي آخر أمنية لك قبل الموت؟ فردَّ قائلاًً: لماذا تقتلني بحبل ككلب مسعور. أنا رجل ولذلك يجب أن تقتلني بالرصاص." رحم اللَّه السُّلطان عجبنا وصحبه من أجلنا ارتادوا المنون. إمعاناً في سياسة "فرق تسد"، فقد استغلَّت سلطات الحكم الثنائي العرب الحوازمة وسمَّوهم "الأصدقاء أو النبلاء" في حملتها على السُّلطان عجبنا ومساعده - الكجور كلكون. واقتصر دور الحوازمة على اعتراض سبيل النُّوبة، ومنعهم من الهروب من الحصار المطبق عليهم، واعتقالهم بقوة السِّلاح. إلاَّ أنَّ الحوازمة أظهروا قساوة لم يسبق لها مثيل. فلم يراعوا عامل الجنس أو العمر، ولم يوقِّر بعضهم بعضاً وخاصة عندما يصبح الأمر متعلِّقاً بالغنائم؛ كانوا غلاظاً فظاظاً. وقد رُوِي أنَّ أحداً بقر بطن أخيه وأرداه قتيلاً في شجار على جلد ماعز اُستخرج من كهف هجره النُّوبة.
تعتبر حركة السلطان عجبنا أخطر حركة مسلَّحة واجهت الحكومة البريطانيَّة في الجبال. حيث أنَّ القوة العسكريَّة والإمداد الحربي اللذان أُعُدا لغزو المنطقة تعكس جسارة الرَّجل وتماسك أتباعه، مما اضطرَّت السلطات إلى تجنُّب المواجهة المباشرة والإذعان إلى سياسة الحصار. أوفدت الحكومة قوة ضاربة قوامها ثلاث سريَّات بقيادة الرائد فانديلو والرائد جراهام والرائد ورثنجتون ويلمير إلى جبال النيمانج. إنتهى نضال السلطان عجبنا باعتقاله وكذلك كَلَوكَون - أحد أقطاب المقاومة - في يوم 27 كانون الأوَّل (ديسمبر) 1917م بواسطة العرب الحوازمة الموالين للحكومة الاستعمارية وقتذاك وسدنة كل نظامٍ حاكم بعد الاستقلال. بإعدام الزعيمين، استسلم الكثير من أهالي النيمانج كنتيجة حتمية بعد قتل قادتهم، واختار البعض الآخر الموت عطشاً - بعدما منعتهم الحكومة من ايراد الماء - لتحاشي إهانة الاستسلام.
دفاعاً عن موروثهم التقليدي، نجد أنَّ سكان قبيلة جُلُد تمادوا في توقيع العقوبة البدنيَّة على أُناسٍ يسمُّونهم "منزِّلي المطر" (Rainmakers)، أو الذين يؤمنون بأنَّ لديهم المقدرة على إنزال الغيث. وعندما منعتهم السلطات البريطانيَّة عن ممارسة هذه العادة، التي اُعتبرت جريمة بفعل القانون الجنائي، ثارت ثائرة القوم ووقفوا وقفة رجل واحد ضد هذا التدخُّل، الذي أعتبروه سافراً في شؤونهم الاجتماعيَّة والثقافيَّة. فأوَّل ما قاموا به هو اغتيال مك القبيلة، الذي صنَّفوه عميلاً سلطوياً من قبل النظام، ومن ثَمَّ شمَّروا سواعدهم لمنازلة الحكومة. وفي تضامن منقطع النَّظير، برزت قبيلة تِيمِين كساعد أيمن لمؤازرة مواطني جُلُد. لكن جبروت الحكومة وتفوقها في السلاح والعتاد أوقع هزيمة ساحقة بساكني المنطقتين، وذلك في يوم 7 آذار (مارس) 1926م. كذلك نجد أنَّ النِّزاع الذي نشب في جبال تُلُشِي في العام 1939م، بعدما سبقته تحرُّشات متقطِّعة بين مواطني تُلُشِي والحكومة، كان ينذر بحدوث صدام وشيك بين الفريقين. لم تغب تحرُّكات الحكومة العدوانيَّة على أحد بتُلُشِي، وفي يوم 16 كانون الثَّاني (يناير) 1945م سجَّل التأريخ تدمير آخر منزل بجبال تُلُشِي.
هكذا استمر العصيان والغليان في ظل الاستعمار البريطاني-المصري، فلم تهدأ الأحوال فيها حتى في نهاية الحرب العالميَّة الثَّانيَّة، أي العام 1945م. ومن ثَمَّ فضَّل الحكام الاستعماريون "الحكم اللامركزي" (Indirect rule) في الجِّبال لأنَّ ذلك من أقلَّ أنواع الحكم إنفاقاً على المنطقة، لكنَّهم سرعان ما تبنوا سياسة غير تلك. فماذا فعلوا؟ لقد اقدمت السلطات الاستعماريَّة على:
إلغاء مديريَّة جبال النُّوبة تنكيلاً بالنُّوبة بسبب الانتفاضات العديدة التي أشعلوها ناراً ضد السلطات يومئذ، وضم مناطق جبال النُّوبة إلى مديريَّة كردفان. فهذه واحدة من المشاكل التأريخيَّة التي شكلت لدي الطبقة المثقفة من أبناء النُّوبة في الستينيات مطلباً سياسيَّاً.
افتقار المنطقة إلى التنمية والطرق والتعليم والصحة، وكل هذه الأسباب خلقت نوعاً من التخلف الاجتماعي مقارنة مع بعض المناطق الأخرى.
عدم وجود فرص كافية لأبناء جبال النُّوبة في المؤسسات الدستوريَّة.
كان هذا هو الحال في جبال النُّوبة أيام الاستعمار البريطاني-المصري من جانب الأمن والسلطة العسكرية دون احصاء أو استقصاء الجوانب الاقتصادية والتعليميَّة، لأنَّ هذه الأخيرة لم تنل مجهوداً كبيراً ولم يخطر لهم على بال أمر إيلاء هذه المسائل إهتمام إلاَّ في حالات ضعيفة مما تخدم أغراضهم الاستعماريَّة في بسط الأمن والإدارة وجباية الضرائب.
ومهما كان من شأن هذا كله، فقد استطاع الاستعمار البريطاني-المصري فرض "العقد الاجتماعي" بقوة السِّلاح الناري والحنكة السياسيَّة. وقد تمثَّل هذا "العقد الاجتماعي" - كما عرَّفه هوبيز ولوك وروسو - بأنَّه العقد الذي يجعل الأفراد يوافقوا على التخلي عن بعض سلطاتهم الخاصة إلى الحكومة المركزيَّة لتقوم هي بمهام حفظ النظام ورعاية الصالح العام. غير أن هذا العقد الاجتماعي قد مزِّق شر ممزق في جزء من هذا الوطن العريض. حدث هذا عشيَّة الاستقلال أي الاستقلال الذي ولد ميتاً وملطخاً بدماء المواطنين السُّودانيين في جنوب الوادي. وحال السُّودان عشيَّة الاستقلال كمثل الهند والعنف الطائفي الذي صاحب ذلك الاستقلال من الإمبراطوريَّة البريطانيَّة في آب (أغسطس) 1947م وانشطار شبه القارة الهنديَّة إلى الهند وباكستان. وقد وصف الشاعر الباكستاني فائز أحمد فائز (1911-1984م) هذا الاستقلال في قصيدته "فجر الحريَّة" (The Morning Freedom):
هذا الضوء الملطَّخ ... هذا الفجرالذي أُكِل ليله
لم يكن هذا هو الفجر الذي كنا نبتغيه
ثمًّ يمضي في قصيدته ناشداً:
لم يأت بعد زمن تحرير القلب والعقل
استمر في رحلتك الشَّاقة
استمر... مازال الهدف بعيداً جداً
هذا هو حال أهل الجنوب مع تفجر العنف الدموي الذي صاحب الاستقلال، وتحذيرات أولي الألباب لأولي الأمر بأن اليوم هو سبيل أهل الجنوب وغداً أمر أهل النُّوبة والفونج والبجة ودارفور، فلم يزدهم نذير أولئك وهؤلاء إلاَّ مكراً واستكباراً. فبرحيل المستعمر لم يتبدَّل شئ يوحي بتحقيق مصلحة الأمة، فقد كانت - وما زالت - السُّلطة السياسيَّة في السُّودان لا تعني شيئاً عند العامة في التخوم النائيَّة سوى فرض عوامل السيادة بالقوة والرسوخ، بل استخدام القهر والغلبة في رد طلبات سياسيَّة في حق الشعوب. استمر عهد "العقد الاجتماعي" هذا - رغم هشاشته - حتى خلال حكومات ما بعد الاستقلال، ولكن بانحدار شديد نحو الهاوية، وذلك حين توثب الطغام على الهوام، وتحاربت الأراء المتناقضة، وتفرَّقت الارادات المتناقضة، حتى اتسع الخرق على الراقع إن كان هناك راقع في قطر اسمه السُّودان. ففي يوم 13 آب (أغسطس) 1958 م دعا نواب قبائل البجة في الجمعيَّة التأسيسَّة رئيس الوزراء عبدالله خليل ووزرائه إلى بورتسودان في اجتماع مهيب يضم شيوخهم وممثليهم البرلمانيين وشخصيات قيادية وسلموهم طلباً يشتمل على إثنتي عشر مطلباً. وكان إحدى المطالب هي أن يتم تشكيل حكومة في السُّودان يكون للبجة فيها الحق في تسيير شؤونهم المحليَّة على الطريقة التي يختارونها. وبعد عودة الوزراء إلى الخرطوم وجدوا مطلباً مثيلاً في انتظارهم في الخرطوم. جاء هذا الأخير من وفود قبائل مديريتي دارفور وكردفان الذين اجتمعوا في مدينة الأبيض، وقد وقَّع على هذه العريضة ممثلي هذه المناطق في الجمعيَّة التأسيسيَّة. إلاَّ أن هذه المذكرات لم تجد أذناً صاغية. ففي أواسط الستينيات من القرن الماضي حدث تململ بمنطة هيبان وعبري بجبال النُّوبة، وسط أبناء النُّوبة تحديداً، وحدث عنف وهجوم استهدف مؤسسات الدولة هناك، وأُضرمت حرائق، وعُقِدت محاكمات وصُدِرت أحكام قاسية ضد عديدين. كادت أن تحدث أحداث مماثلة في مدينة الدلنج عندما تحرك أهالي النيمانج صوب المدينة للتعبير عن الظلم الكظيم سنيناً عدداً. وبعد مفاوضات مضنية انقشعت العاصفة التي كادت أن تؤدِّي إلى إراقة دماء. كان النُّوبة يطالبون بإزالة ضريبة الدقنيَّة وضريبة الهوى. والأولى تعني فرض فدية سنوية على الشخص يدفعها عن نفسه، وهذه الضريبة مفروضة منذ عهد الاستعمار، وكنا نتوقَّع من أول حكومة وطنيَّة إلغائها بإعتبارها ضريبة استعمارية تميِّز بين المواطنين في القطر الواحد، لأنها مقصورة على أهالي غرب السُّودان دون غيرهم من أهل السُّودان قاطبة، وحين لم يتم إلغائها سبب الغبن في نفوس أبناء النُّوبة. ولذلك كذلك يذهب الحديث عن "بدل رقيق"، وهو علاوة شهرية كانت تدفع لموظَّفي الخدمة المدنيَّة حتى لغتها حكومة مايو في السبعينيات من القرن الماضي. وجلنا يعلم من هم المقصودين بالرقيق في هذه العلاوة التي فرضها نظام الاستعمار لتعويض رجال الخدمة المدنيَّة عن الأعمال التي كان يقوم بها "خدم المنازل"، الذين هم في الغالب المشاع من أبناء النُّوبة. وفي بعض الحالات الناَّدرة جداً - كما شهدنا، وقبل اشتعال الحرب الأهليَّة في جبال النُّوبة - حاول نظام نميري إيجاد تمثيل سياسي للنُّوبة في حكومته، فلم يلق وجود نوباوي واحد في الحكومة المركزيَّة رضا بعض أحزاب الشمال، حيث أمسى تعيين السيد محمود حسيب في وزارة حكومة جعفر نميري في أوائل عهد النظام مثار احتجاج من بعض أحزاب الشمال، التي ما برحت تنادي بانصاف القوميات المختلة حتى ظننا أنهم يعنوا مايقولون.
ولعل أبخس ردود الأفعال، التي شهدناها، حين يهب أهل المناطق المهمَّشة مطالبين بحقوقهم المسلوبة فيُوصفون - من قبل أهل السُّلطة في الخرطوم - بالانفصاليين والعنصريين. فليس صحيحاً أنَّ اتِّحاد عام جبال النُّوبة - في وقتٍ مضى أو حاليَّاً - ابتغى سبيلاً لطرد العرب من السُّودان كما يُشاع إفكاً وبهتاناً. فقد صُدر أحد الكتب في التسعينيات من القرن الماضي، حيث يشير فيه المؤلفان أنَّ "(الأب) فيليب عبَّاس غبُّوش (كان) مؤمناً إيماناً قاطعاً أنَّ العرب يجب أن يذهبوا ... وبالتَّالي شرع في مخطَّط لاحتلال الخرطوم، وربُّما الاستيلاء على الحكم". عند الإمعان والتفكير في عبارة "احتلال الخرطوم" قد يترك انطباعاً أنَّ المؤلِّفين يتحدَّثان عن "حملة كتشنر" لا عن الأب فيليب غبُّوش وغيره من النُّوبة الذين كانوا يومئذٍ في الخرطوم قبل انقضاض الانقلابيين المايويين على السُّلطة، حتى ولو فرضنا أنَّهم كانوا خارج العاصمة فلا يصح وصفهم بهذا الأسلوب الذي دائماً يُستخدَم للعدوان الخارجي الغشيم. ومهما يكن من أمر، فإنَّ مشاركة النُّوبة المحدودة في حركة تحرير جنوب السُّودان (حركة الأنيانيا الأولى) لم تجلب لأهل جبال النُّوبة حقوق سياسيَّة وخدمات اجتماعيّة أساسيَّة. وقد كشف المؤلِّفان عن هذا الوجود النُّوباوي في صفوف حركة اللِّواء جوزيف لاقو حينما أوردا أنَّه "عند إبرام اتِّفاقيَّة أديس أبابا كان لدي (الأب) فيليب غبُّوش أربعة من أبناء النُّوبة يعملون تحت لواء قوات التَّمرُّد بقيادة اللِّواء جوزيف لاقو، وكان أشهرهم المدعو عبدالمسيح الفضل ترنال". غير أنَّ الكاتبين العسكريين لم يكونا في جانب الحقيقة عندما ادَّعا أنَّ تنظيم غبُّوش خطَّط في أحداث مطار جوبا في شباط (فبراير) 1977م لفصل الجنوب وضمَّه ليوغندا. وقد استفسرنا مراراً كيف يُعقل أن يقتطع أبناء النُّوبة جزءاً من القطر بعيداً عن منطقتهم التقليديَّة لكيما يهبوه لدولةٍ أخرى؟ إنَّ هذا لأمرٍ مريج. ولم نندهش حينما أدركنا أنَّ المؤلِّفين ما زالا يستخدمان التَّحليل الاستخباراتي الذي هو سمة كل نظام في الخرطوم للتَّشهير بأبناء النُّوبة واعتبارهم "أناس غير وطنيين"، وإلاَّ ماذا يعني هذا الإفك المبين؟
عند بزوغ فجر الاستقلال في السُّودان في كانون الثَّاني (يناير) 1956م، كما أسلفنا قولاً، لم ينل إقليم جبال النُّوبة نصيباً مفروضاً من الخدمات التَّنموية والتَّعليميَّة والصَّحيَّة وغيرها كما حدث - وما زال يحدث - في الخرطوم والجَّزيرة. وإذا كانت الحكومات المتعاقبة تدَّعي أنَّ جنوب السُّودان أُهمِل تنمويَّاً لإنعدام الأمن فيه طيلة سنوات الحرب الأهليَّة الأُولى (1955- 1972م)، فبم يبرِّر هؤلاء الحكام المتعاقبون تهميش منطقة جبال النُّوبة التي كانت آمنة حتى وقت قريب؟ استمرَّ الظُّلم يلتهم أكباد النَّوبة طيلة فترة الأنظمة التي سمَّت نفسها وطنيَّة - مدنيَّة كانت أم عسكريَّة - حتَّى جاء نظام الرئيس السَّابق جعفر محمَّد نميري في العام 1969م، وقد وصلت الأُمور حدَّاً يستحيل معها الصَّمت. فمثلاً حينما أُنشأت مشاريع الزراعة الآلية في هبيلا وكرتالا جئ بملاك الأراضي من شمال كرفان والخرطوم والجَّزيرة لإحتكارها، واستخدام النُّوبة كأيدي عاملة رخيصة فقط، بل صُودرت أراضيهم لصالح المشاريع، ممَّا أدَّى إلى تململ سكان المنطقة المحليِّين. وعندما فتكت المجاعة بالمواطنين في العام 1984م كان كل المحصول قد تمَّ تصديره إلى خارج الإقليم أو خارج السُّودان، بدلاً من تحقيق الإكتفاء الذَّاتي، وأخيراً استغاث النُّوبة بعيش الأمريكان، الذي بات يعرف في الأدب الشَّعبي السُّوداني بعيش ريجان - نسبة للرئيس الأمريكي السَّابق رونالد ريجان. وبعد انهيار نظام نميري نشب النِّزاع المسلَّح في المنطقة كنتيجة حتميَّة للظلم المتوارث، والنَّظرة الإستعلائيَّة لدي الشِّمال الحاكم. هذا هو حال النُّوبة الذين هم فيهم يمترون، وقد بلغ بهم الأمر مبلغاً بات مستحيلاً كظم الغيظ وكتم الحزن واستبقاء الدموع، لأنَّ الذي بهم قد تفاقم واعتلى ونما وزاد وأورثهم المرض، كقول الشاعر:
حتام نكتم حزننا حـــتاما وعلام نستبقي الدموع علاما
إنَّ الذي بي قد تفاقم واعتلى ونما وزاد وأورث الإسـقاما
ففي منتصف الثمانينيات من القرن الماضي أخذ النُّوبة الأمور بيدهم وخاصة حينما تيقَّنوا أن "العقد الاجتماعي" الذي في يد السلطة المركزيَّة أُسئ استخدامها وانفرط عقد الأمن. وكذلك انفك "العقد الاجتماعي" الذي كان يربط بين القبائل العربيَّة المستوطنة في المنطقة منذ القرن السَّابع عشر وقبائل النُّوبة التي استضافت وأكرمت مثوى جاحفل الوافدين إلى هذا الإقليم. وفي أعقاب الانتفاضة الشعبيَّة تنادى أحزاب الشمال الإسلاموعربيَّة مصبحين بتمليش (تكوين وتسليح) القبائل العربيَّة في المنطقة حتى برزت أسماء مثل: الجنيد، على حمدان كير، الهادي بشرى وغيرهم على رأس "قوات المراحيل" - أي قوات العرب السيارة. وعندما اشتدت الهجمات والأعمال العدائيَّة ضد النُّوبة، فضَّلوا أن يذهبوا للحركة الشَّعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان يستنجدون بها لعلهم يأتوا منها بنار لرد العدوان. ومهما كان من شأن هذا كله، فقد استطاع المسلمون القانتون زرع عناصر لهم في الحكومة الإنتقاليَّة التي رأسها الفريق عبدالرحمن محمد الحسن سوار الدَّهب (1985- 1986م)، وباتت هذه العناصر تنادي - وبصوتٍ مجلجل - بتسليح القبائل العربيَّة. بهذه الفعلة أجهروا بمحاربة الحركة الشعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان في المنطقة بقيادة يوسف كوة مكي، وأسرُّوا الإبادة العرقيَّة للنُّوبة. في هذا الجو المشحون بالظلم السياسي تنادت تنظيمات جهوية مع حرارة الانتفاضة الشعبيَّة، وكوَّنت "تضامن قوى الريف السُّوداني"، وحين أحست أحزاب الشمال أنَّ هذا العمل قد يهدد نفوذهم التقليدية أخذت تعمل على هدمه بالعمل الخفي، وكان لهم ما أرادوا حتى بات التضامن هشيماً تذروه الرياح ولا يكاد يقف على أمره شيئاً.
بيد أنَّ فوز السيِّد الصَّادق المهدي بتولِّي منصب رئاسة مجلس الوزراء في انتخابات جزئيَّة في العام 1986م لم يكن يعني هذا كثيراً بالنِّسبة للمنطقة. إنَّ الذي يتماهى - سياسياً واجتماعيَّاً ودينيَّاً - بين النخبة التي باتت تحكم السُّودان منذ الاستقلال لكثير. وهنا تجدر الإشارة إلى مليشيات نظام الإنقاذ، التي أمست تعيث في الأرض فساداً - من تقتيل الأبرياء ونهب الفقراء - فهي نفس قوات الدِّفاع الشعبي، التي سعى السيِّد الصَّادق المهدي - بكل ما أُوتي من قوة وسلطة - لجعلها قوات رسميَّة وصبغها بلون حكومي. لقد تم هذا العبث الأثيم بأرواح الناس تحت دعاوي الحفاظ على الوحدة الوطنيَّة، غير أنَّ المهددات الأساسيَّة للوحدة الوطنيَّة هي الاستعلاء العرقي والهيمنة الجهويَّة والظلم الاجتماعي والقسمة الضيزى للسلطة والموارد وسيادة ثقافة أحاديَّة على ثقافات أخر، وعدم التوازن في الحقوق والواجبات. كذلك نجد أنَّ حملات تفريغ العاصمة المعروفة لدي الشارع السُّوداني "بالكشَّة" إلاَّ إضافة أُخرى سيئة للأسلوب العنصري الذي إعتاد أن يتعامل به أهل الحكم في الخرطوم مع مواطني التخوم، تلكم الحملات قد بدأت منذ نظام نميري ومازالت مستمرَّة إلى يومنا هذا. لذلك لم يكن يتوقَّع الشَّعب السُّوداني أن يأتي حفيد المهدي بشئٍ جديد. فبدلاً من شروع السيِّد الصَّادق المهدي في مواجهة قضايا البلاد الملحَّة والمحوريَّة وإنصاف العباد وتطبيق الحكم العادل الخالي من الخطل، ركَّز على تدعيم خصائله المعروفة باتِّقان التَّواري والبراعة في لوي عنق الحقيقة بما يتوافق مع نوازعه الطائفيَّة وافكاره السياسيَّة. فكان الزلل والشطط مجهود عهده. إنَّ الديمقراطيَّة هي أفضل صيغة عرفها الإنسان لتداول السلطة سلمياً، وتقوم على التفويض، ولا تستقيم لأحد إلا بمقدار إيمانه بها، وتحكمه للعقل، وتعلمه من أخطائه مما يفضي لتراكم الخبرة البشريَّة، ولا يعيبها قصور الناس في تطبيقها. فإنَّ تقويم تجربة الديمقراطيَّة العرجاء - السُّودان مثلاً - لا يتأتى إلاَّ بالمزيد من الديمقراطيَّة ولنا في تجارب أوربا عبرة لأولي الألباب.
على أي حال، تشعَّبت مشاكل السُّودان واختلفت باختلاف الأزمنة والمسبِّبات، وكان أبرز مشكلتين في هذا القطر المتعدِّد الأديان والأعراق، هما الإسلام السِّياسي والقهر الثَّقافي. فمسألة تديين السياسة - أو تسييس الدين كما شئت - أخذت طريقها في السياسة السُّودانيَّة في الستينيات من القرن الماضي. فقد كان حل الحزب الشيوعي السُّوداني في جلسة طارئة عقدتها الجمعيَّة التأسيسية في 11 تشرين الثاني (توفمبر) 1965م هو أحد إفرازات هذه المسألة. عقدت الجمعية التأسيسية جلستها وهي محاصرة بحوالي مائة ألف مواطن جاءوا من مختلف أنحاء السُّودان - أو قل جئ بهم - هو ضربة مميتة للديمقراطيَّة. والنائب الوحيد من الحزبين الكبيرين الذي أعلن أنَّه ضد حل الحزب الشيوعي هو حسن بابكر الحاج نائب دائرة مروي الشماليَّة (الحزب الوطني الإتحادي). ومن الطبيعي أن النواب الشيوعيين كانوا ضد حل حزبهم، ومع أنَّ أحمد إبراهيم دريج التزم بما قرره حزبه وصوت مع حل الحزب الشيوعي إلا أنَّه صرح فيما بعد بأن الفكر ينبغي أن يحارب بالفكر. وقديماً علم النُّوبة أنَّ إقحام الدين في السياسة سوف يضر بالعلاقات الاجتماعيَّة التي تنبني عليها مجتمعات النُّوبة، فضلاً عن حرمانهم من تقليد مناصب قياديَّة في الدولة. ومن ثَمَّ أدى نضال الأحزاب الأفريقيَّة في الجمعيَّة التأسيسية إلى سقوط الدستور الإسلامي في اللجنة القوميَّة للدستور الدائم للسُّودان في العام 1967م. فقد "جاء في مذكرة اللجنة الفنيَّة نبذة حول الدستور الإسلامي أن يكون رأس الدولة مسلماً" مما دفع العضو البرلماني السيِّد موسى المبارك أن يسأل: هل لغير المسلمين الحق في الاشتراك لانتخاب هذا الرئيس؟ وسأل السيد فيليب عباس غبوش، هل "من الممكن للرجل غير المسلم أن يكون في نفس المستوى فيُختار ليكون رئيساً للدولة؟" فقد حاول الدكتور حسن الترابي أن يراوغ مما اضطر رئيس الجلسة أن يطلب من السيد فيليب عباس ليعيد السؤال، بغية أن يتلقى عليه إجابة محدودة. وعندما لم يجد الترابي مخرج صدق أجاب بلا. وحينئذ بدأت المعارضة التي انتهت بهزيمة اقتراح الدستور الإسلامي الكامل.
فقد ذهب قادة الأحزاب وغلاة الطوائف الدينية (الإسلاميَّة) منذئذ في سبيل المطالبة بالدستور الإسلامي أي مذهب، وكانت حجتهم في أمر ذلك أنَّ "أغلبيَّة شعب السُّودان مسلمين". وهم من أجل ذلك يزعمون أنَّهم يردُّون أمر الشعب إلى الشعب في ظاهر الأمر، فإذا كان الاختلاف - ولا بد أن يكون الاختلاف - أنفذوا أمر الكثرة وأهدروا أمر القلة، وأتاحوا بذلك كذلك للأكثرين أن يستذلوا الأقلين أو أن يحكموهم على غير ما يريدون. كما أنَّ الالتزام بسياسة الأغلبيَّة الآلية كمنهج لوضع الدساتير وصوغ القوانين لن يكون، بحال، هو السبيل الأمثل لبناء وطن، لأنَّه يضع الأقليَّة دوماً تحت رحمة الأغلبيَّة. فقد أنذرنا الدكتور جون قرنق من خطورة استخدام منطق الأغلبيَّة في إثبات الأشياء لأنَّه منطق حمال أوجه. فماذا عسانا أن نفعل إذا طالب أغلبيَّة سكان السُّودان الأفارقة بطرد العرب من السُّودان! وماذا نحن فاعلون إذا طالبت النساء، وهن أغلبيَّة في السُّودان، أن يكون لهن رأي في تسيير أمور الدولة وتصريف أعبائها! كما أنَّ الكثرة في العلم لا تغني من الأمر شيئاً! فقد كانت كثرة العلماء تنكر كروية الأرض وحركتها، وظهر بعد ذلك أنَّ الكثرة كانت مخطئة، وكانت كثرة العلماء ترى كل ما أثبت العلم الحديث أنَّه غير صحيح، فالكثرة في العلم لا تغني شيئاً. وإذن فليس من سبيل إلى أن نقبل قول الكثرة، وإنَّما السبيل أن نوازن بينه وبين ما تزعم القلة. ومن هذه الموازنة وصلنا إلى نتيجة مفادها أنَّ سبيل التحكيم هو الحقوق المدنيَّة التي ينبغي أن تتوفر لكل فرد بغض الطرف عن معتقده، أو لونه أو عرقه، أو الإقليم الذي أتى منه. إنَّ عبارة "الأقلِّيات" التي يستخدمها الساسة السُّودانيُّون مسيئة وساءت سبيلاً. الأقلِّيات العرقيَّة عادة تطلق على مجتمعات شعبويَّة نزحت من بلاد أخرى واستقرَّت في البلد المعني. فهل الأقلِّيات التي يتحدَّث عنها سادة الحكم في الخرطوم وأهل الأحزاب السياسيَّة من وافدي السُّودان من دول مجاورة؟ أي، بعبارة إخرى، هل النُّوبة والجنوبيون غرباء على هذا الوطن؟ وماهو المقدار الكمِّي الذي يحدِّد نظريَّة إطلاق صفة الأقليَّة العرقيَّة على قطاع عريض من السكَّان؟ وهل هذه الصِّفة تقتصر على التَّواجد المكاني فقط؟ علماً بأنَّ عدداً كبيراً من هؤلاء القوم يقطنون العاصمة وبعض كبرى مدن الشِّمال مما يجعلهم يكوِّنون نصف أو أكثر من نصف السكَّان فيها. ثُمَّ أين هي الإحصاءات التي تجعل معظم سكان السُّودان أقليَّة وأقلَّ سكَّانه أغلبيَّة؟
هكذا ظلَّت الأحوال في الجبال - أي لم تُحق المحقوقيَّة للنُّوبة - حتى جاءت "حكومة الانقاذ" في حزيران (يونيو) العام 1989م. لقد رفعت الحكومة شعار الرُّجوع إلى الينابيع والإعتماد على النَّفس، فلم تفلح في إيجاد حلول جذريَّة لمشاكل السُّودان المستعصية في المجال الإقتصادي ومجال الفكر السياسي والإجتماعي. فكانت المحصَّلة النِّهائيَّة تفشي الأوبئة، وانتشار الجريمة، وتوسيع رقعة الحرب الأهليَّة، وفرض حصار سياسي واقتصادي على السُّودان. لقد بدأ كثيرٌ من الشَّعب السُّوداني يتساءل عن نوعيَّة إسلام هؤلاء الحكام، والشعارات التي ردَّدتها الجماهير في تظاهرات سابقة في الخرطوم - المجوس ولا الأخوان (المسلمين)، والأمريكان ولا الأخوان - تعكس درجة الإحباط والقنوط التي بلغها الشَّعب من جراء تخبُّط النِّظام. لقد تضرَّرت شريحة من الشعب السُّوداني في شمال البلاد، لكن ليس بالكيفيَّة والكميَّة التي تمَّت بهما إبادة قبائل وجماعات بشريَّة بمنطقة جبال النُّوبة. أمَّا المعيار الذي يتَّخذه النِّظام للتَّخلُّص من خصومه الشماليين فهو مبني على معيار سياسي، بيد أنَّ التَّصفيات الجسديَّة بجبال النُّوبة تتمُّ على أسس عنصريَّة وسياسيَّة ودينيَّة وثقافيَّة. لم يفتأ زعماء الجبهة القوميَّة الأسلاميَّة من وصف النُّوبة بالخوارج تارة والمارقين تارة أُخرى حتى صدرت فتوى من مؤتمر العلماء وأئمة المساجد ومشايخ الطرق الصُّوفيَّة بقاعة اللَّجنة الشعبيَّة بمدينة الأبيض بتاريخ 27 نيسان (أبريل) 1993م، وموقِّعاً عليها ستة من العلماء تبيح سفك دماء النُّوبة ومصادرة ممتلكاتهم كأنفال. تلك الفتوى ما هي إلآَّ تبريراً سياسيَّاً وعنصريَّة روحيَّة (Spiritual racism) لما تقوم به المليشيات الحكوميَّة ضد هؤلاء القوم البسطاء: يذبِّحون أطفالهم ويهتكون أعراضهم ويسومونهم سوء العذاب. هذا التطهير العرقي (Ethnic cleansing) والثقافي هو محاولة من حكومة البشير لإخراس الصَّرخة "النُّوباويَّة" التي باتت تنادي بمسائل عديدة وعلى مستوى عظيم من الأهميَّة: كالمشاركة في السلطة المركزيَّة والإقليميَّة، الفصل بين الفعل السِّياسي والإعتقاد الدِّيني، تضييق الفجوة بين تخلُّف التخوم وتنمية المركز، التَّعليم والصَّحة، والاعتراف بالثقافات واللُّغات المحليَّة وتنميتها. إذن لِمَ تُقدِم السلطات على تهجير وتشريد آلاف من المواطنين البؤساء ومانقموا منهم إلاَّ العدل والمساواة؟ إنَّ أكثر المسائل انزعاجاً في الأديان المنظَّمة (Organised religions) - أي دين - هو إيمان معتنقيها أنَّ كل ما يقدمون عليه كنتيجة تفسيرهم لتعليمات هذه الأديان فهو صحيح خلقياً. ومن هذا المنطلق تم، وما زال يتم، تبرير مذابح عديدة وفظائع لا إنسانيَّة باسم الحرب المقدسة خلال عصور التأريخ المختلفة وما زال يستمر لتدمير أرواح الناس حول العالم اليوم. فكل جماعة دينيَّة تسول لهم أنفسهم أنَّهم يحملون مفاتيح الحل والعقد لكل مشاكل السُّودان فإنَّهم جهلاء أغبياء، وبالحرص على جهلهم وغبائهم ينتحرون.
على أي حال، فقد ظلَّ النُّوبة على مر الدُّهور والحقب يستصرخون صنَّاع القرار في الخرطوم، ويلتمسون منهم العدالة الإجتماعيَّة، والإرتقاء بهم إلى أفضل سبل كسب العيش في السُّودان، حتَّى تحوَّل هذا الاستصراخ وذلكم الالتماس إلى عصيان مسلَّح فباؤوا بغضب سلطوي. وبدلاً من أن ينال النُّوبة قسطاً مما طلبوه، وجدوا شطط أهل الحكم في الخرطوم. فمنذ فترة غير طويلة - قبل التوقيع على اتفاق جبال لوقف إطلاق النَّار في كانون الثاني (يناير) 2002م - فر مواطني المنطقة إلى الكهوف واختلطوا مع دوابي (أفاعي) الكراكير لإتِّقاء شر جنود البَّشير؛ فقد أصبحت حياتهم شبيهة بإنسان العصر الحجري. الظُّلم في الجِّبال موغلٌ في القدم واللَّهث وراء العدالة أقدم؛ وما الثَّورات المسلَّحة والعمليَّات العسكريَّة، القديمة والحديثة فيها، إلاَّ شواهد على هذا الضَّيم. لكن مما يتأسى له الفؤاد ما بلغه الوضع في جبال النُّوبة في بداية التسعينيات حين أمست الأرض صرح بالمذلة، شعب يموت وعالم لا ينطق، والجوع ينحت في الصغار والحزن في جفونهم لا يرفق كما تعبر هذه الأبيات للشاعر علي إبراهيم سروجي:
الأرض صرح بالمـذلَّة تفلق شعبٌ يموت وعالم لا ينطق
الجوع ينحت في الصِّغار ويرتقي والحزن بين جفونهم لا يرفق
وبراءة الأطفال في كهف الأسى تلهو وما تدري متى تستمزق
في كوة الآمال طال وقوفهم فمتى على أوجاعـهم تترفَّق
في شرعنا التنديد خير وسيلة والشَّجب فوق شفاهنا يتعملق
لم يكن وضع الجنوب أحسن حالاً من جبال النُّوبة في أمر انتهاكات حقوق الإنسان. فحين دخلت قوات الحكومة السُّودانيَّة مدينة كبويتا بمساعدة من قبيلة التبوسا، سعت حكومة الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة بين أفراد تلك القبيلة بالأسلمة، فبدأت بإجراء عمليات الختان التي تمت في حق عدد كبير من الرجال، الشيوخ منهم والشباب، الأمر الذي اعتبرته القبيلة إساءة بالغة لها وعلى ثقافاتها وعرضها وتقاليدها. كما أنَّ فرص الحياة الزوجيَّة، لما تمَّت في حقهم من عملية الختان، أصبحت معدومة تماماً، حسب عادات القبيلة. وإنَّنا نتساءل ما لهؤلاء القوم مهتمون لهذه الدرجة بالأعضاء التناسليَّة للناس؟ هل رأس الإسلام الختان؟ فبدلاً من أن يقوم أهل النظام بتأهيل المدارس والمستشفيات وتعبيد الطرق والخدمات الأساسية والمرافق العامة والمشاريع التموينية والتنموية وتأهيل الزراعة، شرع أعوان النظام بالانشغال بهوامش الأمور. مهما يكن من الأمر، فقد قادت هذه الممارسة اللانسانيَّة إلى انفضاض قبيلة التبوسا عن مساندة القوات الحكوميَّة، وحكومة الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة، وكان لخروج الأب كينجا جورج، زعيم قبيلة التبوسا ووزير العمل بحكومة الخرطوم، وانضمامه بعد استقالته المسببة إلى الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان، إضافة وبعداً جديداً، ودعا قبيلة التبوسا للانسحاب من مدينة كبويتا وإعلان انضمامها إلى الحركة الشعبيَّة.
إنَّ الانتهاكات الهمجيَّة الشنيعة التي اقترفها نظام الإنقاذ في جبال النُّوبة وضد النُّوبة لا نظير لها عند أي نظام حكم وطني حكم السَّودان، مهما بلغت فظاظته، ومهما كانت جهالته، ومهما بلغ استخفافه بالرحمة والحياء، في أي عصر من عصور الأرض. فعلى الرَّغم مما بلغه النظام في التخوم والخرطوم من إعدامات دون محاكمات والطرد من الخدمة العسكريَّة والمدنيَّة للألاف من المواطنين فقط لأنَّهم من غير حزب الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة، وحظر الأحزاب السياسيَّة والنقابات المهنيَّة، والاعتقالات الاعتسافيَّة دون تهم، والتعذيب الذي بلغ حالة القتل وكذلك الإعاقة الجسديَّة الدائمة، نجد لفيفاً من الكُتَّاب الإسلاميين يكتبون دفاعاً عن هذا النظام أو يلوذون بالصمت عن الجرائم التي يقترفها. ونذكر في الكتاب الأستاذ فهمي هويدي الذي يستميت دفاعاً عن حق الإسلاميين في الديمقراطية في طاجكستان، والجزائر والبوسنة والهرسك، ويتجاهل عن ذبحها واغتصابها في السُّودان لأنَّ المستفيد من الأمر هنا هم الإسلاميون. إنَّ هويدي من الذين يكتالون على الناس بمكيالين، وإذا كالهم أو وزنوهم يخسرون. إنَّ من المعلوم أنَّ لكل مسألة وجهين على الأقل، إن لم يكن لها أكثر من ذلك، وما دام أن هناك طرفين للمسألة - على الأقل - فلكل طرف وجهته التي هو موليها، وبعرض لكلا الوجهتين يقرب صاحب الشأن - هويدي في هذه الحالة - من الموضوعيَّة، وبالتَّالي يكون قريباً من الأمانة، هذا إذا كان عازماً على الإسهام في حل مشكلة أمست متغلغلة في المجتمع السُّوداني. وبما أنَّ الإسلام قد أصبح سوط عذاب عنصري لغير العرب، حتَّى لو كانوا مسلمين قانتين؛ ومن هذا المنطلق يصبح الإحتكام إليه أو إلى ما يسمَّى بشرع اللَّه كالمستجير من الرَّمضاء بالنَّار، ولاتفلح أو تقنع أيَّة أنماط جديدة من الأمر شيئاً كما يزعم البعض أن هناك "محاولة لإرساء فهم جديد ومستنير للإسلام والشَّريعة، يفي بمتطلَّبات العصر، ونزوع أهل السُّودان، مثل غيرهم، نحو العدل والسِّلم والاستقرار، ولا يغمط غير المسلمين حقوقهم". إنَّ العدل أساس الملك، فمن ضيَّع العدل ضيَّع الملك طال الزَّمن أم قصر، فذلك وعدٌ غير مكذوب. لذلك كتب أحد الولاة إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز يطلب منه مالاً يعينه على بناء سور حول عاصمة الولاية، فأجابه عمر: "وماذا تنفع الأسوار؟ حصِّنها بالعدل، ونقِّ طريقها من الظُّلم". فأيِّم واللَّه، أين منه من يحكمون السُّودان اليوم وعلى رأسهم عمر بن البشير. هذا ونعزو قدرة البشير على الصمود في الحكم إلى جهاز استخبارات قوي وتغيُّرات إقليميَّة في منطقة القرن الأفريقي، وليس إلى رؤية سياسيَّة وحصافة وحنكة. فالمستبد لا سياسة له غير القمع والاعتماد على الأجهزة الأمنيَّة كملاذ أخير وأول للحكم والتحكُّم برقاب الناس، والذكي من هؤلاء وأولئك يحتاط للأمر بالطريقة المعروفة القائمة على مراقبة تململ الناس قبل أن يثوروا ويتمرَّدوا.
ثم ندلف إلى مسألة الثقافة في السُّودان. إذن، ما الذي يجعل من لفظة الثَّقافة في السُّودان عبارة تثير كثيراً من المعارك السِّياسيَّة والطَّبقيَّة؟ وكذلك لماذا - عند ذكر الكلمة إيَّاها - تُثار العواطف وتُشمَّر السَّواعد ويلين الدُّماغ بحيث يصبح بعض القوم صرعى بالغباء العاطفي فضلاً عن الذكاء الموضوعي؟ إنَّ العربان في السُّودان الذين يريدون العروبة من باب الوجاهة السِّياسيَّة أو لأسباب هلاميَّة يحسبون أنَّ مكوِّنات الثَّقافة تنحصر في شيئين فقط هما الدِّين واللُّغة. فإذا فرضنا جدلاً بأنَّ ذينك العضوين هما عيني الثَّقافة، فهل كل السُّودانيين عرب ثمَّ مسلمين من قبل ومن بعد؟ بالطَّبع لا. لقد ذهب إيليوت، أحد مفكِّري علم الإجتماع الوعاظ، مقسِّماً الثَّقافة إلى ثلاثة أوجه: ثقافة الفرد، ثقافة الطَّبقة وثقافة جميع أنماط حياة النَّاس. وفي هذه الأخيرة يستخدم علماء الأجناس (Anthropologists) عبارة الثَّقافة لتتضمَّن كل عادات وتقاليد القبيلة من العبادة إلى الأنكحة، طقوسها في الملاطفة والمؤانسة الجنسيَّة، عاداتها في التبوُّل والتبرُّز، محظوراتها، سلوكها في المأكل والمشرب، لغتها، ذوقها الفنِّي، ما يسر أفرادها وما يغضبهم - أي أفراحهم وأتراحهم - وغيرها؛ ومع ذلك لا يمكن فرض الثَّقافة - فرض عين كان أم فرض كفاية - من خارج القبيلة أو المجتمع. لا يضير أحدٌ ولا يضار السُّودان إذا إتَّخذ بعض النَّاس ثقافتهم العربيَّة هذه على أساس أفراد أو حتَّى طبقة فئويَّة؛ أمَّا تثقيف القطر بكامل ترابه وشعبه بثقافةٍ لا يرتضيها جميع أفرادها فهذا ظلمٌ يجب اجتثاثه "والعز عند إباة الضَّيم معبود". وإن كان من الخير لنا أن نعيش دونما فجيعة فعلينا أن نفتق أنفسنا من ظاهرة الاستعراب هذه التي أصبحت تلازم ثلَّةً من السُّودانيين - القدماء والمحدثين - حتَّى عجزوا عن التَّمييز بين ما هو حقيقي سوداني وما هو عربي وهمي.
إنَّ مكمن الخطورة من هذا التَّعالي الثَّقافي يتجسَّد في أمرين كلاهما مر: ففي الرِّيف القاصي يحمل الحقد صحابه إلى تقتيل وإبادة غيرهم بسبب الفارق الثَّقافي والعرقي؛ وفي العاصمة يفتعل ساكني بيوت الزُّجاج المشاكل ضد هؤلاء البؤساء والبسطاء وحجزهم في المعازل (Townships)- أماكن السَّكن التي هي بمثابة الحظائر البشريَّة - وإنَّ من المعازل في جنوب إفريقيا لأحسن حالاً نسبيَّاً لإحتوائها على بعض المرافق العامَّة من مستشفيات ومدارس وموارد مياه الشُّرب. أمَّا في السُّودان فتلجأ السُّلطات إلى توطين ضحايا "الكشَّة" في مخيَّمات في صحاري أم درمان وجبل أولياء. ماهي العدالة الاجتماعيَّة التي تناطح بها أجهزة الإعلام أرباب السماوات والأرض، وفي نفس الوقت يتم تصنيف سكان الدَّولة بين الأقوام الكرام والهوام العوام؟ لماذا يجتهد المسؤولون في إبقاء بعض السكَّان في فقرٍ مدقع بينما يمتلئ البعض الآخر شحماً ولحماً؟ لقد أُهملت كل النِّداءات السلميَّة لأخذ هذه الاعتبارات الثَّقافيَّة والعرقيَّة والدِّينيَّة موضع الاهتمام؛ وعلى النَّقيض تمَّ التَّركيز على الحاكميَّة العربيَّة (Arabistocracy) فحدثت الفتنة التى مازالت مستمرَّة حتى هذه اللَّحظة والآن لا يعون الدَّرس إلاَّ بعد فوات الأوان.
مما سبق يتَّضح أهميَّة إهتمامنا بالموروث الحضاري لأنَّه إحياءٌ للتراث وربطٌ للماضى بالحاضر والمستقبل عبر بانوراما فكريَّة تراثيَّة تروي التَّاريخ وترصد ملامح التَّطوُّر والتَّغيير. لذلك كان لزاماً علينا استخدام كلمة الموروث (Heritage) لما تعنيه من المعاني الوطنيَّة وحتَّى القوميَّة وتبعث من جديد محاميد الماضي. وقد صدق من قال: "إنَّنا ننظر إلى الماضى لكي نستعد للمستقبل". وحين يردِّد أبناء النُّوبة نداءهم أنَّ ثقافتهم وتراثهم في خطر داهم، نجدهم قد توصلوا إلى هذه الحقيقة عن طريقة التجارب القديمة والحديثة. وعليه، قد حدَّد محمود موسى تاور الملامح والأطر الفلسفية لحركة الثقافة في جبال النُّوبة على النحو التَّالي: الأرتباط الثقافي، الارتباط اللغوي، الارتباط الاجتماعي، الارتباط بالأرض، الارتباط التأريخي، وظاهرة التسامح الديني. أمَّا القوميَّة التي يدعو لها النَّظام الحالي، الفعَّال لما يريد، فهي القوميَّة الاختلافيَّة لا المساواتيَّة. فالقوميَّة الأولى، التي تعزف عليها الحكومة عزفاً دؤوباً، تقوم على العاطفة أكثر من العقل. فالأمَّة في تصورهم لا يوحِّدها سوى كراهيتها للآخر ومن هنا تأتي حروب "التَّطهير العرقي" (Ethnic cleansing) وهلك الحرث والنَّسل في جبال النُّوبة وجنوب السُّودان؛ أمَّا القوميَّة المساواتيَّة فمطالبها تنصبُّ في الحقُّ في المشاركة في صنع القرار وفي تقاسم ثمار البلاد. فلقد ضاعف الاستبداد العسكري من الإحتراب الأهلي، ومن ذينك الحرمان الشديد والاضطهاد المريب انحدرت القوميَّة في الأقاليم إلى نزعة أثنيَّة (Ethnic tendency) محضة وذلك للإبقاء على النَّوع ودرء مخاطر الإنقراض. وما بات النِّظام رافضاً للإعتراف لها بصفة الشركاء حتَّى استنهض أجهزته الأمنيَّة - والإعلاميَّة أيضاً - في قمع هذه الأثنيَّات الإقليميَّة (Regional ethnicities) ووأدها لصالح الأقليَّة الحاكمة ورافضاً للحوار مع عناصرها المقوِّمة.
ومن نافلة القول نستطيع أن نخلص إلى أنَّ العقد الاجتماعي الذي مر به شعب النُّوبة في السُّودان يمكن تقسيمه إلى ثلاث مراحل: فالمرحلة الأولى تشمل حقب ما قبل الاستقلال في العام 1956م، والمرحلة الثانية هي تلكم التي تسمى عهد الحكومات الوطنيَّة حتى نهاية نظام الرئيس جعفر نميري في العام 1985م، ثم المرحلة الأخيرة وهي التي تبدأ منذ الانتفاضة الشعبيَّة التي أطاحت بحكومة نميري في العام 1985م حتى تأريخ هذا اليوم. وتتصف المرحلة الأولى- بما فيها فترة المهدية (1881-1898م) - بالحروب والاستغلال وتجارة الرق وانفراط عقد الأمن، كما أنَّ المرحلة الثانية فهي التي كدَّ فيها أبناء النُّوبة كداً سلميَّاً في مناجاة أهل الحكم في الخرطوم في المطالبة بتطوير منطقة جبال النُّوبة وتوفير الخدمات الاجتماعية من تعليم وصحة وتنمية وغيرها دون جدوى. أما المرحلة الأخيرة - حسب تصنيفنا - فقد أخذ النُّوبة الأمور بيدهم بعدما يئسوا من طرق كل السُّبل السلميَّة وحين أيقنوا أنَّ الأمر أمسى مرتبطاً بقضية البقاء أو الفناء، ولا يكاد تغني المساومة من بعدئذٍ شيئاً. وفي الحق، لقي النُّوبة من أجل مطالبتهم بهذه االحقوق الأساسية مشقة شاقة وعسر عسير. وفي هذا البحث تحدَّثنا عن عاملين من عوامل الصراع في السُّودان هما الإسلام السياسي والثقافة، وخلصنا إلى القول أنَّ الطبقة الحاكمة في السُّودان اتخذوا الإسلام وسيلة لا غاية، وسيلة إلى استهواء الناس واستغلالهم، وما نحتاج فيما نقول أن نقيم على ذلك دليلاً، فقد شهدنا من الأمر شره وافرازاته بما في ذلك الحرب الأهليَّة التي راح ضحيتها أناس كُثر. أما القضية الثانية فهي مسألة الثقافة الأحادية (العربيَّة) التي أصبحت تُفرض على غير العرب من سكان هذا الوطن بقوة الإعلام والسلاح والتعليم، مما طفق الآخرون يعيدون النظر في مسائل كثيرة كنظام الحكم، وتقسيم الثروة، والمناهج التربوية، واللغات القوميَّة والهوية السُّودانيَّة وغيرها. وسوف تظل هذه المسائل محاور أسئلة صعبة حتى يجلس السُّودانيُّون مع بعضهم بعضاً في "مؤتمر قومي دستوري" ويتفقون على صيغة مثلى بها يرتضون العيش في قطر واحد بالتي هي أحسن.
تعود أزمات السُّودان الحاليَّة إلى حقب سحيقة، وقد ساهم في هذه المحن النسيج الاجتماعي الذي يتكوَّن منه هذا الشَّعب الفسيفسائي حتَّى بات يشكِّل الموروث السياسي بكل تناقضاته. فمن ذا الذي يتعمَّق في تأريخ السُّودان يجد أنَّه هاجر إليه أجناس من كل حدبٍ ينسلون، واحترفوا المهن والحرف المتعدِّدة حسبما تقتضيه الظروف الطبيعيَّة من مناخ، وماء وكلأ وصحراء وهلم جراً. وكما حدثت هجرة من الخارج إلى الداخل، حدث نزوح داخلي أيضاً. إذ أنَّ حركة التَّنقُّل الداخلي تنشأ من جراء العدوان الخارجي، ومن ثمَّ لا يجد الأهلون وسيلة غير النزوح الداخلي إلى أماكن آمنة، وهذا ما حدث للنُّوبة بعد العدوان على ممالكهم في السُّودان النيلي والوسطي. بيد أنَّ بعض المؤرِّخين يشيرون إلى حركة نزوح معاكس في فترة ما.
وقبيل غزو إسماعيل محمد علي باشا السُّودان في العام 1820م لم يكن هناك احتكاك بين النُّوبة والعالم الخارجي بعد أن تمترسوا في جبالهم واتَّخذوا منها بييوتاً وسكناً. بيد أنَّ ثمة عراك مع القوميات المختلفة المجاورة كانت تنشأ من حين إلى آخر. لكن، وفي الحق، لم تأخذ هذه النزاعات - قبل مجئ العدوان الخارجي الأثيم أو دخول الأديان السماوية الوافدة - منحى دينيَّاً يستدعي تكفير وتهجير الآخر فيما شجر بينهم. وهذا يعود إلى وحدة الاعتقاد الدِّيني والعرقي في المجتمعات الأفريقيَّة. وقد احتار الغرب في طبيعة الحروب الأفريقية لما فيها - في أغلب الأحيان - من رأفة وإنسانيَّة. وعلى الرَّغم من وصفها بالحروب القبليَّة في محاولة من البعض لصبغها بالوحشيَّة، إلاَّ أنَّ الهدف من هذه الحروب هو التغلُّب على، أو تخويف العدو، وتجنُّب قتله بقدر الإمكان. وما ارتداء القناع وإطلاق الصراخ الداوي عندما يحمو الوطيس إلا وسيلة من وسائل ارهاب العدو ليفر بعيداً عن أرض المعركة، وبذلك يتحاشى الموت. وفي بعض الأحايين، وحين ينهزم العدو كلياً ويمسى محصوراً، يقوم المنتصر بغض البصر وفتح ممرات آمنة، حتى يهرب العدو. وفي أحايين أخر يركن الطرفان إلى فترة الاستجمام، حيث يأكلون الطعام، ويتسامرون، ويتبادلون النكات وهم يتفكَّهون ويتندَّرون، حتى تُقرع طبول الحرب مرة أخرى وهم بعدئذٍ يستأنفون القتال. وفي السُّودان حدث ذلك القتال على النَّهج الأفريقي عندما إلتقى جيشي سلطان الفونج ومك (ملك) تقلي، حيث كان يستعر القتال بينهما نهاراً، وفي المساء يخلد كل فريق إلى هدنة ريثما يقبل الصباح. غير أنَّ مك تقلي كان يرسل موائد العشاء حافلة إلى الجيش الغازي كل ليلة، لأنَّهم ضيوفه، ما داموا مقيمين داخل أرضه، وإن أبدوا العداوة والبغضاء. ولما علم سلطان الفونج بحقيقة الأمر، انسحب من ميدان القتال، منهياً الحرب من جانب واحد، أسفاً على ما كان، وخجلاً من مقاتلة قوم على هذا الحظ العظيم من النبل؛ يصدون العدو الغازي في النَّهار، ويكرمون وفادته في اللَّيل، مثل الصندل الذي يعطر الفأس كلَّما أمعنت في تمزيقه وتهشيمه. وقد تبنَّت الحركة الشّعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان هذه الموروث الأفريقي الأصيل إضافة إلى العمل بقوانين جنيف للتعامل مع الأسرى، لذلك تحتفظ الحركة بأسرى حرب طيلة عمر نضالها الطويل. على العكس تماماً نجد حكومات السُّودان تقوم على تعذيب وإعدام أسرى الحركة، فضلاً عن كل من يشتبه فيه أنَّه يتعاطف مع الحركة (الطابور الخامس).
هذه هي تقاليد أفريقيا في الحروب. إذن، كيف تبدَّلت الحال وأخذت الحروب تأخذ طابعاً دموياً تقشعر منه الأبدان ويشيب عنه الولدان؟ هذا التحوُّل الجذري(Radical change) تمَّ بعد الغزو الآسيوي والأوربي إلى أفريقيا باسم الدِّين - أيَّاً ما كان - تارة وباسم الحضارة تارة أخرى. وقد نجمت، عن هذه الحروب الحديثة، إبادة جماعية وقتل للأطفال والنساء والسبي والاغتصاب والنزوح الجماعي بحثاُ عن مأمن ومسكن. وقد شهدنا ذلك إبَّان الغزو التركي-المصري للسُّودان. بيد أنَّ أكبر إفراز نتج عن هذه الحملات التركيَّة-المصريَّة هو تجارة الرِّق، وتفيض كتب التأريخ بحكايات مروعة عن هذه التجارة النحسة.
وقد تجلَّت هذه الفظائع بشئ من المبالغة في جبال النُّوبة، وقد استبسل أبناء النُّوبة من أجل حقوقهم الإنسانية أيما استبسال. باستعراض موجز لتأريخ جبال النُّوبة، كغيرها من الأقاليم المهمَّشة في السُّودان، نجد أنَّه زاخرٌ بالشخوص والوقائع ذات الطابع الأُممي في المقام الأول والوطني في المقام الثاني، ذلك لأنَّ الأُمة التي لا ماضي لها هي أُمَّة بلا جذور ولا إنتماء ولا تطلُّعات نابهة نحو المستقبل. إنَّ غرام النُّوبة بالذود عن أرضهم، والإبقاء علي مكتسباتهم الحضاريَّة، والحفاظ علي هويَّتهم وصيرورتها يعود في الأصل إلي جذور أحفادهم الذين كانوا للوطن مخلصين وعن العرض ذائدين.
وفي هذا الصدد تقول الباحثة اليابانية في تأريخ السُّودان الحديث - الدكتورة يوشيكو كوريتا: "إنَّ النُّوبة كانوا يوقعون عقوبة الجَّلد على كل من يقسم بالمهدي". هذا دليلٌ على رفضهم للسياسة الجديدة التي طالما حاول المهدويُّون فرضها عليهم قسراً. وقد إعترف المهدي "بجمهوريَّة النُّوبة العسكريَّة" كواقع محتوم إلى أن أُرسِل - في وقتٍ لاحقٍ - حمدان أبوعنجة لإخضاعهم بقوة السِّلاح، حيث إشتهرت حملات أبي عنجة بتخريب الدِّيار والإمعان في الدَّمار: إتلاف الزرع والضرع، وتقتيل النُّوبة وتذويقهم ألواناً من العذاب، واقتيادهم كأسرى حرب. تلك هي سياسة الدولة المهديَّة، التي لجأ مؤسسها - الأمام محمد أحمد المهدي - في المبتدأ إلي جبل قدير بجبال النُّوبة لإستمالة قلوب النُّوبة وحثِّهم على الانخراط في جيشه لمحاربة الحكومة التركيَّة-المصريَّة (1821- 1885م)، وإيصاله هو الآخر إلى حياض السلطة في الوقت الذي كان فيه سكان الحضر والشمال البحري - حتى تلك اللَّحظة - في شكٍ مريبٍ من إمكانيَّة نجاح المهدي في تسديد ضربة قاضية للسُّلطة يومئذٍ.
فقد انبنت سياسات أنظمة الحكم في السُّودان - كائناً ما كان - في التعامل مع النُّوبة على أساس أنهم عبيد، حيث لا ينفع معهم غير أسلوب القهر والقسوة. فنجد أنَّ العوامل التي دفعت إلى إيقاد ثورات الجِّهاديَّة - كسلا إبَّان حكم التركيَّة في آذار(مارس) 1865م، الأبيِّض 1885م والنُّهود في يوم 20 تموز (يوليو) 1891م - ترجع إلى الشُّعور السَّائد بين هؤلاء الجُّنود السوُّدانيين السُّود بأنَّ العرب ينظرون إليهم بنظرة احتقار، وإنَّ العصيان، الذي غالباً ما أخذ أشكالاً مختلفة، ما هو إلا وسيلة من وسائل "البحث عن حريَّتهم الإجتماعيَّة والتَّخلُّص من هذه النَّظرة ذات الصِّبغة العنصريَّة واللَّونيَّة. إذ أنَّ النَّظرة إليهم كعبيد ما زالت سائدة." كان معظم هؤلاء الجهاديُّون من الرَّقيق المحررَّين أو ذوي جذور تعود إلي زمان الرِّق، فلم تشفع عنهم أسماؤهم العربيَّة، أو أسماء زعمائهم مثل بشير علي وسرور النُّور وعلي يوسف، من إضطِّهاد رفاقهم في السِّلاح. أمَّا ثورة الجِّهاديَّة التي إشتعلت في الأبيض فقد احتمى زعماؤها بجبال النِّيمانج حيث وقعت معركة داميَّة قتل فيها محمود عبدالقادر قائد جيوش المهديَّة في 20 كانون الأوَّل (ديسمبر) 1885م. أمَّا الإحتراب الذي وقع في النُّهود بين قوات المهديَّة تحت إمرة محمود ود أحمد والثُوَّار الجِّهادويين تحت قيادة جهادوي يدعى عطرون ورتبته رأس ماية لم تقل ضراوة وشراسة عن أحداث الأبيِّض. وقد رُوِي أنَّ كان أكثر الفرق حماسة في قتال النُّهود فرقتي البرنجيَّة والملازميَّة.
يسرد بعض مؤرِّخي السُّودان الوقائع التَّاريخيَّة في هذا البلد على هوى النَّفس، ودون الاختيار الأمثل للمفردات، وذلك لحاجة في نفس يعقوب؛ وعندما ذكر الأستاذ المؤرِّخ عوض عبدالهادي العطا بأنَّه كان لدي حمدان أبي عنجة مفهومه "عن سكان الجِّبال بأنَّهم ذوي مفاسد ونفاق ينبغي مراقبتهم بدقَّة وخاصة عند اختلاط العربان بهم" لم يراع ما تحمله كلماته هذه من الهجاء المقذع. إنَّ هذا المفهوم المتَّسم بشئ من الكبرياء هو الذي أوغر صدر أبي عنجة ضد النُّوبة فقاتلهم، وفضَّل استرقاقهم على حريَّتهم، وهلك حرثهم ونسلهم: وإنَّ ثمة دماً يسيل أينما ولَّى أبوعنجة وجهه. إنَّ إطلاق الألفاظ النَّابية على القوم، سواء جاء ذلك من الأستاذ الكاتب أو من توهُّم أبي عنجة المحارب، دون الإشارة إلي هذه المفاسد أو أوجه النِّفاق يعطي الإنطباع بأنَّ القوم جربي والإبتعاد عنهم وعدم الإختلاط بهم وقاية علاجيَّة. وقد قسَّم عوضنا هذا المعارضة الجَّبليَّة وقتذاك إلي ثلاثة: معارضين من غير النُّوبة وهم الجِّهاديَّة وهم ذوو بأسٍ ومراسٍ شديد ولهم كفاءة عسكريَّة عاليَّة؛ النُّوبة وقد سبق الإشارة إليهم؛ ثمَّ المجموعات العربيَّة المتغلغلة في أوساط النُّوبة.
إنَّ الأسلوب القهري العسفي في الحكم وطريقة تطبيقه على الأهالي دون مراعاة لأحوالهم الإقتصاديَّة وعاداتهم وتقاليدهم قد دفع النُّوبة إلى الإستدراك بأنَّ جميع سلاطين الخرطوم - الأتراك منهم أوخلفاء أم درمان المهدويين - من طينة سياسيَّة واحدة؛ والأمر، في الأساس، لايعدو أن يكون تغيير في السَّادة. فلا غرابة من ظهور حركات - حركة مزيل الضَّلال أو المحن - أو إشاعات تنادي بإزالة الفساد ورفع الظُّلم عن النَّاس. تلك هي حالة الجِّبال في عهد المهديَّة.
الإنسان، بالطبع، مدني ولا بد له أن يعيش مع الآخرين ويتعاطى معهم شؤون الحياة اليوميَّة حتى تتحقَّق مصالحه وتنتظم أموره. وكنتيجة حتمية لذلك كذلك يظهر الخلاف والنزاع بين أفراد المجتمع، مما يستتبع بالضرورة قيام السُّلطة للفصل بين المتنازعين والحكم بين المختصمين بالقسط. إذن، فالسُّلطة السياسيَّة ضرورة أملتها ظروف المعاش والميعاد، بل لا بد منها من أجل قيام المجتمع البشري واستمراره، ومن أجل الحفاظ على الأمن والاستقرار، الأمر الذي يفضي بالضرورة إلى تحقيق الازدهار الاقتصادي والنمو العمراني والتطوُّر الحضاري. فالناس لا بد لهم من سلطة تعرِّفهم بمصالحهم الدنيويَّة وتكبح جماحهم الديني وذلك للحد من الغلو. لكن السؤال الذي يتردد دائماً إلى الأدمغة هو كيف يمكن أن يتعايش أناس ذوي اعتقادات روحيَّة متباينة وأهداف سياسيَّة مختلفة مع بعضهم البعض وفي سلام ووئام؟ وإذا أخذنا منطقة جبال النُّوبة نموذجاً نرى أنَّ تأريخ الصراع الدموي فيها مرَّ بمراحل مختلفة تشتد وتضعف حسب أسباب الصراع وأسلوب السُّلطة المركزيَّة في الخرطوم في التعامل مع المشكل. فقد فشل الأتراك في التوغُّل إلى جبال النُّوبة وإخضاع مملكة تقلي، على الرغم من نجاحهم في الحصول على أعداد ضخمة من العبيد النُّوبة وذلك باستعانتهم بالتجار السُّودانيين الشماليين الذين كانوا يقومون بأعباء "الغزوات" وبيع المعروضات في أسواق الأبيض، حتى كوَّنوا نفوذ سياسي لا يستهان به في المدينة وبدأوا يعزلون الولاة وينصبونهم كيفما يحلوا لهم.
أما في الحقبة البريطانية-المصريَّة (1898-1956م) فقد حاول الاستعمار فرض السُّلطة بالقوة في جميع أرجاء القطر. ونتيجة لهذه السياسة استمرَّت المواجهات الفرديَّة والقبليَّة بين النُّوبة والسلطة البريطانيَّة-المصريَّة في المنطقة آخذة في الإزدياد. وما ظهور الشريف محمد الأمين في تقلي في العام 1903م والتأييد الشعبي الذي حُظِيت به حركته إلاَّ واحداً من عدة إنتفاضات مسلَّحة بالجبال. لقد وجد الأمين دعماً من أهالي المنطقة والقرى المجاورة مما حدا به إلى إعتقال القاضي بمساعدة مك تقلي - آدم جيلى. إنَّ إلقاء القبض على الأمين وشنقه في ميدانٍ عام بالأبيِّض لم يطفئ نار الثَّورة التي باتت مؤجَّجة في الجبال. يقول البروفسير مارتن دالي مستطرداً: "في العام 1904م تمَّ إرسال دوريَّة عسكريَّة لتركيع النُّوبة بجبل شات وجبل الدَّاير لامتناعهم أن يعطوا الجِّزية عن يد وهم صاغرون، وكذلك لمنعهم من القيام باعتداءات على القبائل المجاورة". أمَّا الدَّوريَّة التي قادها حاكم كردفان شخصيَّاً إلى جبل مندل فقد مُنِيت بهزيمة ساحقة، ونصر معنوي للنُّوبة. ونجد كذلك أنَّ الحملة التي أُرسِلت لإلقاء القبض على مك كِترا فضَّلت الإنسحاب وسط شائعات تُنذِر بتحالف وشيك بين قبيلتين "نوباويَّتين" أو أكثر ضد الحكومة.
أمَّا حادث تلودي في 25 أيار (مايو) 1906م فكانت في أصلها - مهما خُفِيت دوافعها الفعليَّة - مؤامرة من قبل العرب المستوطنين في المنطقة، الذين ثاروا ضد السلطات المحليَّة عندما منعتهم الأخيرة عن مزاولة الإتجار بالرقيق من أبناء النُّوبة واستعبادهم. ففي هذه الأحداث طعن الشيخ عطيَّة صقر مأمور تلودي من خلاف حتى الموت، وكذلك لقي عددٌ من موظفي الحكومة حتفهم في هذه الوليمة القاتلة التي دُعِي إليها أعيان المدينة أُسوةً بالمأدُبة التي أقامها المك نمر - مك الجعليين - لإسماعيل باشا وإغتياله حرقاً في شندي في تشرين الأول (أكتوبر) 1822م. قامت الحكومة بحملتها العسكريَّة ضد العرب في مدينة تلودي يومي 17 - 18 حزيران (يونيو) 1906م وتمَّ تشريدهم من المنطقة.
مهما يكن من أمر، فقد ظهرت ثورات شتى في جبال النُّوبة للتعبير عن رفض أهالي النُّوبة السيطرة والقيود الاستعماريَّة ودفع الضرائب الخاصة التي كانت تُفرض على قبائل النُّوبة (ضريبة الدقنيَّة - Poll Tax)؛ تلك الضريبة التي كان يدفعها الشخص عن نفسه اعتبرها النُّوبة مذلِّة ومهينة لكرامة الإنسان النوباوي. ومن جانب آخر، كانت الذاكرة الشعبيَّة تختزن من المواقف السلبيَّة والتجارب المريرة ذات الصلة بتجارة الرق كثير إبَّان الحكم التركي-المصري؛ الشئ الذي غرس الشك - لأنَّ الشك مصدر اليقين لا غير - في نفوس النُّوبة وعزَّز المقاومة الشَّعبيَّة لأي شكل من أشكال التسلُّط الأجنبي. فكانت هناك أكثر من أثنتين وعشرين ثورة مسلحة ضد الوجود البريطاني-المصري في المنطقة من أجل تحرير الإرادة الوطنيَّة من الاستغلال الأجنبي، وقد صمت عنها - بضمير مستريح - سجل التأريخ الوطني في السُّودان وتقاعس أي تقاعس. ومن أبرز هذه الثَّورات حركة الفكي على الميراوي ضد سلطات الحكم الثنائي في العام 1915م، الذي استخدم أسلوب الكر والفر في منازلة السُّلطات، حتى تم تسليم نفسه بعد اتفاق تمَّ بينه وبين النظام. ثار الفكي علي ود ود المي المعروف بالفكي علي الميراوي - نسبة إلي قبيلة ميري - على النظام في العام 1915م، وقد عاونه في ذلك الشيخ محمد الفقير الجابوري - ناظر المسيرية أولاد سالم - الذي كان يلعب دور تاجر البندقيَّة، حيث استطاع الفكي علي أن يشتري منه بعض الأسلحة الناريَّة. وقف المسيريَّة الزُرُق في صف النُّوبة، وعندما علم العرب - حلفاء الحكومة في أيَّة عمليَّة عسكريَّة ضد النُّوبة - أنَّ المسيريَّة في خندقٍ واحدٍ مع الفكي علي رفضوا التَّعاون مع السلطة هذه المرَّة لئلا تتعرَّض حياة إخوانهم المسيريَّة للخطر. قرَّر الفكي علي السَّفر إلي الخرطوم لوضع مشكلته أمام الحاكم العام، لكن أُعتُرِض سبيله، وقُبِض عليه في كردفان، وتمَّ إرجاعه إلي مدينة تلودي - عاصمة الجبال وقتذاك - وحُكِم عليه بالإعدام. فعلى الرغم من الحراسة المشدَّدة عليه بينما هو في الطَّريق إلى مدينة كادقلي لتنفيذ حكم الإعدام فيها، استطاع الفكي علي أن يهرب في ليلةٍ ليلاء في شهر آب (أغسطس) 1915م. وبمساعدة شابو الإعرابي تمكَّن في العودة إلى جبال ميري وواصل النِّضال.
ومهما يكن من أمر الفكي علي، فقد لعبت الظروف المحليَّة والعالميَّة دوراً فعَّالاً في صالحه. كما ساهمت جغرافية وتأريخ جبال النُّوبة في انجاح ثورته. نذكر منها - على سبيل المثال لا الحصر - طبيعة الجبال الصَّعبة بما فيها من الأمطار الغزيرة والبعوض، وانشغال الحكومة بالتجهيز لمحاربة السلطان علي دينار - سلطان الفور - الذي أعلن ثورته هو الآخر، واستمرار الحرب العالميَّة الأولى (1914- 1918م). فشلت محاولة محافظ الجبال الأولى عندما بعث الشيخ محمد شعيب - أحد تجار تلودي - كوسيطٍ بينه وبين الفكي علي لحل النِّزاع سلميَّاً. وتحت اصرار المحافظ على منح الفكي علي أحد الخيارين لا ثالث لهما وصلت المفاوضات إلي طريقٍ مسدودٍ. كان يرى المحافظ أنَّ الفكي علي عليه فقط اختيار الكيفيَّة التي سوف يتمُّ بها إعدامه: شنقاً أم رمياً بالرصاص؟ حيث كان يعتقد العرب والنُّوبة حينئذٍ أنَّ القتل شنقاً وصمة عار في جبين المقتول. ففي تشرين الأول (أكتوبر) 1915م تدخَّل الحاكم العام، وطلب من محافظ الجبال تقديم تنازلات يقوم الفكي علي بموجبها تسليم نفسه. وبالفعل نجحت وساطة الشيخ شعيب هذه الكرَّة وسلَّم الفكي علي نفسه وأُرسِل إلى الخرطوم حيث تمَّ الحكم عليه بالإعدام بواسطة محكمة مدنيَّة، لكن عُدِّل الحكم بواسطة الحاكم العام إلى السجن المؤبَّد مع المعاملة الخاصة. عندما عاد الفكي علي إلي مدينة كادقلي في العام 1926م تقريباً أُعتُبِر شخصاً خطيراً على الأمن وصدرت تعليمات بنقله إلى مدينة الدَّلنج، التي عاش فيها كمعتقل سياسي حتَّى وافته المنيَّة في العام 1936م، بعد21 عاماً من معارضة النِّظام وعن عمرٍ ناهز السبعين سنة.
كذلك قامت في جبال النُّوبة ثورة لم تقل ضراوة وعنفاً من حركة الفكي علي الميراوي. ذلكم هو عصيان السلطان عجبنا بن أروجا بن سبأ، السلطان الثالث عشر لمنطقة الأما "النيمانج"، بالقرب من مدينة الدَّلنج، والتي تبعد 98 ميلاً جنوبي مدينة الأبيِّض. ومثلما أطلقت مهيرة بنت عبود في منطقة الجعليين في شمال السُّودان زغرودة مجلجلة ألهبت بها حماس الرِّجال واستثارت في نفوسهم الحمية والإقدام للقتال والتصدِّي للغزو التركي-المصري الغاشم، ناضلت ونافحت مندي ابنة السلطان عجبنا أي النضال، وتركت بصمات واضحة في حياة النَّاس في جبال النُّوبة، وقد تم تخليد ذكرها بمارش عسكري ما زال تعزفه فرقة سلاح الموسيقى بالجيش السُّوداني. أما والده، السلطان عجبنا، فقد أبلى بلاء حسناً والعدو في أمره احتار. إذ انتهت أحداث الدَّورية رقم 32 باعتقال السُّلطان عجبنا وكلكون في 28 شباط (فبراير) 1918م وإعدامهما. وقد قال عنه محمود دليل أنَّه "جاهد المستعمرين جهاداً كبيراً، ووجدوا فيه غلظة حتَّى أنَّهم استأسدوا عليه بقوات من سواري شندي وبعض الوحدات المتمركزة في الخرطوم والخرطوم بحري وخور شمبات، وأُسِر وجئ به لإعدامه شنقاً في ساحة بالسوق. وبينما كان السُّلطان عجبنا يساق إلى الموت والنَّاس ينظرون قال لهم قولته الشَّهيرة: "أي واحد ما شاف السُّلطان عجبنا يجي يشوفه اللَّيلة ويشوف الرجال تموت كيف!" ووصفه الدكتور حامد البشير إبراهيم أنَّه كان "قائداً نوبيَّاً جسوراً، فعندما حكم عليه بالإعدام في العام 1919م سأله الحاكم العسكري ماهي آخر أمنية لك قبل الموت؟ فردَّ قائلاًً: لماذا تقتلني بحبل ككلب مسعور. أنا رجل ولذلك يجب أن تقتلني بالرصاص." رحم اللَّه السُّلطان عجبنا وصحبه من أجلنا ارتادوا المنون. إمعاناً في سياسة "فرق تسد"، فقد استغلَّت سلطات الحكم الثنائي العرب الحوازمة وسمَّوهم "الأصدقاء أو النبلاء" في حملتها على السُّلطان عجبنا ومساعده - الكجور كلكون. واقتصر دور الحوازمة على اعتراض سبيل النُّوبة، ومنعهم من الهروب من الحصار المطبق عليهم، واعتقالهم بقوة السِّلاح. إلاَّ أنَّ الحوازمة أظهروا قساوة لم يسبق لها مثيل. فلم يراعوا عامل الجنس أو العمر، ولم يوقِّر بعضهم بعضاً وخاصة عندما يصبح الأمر متعلِّقاً بالغنائم؛ كانوا غلاظاً فظاظاً. وقد رُوِي أنَّ أحداً بقر بطن أخيه وأرداه قتيلاً في شجار على جلد ماعز اُستخرج من كهف هجره النُّوبة.
تعتبر حركة السلطان عجبنا أخطر حركة مسلَّحة واجهت الحكومة البريطانيَّة في الجبال. حيث أنَّ القوة العسكريَّة والإمداد الحربي اللذان أُعُدا لغزو المنطقة تعكس جسارة الرَّجل وتماسك أتباعه، مما اضطرَّت السلطات إلى تجنُّب المواجهة المباشرة والإذعان إلى سياسة الحصار. أوفدت الحكومة قوة ضاربة قوامها ثلاث سريَّات بقيادة الرائد فانديلو والرائد جراهام والرائد ورثنجتون ويلمير إلى جبال النيمانج. إنتهى نضال السلطان عجبنا باعتقاله وكذلك كَلَوكَون - أحد أقطاب المقاومة - في يوم 27 كانون الأوَّل (ديسمبر) 1917م بواسطة العرب الحوازمة الموالين للحكومة الاستعمارية وقتذاك وسدنة كل نظامٍ حاكم بعد الاستقلال. بإعدام الزعيمين، استسلم الكثير من أهالي النيمانج كنتيجة حتمية بعد قتل قادتهم، واختار البعض الآخر الموت عطشاً - بعدما منعتهم الحكومة من ايراد الماء - لتحاشي إهانة الاستسلام.
دفاعاً عن موروثهم التقليدي، نجد أنَّ سكان قبيلة جُلُد تمادوا في توقيع العقوبة البدنيَّة على أُناسٍ يسمُّونهم "منزِّلي المطر" (Rainmakers)، أو الذين يؤمنون بأنَّ لديهم المقدرة على إنزال الغيث. وعندما منعتهم السلطات البريطانيَّة عن ممارسة هذه العادة، التي اُعتبرت جريمة بفعل القانون الجنائي، ثارت ثائرة القوم ووقفوا وقفة رجل واحد ضد هذا التدخُّل، الذي أعتبروه سافراً في شؤونهم الاجتماعيَّة والثقافيَّة. فأوَّل ما قاموا به هو اغتيال مك القبيلة، الذي صنَّفوه عميلاً سلطوياً من قبل النظام، ومن ثَمَّ شمَّروا سواعدهم لمنازلة الحكومة. وفي تضامن منقطع النَّظير، برزت قبيلة تِيمِين كساعد أيمن لمؤازرة مواطني جُلُد. لكن جبروت الحكومة وتفوقها في السلاح والعتاد أوقع هزيمة ساحقة بساكني المنطقتين، وذلك في يوم 7 آذار (مارس) 1926م. كذلك نجد أنَّ النِّزاع الذي نشب في جبال تُلُشِي في العام 1939م، بعدما سبقته تحرُّشات متقطِّعة بين مواطني تُلُشِي والحكومة، كان ينذر بحدوث صدام وشيك بين الفريقين. لم تغب تحرُّكات الحكومة العدوانيَّة على أحد بتُلُشِي، وفي يوم 16 كانون الثَّاني (يناير) 1945م سجَّل التأريخ تدمير آخر منزل بجبال تُلُشِي.
هكذا استمر العصيان والغليان في ظل الاستعمار البريطاني-المصري، فلم تهدأ الأحوال فيها حتى في نهاية الحرب العالميَّة الثَّانيَّة، أي العام 1945م. ومن ثَمَّ فضَّل الحكام الاستعماريون "الحكم اللامركزي" (Indirect rule) في الجِّبال لأنَّ ذلك من أقلَّ أنواع الحكم إنفاقاً على المنطقة، لكنَّهم سرعان ما تبنوا سياسة غير تلك. فماذا فعلوا؟ لقد اقدمت السلطات الاستعماريَّة على:
إلغاء مديريَّة جبال النُّوبة تنكيلاً بالنُّوبة بسبب الانتفاضات العديدة التي أشعلوها ناراً ضد السلطات يومئذ، وضم مناطق جبال النُّوبة إلى مديريَّة كردفان. فهذه واحدة من المشاكل التأريخيَّة التي شكلت لدي الطبقة المثقفة من أبناء النُّوبة في الستينيات مطلباً سياسيَّاً.
افتقار المنطقة إلى التنمية والطرق والتعليم والصحة، وكل هذه الأسباب خلقت نوعاً من التخلف الاجتماعي مقارنة مع بعض المناطق الأخرى.
عدم وجود فرص كافية لأبناء جبال النُّوبة في المؤسسات الدستوريَّة.
كان هذا هو الحال في جبال النُّوبة أيام الاستعمار البريطاني-المصري من جانب الأمن والسلطة العسكرية دون احصاء أو استقصاء الجوانب الاقتصادية والتعليميَّة، لأنَّ هذه الأخيرة لم تنل مجهوداً كبيراً ولم يخطر لهم على بال أمر إيلاء هذه المسائل إهتمام إلاَّ في حالات ضعيفة مما تخدم أغراضهم الاستعماريَّة في بسط الأمن والإدارة وجباية الضرائب.
ومهما كان من شأن هذا كله، فقد استطاع الاستعمار البريطاني-المصري فرض "العقد الاجتماعي" بقوة السِّلاح الناري والحنكة السياسيَّة. وقد تمثَّل هذا "العقد الاجتماعي" - كما عرَّفه هوبيز ولوك وروسو - بأنَّه العقد الذي يجعل الأفراد يوافقوا على التخلي عن بعض سلطاتهم الخاصة إلى الحكومة المركزيَّة لتقوم هي بمهام حفظ النظام ورعاية الصالح العام. غير أن هذا العقد الاجتماعي قد مزِّق شر ممزق في جزء من هذا الوطن العريض. حدث هذا عشيَّة الاستقلال أي الاستقلال الذي ولد ميتاً وملطخاً بدماء المواطنين السُّودانيين في جنوب الوادي. وحال السُّودان عشيَّة الاستقلال كمثل الهند والعنف الطائفي الذي صاحب ذلك الاستقلال من الإمبراطوريَّة البريطانيَّة في آب (أغسطس) 1947م وانشطار شبه القارة الهنديَّة إلى الهند وباكستان. وقد وصف الشاعر الباكستاني فائز أحمد فائز (1911-1984م) هذا الاستقلال في قصيدته "فجر الحريَّة" (The Morning Freedom):
هذا الضوء الملطَّخ ... هذا الفجرالذي أُكِل ليله
لم يكن هذا هو الفجر الذي كنا نبتغيه
ثمًّ يمضي في قصيدته ناشداً:
لم يأت بعد زمن تحرير القلب والعقل
استمر في رحلتك الشَّاقة
استمر... مازال الهدف بعيداً جداً
هذا هو حال أهل الجنوب مع تفجر العنف الدموي الذي صاحب الاستقلال، وتحذيرات أولي الألباب لأولي الأمر بأن اليوم هو سبيل أهل الجنوب وغداً أمر أهل النُّوبة والفونج والبجة ودارفور، فلم يزدهم نذير أولئك وهؤلاء إلاَّ مكراً واستكباراً. فبرحيل المستعمر لم يتبدَّل شئ يوحي بتحقيق مصلحة الأمة، فقد كانت - وما زالت - السُّلطة السياسيَّة في السُّودان لا تعني شيئاً عند العامة في التخوم النائيَّة سوى فرض عوامل السيادة بالقوة والرسوخ، بل استخدام القهر والغلبة في رد طلبات سياسيَّة في حق الشعوب. استمر عهد "العقد الاجتماعي" هذا - رغم هشاشته - حتى خلال حكومات ما بعد الاستقلال، ولكن بانحدار شديد نحو الهاوية، وذلك حين توثب الطغام على الهوام، وتحاربت الأراء المتناقضة، وتفرَّقت الارادات المتناقضة، حتى اتسع الخرق على الراقع إن كان هناك راقع في قطر اسمه السُّودان. ففي يوم 13 آب (أغسطس) 1958 م دعا نواب قبائل البجة في الجمعيَّة التأسيسَّة رئيس الوزراء عبدالله خليل ووزرائه إلى بورتسودان في اجتماع مهيب يضم شيوخهم وممثليهم البرلمانيين وشخصيات قيادية وسلموهم طلباً يشتمل على إثنتي عشر مطلباً. وكان إحدى المطالب هي أن يتم تشكيل حكومة في السُّودان يكون للبجة فيها الحق في تسيير شؤونهم المحليَّة على الطريقة التي يختارونها. وبعد عودة الوزراء إلى الخرطوم وجدوا مطلباً مثيلاً في انتظارهم في الخرطوم. جاء هذا الأخير من وفود قبائل مديريتي دارفور وكردفان الذين اجتمعوا في مدينة الأبيض، وقد وقَّع على هذه العريضة ممثلي هذه المناطق في الجمعيَّة التأسيسيَّة. إلاَّ أن هذه المذكرات لم تجد أذناً صاغية. ففي أواسط الستينيات من القرن الماضي حدث تململ بمنطة هيبان وعبري بجبال النُّوبة، وسط أبناء النُّوبة تحديداً، وحدث عنف وهجوم استهدف مؤسسات الدولة هناك، وأُضرمت حرائق، وعُقِدت محاكمات وصُدِرت أحكام قاسية ضد عديدين. كادت أن تحدث أحداث مماثلة في مدينة الدلنج عندما تحرك أهالي النيمانج صوب المدينة للتعبير عن الظلم الكظيم سنيناً عدداً. وبعد مفاوضات مضنية انقشعت العاصفة التي كادت أن تؤدِّي إلى إراقة دماء. كان النُّوبة يطالبون بإزالة ضريبة الدقنيَّة وضريبة الهوى. والأولى تعني فرض فدية سنوية على الشخص يدفعها عن نفسه، وهذه الضريبة مفروضة منذ عهد الاستعمار، وكنا نتوقَّع من أول حكومة وطنيَّة إلغائها بإعتبارها ضريبة استعمارية تميِّز بين المواطنين في القطر الواحد، لأنها مقصورة على أهالي غرب السُّودان دون غيرهم من أهل السُّودان قاطبة، وحين لم يتم إلغائها سبب الغبن في نفوس أبناء النُّوبة. ولذلك كذلك يذهب الحديث عن "بدل رقيق"، وهو علاوة شهرية كانت تدفع لموظَّفي الخدمة المدنيَّة حتى لغتها حكومة مايو في السبعينيات من القرن الماضي. وجلنا يعلم من هم المقصودين بالرقيق في هذه العلاوة التي فرضها نظام الاستعمار لتعويض رجال الخدمة المدنيَّة عن الأعمال التي كان يقوم بها "خدم المنازل"، الذين هم في الغالب المشاع من أبناء النُّوبة. وفي بعض الحالات الناَّدرة جداً - كما شهدنا، وقبل اشتعال الحرب الأهليَّة في جبال النُّوبة - حاول نظام نميري إيجاد تمثيل سياسي للنُّوبة في حكومته، فلم يلق وجود نوباوي واحد في الحكومة المركزيَّة رضا بعض أحزاب الشمال، حيث أمسى تعيين السيد محمود حسيب في وزارة حكومة جعفر نميري في أوائل عهد النظام مثار احتجاج من بعض أحزاب الشمال، التي ما برحت تنادي بانصاف القوميات المختلة حتى ظننا أنهم يعنوا مايقولون.
ولعل أبخس ردود الأفعال، التي شهدناها، حين يهب أهل المناطق المهمَّشة مطالبين بحقوقهم المسلوبة فيُوصفون - من قبل أهل السُّلطة في الخرطوم - بالانفصاليين والعنصريين. فليس صحيحاً أنَّ اتِّحاد عام جبال النُّوبة - في وقتٍ مضى أو حاليَّاً - ابتغى سبيلاً لطرد العرب من السُّودان كما يُشاع إفكاً وبهتاناً. فقد صُدر أحد الكتب في التسعينيات من القرن الماضي، حيث يشير فيه المؤلفان أنَّ "(الأب) فيليب عبَّاس غبُّوش (كان) مؤمناً إيماناً قاطعاً أنَّ العرب يجب أن يذهبوا ... وبالتَّالي شرع في مخطَّط لاحتلال الخرطوم، وربُّما الاستيلاء على الحكم". عند الإمعان والتفكير في عبارة "احتلال الخرطوم" قد يترك انطباعاً أنَّ المؤلِّفين يتحدَّثان عن "حملة كتشنر" لا عن الأب فيليب غبُّوش وغيره من النُّوبة الذين كانوا يومئذٍ في الخرطوم قبل انقضاض الانقلابيين المايويين على السُّلطة، حتى ولو فرضنا أنَّهم كانوا خارج العاصمة فلا يصح وصفهم بهذا الأسلوب الذي دائماً يُستخدَم للعدوان الخارجي الغشيم. ومهما يكن من أمر، فإنَّ مشاركة النُّوبة المحدودة في حركة تحرير جنوب السُّودان (حركة الأنيانيا الأولى) لم تجلب لأهل جبال النُّوبة حقوق سياسيَّة وخدمات اجتماعيّة أساسيَّة. وقد كشف المؤلِّفان عن هذا الوجود النُّوباوي في صفوف حركة اللِّواء جوزيف لاقو حينما أوردا أنَّه "عند إبرام اتِّفاقيَّة أديس أبابا كان لدي (الأب) فيليب غبُّوش أربعة من أبناء النُّوبة يعملون تحت لواء قوات التَّمرُّد بقيادة اللِّواء جوزيف لاقو، وكان أشهرهم المدعو عبدالمسيح الفضل ترنال". غير أنَّ الكاتبين العسكريين لم يكونا في جانب الحقيقة عندما ادَّعا أنَّ تنظيم غبُّوش خطَّط في أحداث مطار جوبا في شباط (فبراير) 1977م لفصل الجنوب وضمَّه ليوغندا. وقد استفسرنا مراراً كيف يُعقل أن يقتطع أبناء النُّوبة جزءاً من القطر بعيداً عن منطقتهم التقليديَّة لكيما يهبوه لدولةٍ أخرى؟ إنَّ هذا لأمرٍ مريج. ولم نندهش حينما أدركنا أنَّ المؤلِّفين ما زالا يستخدمان التَّحليل الاستخباراتي الذي هو سمة كل نظام في الخرطوم للتَّشهير بأبناء النُّوبة واعتبارهم "أناس غير وطنيين"، وإلاَّ ماذا يعني هذا الإفك المبين؟
عند بزوغ فجر الاستقلال في السُّودان في كانون الثَّاني (يناير) 1956م، كما أسلفنا قولاً، لم ينل إقليم جبال النُّوبة نصيباً مفروضاً من الخدمات التَّنموية والتَّعليميَّة والصَّحيَّة وغيرها كما حدث - وما زال يحدث - في الخرطوم والجَّزيرة. وإذا كانت الحكومات المتعاقبة تدَّعي أنَّ جنوب السُّودان أُهمِل تنمويَّاً لإنعدام الأمن فيه طيلة سنوات الحرب الأهليَّة الأُولى (1955- 1972م)، فبم يبرِّر هؤلاء الحكام المتعاقبون تهميش منطقة جبال النُّوبة التي كانت آمنة حتى وقت قريب؟ استمرَّ الظُّلم يلتهم أكباد النَّوبة طيلة فترة الأنظمة التي سمَّت نفسها وطنيَّة - مدنيَّة كانت أم عسكريَّة - حتَّى جاء نظام الرئيس السَّابق جعفر محمَّد نميري في العام 1969م، وقد وصلت الأُمور حدَّاً يستحيل معها الصَّمت. فمثلاً حينما أُنشأت مشاريع الزراعة الآلية في هبيلا وكرتالا جئ بملاك الأراضي من شمال كرفان والخرطوم والجَّزيرة لإحتكارها، واستخدام النُّوبة كأيدي عاملة رخيصة فقط، بل صُودرت أراضيهم لصالح المشاريع، ممَّا أدَّى إلى تململ سكان المنطقة المحليِّين. وعندما فتكت المجاعة بالمواطنين في العام 1984م كان كل المحصول قد تمَّ تصديره إلى خارج الإقليم أو خارج السُّودان، بدلاً من تحقيق الإكتفاء الذَّاتي، وأخيراً استغاث النُّوبة بعيش الأمريكان، الذي بات يعرف في الأدب الشَّعبي السُّوداني بعيش ريجان - نسبة للرئيس الأمريكي السَّابق رونالد ريجان. وبعد انهيار نظام نميري نشب النِّزاع المسلَّح في المنطقة كنتيجة حتميَّة للظلم المتوارث، والنَّظرة الإستعلائيَّة لدي الشِّمال الحاكم. هذا هو حال النُّوبة الذين هم فيهم يمترون، وقد بلغ بهم الأمر مبلغاً بات مستحيلاً كظم الغيظ وكتم الحزن واستبقاء الدموع، لأنَّ الذي بهم قد تفاقم واعتلى ونما وزاد وأورثهم المرض، كقول الشاعر:
حتام نكتم حزننا حـــتاما وعلام نستبقي الدموع علاما
إنَّ الذي بي قد تفاقم واعتلى ونما وزاد وأورث الإسـقاما
ففي منتصف الثمانينيات من القرن الماضي أخذ النُّوبة الأمور بيدهم وخاصة حينما تيقَّنوا أن "العقد الاجتماعي" الذي في يد السلطة المركزيَّة أُسئ استخدامها وانفرط عقد الأمن. وكذلك انفك "العقد الاجتماعي" الذي كان يربط بين القبائل العربيَّة المستوطنة في المنطقة منذ القرن السَّابع عشر وقبائل النُّوبة التي استضافت وأكرمت مثوى جاحفل الوافدين إلى هذا الإقليم. وفي أعقاب الانتفاضة الشعبيَّة تنادى أحزاب الشمال الإسلاموعربيَّة مصبحين بتمليش (تكوين وتسليح) القبائل العربيَّة في المنطقة حتى برزت أسماء مثل: الجنيد، على حمدان كير، الهادي بشرى وغيرهم على رأس "قوات المراحيل" - أي قوات العرب السيارة. وعندما اشتدت الهجمات والأعمال العدائيَّة ضد النُّوبة، فضَّلوا أن يذهبوا للحركة الشَّعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان يستنجدون بها لعلهم يأتوا منها بنار لرد العدوان. ومهما كان من شأن هذا كله، فقد استطاع المسلمون القانتون زرع عناصر لهم في الحكومة الإنتقاليَّة التي رأسها الفريق عبدالرحمن محمد الحسن سوار الدَّهب (1985- 1986م)، وباتت هذه العناصر تنادي - وبصوتٍ مجلجل - بتسليح القبائل العربيَّة. بهذه الفعلة أجهروا بمحاربة الحركة الشعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان في المنطقة بقيادة يوسف كوة مكي، وأسرُّوا الإبادة العرقيَّة للنُّوبة. في هذا الجو المشحون بالظلم السياسي تنادت تنظيمات جهوية مع حرارة الانتفاضة الشعبيَّة، وكوَّنت "تضامن قوى الريف السُّوداني"، وحين أحست أحزاب الشمال أنَّ هذا العمل قد يهدد نفوذهم التقليدية أخذت تعمل على هدمه بالعمل الخفي، وكان لهم ما أرادوا حتى بات التضامن هشيماً تذروه الرياح ولا يكاد يقف على أمره شيئاً.
بيد أنَّ فوز السيِّد الصَّادق المهدي بتولِّي منصب رئاسة مجلس الوزراء في انتخابات جزئيَّة في العام 1986م لم يكن يعني هذا كثيراً بالنِّسبة للمنطقة. إنَّ الذي يتماهى - سياسياً واجتماعيَّاً ودينيَّاً - بين النخبة التي باتت تحكم السُّودان منذ الاستقلال لكثير. وهنا تجدر الإشارة إلى مليشيات نظام الإنقاذ، التي أمست تعيث في الأرض فساداً - من تقتيل الأبرياء ونهب الفقراء - فهي نفس قوات الدِّفاع الشعبي، التي سعى السيِّد الصَّادق المهدي - بكل ما أُوتي من قوة وسلطة - لجعلها قوات رسميَّة وصبغها بلون حكومي. لقد تم هذا العبث الأثيم بأرواح الناس تحت دعاوي الحفاظ على الوحدة الوطنيَّة، غير أنَّ المهددات الأساسيَّة للوحدة الوطنيَّة هي الاستعلاء العرقي والهيمنة الجهويَّة والظلم الاجتماعي والقسمة الضيزى للسلطة والموارد وسيادة ثقافة أحاديَّة على ثقافات أخر، وعدم التوازن في الحقوق والواجبات. كذلك نجد أنَّ حملات تفريغ العاصمة المعروفة لدي الشارع السُّوداني "بالكشَّة" إلاَّ إضافة أُخرى سيئة للأسلوب العنصري الذي إعتاد أن يتعامل به أهل الحكم في الخرطوم مع مواطني التخوم، تلكم الحملات قد بدأت منذ نظام نميري ومازالت مستمرَّة إلى يومنا هذا. لذلك لم يكن يتوقَّع الشَّعب السُّوداني أن يأتي حفيد المهدي بشئٍ جديد. فبدلاً من شروع السيِّد الصَّادق المهدي في مواجهة قضايا البلاد الملحَّة والمحوريَّة وإنصاف العباد وتطبيق الحكم العادل الخالي من الخطل، ركَّز على تدعيم خصائله المعروفة باتِّقان التَّواري والبراعة في لوي عنق الحقيقة بما يتوافق مع نوازعه الطائفيَّة وافكاره السياسيَّة. فكان الزلل والشطط مجهود عهده. إنَّ الديمقراطيَّة هي أفضل صيغة عرفها الإنسان لتداول السلطة سلمياً، وتقوم على التفويض، ولا تستقيم لأحد إلا بمقدار إيمانه بها، وتحكمه للعقل، وتعلمه من أخطائه مما يفضي لتراكم الخبرة البشريَّة، ولا يعيبها قصور الناس في تطبيقها. فإنَّ تقويم تجربة الديمقراطيَّة العرجاء - السُّودان مثلاً - لا يتأتى إلاَّ بالمزيد من الديمقراطيَّة ولنا في تجارب أوربا عبرة لأولي الألباب.
على أي حال، تشعَّبت مشاكل السُّودان واختلفت باختلاف الأزمنة والمسبِّبات، وكان أبرز مشكلتين في هذا القطر المتعدِّد الأديان والأعراق، هما الإسلام السِّياسي والقهر الثَّقافي. فمسألة تديين السياسة - أو تسييس الدين كما شئت - أخذت طريقها في السياسة السُّودانيَّة في الستينيات من القرن الماضي. فقد كان حل الحزب الشيوعي السُّوداني في جلسة طارئة عقدتها الجمعيَّة التأسيسية في 11 تشرين الثاني (توفمبر) 1965م هو أحد إفرازات هذه المسألة. عقدت الجمعية التأسيسية جلستها وهي محاصرة بحوالي مائة ألف مواطن جاءوا من مختلف أنحاء السُّودان - أو قل جئ بهم - هو ضربة مميتة للديمقراطيَّة. والنائب الوحيد من الحزبين الكبيرين الذي أعلن أنَّه ضد حل الحزب الشيوعي هو حسن بابكر الحاج نائب دائرة مروي الشماليَّة (الحزب الوطني الإتحادي). ومن الطبيعي أن النواب الشيوعيين كانوا ضد حل حزبهم، ومع أنَّ أحمد إبراهيم دريج التزم بما قرره حزبه وصوت مع حل الحزب الشيوعي إلا أنَّه صرح فيما بعد بأن الفكر ينبغي أن يحارب بالفكر. وقديماً علم النُّوبة أنَّ إقحام الدين في السياسة سوف يضر بالعلاقات الاجتماعيَّة التي تنبني عليها مجتمعات النُّوبة، فضلاً عن حرمانهم من تقليد مناصب قياديَّة في الدولة. ومن ثَمَّ أدى نضال الأحزاب الأفريقيَّة في الجمعيَّة التأسيسية إلى سقوط الدستور الإسلامي في اللجنة القوميَّة للدستور الدائم للسُّودان في العام 1967م. فقد "جاء في مذكرة اللجنة الفنيَّة نبذة حول الدستور الإسلامي أن يكون رأس الدولة مسلماً" مما دفع العضو البرلماني السيِّد موسى المبارك أن يسأل: هل لغير المسلمين الحق في الاشتراك لانتخاب هذا الرئيس؟ وسأل السيد فيليب عباس غبوش، هل "من الممكن للرجل غير المسلم أن يكون في نفس المستوى فيُختار ليكون رئيساً للدولة؟" فقد حاول الدكتور حسن الترابي أن يراوغ مما اضطر رئيس الجلسة أن يطلب من السيد فيليب عباس ليعيد السؤال، بغية أن يتلقى عليه إجابة محدودة. وعندما لم يجد الترابي مخرج صدق أجاب بلا. وحينئذ بدأت المعارضة التي انتهت بهزيمة اقتراح الدستور الإسلامي الكامل.
فقد ذهب قادة الأحزاب وغلاة الطوائف الدينية (الإسلاميَّة) منذئذ في سبيل المطالبة بالدستور الإسلامي أي مذهب، وكانت حجتهم في أمر ذلك أنَّ "أغلبيَّة شعب السُّودان مسلمين". وهم من أجل ذلك يزعمون أنَّهم يردُّون أمر الشعب إلى الشعب في ظاهر الأمر، فإذا كان الاختلاف - ولا بد أن يكون الاختلاف - أنفذوا أمر الكثرة وأهدروا أمر القلة، وأتاحوا بذلك كذلك للأكثرين أن يستذلوا الأقلين أو أن يحكموهم على غير ما يريدون. كما أنَّ الالتزام بسياسة الأغلبيَّة الآلية كمنهج لوضع الدساتير وصوغ القوانين لن يكون، بحال، هو السبيل الأمثل لبناء وطن، لأنَّه يضع الأقليَّة دوماً تحت رحمة الأغلبيَّة. فقد أنذرنا الدكتور جون قرنق من خطورة استخدام منطق الأغلبيَّة في إثبات الأشياء لأنَّه منطق حمال أوجه. فماذا عسانا أن نفعل إذا طالب أغلبيَّة سكان السُّودان الأفارقة بطرد العرب من السُّودان! وماذا نحن فاعلون إذا طالبت النساء، وهن أغلبيَّة في السُّودان، أن يكون لهن رأي في تسيير أمور الدولة وتصريف أعبائها! كما أنَّ الكثرة في العلم لا تغني من الأمر شيئاً! فقد كانت كثرة العلماء تنكر كروية الأرض وحركتها، وظهر بعد ذلك أنَّ الكثرة كانت مخطئة، وكانت كثرة العلماء ترى كل ما أثبت العلم الحديث أنَّه غير صحيح، فالكثرة في العلم لا تغني شيئاً. وإذن فليس من سبيل إلى أن نقبل قول الكثرة، وإنَّما السبيل أن نوازن بينه وبين ما تزعم القلة. ومن هذه الموازنة وصلنا إلى نتيجة مفادها أنَّ سبيل التحكيم هو الحقوق المدنيَّة التي ينبغي أن تتوفر لكل فرد بغض الطرف عن معتقده، أو لونه أو عرقه، أو الإقليم الذي أتى منه. إنَّ عبارة "الأقلِّيات" التي يستخدمها الساسة السُّودانيُّون مسيئة وساءت سبيلاً. الأقلِّيات العرقيَّة عادة تطلق على مجتمعات شعبويَّة نزحت من بلاد أخرى واستقرَّت في البلد المعني. فهل الأقلِّيات التي يتحدَّث عنها سادة الحكم في الخرطوم وأهل الأحزاب السياسيَّة من وافدي السُّودان من دول مجاورة؟ أي، بعبارة إخرى، هل النُّوبة والجنوبيون غرباء على هذا الوطن؟ وماهو المقدار الكمِّي الذي يحدِّد نظريَّة إطلاق صفة الأقليَّة العرقيَّة على قطاع عريض من السكَّان؟ وهل هذه الصِّفة تقتصر على التَّواجد المكاني فقط؟ علماً بأنَّ عدداً كبيراً من هؤلاء القوم يقطنون العاصمة وبعض كبرى مدن الشِّمال مما يجعلهم يكوِّنون نصف أو أكثر من نصف السكَّان فيها. ثُمَّ أين هي الإحصاءات التي تجعل معظم سكان السُّودان أقليَّة وأقلَّ سكَّانه أغلبيَّة؟
هكذا ظلَّت الأحوال في الجبال - أي لم تُحق المحقوقيَّة للنُّوبة - حتى جاءت "حكومة الانقاذ" في حزيران (يونيو) العام 1989م. لقد رفعت الحكومة شعار الرُّجوع إلى الينابيع والإعتماد على النَّفس، فلم تفلح في إيجاد حلول جذريَّة لمشاكل السُّودان المستعصية في المجال الإقتصادي ومجال الفكر السياسي والإجتماعي. فكانت المحصَّلة النِّهائيَّة تفشي الأوبئة، وانتشار الجريمة، وتوسيع رقعة الحرب الأهليَّة، وفرض حصار سياسي واقتصادي على السُّودان. لقد بدأ كثيرٌ من الشَّعب السُّوداني يتساءل عن نوعيَّة إسلام هؤلاء الحكام، والشعارات التي ردَّدتها الجماهير في تظاهرات سابقة في الخرطوم - المجوس ولا الأخوان (المسلمين)، والأمريكان ولا الأخوان - تعكس درجة الإحباط والقنوط التي بلغها الشَّعب من جراء تخبُّط النِّظام. لقد تضرَّرت شريحة من الشعب السُّوداني في شمال البلاد، لكن ليس بالكيفيَّة والكميَّة التي تمَّت بهما إبادة قبائل وجماعات بشريَّة بمنطقة جبال النُّوبة. أمَّا المعيار الذي يتَّخذه النِّظام للتَّخلُّص من خصومه الشماليين فهو مبني على معيار سياسي، بيد أنَّ التَّصفيات الجسديَّة بجبال النُّوبة تتمُّ على أسس عنصريَّة وسياسيَّة ودينيَّة وثقافيَّة. لم يفتأ زعماء الجبهة القوميَّة الأسلاميَّة من وصف النُّوبة بالخوارج تارة والمارقين تارة أُخرى حتى صدرت فتوى من مؤتمر العلماء وأئمة المساجد ومشايخ الطرق الصُّوفيَّة بقاعة اللَّجنة الشعبيَّة بمدينة الأبيض بتاريخ 27 نيسان (أبريل) 1993م، وموقِّعاً عليها ستة من العلماء تبيح سفك دماء النُّوبة ومصادرة ممتلكاتهم كأنفال. تلك الفتوى ما هي إلآَّ تبريراً سياسيَّاً وعنصريَّة روحيَّة (Spiritual racism) لما تقوم به المليشيات الحكوميَّة ضد هؤلاء القوم البسطاء: يذبِّحون أطفالهم ويهتكون أعراضهم ويسومونهم سوء العذاب. هذا التطهير العرقي (Ethnic cleansing) والثقافي هو محاولة من حكومة البشير لإخراس الصَّرخة "النُّوباويَّة" التي باتت تنادي بمسائل عديدة وعلى مستوى عظيم من الأهميَّة: كالمشاركة في السلطة المركزيَّة والإقليميَّة، الفصل بين الفعل السِّياسي والإعتقاد الدِّيني، تضييق الفجوة بين تخلُّف التخوم وتنمية المركز، التَّعليم والصَّحة، والاعتراف بالثقافات واللُّغات المحليَّة وتنميتها. إذن لِمَ تُقدِم السلطات على تهجير وتشريد آلاف من المواطنين البؤساء ومانقموا منهم إلاَّ العدل والمساواة؟ إنَّ أكثر المسائل انزعاجاً في الأديان المنظَّمة (Organised religions) - أي دين - هو إيمان معتنقيها أنَّ كل ما يقدمون عليه كنتيجة تفسيرهم لتعليمات هذه الأديان فهو صحيح خلقياً. ومن هذا المنطلق تم، وما زال يتم، تبرير مذابح عديدة وفظائع لا إنسانيَّة باسم الحرب المقدسة خلال عصور التأريخ المختلفة وما زال يستمر لتدمير أرواح الناس حول العالم اليوم. فكل جماعة دينيَّة تسول لهم أنفسهم أنَّهم يحملون مفاتيح الحل والعقد لكل مشاكل السُّودان فإنَّهم جهلاء أغبياء، وبالحرص على جهلهم وغبائهم ينتحرون.
على أي حال، فقد ظلَّ النُّوبة على مر الدُّهور والحقب يستصرخون صنَّاع القرار في الخرطوم، ويلتمسون منهم العدالة الإجتماعيَّة، والإرتقاء بهم إلى أفضل سبل كسب العيش في السُّودان، حتَّى تحوَّل هذا الاستصراخ وذلكم الالتماس إلى عصيان مسلَّح فباؤوا بغضب سلطوي. وبدلاً من أن ينال النُّوبة قسطاً مما طلبوه، وجدوا شطط أهل الحكم في الخرطوم. فمنذ فترة غير طويلة - قبل التوقيع على اتفاق جبال لوقف إطلاق النَّار في كانون الثاني (يناير) 2002م - فر مواطني المنطقة إلى الكهوف واختلطوا مع دوابي (أفاعي) الكراكير لإتِّقاء شر جنود البَّشير؛ فقد أصبحت حياتهم شبيهة بإنسان العصر الحجري. الظُّلم في الجِّبال موغلٌ في القدم واللَّهث وراء العدالة أقدم؛ وما الثَّورات المسلَّحة والعمليَّات العسكريَّة، القديمة والحديثة فيها، إلاَّ شواهد على هذا الضَّيم. لكن مما يتأسى له الفؤاد ما بلغه الوضع في جبال النُّوبة في بداية التسعينيات حين أمست الأرض صرح بالمذلة، شعب يموت وعالم لا ينطق، والجوع ينحت في الصغار والحزن في جفونهم لا يرفق كما تعبر هذه الأبيات للشاعر علي إبراهيم سروجي:
الأرض صرح بالمـذلَّة تفلق شعبٌ يموت وعالم لا ينطق
الجوع ينحت في الصِّغار ويرتقي والحزن بين جفونهم لا يرفق
وبراءة الأطفال في كهف الأسى تلهو وما تدري متى تستمزق
في كوة الآمال طال وقوفهم فمتى على أوجاعـهم تترفَّق
في شرعنا التنديد خير وسيلة والشَّجب فوق شفاهنا يتعملق
لم يكن وضع الجنوب أحسن حالاً من جبال النُّوبة في أمر انتهاكات حقوق الإنسان. فحين دخلت قوات الحكومة السُّودانيَّة مدينة كبويتا بمساعدة من قبيلة التبوسا، سعت حكومة الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة بين أفراد تلك القبيلة بالأسلمة، فبدأت بإجراء عمليات الختان التي تمت في حق عدد كبير من الرجال، الشيوخ منهم والشباب، الأمر الذي اعتبرته القبيلة إساءة بالغة لها وعلى ثقافاتها وعرضها وتقاليدها. كما أنَّ فرص الحياة الزوجيَّة، لما تمَّت في حقهم من عملية الختان، أصبحت معدومة تماماً، حسب عادات القبيلة. وإنَّنا نتساءل ما لهؤلاء القوم مهتمون لهذه الدرجة بالأعضاء التناسليَّة للناس؟ هل رأس الإسلام الختان؟ فبدلاً من أن يقوم أهل النظام بتأهيل المدارس والمستشفيات وتعبيد الطرق والخدمات الأساسية والمرافق العامة والمشاريع التموينية والتنموية وتأهيل الزراعة، شرع أعوان النظام بالانشغال بهوامش الأمور. مهما يكن من الأمر، فقد قادت هذه الممارسة اللانسانيَّة إلى انفضاض قبيلة التبوسا عن مساندة القوات الحكوميَّة، وحكومة الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة، وكان لخروج الأب كينجا جورج، زعيم قبيلة التبوسا ووزير العمل بحكومة الخرطوم، وانضمامه بعد استقالته المسببة إلى الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان، إضافة وبعداً جديداً، ودعا قبيلة التبوسا للانسحاب من مدينة كبويتا وإعلان انضمامها إلى الحركة الشعبيَّة.
إنَّ الانتهاكات الهمجيَّة الشنيعة التي اقترفها نظام الإنقاذ في جبال النُّوبة وضد النُّوبة لا نظير لها عند أي نظام حكم وطني حكم السَّودان، مهما بلغت فظاظته، ومهما كانت جهالته، ومهما بلغ استخفافه بالرحمة والحياء، في أي عصر من عصور الأرض. فعلى الرَّغم مما بلغه النظام في التخوم والخرطوم من إعدامات دون محاكمات والطرد من الخدمة العسكريَّة والمدنيَّة للألاف من المواطنين فقط لأنَّهم من غير حزب الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة، وحظر الأحزاب السياسيَّة والنقابات المهنيَّة، والاعتقالات الاعتسافيَّة دون تهم، والتعذيب الذي بلغ حالة القتل وكذلك الإعاقة الجسديَّة الدائمة، نجد لفيفاً من الكُتَّاب الإسلاميين يكتبون دفاعاً عن هذا النظام أو يلوذون بالصمت عن الجرائم التي يقترفها. ونذكر في الكتاب الأستاذ فهمي هويدي الذي يستميت دفاعاً عن حق الإسلاميين في الديمقراطية في طاجكستان، والجزائر والبوسنة والهرسك، ويتجاهل عن ذبحها واغتصابها في السُّودان لأنَّ المستفيد من الأمر هنا هم الإسلاميون. إنَّ هويدي من الذين يكتالون على الناس بمكيالين، وإذا كالهم أو وزنوهم يخسرون. إنَّ من المعلوم أنَّ لكل مسألة وجهين على الأقل، إن لم يكن لها أكثر من ذلك، وما دام أن هناك طرفين للمسألة - على الأقل - فلكل طرف وجهته التي هو موليها، وبعرض لكلا الوجهتين يقرب صاحب الشأن - هويدي في هذه الحالة - من الموضوعيَّة، وبالتَّالي يكون قريباً من الأمانة، هذا إذا كان عازماً على الإسهام في حل مشكلة أمست متغلغلة في المجتمع السُّوداني. وبما أنَّ الإسلام قد أصبح سوط عذاب عنصري لغير العرب، حتَّى لو كانوا مسلمين قانتين؛ ومن هذا المنطلق يصبح الإحتكام إليه أو إلى ما يسمَّى بشرع اللَّه كالمستجير من الرَّمضاء بالنَّار، ولاتفلح أو تقنع أيَّة أنماط جديدة من الأمر شيئاً كما يزعم البعض أن هناك "محاولة لإرساء فهم جديد ومستنير للإسلام والشَّريعة، يفي بمتطلَّبات العصر، ونزوع أهل السُّودان، مثل غيرهم، نحو العدل والسِّلم والاستقرار، ولا يغمط غير المسلمين حقوقهم". إنَّ العدل أساس الملك، فمن ضيَّع العدل ضيَّع الملك طال الزَّمن أم قصر، فذلك وعدٌ غير مكذوب. لذلك كتب أحد الولاة إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز يطلب منه مالاً يعينه على بناء سور حول عاصمة الولاية، فأجابه عمر: "وماذا تنفع الأسوار؟ حصِّنها بالعدل، ونقِّ طريقها من الظُّلم". فأيِّم واللَّه، أين منه من يحكمون السُّودان اليوم وعلى رأسهم عمر بن البشير. هذا ونعزو قدرة البشير على الصمود في الحكم إلى جهاز استخبارات قوي وتغيُّرات إقليميَّة في منطقة القرن الأفريقي، وليس إلى رؤية سياسيَّة وحصافة وحنكة. فالمستبد لا سياسة له غير القمع والاعتماد على الأجهزة الأمنيَّة كملاذ أخير وأول للحكم والتحكُّم برقاب الناس، والذكي من هؤلاء وأولئك يحتاط للأمر بالطريقة المعروفة القائمة على مراقبة تململ الناس قبل أن يثوروا ويتمرَّدوا.
ثم ندلف إلى مسألة الثقافة في السُّودان. إذن، ما الذي يجعل من لفظة الثَّقافة في السُّودان عبارة تثير كثيراً من المعارك السِّياسيَّة والطَّبقيَّة؟ وكذلك لماذا - عند ذكر الكلمة إيَّاها - تُثار العواطف وتُشمَّر السَّواعد ويلين الدُّماغ بحيث يصبح بعض القوم صرعى بالغباء العاطفي فضلاً عن الذكاء الموضوعي؟ إنَّ العربان في السُّودان الذين يريدون العروبة من باب الوجاهة السِّياسيَّة أو لأسباب هلاميَّة يحسبون أنَّ مكوِّنات الثَّقافة تنحصر في شيئين فقط هما الدِّين واللُّغة. فإذا فرضنا جدلاً بأنَّ ذينك العضوين هما عيني الثَّقافة، فهل كل السُّودانيين عرب ثمَّ مسلمين من قبل ومن بعد؟ بالطَّبع لا. لقد ذهب إيليوت، أحد مفكِّري علم الإجتماع الوعاظ، مقسِّماً الثَّقافة إلى ثلاثة أوجه: ثقافة الفرد، ثقافة الطَّبقة وثقافة جميع أنماط حياة النَّاس. وفي هذه الأخيرة يستخدم علماء الأجناس (Anthropologists) عبارة الثَّقافة لتتضمَّن كل عادات وتقاليد القبيلة من العبادة إلى الأنكحة، طقوسها في الملاطفة والمؤانسة الجنسيَّة، عاداتها في التبوُّل والتبرُّز، محظوراتها، سلوكها في المأكل والمشرب، لغتها، ذوقها الفنِّي، ما يسر أفرادها وما يغضبهم - أي أفراحهم وأتراحهم - وغيرها؛ ومع ذلك لا يمكن فرض الثَّقافة - فرض عين كان أم فرض كفاية - من خارج القبيلة أو المجتمع. لا يضير أحدٌ ولا يضار السُّودان إذا إتَّخذ بعض النَّاس ثقافتهم العربيَّة هذه على أساس أفراد أو حتَّى طبقة فئويَّة؛ أمَّا تثقيف القطر بكامل ترابه وشعبه بثقافةٍ لا يرتضيها جميع أفرادها فهذا ظلمٌ يجب اجتثاثه "والعز عند إباة الضَّيم معبود". وإن كان من الخير لنا أن نعيش دونما فجيعة فعلينا أن نفتق أنفسنا من ظاهرة الاستعراب هذه التي أصبحت تلازم ثلَّةً من السُّودانيين - القدماء والمحدثين - حتَّى عجزوا عن التَّمييز بين ما هو حقيقي سوداني وما هو عربي وهمي.
إنَّ مكمن الخطورة من هذا التَّعالي الثَّقافي يتجسَّد في أمرين كلاهما مر: ففي الرِّيف القاصي يحمل الحقد صحابه إلى تقتيل وإبادة غيرهم بسبب الفارق الثَّقافي والعرقي؛ وفي العاصمة يفتعل ساكني بيوت الزُّجاج المشاكل ضد هؤلاء البؤساء والبسطاء وحجزهم في المعازل (Townships)- أماكن السَّكن التي هي بمثابة الحظائر البشريَّة - وإنَّ من المعازل في جنوب إفريقيا لأحسن حالاً نسبيَّاً لإحتوائها على بعض المرافق العامَّة من مستشفيات ومدارس وموارد مياه الشُّرب. أمَّا في السُّودان فتلجأ السُّلطات إلى توطين ضحايا "الكشَّة" في مخيَّمات في صحاري أم درمان وجبل أولياء. ماهي العدالة الاجتماعيَّة التي تناطح بها أجهزة الإعلام أرباب السماوات والأرض، وفي نفس الوقت يتم تصنيف سكان الدَّولة بين الأقوام الكرام والهوام العوام؟ لماذا يجتهد المسؤولون في إبقاء بعض السكَّان في فقرٍ مدقع بينما يمتلئ البعض الآخر شحماً ولحماً؟ لقد أُهملت كل النِّداءات السلميَّة لأخذ هذه الاعتبارات الثَّقافيَّة والعرقيَّة والدِّينيَّة موضع الاهتمام؛ وعلى النَّقيض تمَّ التَّركيز على الحاكميَّة العربيَّة (Arabistocracy) فحدثت الفتنة التى مازالت مستمرَّة حتى هذه اللَّحظة والآن لا يعون الدَّرس إلاَّ بعد فوات الأوان.
مما سبق يتَّضح أهميَّة إهتمامنا بالموروث الحضاري لأنَّه إحياءٌ للتراث وربطٌ للماضى بالحاضر والمستقبل عبر بانوراما فكريَّة تراثيَّة تروي التَّاريخ وترصد ملامح التَّطوُّر والتَّغيير. لذلك كان لزاماً علينا استخدام كلمة الموروث (Heritage) لما تعنيه من المعاني الوطنيَّة وحتَّى القوميَّة وتبعث من جديد محاميد الماضي. وقد صدق من قال: "إنَّنا ننظر إلى الماضى لكي نستعد للمستقبل". وحين يردِّد أبناء النُّوبة نداءهم أنَّ ثقافتهم وتراثهم في خطر داهم، نجدهم قد توصلوا إلى هذه الحقيقة عن طريقة التجارب القديمة والحديثة. وعليه، قد حدَّد محمود موسى تاور الملامح والأطر الفلسفية لحركة الثقافة في جبال النُّوبة على النحو التَّالي: الأرتباط الثقافي، الارتباط اللغوي، الارتباط الاجتماعي، الارتباط بالأرض، الارتباط التأريخي، وظاهرة التسامح الديني. أمَّا القوميَّة التي يدعو لها النَّظام الحالي، الفعَّال لما يريد، فهي القوميَّة الاختلافيَّة لا المساواتيَّة. فالقوميَّة الأولى، التي تعزف عليها الحكومة عزفاً دؤوباً، تقوم على العاطفة أكثر من العقل. فالأمَّة في تصورهم لا يوحِّدها سوى كراهيتها للآخر ومن هنا تأتي حروب "التَّطهير العرقي" (Ethnic cleansing) وهلك الحرث والنَّسل في جبال النُّوبة وجنوب السُّودان؛ أمَّا القوميَّة المساواتيَّة فمطالبها تنصبُّ في الحقُّ في المشاركة في صنع القرار وفي تقاسم ثمار البلاد. فلقد ضاعف الاستبداد العسكري من الإحتراب الأهلي، ومن ذينك الحرمان الشديد والاضطهاد المريب انحدرت القوميَّة في الأقاليم إلى نزعة أثنيَّة (Ethnic tendency) محضة وذلك للإبقاء على النَّوع ودرء مخاطر الإنقراض. وما بات النِّظام رافضاً للإعتراف لها بصفة الشركاء حتَّى استنهض أجهزته الأمنيَّة - والإعلاميَّة أيضاً - في قمع هذه الأثنيَّات الإقليميَّة (Regional ethnicities) ووأدها لصالح الأقليَّة الحاكمة ورافضاً للحوار مع عناصرها المقوِّمة.
ومن نافلة القول نستطيع أن نخلص إلى أنَّ العقد الاجتماعي الذي مر به شعب النُّوبة في السُّودان يمكن تقسيمه إلى ثلاث مراحل: فالمرحلة الأولى تشمل حقب ما قبل الاستقلال في العام 1956م، والمرحلة الثانية هي تلكم التي تسمى عهد الحكومات الوطنيَّة حتى نهاية نظام الرئيس جعفر نميري في العام 1985م، ثم المرحلة الأخيرة وهي التي تبدأ منذ الانتفاضة الشعبيَّة التي أطاحت بحكومة نميري في العام 1985م حتى تأريخ هذا اليوم. وتتصف المرحلة الأولى- بما فيها فترة المهدية (1881-1898م) - بالحروب والاستغلال وتجارة الرق وانفراط عقد الأمن، كما أنَّ المرحلة الثانية فهي التي كدَّ فيها أبناء النُّوبة كداً سلميَّاً في مناجاة أهل الحكم في الخرطوم في المطالبة بتطوير منطقة جبال النُّوبة وتوفير الخدمات الاجتماعية من تعليم وصحة وتنمية وغيرها دون جدوى. أما المرحلة الأخيرة - حسب تصنيفنا - فقد أخذ النُّوبة الأمور بيدهم بعدما يئسوا من طرق كل السُّبل السلميَّة وحين أيقنوا أنَّ الأمر أمسى مرتبطاً بقضية البقاء أو الفناء، ولا يكاد تغني المساومة من بعدئذٍ شيئاً. وفي الحق، لقي النُّوبة من أجل مطالبتهم بهذه االحقوق الأساسية مشقة شاقة وعسر عسير. وفي هذا البحث تحدَّثنا عن عاملين من عوامل الصراع في السُّودان هما الإسلام السياسي والثقافة، وخلصنا إلى القول أنَّ الطبقة الحاكمة في السُّودان اتخذوا الإسلام وسيلة لا غاية، وسيلة إلى استهواء الناس واستغلالهم، وما نحتاج فيما نقول أن نقيم على ذلك دليلاً، فقد شهدنا من الأمر شره وافرازاته بما في ذلك الحرب الأهليَّة التي راح ضحيتها أناس كُثر. أما القضية الثانية فهي مسألة الثقافة الأحادية (العربيَّة) التي أصبحت تُفرض على غير العرب من سكان هذا الوطن بقوة الإعلام والسلاح والتعليم، مما طفق الآخرون يعيدون النظر في مسائل كثيرة كنظام الحكم، وتقسيم الثروة، والمناهج التربوية، واللغات القوميَّة والهوية السُّودانيَّة وغيرها. وسوف تظل هذه المسائل محاور أسئلة صعبة حتى يجلس السُّودانيُّون مع بعضهم بعضاً في "مؤتمر قومي دستوري" ويتفقون على صيغة مثلى بها يرتضون العيش في قطر واحد بالتي هي أحسن.