العلاقات الدبلوماسيه بين الخرطوم وجوبا !!
لقد آن الأوان لأهل الدراية بالدبلوماسية ومقاصدها وأساليبها وجدواها أن يلتفتوا إلى ما يفرضه الواقع فى يوليو القادم بقيام دولة جنوب السودان ، وما يترتب عليه من قيام علاقات دبلوماسية بين جمهورية السودان وجمهورية جنوب السودان. وبغض النظر عن مشاعر الرفض أو مشاعر القبول لهذا التطور ، إلا أن الدارسين والممارسين للدبلوماسيه، لا بد لهم أن يفتحوا عقولهم وقلوبهم للتعامل مع متطلبات ما سينشأ من علاقات دبلوماسيه بين الخرطوم وجوبا . والشئ الأهم فى هذا التطور أن توظف هذه العلاقات الدبلوماسيه من جانب الدولتين فى خدمة السلام والإستقرار والتنميه ، ليس فقط على المستوى الثنائى فيما بين البلدين ، ولكن ايضآ على المستويين الإقليمى والدولى، بتقديم إضافة نوعية وإيجابيه تكون فى مصلحة الجميع.
فى التاسع من يوليو القادم ، لن يكون السودان الذى عرفناه " أكبر دولة فى إفريقيا" ، فذلك ستتجاوزه الأحداث، ليكون السودان دولتين، لكل منهما علمها، ونشيدها الوطنى ، وحدودها الدوليه وجيشها وسفاراتها ، وغير ذلك من متطلبات الدولة المستقله. وستكون دولة جنوب السودان هى أحدث دوله تنضم للأمم المتحده ، لتكون الدوله رقم 193 فى المنظمه الدوليه. كذلك ستكون دولة جنوب السودان هى الدوله رقم 54 فى إلإتحاد الإفريقى ( لا ندرى إن كانت ستكون هى الأخيره ، لأن ما حدث للسودان من إنشطار ربما يحدث لدول إفريقية أخرى وهو أمر قد يكون مفزعاً إذا ما توالى على دول القاره ...!!) .
ما يهمنا فى هذا المقال ، أننا بصدد بعد جديد فى علاقات السودان الشمالى والجنوبى ، هذا البعد ينشأ من مفهوم السياسة الخارجيه التى سترسمها وتمارسها كل من الخرطوم وجوبا فى مواجهة العاصمة الأخرى. وسينفذ تلك السياسه، هذا إفتراضى كدبلوماسى وكنت من أهل المهنه ، دبلوماسيون فى وزارتى خارجية كل من البلدين، وفى سفارة جمهورية السودان فى جوبا وسفارة جمهورية جنوب السودان فى الخرطوم. وأول ما أطمح إليه ، ضمن أفكار أخرى، أن تنشا إدارة فى وزارة خارجية حكومة جنوب السودان ، تختص بشئون السودان الشمالى ، كما تنشأ أخرى فى وزارة خارجية جمهورية السودان تختص هى الأخرى بشئون جمهورية جنوب السودان. ولا بد من التنبيه هنا إلى ضرورة تفادى وقوع ملف السياسة الخارجية فى الجمهوريتين تجاه الأخرى فى الأيادى التى تحصر نفسها فى المفاهيم الأمنية الضيقه، أو مفاهيم المناورات السياسية المشحونة بالتوجس والسلبيات، أو جماعات الخلط الشنيع بين المصلحة الوطنية الكبرى ، والمصلحة الحزبية ، أو حتى المصلحة الفردية الضيقه. وفحوى ذلك أن السياسة الخارجية ، هى فى الأصل وسيلة لخدمة الأهداف القومية والمصالح الوطنية ، وأخشى ما يخشاه المرء أن يستمر شريكا إتفاقية السلام الشامل ، فى ممارساتهما التى لا تتعدى مفاهيم المؤتمر الوطنى ومفاهيم الحركه الشعبيه، التى لم تنجح حتى الآن فى الإنفتاح السياسى المطلوب ، حتى ينفتح الباب أمام ممارسات قومية حقيقية ، فى كل المجالات . وهنا نأتى إلى مربط الفرس، وهو أن هناك ملفات إستراتيجيه ، تفرض نفسها على السياسة الخارجية المتبادلة بين الخرطوم وجوبا ، لا بد من التعامل معها بنظرة إستراتيجية وبراجماتية ومهنية عاليه، حتى لا تضيع فرصنا فى تحقيق مصالح متبادله بعد الإنفصال، مثلما ضاعت كثير من فرصنا قبل الإنفصال.
وقبل أن أدلف لعرض الملفات الإستراتيجية هذه، لا بد أن أنوه إلى أن هناك أعمالآ تحضيرية لفك الإرتباط الدبلوماسى، إن صح هذا التعبير، بين الخرطوم وجوبا،كدولة واحده، ومن ثم ربطه بينهما مرة أخرى كدولتين مستقلتين. وتتمثل هذه الأعمال فى تكثيف الإجتماعت بين أهل الدبلوماسية من ذوى الخلفية الإحترافية ، على غرار ما جرى من لقاءات بين السفير رحمة الله محمد عثمان، وكيل وزارة الخارجيه ( وهو من أهل إحتراف للمهنه) وبين السيده سلوى جبريل، وكيل وزارة التعاون الدولى فى حكومة جنوب السودان( وهى أيضآ دبلوماسية إحترفت المهنه وحذقتها ) . حيث إجتمعا فى كل من الخرطوم وجوبا مؤخرآ ، وتباحثا حول أفضل الطرق للتعامل مع المسائل الهامه، مثل مبدا التوارث للإتفاقيات الدوليه والإلتزامات الكثيره ، التى يترتب على الدولة الجديده فى الجنوب ، التعامل معها من حيث الإلتزام القانونى والسياسى.
ويقينى أن المطلوب هو الإلتزام بحكمة التعامل الدبلوماسى المحترف ، والهادئ ، الذى ينأى عن الأصوات المرتفعه التى يركن إليها الكثير من الساسة المتناكفين دومآ فى كل من الخرطوم وجوبا. كما أن من المناسب أن نبدى ملاجظتين هامتين فى هذا الصدد. أولاهما أن إنفصال الجنوب سيخلق واقعاً جيوبوليتيكياً جديداً . بمعنى أن الجغرافيا السياسيه الناجمه عن حالة الإنفصال ، ستجعل الخرطوم تفقد الكثير من عمقها الإفريقى الجغرافى ، وذلك بفقدان حدودها مع يوغندا وكينيا وجمهورية الكونغو الديمقراطيه . وفى ذات الوقت ستصبح جمهورية جنوب السودان دولة حبيسة لا شواطئ أو موانئ لها على البحر ، وتحيط بها دول جوار من كل النواحى بحدود شبه مفتوحه يصعب السيطرة عليها أو التحكم فيها. وهنا يرتب الإنقصال على الدولتين أعباءاً دبلوماسية إضافيه ، بما سينعكس على علاقاتهما الثنائيه ، وعلاقاتهما الإقليمية والدوليه.
ومهما يكن من أمر ، فلا بد للدولتين أن تتحسبا للتعامل مع ما يمكن أن نسميه ، الملفات الإستراتيجيه فى إدارة علاقتهما الدبلوماسيه . وأول هذه الملفات هو ملف السلام والأمن على الحدود وعبر الحدود. وهنا تتحمل سياستهما الخارجيه العبء الأهم فى رسم خارطة طريق ، تقوم الدبوماسية بتنفيذها ، باعتبار أن عهد ما بعد إتفاقية السلام الشامل ، يقوم هو أيضاً على قاعدة ذلك السلام ويرتبط به عضوياً من أجل مصلحة البلدين. ويتعين على الدبلوماسى الذى يقوم بتنفيذ هذه السياسه، أن يعى الدور المحورى للسلام والأمن فى علاقات البلدين ، ليس من قبيل الوعى العام بهذا الدور فى العلاقات الدوليه، ولكن من قبيل الوعى الخاص بخلفية الحرب المدمره التى عانى منها أهل الجنوب وأهل الشمال فى ظل الدولة الواحده. ويذكرنى هذا الموقف بما كان يعلمنا له أحد أساطين الدبلوماسية السودانيه ، أيام كنا من ناشئة تلك المهنه، أستاذنا السفير الراحل أحمد صلاح بخارى، بان الدبلوماسى فى دوره لتحسين وتعزيز العلاقة بين البلدين المعنيين ، يكون كالإسفنج الذى يمتص الصدمات من كلا الجانبين ويساهم فى تفادى الإحتكاكات ، بأقصى ما يستطيع ، حتى وإن كان صناع السياسة الخارجيه ، لا يدركون مغبة المغالاة فى مواقفهم فى بعض الأحيان.( لا يعنى هذا أن الدبوماسى هو صانع السياسة الخارجية، فهو منفذها ، ولكن ذلك يعنى أن فى الممارسة الدبلوماسية ذات المهنية العاليه، ما يعين صانع السياسة الخارجية على فهم أمور قد تنتهى به للتراجع عن خطوة ما، أو الإقدام على خطوة ما).
والملف الإستراتيجى الثانى هو ملف العلاقات والمصالح الإقتصادية والتجارية المتشابكه ، والتى يحتمها الإرتباط العضوى بين البلدين. وحتى إن كان هناك إتجاه تدريجى لدولة جنوب السودان للميل نحو دول شرق إفريقيا، فإن ذلك لن يكون له تحول جذرى فى علاقاتها بجمهورية السودان ، وقد تكون هناك الكثير من الميزات النسبيه التى تؤيد هذا الإفتراض، بما يجعل العلاقات الإقتصاديه والتجاريه، هماً كبيراً بالنسبة لوزارتى خارجية البلدين، وما يرتبط بهما من وزارات القطاع الإقتصادى فى كل منهما. وهكذا فإن الطرفين لا بد أن يدققا فى كفاءة العناصر التى تتولى رعاية هذه العلاقات وازدهارها ، والنأى عن تركها لأهل الحظوة والغرض ، لأن التفاعل الإقتصادى بين البلدين ، سيكون هو مفتاح التعايش السلمى بينهما ، وأساس تعزيز ترابطهما فى ظل مصالح مشتركة بعيدة المدى ، ومتينة الروابط.
أما الملف الإستراتيجى الثالث ، فهو ملف مياه النيل والإنتفاع بها . وهنا يتعين على " دبلوماسية المياه" بين البلدين أن تسعى لتوظيف مساعيها للتضامن من أجل الإنتفاع بهذا المصدر الحيوى. وهنا يتبادر إلى الذهن مستقبل تعاملهما فى إطار إتفاقية مياه النيل (1959) بين مصر والسودان...حيث تناقلت وسائط الإعلام مؤخراً أن جنوب السودان ينظر إلى نصيبه من المياه ، ضمن النصيب الكلى الذى وضعته الإتفاقية للسودان. وهذا أمر لا يرتبط فقط بعلاقات بين جوبا والخرطوم، ولكنه يرتبط أيضاً بعلاقاتهما بجمهورية مصر العربيه. كما أن ذلك يثير سؤالاً هاماً فى هذه العلاقه ، ألا وهو السؤال المتعلق بمستقبل مشروع قناة جونقلى، خاصة وأنه مشروع يحمل فى أحشائه مصالح االدول الثلاث . كما أن دبلوماسية الخرطوم وجوبا ، تجد نفسها مواجهة بموضوع الإتفاقية الإطاريه لدول حوض النيل، والتى انضمت إليها ست دول حتى الآن ، وتعارضها القاهره والخرطوم ، وهناك حديث عن احتمال إنضمام دولة جنوب السودان لها... !! ولا يفوتنى أن أذكر فى هذا الصدد ، الدراسات والمقالات المتواصله التى يجود بها علينا الخبير بالبنك الدولى الدكتور سلمان محمد سلمان،والذى يرجع إليه فى الجوانب القانونيه الدوليه لهذا الملف الإستراتيجى. وعلى أهل الدبلوماسية السودانيه أن يطلعوا على دراساته ومقالاته بغرض الإستنارة والإستعانه. و كنت قد أشرت مراراً وتكراراً إلى ضرورة التنسيق والتفاعل العميق بين وزارة الرى ووزارة الخارجيه عند تناول هذا الملف الإستراتيجى، وهأنذا أعيد ذلك للأذهان.
وإذا ما إنتقلنا للحديث عن الملف الإستراتيجى الرابع لدولتى شمال السودان وجنوبه ، فهو ملف التعامل مع عضويتهما فى الأمم المتحده والمنظمات الإقليمية الأخرى . ويقينى أن دولة جنوب السودان لن تكون عضواً فى الجامعة العربيه، ولا فى منظمة المؤتمر الإسلامى . ولكنها ستجلس جنباً إلى جنب مع وفد جهورية السودان فى الأمم المتحده وسائر وكالاتها وهيئاتها ، وكذلك فى الإتحاد الإفريقى ومفوضياته . وعلينا أن ندرك بأن شواهد الأمور تدل على أن دولة جنوب السودان ، ستحظى بمعاملة تفضيلية من جانب الأمم المتحده ووكالاتها، بتقديم الكثير من العون الإقتصادى والإنسانى . وهذا ليس فى حد ذاته ناشئا من الأمم المتحده ، ولكنه مرتبط بالمقاطعة الإقتصاديه التى تقودها الولايات المتحده ، ووضع السودان الشمالى المستمر فى قائمة الدول الراعية للإرهاب ، علماً بأن واشنطن أعلنت أنها لن تطبق العقوبات الإقتصاديه على دولة جنوب السودان ، فور إعلان إنفصالها فى يوليو القادم ( فى الواقع أن جنوب السودان لم يكن يخضع لتلك المقاطعه منذ التوقيع على إتفاقية السلام الشامل فى عام 2005). وسيصعب التنسيق بين الخرطوم وجوبا على مستوى الإتحاد الإفريقى ، بسبب الخلاف الكبير فى التوجهات التى تحكم السياسة الخارجية لكل منهما. وهكذا ، يمكن أن نرى دولة جنوب السودان الوليده، تحظى برئاسة الإتحاد الإفريقى ، الأمر الذى لم يتيسر لجمهورية السودان طوال العشرين سنة الماضيه . كما يمكن أن نشهد الإتحاد الإفريقى ، ومن خلفه الولايات المتحده والإتحاد الأروبى يدفعون بدولة جنوب السودان لتحظى بالعضوية غير الدائمه لمجلس الأمن . وأيضاً يمكن أن تحصل حكومة جنوب السودان على منصب رفيع فى الإتحاد الإفريقى ، وهو أمر لم يتيسر للسودان منذ أكثر من ثلاثة عقود. وفى مثل هذه الأحوال، ستجد الخرطوم وجوبا تضارباً واضحاً فى مصالحهما الدبلوماسيه ، وهذا يفرض عليهما التباعد فى هذه المنابر رغم تقاربهما فى المقاعد( الجلوس حسب الحروف الأبجديه). والخلاصة هنا أن دولة جنوب السودان ، مرشحة بحكم الأوضاع السياسية الداخليه والدوليه ، لتتبوأ بعض المواقع ذات الأهميه. ولنفهم أن هذا الإفتراض رهين بأن تظل سياسات السودان الشمالى الداخليه والخارجيه على ما هى عليه، وأن تتمكن دولة الجنوب من تطوير وضعها السياسى الداخلى ، بشكل تدريجى ، يحقق كسر إحتكار السلطه بواسطة الحركه الشعبيه ، ويحسن من وضع حقوق الإنسان والممارسة الديمقراطيه.
نخلص من كل هذا أن العلاقات الدبلوماسيه بين جمهورية السودان وجمهورية جنوب السودان، تفرض أوضاعاً إستراتيجيه، تتطلب من الطرفين الإنتباه لها ومعالجتها بالجدية والأهميه التى تستحقها. كما أن السياسة الداخليه فى البلدين، ستلعب دوراً هاماً فى تشكيل هذه العلاقات الدبلوماسيه، سواء كان ذلك على مستوى التعامل الثنائى بينهما أو على مستوى علاقاتهما بالدول الأخرى. وعليه فإن إنفصال الجنوب ، يحمل معه ضغوضاً هائله على جمهورية السودان نسبة للوضع السياسى الداخلى، ونسبة لتعقيدات الأزمة الناشبه فى دارفور .
Ahmed Gubartalla [ahmedgubartalla@yahoo.com]