العلمانيَّة وخيار الوحدة في السُّودان (6 من 10)
shurkiano@yahoo.co.uk
الشورى ليست أصلاً في الديمقراطيَّة
إنَّ دعاة الإسلام في السُّودان كما في الخارج يخلطون خلطاً ذريعاً بأنَّ الشريعة هي الدِّين والدِّين هو الشريعة. في حين أنَّ القول الفيصل في هذا الأمر هو أنَّ الشريعة هي المدخل على الدِّين، وأنَّها هي الطرف الأقرب إلى أرض النَّاس في القرن السابع الميلادي حين لم تكن البشريَّة مستعدِّة للحكم الديمقراطي بالمعنى الحرفي لعبارة الديمقراطيَّة التي نعرفها اليوم. إذ كانوا يمارسون الشورى وقتذاك كأمثل أنواع الحكم، وأقربها إلى إشراك المحكومين في حكم أنفسهم، ولكنه – مع ذلك – لم يكن حكماً ديمقراطيَّاً، ومن أجل ذلك فلم يكن يُعرف فيه الدستور بالمعنى المعروف اليوم. إذ أنَّ هؤلاء الدعاة الإسلامويين يمثِّلون تيار التطرُّف والشر الذي لا يعترف بالدولة الوطنيَّة، ويحلم بما يسمُّونه الخلافة الإسلاميَّة تحت شعار الحاكميَّة لله. لعلَّ هذا هو ديدنهم وهدفهم، وكل الأدوار التي يتقمَّصونها تحت عباءة الديمقراطيَّة بمعناهم الشوري ما هي إلا وسائل ومطيَّة لمنهجهم المخطَّط له.
إذ قال بعض علماء الدِّين "لو كانت الشورى مطروحة من قبل النبي صلى الله عليه وسلم بالحجم المطلوب لسمعها مختلف النَّاس، ولانعكست بصورة طبيعيَّة عن طريق الاعتياديين من الصحابة كما انعكست فعلاً النصوص النبويَّة على فضل الإمام عليه السَّلام ووصايته ومرجعيته، على الرَّغم من تعارض ذلك مع الاتجاه السائد وقتئذٍ، ولم يصلنا شيء ملحوظ من ذلك فيما يتصل بفكرة الشورى، بل حتى أولئك الذين كانوا يمثلون الاتجاه السائد كانوا في كثير من الأحيان يختلفون في المواقف السياسيَّة، وتكون من مصلحة هذا الفريق أو ذاك أن يرفع شعار الشورى ضد الفريق الآخر، ومع ذلك لم نعهد أنَّ فريقاً منهم استعمل هذا الشعار كحكم سمعه من النبي صلى الله عليه وسلَّم، فلاحظوا – على سبيل المثال – موقف طلحة بن عبيد الله من تعيين أبي بكر الصدِّيق لعمر بن الخطَّاب، واستنكاره لذلك، أن يلعب ضد هذا التعيين بورقة الشورى، ويشجب موقف أبي بكر، بأنَّه يخالف ما هو المسموح من النبي صلى الله عليه وسلَّم عن الشورى والانتخاب".
وبرغم من الوقائع التي رافقت تولي الخليفة الأوَّل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلَّم في الاجتماع الذي بادر إلى عقده الأنصار في سقيفة بني ساعدة، ثمَّ هرع إليه وانضمَّ إليهم، أو اقتحمه عليهم على الأصحَّ، نفرٌ من المهاجرين يمثِّلون الزعامة القرشيَّة، لم تكن بديمقراطيَّة بشيء، ولا حتى بشورى. وقراءة فاحصة لمنطق الفريقين وذهنيَّتهم التي عكستها أقوالهم وتصرُّفاتهم في ذلك الاجتماع لا تكشف عن إيمانهم بالشورى، بوصفها تشريعاً دينيَّاً يجب التقيُّد به في شغل منصب الخلافة وولاية الأمر من بعد النبي صلى الله عليه وسلَّم. إذ غاب عن هذا الاجتماع معظم المهاجرين، بمن فيهم أهل البيت الذين كانوا مشغولين بتجهيز جثمان النبي صلى الله عليه وسلَّم ودفنه. وبعد أن أحبط عمر بن الخطاب خطة الأنصار في الاستئثار بالخلافة، هدَّد بعضٌ منهم باستعمال القوَّة لفرض زعامتهم وولايتهم على المسلمين. ولا شك في أنَّ هذا المنطق أبعد ما يكون عن معنى الشورى، وفيه نعرة جاهليَّة ظاهرة بعيدة عن روح الديمقراطيَّة.
تلك كات ذهنيَّة الأنصار، كما جسَّدتها وقائع اجتماع السَّقيفة! فكيف كانت ذهنيَّة المهاجرين؟ إذ يصوِّر هذه الذهنيَّة الشريف المرتضى في كتابه "الشافي" على نحو جامع مختصر بقوله: "إنَّ القوم الحاضرين للسَّقيفة قصدوا في الأمر طريق التغلُّب والاستبداد؛ لأنَّهم تفرَّدوا بتدبيره من غير مشورة لبني هاشم وخاصَّتهم والمنضمِّين إليهم فيه، ولا مطالعة لواحدٍ منهم به، ولما ظهرت كلمتهم على الأنصار بميل من مال إليهم من جملتهم، بادر أحدهم فصفَّق على يد أبي بكر بالبيعة، وقالوا: بايعه المسلمون، واجتمع عليه الأنصار والمهاجرون، وحُمِّل النَّاس على المبايعة حملاً، وأُخذوا بها أخذاً، ووطئ سعد بن عبادة، ووجئ عنق عمَّار، وكُسِر سيف الزبير، ورُوسل أمير المؤمنين عليه الصَّلاة والسَّلام ومن كان في جهته بالدعاء إلى البيعة مراسلة من يرى أنَّ البيعة قد لزمته، وأنَّ التأخُّر عنها خلع للطاعة، وخلاف على الجماعة، وضمَّوا إلى ذلك ضرباً من التوعُّد والتهدُّد وكل ما ذكرناه قد ذكره الرُّواة وشرحوه."
والواضح من قول أبي بكر الصدِّيق بعد البيعة، وتفرُّد النَّفر في السَّقيفة من المهاجرين واستبدادهم بتدبير البيعة لأبي بكر من غير مشورة أهل البيت، وبني هاشم، ومعهم سائر الموالين لعلي بن أبي طالب والمعروفين بالتشيُّع له يومئذٍ، إلى جانب إنكار اثني عشر رجلاً من المهاجرين بيعة أبي بكر وخمسة من الأنصار، كل ذلك لا يعكس إيمان الذين قاموا بهذا التدبير بحق الأمَّة في اختيار ولاتها، ولا ينسجم مع منطق نظريَّة الشورى، وإنَّما ينسجم مع الرؤية العربيَّة القبليَّة لمكانة قريش والتي يستوجب أن تُسلَّم لها الزعامة والرئاسة، وهي سلوك طريق القوَّة والتغلُّب والتوعُّد والتهديد.
بيد أنَّ ممارسة الصحابة لهذا النوع والقدر من الشورى الذي عكسته السيرة النبويَّة، وحثَّ عليه القرآن الكريم، وأثنى عليه، لا تتجاوز حدود القضايا الفنيَّة والشؤون الإجرائيَّة المستندة إلى الخبرة التي يعتمد عليها أي حاكم في صنع قراره، معيَّناً كان بالنَّص أم منتخباً بالشورى، وبالتالي فإنَّ هذه الممارسة لا تعكس بالضرورة إيمان الأمَّة بالشورى بوصفها نظاماً سياسيَّاً يعطي لها الحق في اختيار من يحكمها من بعد النبي. عليه، فمن ابتغى الدستور في مستوى الإسلام العقدي أعياه ابتغاؤه، ولم يأت إلا بتخليط لا يستقيم، وتناقص لا يطرد. ومع ذلك، فإنَّ الشورى التي يتبجَّح بها كثرٌ من الإسلاميين بأنَّها نمط من أنماط الديمقراطيَّة إنَّما هو افتراء على الحق، وتخابث على الحقائق. ولعلَّ من الجدير بالذكر أن نشير إلى أنَّ الشورى في الماضي كانت مقصورة على صفوة من الرجال دون النِّساء. وكذلك لم يكن لغير المسلمين مكان في مجلس الشورى، مع العلم أنَّ مجتمعات العرب في مكَّة المكرَّمة والمدينة المنوَّرة والبصرة وبغداد ودمشق وغيرها من مدن الدولة الإسلاميَّة كانت تحتوي على مواطنين من أهل الكتاب (اليهود والنصارى) والصابئة وطبقات مجتمعيَّة من الأغاريق (اليونانيين) والرَّقيق والشعوبيين وغيرهم. أما حقوق الإنسان فلم يكن لها مكان في الشورى إيَّاها بتاتاً، ثمَّ لم تكن هناك ثمة وسيلة للتداول السلمي للسلطة، وكان ذلك سبباً في اغتيال ثلاثة من الخلفاء الراشدين الذين جاءوا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلَّم، وكان ذلك القتل غيلة لأسباب سياسيَّة.
وللكلام بقيَّة،،،