العودة إلى مربع الحرب
د. عمر بادي
20 April, 2012
20 April, 2012
بقلم: د. عمر بادي
عمود : محور اللقيا
الحرب و إرهاصاتها عادت بنا إلى المربع الأول لعهد الإنقاذ بعد إحتلال دولة جنوب السودان لهجليج و الذي إستمر لمدة عشرة أيام . طبول الحرب عادت تدق إيقاعاتها الداوية , و الإعلام عاد كإعلام حرب يبث الأغاني الوطنية و يعرّي حجج الغزاة و يستنفر المواطنين للإنخراط في التجنيد للدفاع عن وطن الجدود , و في الميادين و الطرقات عادت الشاحنات العسكرية تحمل ( المتطوعين ) للقتال لصد العدوان , و في الأسواق عاد الغلاء نتيجة لما يسمى بإقتصاد الحرب بعد فقدان نصف عائدات البترول المتبقي للسودان بإحتلال حقل هجليج و الذي لم يتم بعد إحصاء مدى الدمار الذي أصابه , و من ثم السعي لسد فجوة الإستهلاك الداخلي عن طريق الإستيراد من الخارج , و لا يتوقف النقص على البترول فقط بل يتم الآن إستيراد القمح و السكر , و قد عاد إصطفاف المواطنين طلبا للسلع كما كان سابقا ! ما الذي أدى إلى إيصال الأمور مع دولة جنوب السودان إلى هذا المدى ؟ إنني أحس بالمعاناة المترتبة من ذلك على المواطن السوداني الذي صبر و صبر و مد حبال الصبر و لا زال يمد فيها حتى يحكم الله في أمره و هو الصابر على شيء أمر من الصبر , كما تقول أبيات الشعر الحكيمة . حقا قد شُدت الأحزمة على البطون حتى وصلت مداها و حتى صار حال المواطن المغلوب على أمره كحال الساعة الرملية , ينساب رملها الناعم من وسطها المشدود الضيق حتى إذا ما إكتمل إنسيابه قُلبت رأسا على عقب لتعاود الكرة !
القضايا العالقة بين دولتي السودان و جنوب السودان هي أس البلاء , و هي المجلبة للنزاعات إن لم تحل حلا جذريا , و ها هو عدم إكتمال ترسيم الحدود يقود إلى الحرب الحالية , فقرار تحكيم محكمة العدل الدولية في لاهاي في نزاع المنطقة الحدودية حول أبيي أعطى حقول نفط هجليج لشمال السودان بينما أعطى إستفتاء تقرير مصير أبيي لساكنيها من دينكا نقوق فقط , و رغم إلتزام الطرفين المسبق بقرار المحكمة إلا أنه لم تتم موافقة حكومة السودان على قرار التحكيم هذا نسبة لما أنتجه من إجحاف لقبيلة المسيرية التي تسكن أيصا في أبيي و تتنقل بابقارها جنوبا في موسم الصيف إلى حدود جنوب السودان في بحر العرب . الخطأ كان ان يذهب طرفان متنازعات من دولة واحدة إلى تلك المحكمة الدولية المعروفة ببتها في قضايا النزاعات بين الدول , أما الخطأ الأكبر و الذي لن يغفره شعب السودان الحالي و المستقبلي هو التفريط في جنوب السودان بكل تلك السهولة في إتفاقية نيفاشا المجحفة للشمال , و الموافقة على إقحام مناطق أبيي و جنوب كردفان و النيل الأزرق في تلك الإتفاقية ! الآن تدوي أغنيات ( وطن الجدود ) و ( هذه الأرض لنا فليعش سوداننا ) من سلامنا الجمهوري , و كأن قبل هذا لم تكن حلايب و الفشقة اراضٍ لنا و لم يكن كذلك الجنوب من ضمن وطن الجدود , و قد كان قد أقسم السيد رئيس الجمهورية في إحدى خطبه أنه لن يفرط في السودان و سوف يسلمه كاملا كما إستلمه !
عند إعلان دولة جنوب السودان لإستقلالها في يوم 09/07/2011 حضر الرئيس البشير إلى جوبا ليكون أول رئيس يعترف بالدولة الجديدة , و ألقى خطابا كان مجمله علاقات حسن الجوار و التعاون المشترك بين الدولتين , و لكن أتت الرياح بما لا تشتهي سفن الشعبين في الدولتين , نتيجة للتزمت و للضغائن التي لم يتم تجاوزها , فكان الخلاف الأكبر في تحديد رسوم نقل البترول الجنوبي بواسطة أنابيب الشمال , و عند إشتداد الضائقة المالية على حكومة الشمال بدأت في تحصيل رسومها من بترول الجنوب بطريقة أحادية إعتبرته دولة الجنوب نوعا من السرقة في وضح النهار و كان رد فعلها أن أوقفت إنتاج النفط في كل حقولها . ثم أتى التصعيد الثاني متمثلا في مساعدة دولة الجنوب للحركات المسلحة في جنوب كردفان و النيل الأزرق و كذلك إحتضانها لحركة العدل و المساواة الدارفورية . أما التصعيد الثالث فكان إغلاق دولة الشمال لحدودها مع دولة الجنوب بنشر جيشها على الحدود و إيقاف تصدير السلع التجارية إلى الجنوب مما إعتبره الجنوب عملا عدائيا يهدف لنشر المجاعة فيه . أما التصعيد الرابع فكان دخول الطائرات الشمالية إلى الأراضي الجنوبية لتعقب الحركات الشمالية المعادية لها و ضربها لبعض القرى الجنوبية أثناء ذلك و إحداث ضحايا بين المواطنين الجنوبيين .
أثناء تلك التصعيدات حاول الإتحاد الأفريقي تقريب شقة الخلاف بين الدولتين و لعب أيوب العصر ثابو مبيكي دورا كبيرا في ذلك فكانت محادثات أديس أبابا بخصوص الحريات الأربعة بين الدولتين ثم زيارة وفد حكومة دولة الجنوب بقيادة باقان أموم و دعوته للرئيس البشير لزيارة جوبا و الإجتماع مع الرئيس سيلفا كير لإنهاء القضايا العالقة , و لكن هل يترك المتزمتون و أصحاب النظرات الأحادية و الأجندة الخارجية السودان في شأنه ؟ فكانت النتيجة أن ألغيت زيارة الرئيس البشير إلى جوبا ثم أوقفت محادثات أديس أبابا الثانية لمناقشة بقية القضايا العالقة بعد غزو جيش جنوب السودان لهجليج ! في نظري أن إقرار الحريات الأربعة كان سوف يفتح مجالا واسعا للتجار و رجال الأعمال الشماليين في الجنوب و كان سوف يضمن سوقا رائجة لكل المنتجات الشمالية , و من ناحية أخرى كان سوف يساعد في إرساء اللغة العربية في الجنوب و نشرها أكثر و أكثر و كما هو معلوم فاللغة العربية تعني بدورها الثقافة الإسلامية , بجانب تعاضد الصلات بين القبائل الحدودية المشتركة و حل مشاكل الرعي بينها و ما تخلقه من نزاعات , و لكن لم ير جماعة منبر السلام العادل و من شايعهم في الحريات الأربعة سوى الإتجار في الخمور و إنتشار الإيدز و السرقات من تواجد الجنوبيين في الشمال ! لقد إستمعت إلى مصطلح ( السودان الكبير ) من الإخوة في جنوب السودان حين إعلان الموافقة على الحريات الأربعة , إنه سودان المليون ميل مربع و الذي سوف يعود ممثلا لمواطنيه من العرب و الأفارقة بعد زوال هذه الطغمة الحاكمة بإذن الله .
اليوم و بعد إعلان الجيش السوداني لإسترداده لهجليج من جيش جنوب السودان تظل الأمور كما هي , إن لم تحل القضايا العالقة بين دولتي الشمال و الجنوب , حتى لا تذهب دماء أبناء السودان هدرا في إعتداءات ربما تتكرر كثيرا بين الجانبين , فرغم إعلان إنتصار الجيش السوداني , أعلنت حكومة الجنوب إنسحابها من هجليج تلبية لمطالب الأمم المتحدة . لا بد من لقاء رئيسي الدولتين لوضع الخطوط العريضة في أمر العلاقة بين الدولتين , ثم لقاء وفود التفاوض للإتفاق على التفاصيل في أمر القضايا العالقة .
أخيرا أكرر و أقول : إن الحل لكل مشاكل السودان السياسية و الإقتصادية و الإجتماعية يكون في العودة إلى مكون السودان القديم و هو التعايش السلمي بين العروبة و الأفريقانية و التمازج بينهما في سبيل تنمية الموارد و العيش سويا دون إكراه أو تعالٍ أو عنصرية . قبل ألف عام كانت في السودان ثلاث ممالك افريقية في قمة التحضر , و طيلة ألف عام توافد المهاجرون العرب إلى الأراضي السودانية ناشرين رسالتهم الإسلامية و متمسكين بأنبل القيم , فكان الإحترام المتبادل هو ديدن التعامل بين العنصرين العربي و الأفريقاني . إن العودة إلى المكون السوداني القديم تتطلب تغييرا جذريا في المفاهيم و في الرؤى المستحدثة و في الوجوه الكالحة التي ملها الناس !
omar baday [ombaday@yahoo.com]