الفيتورى لم يرقد كالماء في جسد النيل
الأحد: الفيتوري لم يرقد كالماء في جسد النيل
سكب أهل الثقافة والأدب دمعات حري علي رحيل الشاعر الكبير محمد مفتاح رجب الفيتوري، وانقسم النقاد كما كانوا في حياته بين من ينسبه الي أفريقيا صوتا ووجدانا وروحا وبين من يقول أن غنائه لأفريقيا محض رد فعل لتشوهات طفولته النفسية وهو يعيش بلونه الأسود بين أطفال الأسكندرية وهو القادم من مدينة الجنينة غربي السودان.ولم يفوت البعض فرصة رحيله لجعلها مناسبة لإفشاء الخصومات حول موقع دفنه، إذ كانت تفضل الجمهرة الكاثرة أن يدفن في موطنه السودان ليسير في درب جنازته الآلاف بما يليق بمكانته الأدبية ولكن فضلت زوجته أن يدفن بالقرب من مسكن ابنته أشرقت حتي تزور قبره وتترحم عليه. ونسيت أسرته الصغيرة أن شعره احتفي بأن يرقد كالماء في جسد النيل أو كالشمس في حقول بلادي، لأن مثله لا يسكن قبرا ويرقد في كل شبر في الأرض.واخذت البعض حمي الشوفونية والقومية فرفض أن ينسبه للسودان قائلا أن أسم مفتاح والفيتوري ليست من أسماء أهل السودان وأننا حولنا كل مفردات أفريقيا في شعره الي السودان، كما فعل وردي في أنشودته الذائعة أصبح الصبح.والبعض الآخر نسبه الي ليبيا وهي علاقة انتجتها ملابسات ظرفية لأنه أراد الإنتساب الي اقتصاديات الوفرة وأرادت قبيلة أبيه أن تعزز نسبها بقامة أدبية فارعة، كما اختصه القذافي لنفسه لينثر حوله رياحين القوافي والمدح والإنشاد ، وأراده أن يكون متنبيه في دولة بني حمدان. ولم ينس له هؤلاء تصريحاته أنه يكون ليبيا عندما يكون في ليبيا ومصريا عندما يكون في مصر.وكذلك قوله أن نقاد مصر تجاهلوا أثر الثقافة المصرية في شعره فنبذوه عن نسبته اليهم لأنه فقط حصر غنائه في أفريقيا.كما انتبذته أيضا الجبهة اليسارية في الستينات مما جعل الناقد الكبير محمود امين العالم يتساءل هل هو شاعر مريض يعبر عن مأساته الخاصة ؟ وأتهمه العالم بأنه كسر الطبقة والكتلة لأن القضية المركزية بالنسبة له يجب أن تكون هي قضية الهيمنة الرأسمالية والاستغلال الطبقي والاستعمار وليست قضية اللون ومأساة القارة الأفريقية.وعلي ذات المنوال يمضي الناقد المغربي سالم أبوظهر وهو يرد كفلا كبيرا من هذا الإبداع لحالته النفسية سيما وهو كان دائم التعلق بجدته السودانية زهرة التي كانت تحكي له في طفولته عن معاناتها في الترحال بين ليبيا والسودان هربا من الطليان ونثرت علي مسامعه البريئة حينها عقدها النفسية الكامنة والتي خرجت من ظلال سحنتها السوداء وماضيها الأليم وهي كانت جارية تسعي بين الناس جربت مشقة العمل ووصم العبودية وهي مسترقة لجده الذي كان يتاجر في الرقيق.و قال الناقد المغربي سالم "هذا كله كان كافياً لطفل يعيش في جلباب جدته أن يورث منها وفي وقت مبكر عقدة العبودية لتلازمه وتكون محور اهتمامه طيلة حياته".
لا شك أن هذا تعليل مبتسر لظاهرة ابداعية شديدة التعقيد عصية علي الكشف عن اصول منابعها الإبداعية، وهي مزيج من عوامل شتي مركبة في حيثيات الزمان والمكان. ومهما تعددت مشارب الفيتوري الثقافية ومسارات ترحاله الجغرافية وألوانه الشعرية ومحطات ميلاده الأدبية لكن المكون السودانوي في شعره وخلاسية قافيته ومزاجه النفسي وإيقاعه الوجداني وتاريخه الإجتماعي وقضيته الافريقية تنسبه الي السودان لا لغيره والي انشودته الي السلطان تاج الدين الذي غني له أجمل معزوفاته وهو درويش يتجول في الطرقات.هل كان يمكن أن يكتب الفيتوري كل دواوينه الراعشة وغنائيته الدافقة لأفريقيا إذا لم يكن ينتمي الي السودان وجدانا وثقافة وميلادا وحنينا، وإذا لم تكن جدته زهرة وإذا لم يكن السلطان تاج الدين هو مصدر فخره وعزته وهو يقهر جحافل الفرنسيين؟.
الأثنين: خطاب الازمة في العالم العربي بين شفيق الغبرا ومني الطحاوي
دفعتني المتابعة لديناميكية التطورات السياسية والفكرية في المنطقة العربية لرصد ملامح خطابين للأزمة تسوقني مقتضيات الترميز الي تسمية الدكتور شفيق الغبرا والدكتورة مني الطحاوي. فالغبرا استاذ للعلوم السياسية في جامعة الكويت ومفكر كويتي من أصل فلسطيني، ومني الطحاوي ناشطة مصرية تعيش مع زوجها الأمريكي في نيويورك و سبق وأن علمت مراسلة لرويترز في القاهرة والقدس. لفت الدكتور شفيق الغبرا أستاذ العلوم السياسية بجامعة الكويت انتباه جمهرة المشاهدين في تعليقه علي تطورات الأحداث في منطقة الشرق الأوسط منذ اندلاع الأزمة العراقية والسورية واليمنية، وظل يدين بشكل متسق ومستمر الذهن السياسي العربي والسلطان الإستبدادى المخيم علي مستقبل الشعوب العربية، وقال بصوت جهير أن التقدم في المنطقة العربية مرهون بمكافحة الإستبداد السياسي وخاصة استبداد المحتل الإسرائيلي، لذا نادي بأهمية التسوية السياسية في سوريا وفي اليمن قال إن الأزمة هي مشكلة التهميش السياسي والإقتصادي والإجتماعي. أثار كتاب الغبرا الأخير (حياة غير آمنة) عن سيرته الذاتية وسيرة الكفاح الفلسطيني عاصفة من الجدل وسط النخب الفلسطينية والسياسية في العالم العربي. في المقابل برزت مني الطحاوي علي السطح منذ ان خصصت مجلة السياسة الخارجية (فورن بوليسي) عنوان الغلاف في ابريل 2012 لمقالها الصارخ بعنوان (لماذا يكرهوننا) عن ما أسمته الحرب الحقيقية علي النساء في الشرق الأوسط، وظلت تقود بشكل مستمر حملات ضد ما اسمته تسلط الرجل، وهاجمت اعتداءات السلطة علي النساء اثناء ثورة مصر ، ونادت بحرية المرأة في قيادة السيارة في بعض الدول العربية وأحتجت ضد ممارسات الختان وكذلك قانون الأحوال الشخصية في مصر الذي لا يعاقب الرجل حسب زعمها في ضربه للمرأة.وأجرت صحيفة الغارديان البريطانية استطلاعا حول ردود فعل النساء العربيات علي مقال الطحاوى حول حرية المرأة في ظل ثورات الربيع العربي.نشرت الطحاوي مقالا الأسبوع الماضي في صحيفة (النيويورك تايمز) سردت فيه قصة تخليها عن الحجاب كعلامة للتحرر والإحتفاء بالعقل والإرادة بعد ان لبسته بعض الوقت عندما كانت تعيش مع اسرتها في المملكة العربية السعودية، وهي الآن بصدد اصدار كتاب جديد خلال الشهور القليلة القادمة بعنوان (الحجاب وغشاء البكارة:الشرق الأوسط يحتاج لثورة جنسية). ويروج لها البعض لتكون النسخة الحديثة للدكتورة نوال السعداوي.
هذان نموذجان لخطاب النخب السائد في العالم العربي، إذ يرد دكتور شفيق الغبرا الفوضي والإضطراب في المنطقة العربية لعامل التهميش السياسي والإقتصادي والإجتماعي ، وتقدم الناشطة المصرية الأمريكية مني الطحاوي مقاربة وجدت استهجانا واسعا حيث تفسر المتاعب والمخاض العسير الذي تمر به المنطقة العربية الي متلازمتي الحجاب وغشاء البكارة وتظن ان التحرر يكمن في احداث ثورة جنسية تطلق عقال المرأة وتحررها من قواعد التقاليد والثقافة المحافظة والتدين الشكلاني حسب زعمها. لبيان التخليط الفكري السائد فقد حصر هذان الخطابان الأزمة في المنطقة العربية بين مقاربتي التهميش السياسي والثورة الجنسية. ويكفي ما بينهما من تناقض وبون شاسع وهو ما يكشف عمق الأزمة التي تعيشها المنطقة.
الثلاثاء: محمد دحلان والتوسط في اتفاق سد النهضة
نشرت مجلة (النيوزويك) الأمريكية الأسبوع الماضي تقريرا عن توسط محمد دحلان السياسي الفلسطيني المعروف ورئيس المخابرات السابق في غزة في تسوية أتفاق سد النهضة بين مصر وأثيوبيا. واكدت المجلة أن دحلان الذى يعيش في الإمارات العربية وصل العاصمة الأثيوبية أديس أبابا والتقي بوزير الخارجية الأثيوبي في معية رئيس المخابرات المصري وأجري مباحثات مع رئيس الوزراء الأثيوبي ووضع الأسس التي انبني عليها الإتفاق الإطاري لسد النهضة، وذلك بدعوة من الرئيس المصري ورئيس الوزراء الأثيوبي.ونشرت المجلة صورا تثبت قيام هذه الإجتماعات.لا شك أن هذا التقرير يستبطن محاولة مفضوحة للتقليل من جهود السودان في الوساطة بين مصر واثيوبيا في التوقيع علي الإتفاق المبدئي لسد النهضة الذي شهده الرؤساء الثلاث بقاعة الصداقة بالخرطوم. وكما سبق وأن أوضحت في مقالات سابقة فإن العديد من الدول الغربية غير سعيدة بنجاح الدبلوماسية السودانية في التوسط لإنجاز هذا الاتفاق الذي اعاد الدور التاريخي المفقود للسودان والذي تم بجهد خالص من وزيري الخارجية والكهرباء مولانا علي كرتي ومعتز موسي، وبرعاية وتوجيه واشراف مباشر من الرئيس البشير. وعزت المجلة هذا الجهد الدبلوماسي لدحلان لإستعادة مكانته السياسية بعد أن فصله الرئيس الفلسطيني ابومازن عام 2011 اثر توجيه اتهامات ضده بالفساد، وسعيه لبناء قواعد اقليمية وتحالفات دولية ترفع من اسهمه السياسية داخل حركة فتح لخلافة الرئيس محمود عباس في الوقت المناسب.كما لم تخفي جهات الإشارة لصلاته الواسعة مع واشنطون وتل ابيب.
الأربعاء: احاديث في الثقافة والفنون مع طارق الأمين
زار الفنان المبدع الأستاذ طارق الأمين رئيس فرقة الهيلاهوب مدينة جنيف الشهر الماضي للمشاركة في جلسات مجلس حقوق الإنسان ضمن وفود ممثلي المجتمع المدني،وكانت فرصة سانحة لإدارة حوار عميق معه بمشاركة الدكتور فتح الرحمن القاضي والأستاذ فتح العليم عبدالحي الأمين العام لمجموعة سائحون حول مآلات التجربة الثقافية للإسلاميين في السودان،وبالطبع فقد كان مغرورقا بمرارة إغلاق مركز بيت الفنون دون مبررات مقنعة، ومعتزا بتجربته الفنية في الإنتاج المسرحي والغنائي.كشف لي هذا الحوار أن بعض النخب المبدعة في البلاد ما تزال تشكك في جدوى المشروع الثقافي والاجتماعي والفكري لتجربة الإسلاميين في السودان، بل يعتبرون فاعليه الثقافيين خلو من جينات الإبداع وينسبون مقارباتهم الفقهية الي مذهب السلف لا مدرسة المعاصرة المنفتحة علي التجديد والتأصيل.ويري الأستاذ طارق أن مفهوم الثقافة اصبح باهتا ومشوشا إذ تعتبره الأجهزة الإعلامية هو الغناء فقط بتكثيف بث ضروبه وايقاعاته المختلفة ، لا الإهتمام بالمكون الفكري في العملية الثقافية، ولا تجلياتها الفنية والسلوكية والبصرية والإجتماعية. ذكرني هذا النقد ما سمعته كفاحا من الراحل الكبير الأستاذ محمد وردي الذي قال لي إن الإنقاذ تريد من الفنانين الغناء للطوب الكباري والأسمنت لأنها لا تمتلك مشروع ثقافي تقدمه للمبدعين لتمجيده ونشره والإحتفاء بمفرداته ومعانيه.
ما تزال جبهة الثقافة عصية علي التكيف مع مقتضيات مشروع الإنقاذ السياسي والإجتماعي لأنها جزء فاعل من استثمارات اليسار لعقود متطاولة، مع غبش فقهي لا يمنح صكوك الإطمئنان لمتعاطي الإبداع رغم اجتهادات الأفذاذ خاصة من قبل الدكتور حسن الترابي وقد ذكر لي د. امين حسن عمر قبل سنوات خلون أن مقاربات الفقه لقضية الفنون ما تزال تواجه معضلات جمة إذ لا يجروء فقه معتبر أو مفكر بارز من تقديم فتوى تتصالح مع ليبرالية الفنون وطلاقة التعبير فيها. نشر مؤخرا الدكتور عصام أحمد البشير كتيبا صغيرا عن (الجمال رؤية مقاصدية) طبعته مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي التي يرأسها وزير النفط السعودي الأسبق أحمد ذكي يماني شرح فيه مفهوم الجمال ومركزه في الرؤية القرآنية وقيّد رؤيته المقاصدية علي انه قيمة مطلقة مرتبطة بالخير وكذلك بيّن الاقتصاد في التعاطي مع الجمال واوجه الاستمتاع والانتفاع المادي به ومن ثم تجلياته الكونية العريضة.
لقد جذبت ناشطية حقوق الإنسان الأستاذ طارق الأمين وتحول جزء من ابداعه الي مشروعات (عديل المدارس) الطوعية، ولكن سيظل يفتقده الإبداع المسرحي والغنائي وضروب الفنون المختلفة. يحتاج هذا الفعل المبدع الي عقد اجتماعي جديد يعيد للفن بريقه وصوته المفقود وأن يقدم المبدعون خدماتهم الجليلة للمجتمع في صناعة الدهشة والخير والجمال.
الخميس: شوق الدراويش لعنة تطارد كاتبها
حركت روايتا شوق الدراويش للكاتب حمور زيادة وحارة المغني للكاتبة ليلي أبوالعلا ساكن النقد الروائي في السودان بعد طول مكث واستكانة لما تضمنتهما من ابداع روائي اصيل وقضايا مفعمة بالحيوية سيما وانهما ارتبطتا بالتاريخ الإجتماعي للسودان خلال حقبتين مختلفتين.ولأن الراوية لا تمثل انعكاسا تجريديا للوقائع التاريخية بل تعد بعض ضروبها تخليلا ملهما لأحداث التاريخ في قالب فني مبدع فقد اثارات الروايتان جدلا كثيفا حول المسكوت عنه في التاريخ الإجتماعي خاصة شوق الدراويش.أما حارة المغني فهي اغنية حنين دافق لتاريخ أسرة عريقة الجذور في التاريخ الإقتصادي والإجتماعي للسودان من خلال سرد درامي لتراجيديا قصة الشاعر المرهف عوض حسن ابو العلا صاحب الإغنيات الوارفة بحنجرة الفنان الراحل أحمد المصطفي.
انتابتني هواجس النقد خوفا من تصبح رواية شوق الدراويش لعنة تطارد كاتبها لأنها جاءت نابضة بالدهشة و طازجة الدفق تختزن قدرا من المفاجئات الراعشة و استجابت لكل شروط الراوية الناجحة في السرد والحبكة والمقاربة التاريخية والبناء الفني خاصة الشخصيات وتسلسل الأحداث واحتفت بها الأوساط الأدبية في القاهرة والخرطوم واعلنت عن ميلاد روائي مميز له القدرة علي اختراق سياج المحلية الي آفاق العالمية.والخوف هو ان يعجز كاتبها عن تجاوزها بإنتاج نص جديد يتفوق عليها في عناصر نجاحها السابقة فتتحول الي لعنة مثل مائة عام من العزلة لماركيز أو موسم الهجرة الي الشمال للطيب صالح. يستطيع الروائي المبدع حمور زيادة ان يختزن تجربة نجيب محفوظ فيكتب في انتاج روائي جميل متسلسل عن تحولات المجتمع عبر حقب التاريخ الممتدة مثلما فعل نجيب محفوظ مع الحارة المصرية أو أن يقتفي اثر الطيب صالح فيكتفي بالانتاج القليل المتميز ويشيد قريته الخالدة ود حامد في وجدان الرواية العالمية ولكن يظل شبح مصطفي سعيد يطارده في كل مكان وتظل موسم الهجرة هي مركز ابداعه التفاعلي. فهل تحبسه شوق الدراويش وتصبح مركز ابداعه الروائي ويصير ماعداها هو انتاج يدور في ذات الفراغ واللغة والخيال، أم أنها بداية قوية لأعمال اكثر ابداعا وامتاعا وادهاشا روائيا؟ هذا ما سيجيب عليه الروائي والكاتب المبدع حمور زيادة فقط.
kha_daf@yahoo.com