الكرسي الناقص .. بقلم د. عمر بادي
24 September, 2009
مقتطفات من كتابي: القيام بالدفرة
(مجموعة ذكريات وخواطر طريفة)
( الكتاب الثاني)- 2009
فيما أذكر ولا أذكر وأنا طفل يافع ، قادني أهلي إلى خلوة لتعليم القرآن الكريم ومبادئ الكتابة والقراءة . كانت في مسجد قريب من منزلنا بحلفاية الملوك ، هو جامع الفقيه شمس الدين ، ولا أذكر إن كان شيخ الخلوة حينذاك هو الفقيه نفسه أو كان (حواراً) له . كنا نجلس على الأرض المغطاة بالرمل ونكتب عليه ونمحو الحروف الأبجدية . هذا قبل أن ننتقل إلى مرحلة الكتابة على الألواح الخشبية . كان الشيخ ، ولكي يفتح شهيتنا للتعلم ، يحفزنا بوجبة (البليلة) بين حين وآخر ، وكان يوزع مستلزمات صنعها بيننا ، فيأمر كل طفل بأن يحضر معه من بيتهم عوداً للحطب وما يعادل ( كوزاً ) من الذرة ، فكنت ترى كل طفل يحضر في صبيحة ذلك اليوم الموعود جاراً في يده عوداً للحطب وحاملاً في( طرف )جلبابه كمية من الذرة المطلوبة ولا ضير إن كانت من نوع ( الفتريتة ) أو ( المايو ) أو ( الفريك) أو ما شابه ، وكان الشيخ بحصافته يعرف أبناء التجار والموظفين ( المرتاحين ) فكان يوصيهم أن يحضروا معهم ما تيسر من التمر ويا حبذا لو معه قليل من السكر . كان الشيخ يشعل النار وكان يجهز القدر بمحتوياته من البليلة والتمر والماء ويضعه عليها ، وكنا نتحلّق النار ونحن جلوس فنصليها ضراماً برمي أعواد الحطب عليها ونحن ما بين تلاوة وحفظ للقرآن الكريم ، حتى تنضج البليلة فيوزعها علينا الشيخ في قصعات نلتهمها في تلذذ يودي بنا إلى إيقاظ الأنانية فينا فنلتهم خطفاً نصيب الآخرين فيردون علينا الصاع صاعين وتبدأ المشاغبات ...
بعد تلك المرحلة المبكرة أخذتني والدتي إلى مدرسة آمنة وهي روضة أطفال على مستوى تمهيدي كما يقال في زماننا هذا . كانت ست آمنة تعد الأطفال من الجنسين في روضتها للدخول للمرحلة الإبتدائية . كان ذلك في منتصف الخمسينات ، وأقول ذلك لأثبت أمراً في حق تلك المرأة . روضة ست آمنة لا زالت مستمرة في حينا الرابع في حلفاية الملوك ولا زالت تشرف عليها ست آمنة دون إنقطاع أو إغلاق . لا أدري متى إفتتحتها ولكنني وجدتها هكذا عند إلتحاقي بها . ألا تستحق هذه المرأة التكريم من أعلى المستويات ؟ أذكر أنني لم استمر كثيرا في تلك الروضة والسبب كان خاصاً بي ، فرغم نظافة الروضة ومنهجها التعليمي الشيق ورغم رقة ست آمنة ، إلا أنني كنت أكره البنات ! فكنت أتشاجر معهن ولا( أرتاح ) لهن فتركت تلك الروضة . لكنني وبعد ذلك بسنوات عدة تغير حالي وكنت أردد لنفسي ضاحكاً : ((ما محبة إلا بعد عداوة )) ..
شعر أهلي أنني قد كبرت في إدراكي فقادوني إلى مدرسة الشيخ مصطفى الملثم الصغرى ، وهي في حقيقتها كانت خلوة ربما في مكان خلوتنا الأولى ، لكن الشيخ مصطفى الملثم وبمجهوده الخاص مع وزارة التربية والتعليم قد رفعها إلى مدرسة صغرى وقد تحولت فيما بعد إلى مدرسة إبتدائية لا زالت تؤدي مهمتها في إنارة طريق المعرفة للصغار . في تلك المدرسة مكثت بضعة أشهر ثم عدت بعدها مع والدتي وإخوتي إلى مدينة ( واو ) في جنوب السودان حيث كان يعمل والدي ..
في العام 1992 بعد أن عدت من دولة الأمارات العربية المتحدة ذهبت بإبني الأكبر نزار إلى المدرسة المتوسطة والتي تقع على محطة (الكيلو) بحلفاية الملوك ، وهناك إلتقيت بالأساتذة والذين كان معظمهم من الحلفاية ، ورويت لهم أنني قد ساهمت في بناء هذه المدرسة وقد كنت أشاهد جاراً الألواح الخشبية للصبة أو حاملا قدح ( المونة ) لساعات وأيام تطوعاً منى . كان ذلك بعد ثورة أكتوبر 1964 م وقد كنت في المرحلة الثانوية وفي الإجازة المدرسية إلتقي الطلاب شباب الحي وقرروا عمل شيء لحيهم وأجمعوا أن يكون مدرسة ورفعوا أمرهم للمجلس الريفي ولوزارة التربية والتعليم وجمعوا التبرعات وإستلموا الأرض وبدأوا في التشييد وعند إفتتاحها حضر الوزير وأشار أن تكون المدرسة معهدا علميا ، ثم تحول فيما بعد إلى مدرسة متوسطة ( وحاليا هي مدرسة ثانوية) . كانت هذه المعلومات جديدة على الأساتذة فطفقوا يقارنون بين طلاب الأمس وطلاب اليوم ويتحسرون . المهم قبلوا إبني نزار مع أن عدد طلاب الفصل كان قد إكتمل ، وبعد ذلك طالبوني بتبرع سخى للمدرسة . عند عودتي من العمل قابلتني أم نزار متحفزة كعادتها عندما يثيرها أمر جلل ، وإنفجرت ذماً في المدرسة ومن فيها: (( كيف ولدى آخر الزمن يقعدوه في الأرض جوه الفصل ؟ دى والله آخر مرمطة )) ، فناديت نزار وعرفت منه أن المدرسة بها أزمة كراسي وقد نصح الأساتذة الطلاب بإحضار كراسي لهم من بيوتهم ليجلسوا عليها ، على أن يعيدوها إلى بيوتهم عند إنتهاء العام الدراسي . إلتفت نحو طقم الكراسي الفاره على جانب ( الهول ( والذي به أربعة كراسي حديد منسوجة بالبلاستيك الملون تتوسطهم طاولة من الحديد وقلت لنزار :((حأديك كرسي ، ناظرك ما عنده زيه))، فتهللت أمه ولكنها أردفت :(( لكن الطقم حيبوظ )) ، فذكرتها بأننا سوف نستعيده في نهاية العام الدراسي . في صبيحة اليوم التالي حملت الكرسي ووضعته على السيارة وذهبت بنزار إلى المدرسة وأنزلته والكرسي وذهبت إلى عملي ، ودخل هو إلى المدرسة جاراً في يده الكرسي الحديدي وحاملاً في حقيبته المدرسية سندوتشات الهامبورجر والسجق وحافظة عصير التانق وقطعاً من الحلوى .. صار نزار يأتيني بين فينة وأخرى طالباً أموالاً للمدرسة ، فمرة عندهم إحتفال بيوم الآباء فندفع نحن الآباء ليحتفل بنا ، ومرة عندهم يوم للأخوان ويوم آخر للأصدقاء وهكذا ونحن ندفع .. في مرة قال عندهم إحتفال بيوم الفصل وقد أشار عليهم مشرف الفصل بذلك وطلب منهم جمع الاشتراكات ، فأعطيته ما طلب ، ثم سألته بعد مدة كيف كان يوم الفصل فأجابني أنهم لم يحتفلوا بعد . ليه ؟، أجابني:(( والله مشرف الفصل ، قال لسه بيجهز للإحتفال)) ، وهكذا إستمر سؤالي وإجابة نزار كما هما إلى آخر ذلك الشهر . في بداية الشهر الجديد جاءني نزار وأعلمني أن المشرف قد إنتهى أخيراً من تجهيز الحفل وقد عملوه . قلت له : (( يكون انتهى من تسديد إشتراكاتكم من الماهية )) ، ضحك نزار ضحكة من تذكر شيئا وقال لي : ((إتذكرت سمعته مرة مع مدرس صاحبه يتكلموا كيف يلقوا واحد يدينهم قروش لحدي آخر الشهر )) ، وضحكنا معا على ( حرفنتهم ) ! .
عند إنتهاء العام الدراسي وفي اليوم الأخير عرّجت على المدرسة لآخذ معي نزار والكرسي ، ووجدت نزار بدون الكرسي . (( وين الكرسي يا ولد ؟ )) أجابني : (( والله ما عارف ، مشيت الفصل أشيله ما لقيته )) . سألت الخفير على الباب : (( يا حاج جاك كرسي طالع من هنا وصفه كذا وكذا ؟)) أجابني الخفير بالنفي .
أثناء ذلك حضر طالب إلى نزار وقال له إن كرسيه موجود داخل مكتب الأساتذة . ذهبت مع نزار داخل المكتب ووجدت الكرسي الذي لا ( يغباني ) وقد جلس عليه أحد الأساتذة خلف طاولته . (( يا أستاذ دا كرسينا)) ، أجابني : (( والله لو شنو وشنو ما أقوم ليك منه )) ، (( يا أستاذ لكن الطقم حيبوظ )) ، أجابني : (( ياخي إعتبر نط عليك حرامي سرقه )) . نظرت إلى الأساتذة الآخرين وقلت : (( والله دا قلع عديل يا جماعة )) ، فتبسموا ولم يعلقوا . بعد ذلك صرنا في البيت كلما أتانا ضيوف وخاصة النساء كانوا يسألون في عفوية : (( طقم كراسيكم السمح دا ناقص كرسي مالو ؟ )) وتنبري أم نزار وتتولى رواية القصة بطريقتها الخاصة والمحفوفة بالمبالغات والتشويقات ..
صحيفة (الخرطوم) : 8/10/2002 م.