المؤسسة السودانية .. من الطقوسية الى الإنهيار (2-5)

 


 

 

mbakri9@gmail.com

انحدار المؤسسة نحو الطقوسية ومن ثم الى الانهيار لا يحدث دفعة واحدة. المؤسسة كائن اجتماعي بالغ التعقيد ولها طبقات كعش الطائر يبنى كما يقول الأهل "قشة قشة" وهو عش عصي على رياح التغيير، وإن قال Douglas C. North إن قواعد المؤسسية تعشش في تراتبية “Rules nested in a hierarchy” فإن التجربة السودانية تعلم المرء أن كل طبقة تستدعي شكل الطبقة التالية وأن الانزلاق نحو الطقوسية أيضا طبقات. في هذه الحلقة الثانية من المقال أود أن أرسخ تعريف المؤسسة والترتيبات المؤسسية ورصد الانحدار نحو الطقوسية.
سكان جمهورية جنوب السودان كانوا جزء من المؤسسة السودانية منذ قبل استقلال السودان عام 1956 وحتى استقلال جمهورية جنوب السودان عام 2011. هذا القسم من السكان بدأ في مقاومة الترتيبات المؤسسية حتى قبل الاستقلال منذ عام 1954، وظل يقاوم تحت ظل أنظمة تعددية وانظمة دكتاتورية. ما اريد قوله انه مهما حدث منذ 1954 من تعديلات مؤسسية هنا وهناك - اتفاقية أديس أبابا 1972 واتفاقية السلام الشامل 2005، والحكم الاقليمي - ومهما كان هنالك من اقسام اخرى من السكان كانت تنادي بتعديلات مؤسسية جوهرية من أجل هذا القسم من السكان وحتى استقالة السودانيين الجنوبيين من المؤسسة السودانية بإعلان استقلالهم، ومهما كان تعريفك للدوافع والادوار ومهما كانت شماتة بعض ضيقي الافق بمشاكل جنوب السودان الحالية، هؤلاء القوم الجنوبيون السودانيون قالوا للمؤسسة السودانية بعد كل هذه الحروب والدماء وبالتي هي أحسن "أن ترتيباتكم المؤسسية لا تخارج معنا، ونحن لا نريد أن نكون جزء منها." لا داعي للخوض في التحيزات المؤسسية ضد سكان الجنوب فقد أضحت معروفة الآن. لكن لابد أن نقر بعدة حقائق:
اولا، النظام الذي تطور منذ الحرب الاهلية الطويلة، الاولي عام 1954 والثانية عام 1983، وتطور الهوية الجنوبية وما حدث في المركز من تغليظ للهوية الشمالية Thickness كان عملية ارتقائية من كل الجوانب بمعنى Co-evolutionary process وترتب عليها تعقيد النظام الذي تقوم عليه المؤسسة السودانية الى حد غير مسبوق.
ثانيا، النظام القائم على السلطة بمعنى Regime هو ممثل وحارس الترتيبات المؤسسية وتجليها مهما كان رأيك فيه. لكن في نفس الوقت إن المنطق المؤسسي يحتم إلا نركن لخلاص الذمة وراحة الضمير عن طريق القاء المسؤولية على الإسلاميين كليا ونظامهم، حيث إن المؤسسة كانت قائمة قبلهم وقد بددت الفرص لبزوغ مؤسسة جديدة وقد كان على رأسها علمانيين صُرف.
ثالثا، أن المؤسسة تنزع نحو الديمومة والاستقرار Intuitional Endurance والترتيبات المؤسسية عنيدة لأنها تقوم على أخلاق الناس وضمائرهم، بل الاخطر انه تقوم عليها الايدولوجيا التي تحرك الحكام.
رابعا، ما حدث في تجربة استفتاء الجنوب واستقلاله هو حدث مؤسسي من الدرجة الأولى، حيث واجه النظام السوداني خيارين. الخيار الأول كان هو الانتقال الى مؤسسة أكثر تعقيدا لمواجهة واقع اجتماعي أكثر تعقيدا، أي إحلال المؤسسة القديمة بمؤسسة جديدة تستوعب وجود أكثر من ثقافتين كبيرتين في النظام الاجتماعي علاوة على ذلك حل قضايا الدين والسلطة، قضايا الهوية والسلطة، وقضايا تقسيم الثروة والسلطة. الخيار الآخر كان الحفاظ على المؤسسة القديمة.
الاختيار كان ذهاب الجنوبيين واختيار استمرارية المؤسسة القديمة التي لم تتكيف مع نشؤ الهوية الجنوبية السودانية. ما حدث هنا أن المؤسسة السودانية نحت نحو تبسيط التعقيد الاجتماعي في المجتمع السوداني العريض بقبول انفصال الجنوب، أي الإبقاء على الترتيبات المؤسسية القديمة. بمعنى آخر أن مركز صناعة القرار المؤسسي وقدرته على التكيف المؤسسي لم تعد مناسبة للنمو في حجم السكان والتعقيد البالغ في المشاكل الذي يطرحها هذا النمو. هذا في جوهره تكريس للبنية الطقوسية التراتبية للمؤسسة، فالمسالة ليست فقط ضيق الاخوة الجنوبيين بمركز المواطن من الدرجة الثانية في المؤسسة التي ينبغي أن يكونوا شركاء اصلاء فيها، بل اصرار المؤسسة على هذا الوضع الطقوسي. والمشكلة الأكبر ان الأمر لا يتعلق بالهوية الدينية وحدها، كما سيبين التاريخ فيما بعد، بل بهويات اخرى يحملها أناس آخرين، حتى لو كان هؤلاء الناس على اتفاق في وجه من وجوه الهوية مع ديانة مركز صناعة القرار المؤسسي. فالمؤسسة تنحدر يوما بعد يوم نحو الطقوسية وجوهر الطقوسية تركز القرار في أيدي قليلة وانعدام التعاون المؤسسي. وفي خضم ذلك ينحدر النظام الاجتماعي من مجتمع معقد Complex الى مجتمع أقل تعقيدا Less Complex وتنخفض درجة تكيّفه بما في ذلك تكيف مؤسسته Institutional adaptability. حين يرتضي حراس المؤسسة خطوة واسعة نحو الطقوسية ستُجر اقدامهم الى خطوات أكبر نحو الطقوسية لا سبيل للتراجع عنها.
إذا تابعنا نفس التحليل المؤسسي وحاولنا مقاربته مع الحالة الدارفورية نجد انه منذ عقود لم تكن الترتيبات المؤسسية تلبى تطلعات المكون السكاني لإقليم دارفور. عندما برزت تطلعات مشروعة للمكون السكاني في دارفور تم التعبير عنها باكرا من خلال منظمة اللهيب الاحمر في 1957 ومنظمة سوني 1963. ورغم أن الظلامات في جوهرها هي نفس الظلمات التي طرحها الكتاب الأسود في مايو 2000، تمكنت المؤسسة بسرعة من دمغها بالعنصرية وماتت الحركة في مهدها. ذلك جدير بالتأمل. في ظني أن ذلك حدث لان المؤسسة لا تزال تملك بعض الحيوية ولم تنحدر تماما نحو الطقوسية والجمود بعد. وفوق ذلك، بل الأهم، أن هنالك دائما ذاك الإيمان الواسع بالترتيبات المؤسسية الراهنة وأن ثمة أمل لدي الأفراد والجماعات بما في ذلك الجماعات المظلومة disadvantaged groups أن بزوغ ترتيبات مؤسسية جديدة ممكنا، وأن لتراكم التعديلات، حتى لو كانت صغيرة، أثره في النهاية نحو التحول الى ترتيبات مؤسسية جديدة. يبقي ثمة أمل، بل حتى أن الجماعات المظلومة قد تواصل في العادات المؤسسية القديمة لأنها تعطيها هوية مؤسسية: انتماء ما لجماعة او أمة، انتماء لشيء أكبر منها. ولكن ظلت الظلامات قائمة وظلت المؤسسة تسابق نفسها نحو الطقوسية وتتعامل مع الظلامات دون تغيير مؤسسي جذري بمعالجات مؤقتة.
تم التعبير بقوة عن هوية الإقليم مرة أخرى في انتفاضة 1981 التي حدثت بدارفور وحدها دون سائر أجزاء البلاد عندما فرض عليه جعفر نميري حاكما من خارج الإقليم. انحنت المؤسسة للعاصفة واستجابت جزئيا للمطالب، ولكن مرة اخرى لم تأت المؤسسة بتغيرات مؤسسية جديدة وحافظت على نفس الترتيبات المؤسسية حتى أن تعيين المرحوم أحمد إبراهيم دريج لم يكن خارجا عن الترتيبات المؤسسية القديمة.
يحدث ما يحدث في المركز المؤسسي، لكن هنالك عمليات أخرى تجرى في نفس الوقت في الانظمة الاجتماعية. هذه العلميات هي ببساطة تراكم المظالم وازدياد التناقضات المجتمعية، بل تطور الوعي بها. حيث يصير هذا التعاون المؤسسي الذي قد تنتج منه في بعض الاحيان حالة من الازدهار مؤقتة كما حدث في الجنوب بعد اتفاقية أديس ابابا، غير ممكنا.
بناء على ذلك حدثت نقطة تحول كبرى في نهاية التسعينات وذلك عندما عبرت بوضوح عن هوية الاقليم حركات واسعة تنادى بترتيبات مؤسسية جديدة. نعم هذه الحركات كانت تحمل السلاح، ولكن يجب أن نتذكر هنا شيئين أساسيين: أن حركة تحرير السودان عندما تكونت نواتها عام 2002 وأعلنت عن وجودها بعملية عسكرية عام 2003 كانت تضم ثلاث من المكونات السودانية الاساسية في الاقليم: الفور والزغاوة والمساليت ممثلة في شخصيات القادة الثلاثة عبد الواحد نور ومني اركو مناوي وعبد الله أبكر. وأيضا كان هنالك حراك سياسي ملحوظ يتجاهله الكثيرون الان عن عمد حيث بدأ يتطور بين أبناء القبائل العربية في دارفور الإحساس بالهوية الدارفورية في نضالها ضد الترتيبات المؤسسية الماثلة، بل خاض بعض ابناء القبائل العربية بالفعل تجربة التنظيم نحو الوحدة نذكر من ضمنها مجموعة أنور خاطر وهو من شباب قبيلة المحاميد آنذاك وصلاح ابو السرة، صار فيما بعد رئيس جبهة القوى الثورية الديمقراطية واخرين من طلاب الجامعات والمهنيين أواخر التسعينات وبداية الألفية . أضف الى ذلك دعوات القائد عبد الله أبكر لانخراط ابناء المكون العربي في ثورة دارفور (انظر مقال لعادل عبد العاطي في رصد الحراك السياسي في دارفور وإحتمال المطالبة بتقرير المصير). مهما كان التعبير عن الهوية الدارفورية خافتا بين عرب دارفور آنذاك الا انها تظل مستودعا قابلا للانفجار في مواجهة هوية المركز في أي وقت (وضع عرب دارفور في النادي المؤسسي السوداني هو ايضا يطرح تساؤلات كبيرة، لا يسع المجال لها هنا سنعالجها سويا لاحقا). على كل حال بالعرب أو بدونهم كان انفجار الوضع في دارفور حدثا عظيما، ومخيفا للمؤسسة وحراسها، إذ انه يضع في المحك سؤال الهوية المهيمنة الذي من اجله كان آنذاك التخطيط للتضحية المؤسسية بجنوب السودان يجرى على قدم وساق في سبيل استقرار مؤسسي زائف. كان الموقف في رمته يكشف أن الترتيب المؤسسي الراهن لا صله له بالدين أوالعقيدة، بل يمتد ليشمل العرق والثقافة رغم انف العقيدة، بل هو في الأساس سباق طقوسي تأسس على عدم العدالة وعدم التساوي في بنيات السلطة Inequality and unequal power structure.

لجأت السلطة للحل الأمني بما في ذلك القتل والاغتيال والاغراء والافساد وشق الحركات ومع تعقد الامر انزلقت السلطة بسرعة مذهلة نحو مزيد من الحل الطقوسي تمثل ذلك في اللجوء للعنصر العربي في دارفور ليلعب دور البوليس في فرض الترتيب المؤسسي القديم في الاقليم. هذا الحل يبدو منسجما مع طقوسية المؤسسة، ولكنه خطوة أكبر نحو درك أسفل في الطقوسية، خاصة عندما ننظر للعجز المؤسسي في فصل الجنوب.
مع تناقص القدرة على التكيف يتصالح مركز القرار المؤسسي مع أبنية سلطوية جديدة تظهر عفويا ظنا منه أن ذلك سيؤدي للحفاظ على الترتيبات المؤسسية الاصلية بينما هو انزلاق أكثر نحو الطقوسية وخطوات متسارعة نحو فناء المؤسسة، بل وتفكيك لمركز القرار المؤسسي. في خضم هذا الطقس المؤسسي، بل في خضم هذا (الهجيج) المؤسسي سلمت المؤسسة في عمى تاريخي جزء من احتكار عنف الدولة في جزء ما من الوطن لجزء متخيل منها. ومع انفجار أجزاء اخرى من الوطن، زادت المؤسسة من تسليحه.
أضف الى ذلك، عندما تنتشر ثقافة عدم التعاون المؤسسي وعدم الثقة سترتفع وتتصاعد تكلفة الرقابة الامنية والسيطرة، وهذا يدفع المركز المؤسسي لمزيد من التخلي عن احتكاراته السلطوية ويقوم بتوكيلها ويتبع ذلك التسليح والاعداد وإضعاف المركز المؤسسي نفسه. وقد ثبت بالبحث امبريقي ان هنالك ارتباط شرطي Correlation بين انتشار ثقافة العقاب الشديد للمكونات السكانية وازدياد تكاليف اخرى تصير باهظة بل وترتد الى صدر المركز المؤسسي نفسه، منها ازدياد تكلفة بناء السمعة التعاقدية وتأكل الثقة في التعهدات والتأكيدات وفي النهاية تزداد تكلفة التعاقد نفسه بين الشركاء المفترضين.

 

آراء