المصالحة الثقافية مع مصر: المأزق التاريخي والممكن والمأمول
طالعت مقال الأستاذ غسان علي عثمان بعنوان ( موقعنا الحضاري: والمصالحة الثقافية بين مصر والسودان) ، و المنشور في موقع سودانايل بتاريخ 13 يوليو 2018 م ، ولأهمية المقال و الافكار التي أثارها قمت بكتابة مقال أول بعنوان ( موقعنا الحضاري المصالحة الثقافية مع الذات قبل الرحيل الى مصر ) .
ملخص ما جاء في ذلك المقال هو شرح للعقبات و العوارض التي تحيط بحال الثقافة و المثقفين عندما يكون المحيط السياسي الحاضن لهم متخم بسموم الكبت و القهر و الأستبداد و غياب الرأي الآخر ، و يحتكر الدولة برمتها لنفسه ولمشروعه الفكري .
ثم توصلنا إختصارا لعدة نتائج موضوعية أهمها أن الحرب الأفتراضية التي قرر الكاتب أن يشنها على العرب في مقاله بسبب أدعاءه بأن المنجز الثقافي الإبداعي السوداني يلاقي منهم نوعاً من التهميش و الأستخفاف هو أشبه بالتشتيت الأعمى للكرة دون تصويبها مباشرة نحو ناحية المرمى ، و الأصح عندنا هو محاولة تعريف و إعادة أكتشاف موقع وهوية و مكانة الثقافة في خارطة أهتمامات الدولة السودانية الحاكمة ولا سيما أنها دولة الحزب الواحد one party system .
في هذا المقال نسيح مع القارئ الكريم كما وعدناه في خاتمة المقال السابق لنقاش أمر التواصل الثقافي مع مصر متناولين بشيء من الأختصار المأزق التأريخي في هذه المسألة ، ثم المأمول و الممكن تحقيقه في هذا المضمار .
في جلسة جميلة جمعتني مع الأستاذة أسماء الحسيني و ضمت عدداً من الأعلاميين والساسة و المثقفين في أحدى مقاهي القاهرة العام الماضي طرحت عليها فكرة ضرورة قيام حالة أشبه بفك الأرتباط بين المسارين السياسي و الثقافي عن بعضهما البعض ، تمهيداً لتدشين مرحلة جديدة من التطبيع( الفكري و الأدبي ) بين الدولتين كوسيلة حميدة لكسر الجمود و الجفوة و التشاحن و البغضاء الذي سكن جسد العلاقات السودانية المصرية في الآونة الأخيرة بسبب تقلبات السياسة و أحتدام الخلاف بين الحكومتين المتواصل في عدد من القضايا المشتركة و الأقليمية والدولية .
والدعوة للتطبيع الثقافي التي أقترحتها كمخرج من النفق المظلم الذي تعيشه هذه العلاقة المعقدة ، هي في رأينا أنسب وصف يمكن أن يطلق على أي خارطة طريق تهدف الى إعادة اللحمة و الصفاء بين البلدين ، و هي في نفس الوقت أنجع وسيلة وأسهلها وأقلها كلفة لتصحيح مسار هذه العلاقة الشائكة و المتقلبة .
فوقفة قصيرة و سريعة لتاريخ السودان و شكل تشابكه وأرتباطه بتاريخ مصر يبرهن أنه من الأستحالة بمكان وجود نظام سياسي في السودان في عداء مع الدولة المصرية و العكس هو الصحيح ، ولذلك وجب على الصفوة المتميزة في البلدين من ساسة و أقتصاديين و مثقفين و علماء في مختلف المجالات السعي وراء تحقيق تواصل بناء يعظم أسباب التوافق و يخفف من وقع أسباب الخلاف .
لكن ما دفعني دفعاً لتبني فكرة ضرورة تقدم المسار الثقافي على أي مسار آخر مرحليا ً في هذه الفترة هو رجوعي لصلب التاريخ الذي وضح لي أن المثقفين كانوا دوما أكثر صرامة و قناعة و حبا و عشقا و تقدما للحفاظ على علاقة طيبة بين البلدين من الساسة و الأقتصاديين أو غيرهم من أصحاب الأتجاهات و المجالات الأخرى .
فالحركة الفكرية و الثقافية في السودان أرتبطت منذ وقت مبكر بمصر وبتقلبات العمل السياسي فيها ، فنشطت وبدأت تتخذ مكانا عليا في المجتمع مع نشأة طلائع الكفاح و بدايات تشكل الوعي القومي ضد المستعمر الأنجليزي بعد تفجر ثورة 1919م .
بدأت تظهر في البداية مجموعات ذات طابع سياسي تارة مثل جمعية ( العمل على خلاص البلاد ) و ذات طابع ديني تارة أخرى مثل جمعية ( الدفاع عن العقيدة في السودان ) .
تلتها بعد ذلك مرحلة توزيع المنشورات السرية على نطاق واسع في السودان ، وكانت نوعين : نوع كان يعد في السودان و نوع آخر كان يَرِد من مصر .
كانت هذه المنشورات التي تعد في السودان تحمل أفكاراً محددة تنحصر في الهجوم على سياسات الحكومة و أعمالها ، و دعوة أهل السودان للجهاد الديني ضد الأنجليز ثم المطالبة بأتحاد السودان مع مصر .
أما تلك المنشورات التي كانت تَرِد من مصر فكانت تدعو أيضا السودانيين للأنضمام الى المصريين ، و ربط المصير و الكفاح المشترك لطرد الدخلاء و القضاء على سياسة بريطانيا المعادية للأسلام في البلدين .
بعد ذلك تطورت الحركة الفكرية السودانية و بدأت ترتبط وجدانيا بالحراك الوطني السياسي في مصر أكثر و أكثر .
نظرت للشعارات التي كان يرفعها الساسة المصريين فسعت للقيام بنفس الأدوار التي قامت بها نظيرتها المصرية في أحداث ثورة 1919م ، فأنتشر بذلك الوعي بصورة أكبر بين المثقفين لتشكيل مجموعات و جمعيات سياسية سرية حتى بلغ عددها في وقت من الأوقات إحدى عشرة جمعية .
كان أبرز هذه الجمعيات ( جمعية الأتحاد ) وتكونت في آواخر عام 1921 ، و ( جمعية اللواء الأبيض ) وتكونت في عام 1924 م ، و من قادة هاتين الجمعتين الضابط علي عبداللطيف و عبيد حاج الأمين و اليوزباشي عبدالله خليل و حسن شريف و حسن صالح و الشيخ عمر دفع الله و محمد المهدي نجل الخليفة عبدالله التعايشي و عرفات محمد عبدالله .
كانت المجموعة الأولى القيادية التي شكلت جمعية اللواء الأبيض مؤمنة حتى النخاع بضرورة ربط المصير و الكفاح المشترك لهذه البلاد بمصر ممثلة في زعيمها الوطني مفجر ثورة 1919م سعد زغلول ، مثمنين في الوقت نفسه وقفته الصلبة ضد أقوى دول الأرض وقتها بريطانيا ، حتى أنهم من فرط تعلقهم بهم أتخذوا علماً يعبر عن برنامجهم كان عبارة عن قطعة قماش بيضاء عليها خريطة نهر النيل وفي جانبها الأيسر الهلال و الأيمن عبارة ( إلى الأمام ) .
فطنت الأدارة الأنجليزية وقتها من أتساع رقعة الوعي العام بعد النشاط الملحوظ و الواسع لهذه الجمعيات ، وبدأت تكيل الضربات الأمنية الموجعة لها ، فشردت الموظفين من أعضائها في سائر الأقاليم النائية حتى ينفرط شملهم و يضعف تعاونهم و تأثيرهم ، وظلت تراقب حركة الأعضاء الآخرين من غير الموظفين و تضيق عليهم الخناق .
ترتب على هذه الأعمال التعسفية من قبل الأدارة الأنجليزية قيام مظاهرات ضخمة في العاصمة عبرت عن أستياء المواطنين لما نال قيادات هذه الجمعيات من أذى وأضطهاد في 17 يونيو 1924 في الخرطوم و 19 يونيو في أم درمان طالب فيها المتظاهرين بجلاء المستعمر والحرية لشعبي وادي النيل .
ومن المهم جدا بمكان أن نذكر هنا أن مظاهرة أم درمان تحديداً كانت عنوانا عريضا على التصاهر و الأخاء السوداني المصري و مُعَبّراً جلياً لأمال الشعب السوداني العراض التي كانت معلقة في الحركة الوطنية المصرية .
ظهر ذلك عندما توفي مأمور أم درمان المصري ( المأمور أعلى وظيفة يمكن أن يتقلدها مصري في الأدارة الثنائية ) و خرج الأهالي في جمع غفير لتشييع جنازته نكاية في الأنجليز .
بعد الدفن تقدم أحد المصريين وقال أن هذا الرجل لو مات بين ذويه وأبناء جلدته لما لقى مثل هذا التشييع و هذا التكريم ، فقام الشيخ عمر دفع الله بعده ( و هو أحد اعضاء جمعية اللواء الأبيض) وهتف في الناس قائلا : أيها الناس ، من كان يؤمن بالله و رسوله واليوم الآخر فليهتف معي تحيا مصر و تسقط بريطانيا ، و رددها ثلاثا و الجماهير من خلفه يدوي صوتها كهدير الرعد ، ثم زحفت الجماهير من المقابر في مظاهرة سلمية هاتفة ضد الأنجليز وإدارتهم في البلاد .
من المؤسف له أن نذكر هنا بأن الساسة المصريين في تلك الفترة التاريخية تحديداً لم يستطعيوا أن يستوعبوا كل معاني هذا الجيشان العاطفي الوطني المهول الذي كان يموج في السودان تجاه مصر ، بل ساروا عكس هذا التيار في أتجاه غريب عن الشعب السوداني وذلك لأسباب سوف نجملها على النحو التالي .
ظلت النخبة السياسية المصرية أسيرة لفكرة أن السودان ( أرض مصرية ) متجاوزة عن عمد منطق التاريخ الذي يقول أن كلا الدولتين كانتا أصلا مستعمرتين تحت ولاية السلطان العثماني .
بعد سقوط المهدية ظلت أيضا هذه النخبة تردد في كل خطاباتها أن الأنجليز نفذوا مشروع أستعمارهم الحديث للسودان بمال مصري و رجال مصريين ، وكان الكثير منهم يعتبر ثوار المهدية مجرد غوغاء خرجوا من سلطة الدولة المصرية لفترة من الزمن وعليه يجب أن يعود الوضع لما كان عليه سابقاً .
من أجل ذلك عارضوا بشدة ( مبدأ الفتح ) الذي بنى عليه الأنجليز مشروعية أنفرادهم بحكم السودان ، معتبرين أن بريطانيا قد غدرت بهم بعد أن وقعوا معها أتفاقية الحكم الثنائي ثم خرجوا بعدها خالي الوفاض من أي أمتيازات سلطوية في السودان !
وعليه و بسبب ما ذكرناه أعلاه تمترست هذه النخبة لفترة طويلة في محطة إعتبار السودان في كل مخاطباتها مع الأنجليز أنه مجرد ( مطلب كأرض ) لا ( شريك كشعب في كفاح جامع مشترك بين البلدين ) ، لتنفيذ حلم الجلاء و مشروع وحدة وداي النيل .
لذلك يستعجب المتأمل لهذه المواقف السياسية من الحركة الوطنية المصرية من كم التناقض الذي كان يحيط بها من كونها حركة مصرية صرفة لا يشترك فيها السودانيين ، رغم مطالبتها المستمرة و المتكررة في شعاراتها ليل نهار بأستقلال السودان في من بريطانيا و وحدته مع مصر !
ذكرنا هذه الفذلكة التأريخية في الجانب السياسي و بشكل مختصر لأننا نرى أن لهذا الجانب أنعكاساته الكبيرة على الحركة الفكرية و الأدبية في السودان خصوصا في العقدين الثاني و الثالث من القرن الماضي .
فقد تأثر أدباء و مثقفي السودان منذ وقت مبكر بمصر من خلال سيل الجرائد و المجلات التي كانت تأتيهم من القاهرة كجريدة السياسة الأسبوعية و البلاغ الأسبوعي و الهلال و الرسالة ، وكانوا في المقابل يقبلون بنهم شديد على قراءة كل الكتب التي يؤلفها الكتاب المصريين و يتسابقون في أقتنائها ككتابات المازني و العقاد و هيكل و لطفي السيد و محمود تيمور .
ظهر في تلك الفترة عدد من الأدباء و المثقفين السودانيين مثل الساسة والمناضلين كان ينادي بضرورة قيام وصل ثقافي متين بين البلدين ، وهو ما يمكننا أن نطلق عليه أصطلاحا ( أدب وادي النيل أو الأدب النيلي ) .
ظل أ. توفيق أحمد بكري لأكثر من سبع سنوات يطلب من شعراء السودان أن يرسلوا له شعراً ينشره في الصحافة المصرية و يصدره في كتاب كنماذج للأشعار السودانية ، وكان لا يصله إلا القليل فيلح في طلبه في عدد من المقالات، و يتألم عندما كان لا يصله إلا القليل .
وكتب عرفات محمد عبدالله : ( أن موضوع الرابطة الأدبية بين قطرين شقيقين شريكين في السراء و الضراء مرتبطين برباط مثلث ، الدين و اللغة و الجوار ، كالسودان و مصر لن يزيده الزمان إلا قوة مهما جهل أبناؤهما حقيقة ذلك و مداه ) .
و كتب آخر مخاطبا أدباء مصر : ( إن أدب السودان يسير وراء الأدب المصري و يتبعه خطوة بخطوة نظرا للجوار و التشابه و الأخلاق و العادات و غير ذلك من الأوصاف التي فرغ رجال التاريخ من سردها و وفقوا في ذلك توفيقا عظيما ) *.
أما رمانة هذا التيار فكان هو المثقف الضليع و الأديب الأريب الشاب الذي سطع نجمه و أحدث صدى واسع و كبير في الصحافة المصرية الأستاذ معاوية محمد نور ، والذي كان دائما يردد : ( نقول كل هذا و نحن نعلم علم اليقين أن لهذا النيل عبقرية خاصة جديرة بالتخليد في هذا العمل الفني العظيم ، و أن لساكني هذا الوادي المبارك خصائص فكرية و شعورية خليق بها التعبير الفني في ثوب الدراما أو القصة ثم يذكر خلود النيل و أساطيره و قهره و دحره لكل غازٍ أو دخيل) .
و على عكس عدد من الأدباء السودانيين كان الأستاذ معاوية محمد نور يُعَرّف الأدب القومي بأنه أصلا ( أدب وادي النيل ) وهو الأدب الذي يرفعه أدباء السودان و مصر مجتمعين في وجه الدخيل الأنجليزي المستعمر .
و حتى الذين أختلفوا مع الأستاذ معاوية محمد نور في تعريفه للأدب القومي مثل حمزة الملك طنبل و المحجوب و توفيق أحمد بكري نفسه و كانوا يدعون الى إقامة أدب قومي محلي منتزع من حياة السودان يعبر عن القومية السودانية يرى فيه الناس وصفاً للكثبان الرملية لصحراء العتمور و أدغال الجنوب و شعاب جبال الأنقسنا و سهول البطانة حيث يسرح الرعاة بماشيتهم ، تأثروا بمصر عبر توجه مدرسة الفجر المصرية التي كانت تدعو الى إقامة أدب مصري مستقل ، فأسس بعضهم صحيفة الفجر السودانية لرعاية هذا الأدب السوداني القومي .
مدرسة الفجر التي دعت لأستقلال الثقافة السودانية عن المصرية كانت ترجمة واقعية مرحلية لنضوج تجارب الأدباء السودانيين و أتساع مداركهم و تطور الوعي القومي بقضية السودان ، ولم تكن أبدا كما قال أحد أبرز كتابها محمد أحمد المحجوب منبراً لدجاجلة السياسة و دعاة الشقاق و النفاق .
في تلك الفترة و على عكس الساسة أتجه المثقفين المصريين بشكل أكثر حكمة و عقلانية و محبة تجاه نظرائهم في السودان مع ظهور و تصاعد موجات قيام أدب سوداني منفصل عن الأدب المصري .
كتب عبدالقادر حمزة في جريدة البلاغ بمصر قائلا : ( يجب ألا يفكر أحدنا أو أحد السودانيين في فصل الأدبين ، وأستقلال الواحد عن الآخر ، فهو الوسيلة الوحيدة التي بقت لنا أن تكون واسطة لتقارب القلوب و النفوس و تكاتف الجميع و تآزرهم ) .
يبقى أن نذكر هنا أن النهاية المآساوية التي أنتهى عليها أكبر صوتين مثقفين نذرا قلمهما لوحدة وادي النيل ( عرفات أحمد عبدالله و معاوية محمد نور) ، بسبب تهميش أحزاب البرجزاوية المصرية لهما و التي لم يكن يهمها من أبناء السودان إلا الزعماء و الرؤساء ، دفع عدد كبير من الأدباء السودانيين من الجيل الثاني والثالث لتبنى دعوات التجديد في الأدب السوداني و ربطه بالحياة الواقعية المحلية بعيداً عن المظلة المصرية .
ختاما يجب علينا القول أن كتابة عهد جديد في العلاقات السودانية و المصرية بصورة متوازنة يبدأ بالبوابة الثقافية مهما كانت الفوارق و الحواجز التي تشكلت بين البلدين اليوم بفعل معطيات الحاضر .
تحقيق هذا الوصل الثقافي لن يكون قطعا سهل التحقيق كما كان في الماضي لأسباب عديدة أهمها أن معظم مثقفي هذا الزمان يصعب عليهم التفكير خارج النزعة القومية ، و حتى أولئك المحررين منها يصعب عليهم في كثير من المرات السباحة في هذا البحر اللجي المتلاطم الأجواء دون مباركة و دعم سياسي يعي أهمية هذا المسار .
ورغم ذلك فأن التطبيع الثقافي الذي يقود الطرفين لمعرفة خصوصية و ثقافة الطرف الآخر يبقى البداية سليمة و الضرورة الملحة لدرء مخاطر تقلبات الرؤى السياسية و تصفية سماء التواصل بين شعبي البلدين ، لأنه كما قال الكاتب الصحفي المصري الراحل عبدالقادر باشا حمزة قبل أكثر من ثمانية عقود أنها آخر وسيلة تبقت لنا كمصريين و سودانيين لتقارب القلوب و النفوس فيما بيننا .
teetman3@hotmail.com