“المعرفة في القرآن الكريم وأثرها في صياغة مناهج البحث لدى علماء المسلمين”
أ.د. أحمد محمد أحمد الجلي
27 February, 2022
27 February, 2022
بسم الله الرحمن الرحيم
ahmedm.algali@gmail.com
مقدمة
تتناول هذه الورقة البحثية المعرفة في القرآن الكريم . فتبين مفهوم المعرفة في القرآن الكريم و مصادرها، المتمثلة في الوحي الالهي المقروء ( القرآن الكريم ) والوحي المشاهد ( الكون ).ووسائل تلك المعرفة. واثر القرآن الكريم في تكوين مناهج البحث العلمي لدى علماء المسلمين.
فالقرآن الكريم كما هو معلوم بالنسبة للمسلم مصدر للحقائق والمعارف لا سيما ما يتعلق منها بالغيب من ايمان بالله تعالى والملائكة والقدر والحياة الآخرة وما فيها من وقائع وأحداث ،فضلاً عن كونه مصدراً للأصول والأسس التي تنظم حياة المسلم ،والقيم التي تقوم عليها حياة الناس أفراداً وجماعات.
أما الكون او عالم الشهادة كما عبر القرآن الكريم فقد خلق من أجل حياة البشر وأمداد الانسان بالمواد والوسائل والآليات التي تعينه على القيام بشؤون حياته وطرق عيشه ،و طلب القرآن الكريم من الإنسان السعي في جنبات الكون لاستكشافه ،واستمداد العلوم والمعارف منه،وفقاً لطرق معينة وأساليب محددة بينها القرآن الكريم ،وتتمثل في الحواس من سمع وبصر،والتي تمد الإنسان بمعارف وعلوم مشاهدة ،والعقل الذي يستنبط الانسان عن طريقه العديد من العلوم والمعارف .فضلاً عن ما زود به الوحي الإلهي الإنسان بمعلومات ومعارف عن الكون وما فيه .
وبعد تفصيل هذه الجوانب التي تمثل مصادر المعرفة ووسائلها ، ينتقل البحث الى بيان الأثر المباشر للقرآن الكريم في تكوين مناهج البحث العلمي لدى علماء المسلمين،وكيف استفاد العلماء المسلمون على اختلاف تخصصاتهم ومعارفهم من القرآن الكريم في صياغة مناهجهم. فصاغ علماء أصول الفقه منهجهم في استنباط الاحكام الشرعية على هدي من آيات القرآن الكريم، ووضع علماء الحديث منهجا محكما لتمحيص الأخبار وشروطاً دقيقة لقبولها.و خط العلماء التجريبيون منهجهم في اكتشاف الحقائق العلمية والتحقق منها مهتدين بهدي الاشارات العلمية التي وردت في القرآن الكريم .هذا ،فضلاً عن المتكلمين الذين استندوا في مشروعية بحثهم العقلي في العقائد على آيات القرأن الكريم التي حثت على النظر والتفكر، ووجد المتصوفة الذين التمسوا سنداً لتجاربهم الذوقية ورياضاتهم الروحانية في ثنايا آيات الكتاب العزيز. وكما نشأت معظم العلوم الإسلامية حول القرآن الكريم، فقد كان القرآن منطلقاً للمناهج التي صاغها العلماء المسلمون في مختلف مجالات العلوم التجريبية والمعارف الانسانية.
مفهوم المعرفة ومصادرها:
مفهوم المعرفة: تجمع المصادر اللغوية على أن المعرفة ومشتقاتها ترتبط بالعلم ،فمعرفة الشيء تدل على العلم به وأدراكه بحاسة من الحواس أو العقل، ،والعرفان يعني العلم( انظر:لسان العرب ( ابن منظور) مجلد 10 ص:110-111،القاموس المحيط ( الفيروزآبادي) ص:771.)
ولكن هناك اختلاف بين الدارسين حول العلاقة بين المعرفة والعلم ،فهناك من ذهب الى أن المعرفة أعم من العلم،وهناك من ذهب الى عكس ذلك ،بينما يرى فريق ثالث بتطابقهما، فكلاً من المعرفة والعلم- كما يذهب من قال بترادفهما - يعني إدراك الشيء على ما هو عليه. ، اما من فرق بين العلم والمعرفة،فبنى ذلك على ان المعرفة مسبوقة بجهل، أو إدراك مسبوق بجهل وليس العلم كذلك، يقول الجرجاني: ( انها( أي المعرفة)، ادراك الشيء على ما هو عليه ،وهي مسبوقة بجهل بخلاف العلم"، ولذلك يقال للحق سبحانه وتعالى عالم، ولا يقال له عارف.وايضاً إن المعرفة هي ادراك الجزئي ،وأن العلم هو ادراك الكلي،وأن المعرفة تستعمل في الدلالة على التصورات،وأن العلم يستعمل في التصديقات،ولذلك نقول مثلاً: عرف الله،و لا نقول: علم الله،ونقول ايضاً: العارفون بالله، ولا يقال: العالمون بالله.فالعلم يقتضي الاحاطة بالمعلوم وإدراكه على ما هو عليه،والمعرفة تقتضي الخبرة بالشيء في ظاهره أو في أثر من آثاره أو في جزئية من جزئياته،ولذلك وصف الله ذاته بالعلم ولم يصفها بالمعرفة. ( انظر: كتاب التعريفات ( للجرجاني) ص:238.للوقوف على تفصيل هذه الآراء انظر:نظرية المعرفة في القرآن الكريم وتضميناتها التربوية ( احمد محمد حسين الدغشي) ص:70-92.
هذا مع ملاحظة أن القرآن لم يستعمل لفظ المعرفة في الدلالة على العلم،وانما استعمل الأفعال المشتقة مثل: عرف ويعرف ،واطلقها على الخبرة المباشرة بالأشياء كما في قوله تعالى: (وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) النمل:93
مصادر المعرفة في القرآن الكريم:
إنَّ المصدر الأساسي للمعرفة الانسانية في التصور القرآني هو الله تعالى، الذي علم الإنسان ما لم يعلم، كما في قوله تعالى: ( الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) العلق:4-5:وقوله سبحانه:( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ) البقرة:31.،وأنه تعالى وهب الإنسان وسائل المعرفة من السمع والبصر والفؤاد:( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، النحل:78.ويتلقى الإنسان تلك المعارف الالهية عن طريق الوسائل التي منحها الله له( الحواس والعقل)،فيما يتعلق بالمعارف الكونية.أما مسائل الغيب فإنَّ الله زود بها الانسان عن طريق الوحي الإلهي ويتلقاها الإنسان بعقله.
وبناءً على ذلك فإنَّ مصادر المعرفة في الإسلام هي: الوحي الالهي المقرؤء والمتمثل في القرآن الكريم،والوحي الإلهي المشاهد والمتمثل في الكون.
-الوحي:
لعل من المسلمات أنَّ الوحي الإلهي المتمثل في القرآن والسنة، هو المصدر الأساسي للمعرفة لاسيما فيما يتعلق بعالم الغيب، الذي لا سبيل إلى إدراك حقائقه عن طريق الحس ، ولا معرفة تفاصيله عن طريق العقل، لأنَّ كلاً من الحس والعقل وسائل يهتدى بها إلى عالم الشهادة أو العالم المادي، ولا سبيل إلى إدراك ما وراء هذا الكون المشاهد أو عالم الغيب ،عن طريقها. ومن ثم كان المصدر الوحيد لتلك الحقائق هو الوحي الإلهي الذي أهتم بتقرير قضايا العقيدة والأصول التي تبنى عليها،من إيمان بالله ،وملائكته ،وكتبه،ورسله،واليوم الآخر،والقدر خيره وشره.والتي تضمنتها آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول ،ومن ذلك قوله تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) البقرة:285، وحديث جبريل الذي سأل فيه النبي عن الاسلام والإيمان والاحسان،وجاء فيه عن الإيمان: " أن تؤمن بالله وملائكته،وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره".
وقد فصل القرآن القول في تلك الأركان،وآثارها في حياة الإنسان فرداً وجماعة،كما اهتم بالآثار المترتبة على العقيدة وتمكنها في النفس: من ثقة بالله، وتوكل عليه ورضى بقضائه وقدره.. الخ.وعني بإقامة الأدلة والبراهين على تلك القضايا والأصول.
كما أنَّ الوحي هو الذي يوجه ويقوم حركة الإنسان في الأرض، ويحدد له اطار سلوكه وأخلاقه ويضبط فكره وتصوره، ويجيب على كثير من تساؤلاته الفطرية المشروعة حول الأبعاد الغيبية، ويحدد له مكانته في الوجود والغاية منها وما توجبه في مقام العبودية، كما يعرفه بحقوقه تجاه نفسه وغيره. وقرر ذلك كله من خلال ما تضمنه القرآن من أحكام وتشريعات..كما تضمن الوحي الالهي العديد من الآيات التي اخبرت عن الظواهر الكونية كالأرض وما فيها من جبال وأشجار وأنهار وبحار،والسماء وما فيها من كواكب ونجوم ومجرات.
الكون:
أما المصدر الثاني للمعرفة الإنسانية فهو الكون .وقد اشار القرآن الكريم الى كثير من الظواهر الكونية،في الأرض والسماء وما بينهما،كما سجل حركة الإنسان على هذه الأرض وتفاعله معها.وقد دعا القرآن الانسان الى السير في الارض والسماوات ، واالنظر في الانفس والآفاق والكشف عن ما فيها من علوم ومعارف .وقد سعى القرآن الكريم من خلال تلك المعارف الكونية الى أن تكون معرفة الإنسان بالكون برهاناً لاثبات العقائد الغيبية.فالعلاقة بين العالمين: علم الغيب وعلم الشهادة ،علاقة تكامل وتعاضد لا علاقة تمانع وتدافع.والمعرفة الكونية تجيب على أسئلة مهمة للإنسان،تتعلق بعالم الشهادة وواقع الإنسان المعاش:مثل كيف يعيش الإنسان على هذه الأرض،وكيف يستفيد من مواردها؟وكيف يحافظ على كيانه فيها؟ ....الخ.
وسائل المعرفة في القرآن الكريم
إنَّ المنهج المعرفي في القرآن الكريم منهج إيماني يقوم على التسليم ببداهات الوحي وأحكامه في الوجود الدنيوي والأخروي ،وفي أحكامه القضائية والكونية،وهو منهج عقلي يعتد بأحكام العقل ،كما أنه منهج واقعي لا يلغي الوجود الحسي من اعتباره في بناء معرفة يقينية وعلمية. فهو إذن منهج يجمع بين الوحي والعقل والحس:فالوحي المقروء والمشاهد، يمد الإنسان بالمعرفة ،بينما العقل والحواس يقومان كل منهما بدوره في ادراك المعلومات،و في صياغة المعرفة وتفهمها. وقد أشار القرآن الكريم الى هذه الوسائل ودروها في كسب المعرفة وادراك المعلومات.
1-الحواس: الحواس الخمس للإنسان،كما يقول ابن الاثير: هي مشاعر الانسان كالعين والأذن والأنف واللسان واليد ،وتقود الى التعرف على : الطعم والشم ،والبصر والسمع واللمس.وعرفت الحاسة بأنها القوة التي بها تدرك الأعراض الحسية" .وتعرف الحاسة بأنها :" قوة طبيعية في الجسم وبها يدرك الإنسان والحيوان الأشياء الخارجة عنه،وما يطرأ على جسمه من تغيرات"( المعجم الفلسفي ( مجمع اللغة العربية ) ص: 65 ). فالحواس وسيلة من وسائل الإدراك المؤدية إلى اكتساب المعارف والعلوم،وقد اهتم بها القرآن الكريم ، وعدها من النعم التي أنعم الله بها على الإنسان وامتن بها عليه، ودعا الناس إلى استعمالها لاكتساب العلم النافع في الدين والدنيا.فقد أمر الإنسان في أكثر من آية بالنظر إلى نفسه وظاهرة خلقه والمادة التي خلق منها، فقال تعالى: (فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ، ،خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ،يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ)، الطارق:5-7. والى الكائنات والأشياء من حوله"( أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ، وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ). الغاشية 17-20. ورغم ان النظر هنا قد يراد به النظر العقلي،فإن النظر الحسي غير مستبعد ايضا ،الامر الذي يدل على ان النظر يراد به -كما قال الراغب الاصفهاني- تقليب البصر والبصيرة لإدراك الشيء ورؤيته، وقد يراد به التأمل والفحص، وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص، وهو الرؤية، يقال: نظرت فلم تنظر: أي لم تتأمل ولم تتروَّ.
وقد اشار القرآن الكريم الى ان الله هو الذي زود الانسان بوسائل المعرفة من سمع وبصر وفؤاد ،ومن ثم ينبغي ان يشكر الله تعالى على هذه النعم التي زود بها: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، النحل:78 .كما أخبر القرآن أن من أسباب إخفاق الإنسان في معرفة الحق الذي يوجب دخول النار ، اهمال نعمة الحواس والعقل ،وعدم استخدامها والاستفادة منها في مجال المعرفة والعلم،يقول سبحانه وتعالى: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) الملك:10. كما بين القرآن الكريم أن الانسان مسؤول عن استخدام هذه الوسائل، ويترتب على ذلك الثواب ان استعملها في الخير ،ويعاقب على استخدامه لها في الشر:(وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً ). الإسراء:36.
العقل: إن مفهوم العقل في القرآن يأخذ مناحي متعددة، مجملها تشير إلى أنه أداة العلم والمعرفة، والتمييز بين الأشياء، والحبس والحجر عن الوقوع في المهالك والمضار، وذميم القول والفعل لأن العاقل يعرف بعقله الضار من النافع والخير من الشر،(انظر:مفهوم العقل في اللغة والاصطلاح)
https://www.alukah.net/authors/view/home/11912/%D8%AF. -اضافة الى ان العقل قوة مدركة في الإنسان تميزه عن سواه من الكائنات،وتجعل منه مخلوقاً مسؤولاً عن أعماله ،على أساس قدرته على الادراك والتمييز بين الحق والباطل ،والخير والشر،والحسن والقبيح،وان القرآن يطلق ألفاظ القلب والفؤاد أو اللب أو النهى على الأداة او الآلة التي تقوم بوظيفة العقل أو الربط وإيجاد العلاقة بين الأسباب والنتائج ".
إن الانسان لا ينبغي ان يقف عند حدود ظاهر ما تؤدي اليه الحواس بل هو مطالب بأن يعرف حقائق الأشياء ،ويتفكر في حقائق الآخرة " وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ، يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ )، الروم:6-7.. أَيْ أَكْثَر النَّاس لَيْسَ لَهُمْ عِلْم إِلَّا بِالدُّنْيَا وَأَكْسَابهَا وَشُؤُونهَا وَمَا فِيهَا فَهُمْ حُذَّاق أَذْكِيَاء فِي تَحْصِيلهَا وَوُجُوه مَكَاسِبهَا وَهُمْ غَافِلُونَ فِي أُمُور الدِّين وَمَا يَنْفَعهُمْ فِي الدَّار الْآخِرَة كَأَنَّ أَحَدهمْ مُغَفَّل لَا ذِهْن لَهُ وَلَا فِكْرَة. قَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ: وَاَللَّه لَيَبْلُغ مِنْ أَحَدهمْ بِدُنْيَاهُ أَنَّهُ يُقَلِّب الدِّرْهَم عَلَى ظُفُره فَيُخْبِرك بِوَزْنِهِ وَمَا يُحْسِن أَنْ يُصَلِّي . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى : " يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاة الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الْآخِرَة هُمْ غَافِلُونَ " يَعْنِي الْكُفَّار يَعْرِفُونَ عُمْرَان الدُّنْيَا وَهُمْ فِي أَمْر الدِّين جُهَّال. تفسير ابن كثير سورةالروم. آية 6-7.
ويكاد يكون من المسلم به أنه لم يهتم كتاب ديني بقضية التفكير كما اهتم بها القرآن الكريم ، وإن اهتمام القرآن بمخاطبة ملكات التفكير والتعقل عند الإنسان بلغ درجة جعلت بعض الدارسين يعتبرون التفكير فريضة من فرائض الإسلام لا يقل شأناً عن فرائض العبادات والشعائر الدينية. فيقول العقاد مثلاً:" وليس التفكير في الإسلام عوضاً من النص أو ما يشبه النص في الأحكام،بل هو فريضة منصوص عليها،مطلوبة لذاتها، ولما يتوقف عليها من فهم الفرائض الأخرى،وكلها محظور على المسلم أن يهمله وهو قادر على النهوض بتكاليفه غير مضطر إلى تركه،فإن تركه لغير ضرورة فهو مقصر محاسب على التقصير." (انظر: التفكير فريضة إسلامية( العقاد) ص:142-144.)
مظاهر اهتمام القرآن الكريم بالعقل والتفكير: تبدو تلك المكانة التي يحتلها العقل ووظائفه والتفكير وأدواته في القرآن، في عدة مظاهر من بينها:
أولاً : الدعوة الصريحة إلى التفكر والنظر وطلب المعرفة والعلم.فقد حض القرآن على النظر العقلي بنصوص كثيرة ودعا إلى التفكر وإعمال العقل في جميع مجالات الوجود الكونية والنفسية والإجتماعية، واستخدم في ذلك ألفاظاً متنوعة وعبارات شتى: كالتعقل والنظر والتبصر والتدبر والتفكر وغيرها من العبارات التي تشير الى ملكة التفكير في الإنسان.
صحيح انه لم يرد لفظ "العقل" في القرآن كاسم علم ، ولعلَّ في ذلك إشارة إلى أنَّ العقل ليس له ماهية قائمة بذاته كما تصور الفلسفة اليونانية ، ولكن القرآن الكريم ملئ بالعبارات والصيغ التي تشير إلى العمليات العقلية التي يقوم بها الإنسان، ووردت مشتقات العقل في تسع وأربعين آية كلها بالصيغة الفعلية مثل: "عقلوه"، و "نعقل" ، و"يعقلها"، التي وردت كل منها مرة واحدة.، و"يعقلون"، التي وردت اثنتين وعشرين مرة، و"تعقلون"، التي وردت أربعاً وعشرين مرة. كما وردت مرادفات العقل بالصيغة الإسمية مثل : اللب وجمعه ألباب ، والحلم وجمعه أحلام ، والحجر ، والنهى، والقلب والفؤاد ،وكلها بمعنى العقل أو أداة التفكير. كما جاء التعبير في القرآن - عن العقل الذي يفكر ويستخلص من التفكير زبدة الرأي والروية ، بكلمات متعددة تشترك في المعنى أحيانا،ً وينفرد بعضها بمعناه ،على حسب السياق، في أحيان أخرى ، فهو التفكر والنظر والبصر والتدبر والاعتباروالفقه. ( راجع المجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم)
التفكر : ورد مصطلح التفكر في ست عشرة آية تتضمن ما يلي:
1-الدعوة إلى إعمال العقل، والتفكر في مظاهر الوجود المختلفة، والنظر في آيات الكون بسمائه و أرضه - وما جعل في الأرض والسماء من أسباب الحياة للإنسان والحيوان ، وإلى النظر في الكائنات وما ركب فيها من طبائع تدل على عظمة الخلق الإلهي وغاياته ومقاصده . ومن ذلك قوله تعالى :( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) آل عمران:190-191 ، وقوله تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ، ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). النحل : 68-69
واهتم القرآن الكريم بصفة خاصة بظاهرة خلق الإنسان وموته ومسيرته في الحياة وعلاقات الناس ببعضهم بعضاً، ولفت نظر الإنسان إلى ذلك وحثه على التفكر في هذه الظواهر للوقوف على الحكم الإلهية وأسرارها. وفي ذلك يقول الله تعالى:( أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ)، الروم : 8
2-الحث على التفكر في القرآن وحكمة التشريع، حتى يدرك الإنسان ما في التشريعات من منافع، وما وراءها من حكم، فيلتزم بها عن قناعة عقلية ويتيقن انها حق لا يجوز العدول عنه أو التفريط فيه .ومن ذلك قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ). البقرة : 219
3-كما تحض على إستنباط الحكم والعبر من الأمثال والآيات. إذ ضرب القرآن العديد من الآيات والأمثال ودعا إلى التفكر فيها والتأمل، من أجل إدراك أهدافها ومراميها: (وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ). العنكبوت : 43.
النظر : قد وردت كلمة النظر فيما يقرب من مائة وثلاثين آية، يشير بعضها إلى النظر الحسي وبعضها إلى معنى الانتظار، وغالبيتها إلى النظر الذي يقوم على الفحص والتأمل والروية والتبصر بحقائق الوجود والخلق،ومن هذه الأخيرة قوله تعالى: (فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ)، الطارق : 5.
التبصر: قد ورد معنى التبصر كأداة من أدوات المعرفة، فيما يقرب من مائة وخمسين آية، منها قوله تعالى:( وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) الذرايات : 21.
التدبر: وقد جاءت كلمة تدبر فى أربع أيات مرتبطة جميعها بالقرآن الكريم، كما في قوله تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) ص:29 ، وقوله تعالى:( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً). النساء:82
الاعتبار: قد ورد الاعتبار في سبع آيات تدعو إلى أخذ العبرة من سير السابقين، ومن آيات الله في الكون والآفاق، قال تعالى:(أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ) النور : 43-44
الفقه: قد وردت مادة الفقه في عشرين آية تدعو في مجملها إلى التفقه وهو "خطوة عقلية أبعد مدى" من التفكر، إذ هي الحصيلة التي تنتج عن عملية التفكير، وتجعل الإنسان أكثر وعياً لما يحيط به، وأعمق إدراكاً لأبعاد وجوده وعلائقه في الكون ، كما تجعله متفتح البصيرة دوماً " (تهافت العلمانية( عماد الدين خليل) ص:30.
ومن ذلك قوله تعالى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) الأنعام : 65. كما وردت آيات تذم الذين لا يبذلون جهداً في التفقه والمعرفة مثل: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا ،وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ) الأعراف : 179.
بهذه الدعوة وهذا المنهج فتح القرآن الكريم للفكر الإنساني آفاقاً واسعة وحثه على التفكر في مجالات شتى بدءاً بالقرآن الكريم نفسه ، وما أنزل فيه من تشريعات وأحكام ، وما ضرب فيه من أمثال وآيات ، و يمتد مجال الفكر ويتسع ليشمل الكون بأسره وما فيه ، الآفاق والأنفس ، وهكذا يتم من خلال التفكر والتدبر فهم الوحي الإلهي المكتوب،واكتشاف أسرار كتابه المشهود(الكون) ، وبتطابق معرفة الكتابين يزداد الإنسان يقيناً وإيماناً كما يزداد علماً وبصيرة.
ثانياً : تحرير العقل من عوائق التفكير : سعى القرآن بداية إلى تحرير العقل من أي عائق أو قيد يحول بينه وبين أن يقوم بوظيفته، مثل التقليد الاعمى للآباء،أو اتباع الهوى ، أو الأخذ بالظن من غير يقين.
ذم التقليد : التقليد إلغاء للعقل وتعطيل له عن أداء وظيفته، لذا ذمه القرآن، ونعى على أولئك الذين رفضوا الحق المبين، لا لشئ إلا لتمسكهم بما كان عليه آباؤهم من خرافات وأباطيل مخالفة للحق الذي جاءت به الرسل ونزل به الوحي، فقطعوا على أنفسهم طريق العلم وحرموا أنفسهم نعمة الفهم. فقال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) البقرة : 170 . فالعقل الذي كرمه الله لا ينبغي أن يخضع لأي سلطة تحول بينه وبين النظر المستقل والسعي إلى طلب الحقيقة، حتى لو كانت هذه السلطة سلطة رجال الدين أنفسهم . لذلك نعى القرآن الكريم على أولئك الذين ألغوا عقولهم وخضعوا لسلطة الأحبار والرهبان، ووصف ذلك بأنه خضوع لا يقل عن درجة العبادة لهم :( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) التوبة : 31. كما ذم الرسول تلك الذيلية الخانعة التي تلغي العقل ويخضع الإنسان بموجبها للرأي الجمعي،ويتبع الجماعة كما يتبع الماشية القطيع، من غير تفكير ولا روية: " لا تكونوا امعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا،وإن ظلموا ظلمنا،ولكن وطنوا أنفسكم ،إن أحسن الناس أن تحسنوا،وإن أساءوا فلا تظلموا " سنن الترمذي:كتاب البر والصلة،رقم:2007.
ذم الهوى: لقد ذم القرآن اتباع الهوى، كما ذم التقليد الأعمى لأنَّ اتباع الهوى يفسد الحكم على الأشياء ، كما يفقد الباحث عن الحق، الموضوعية في نظره إلى الأشياء وحكمه عليها. وبين أن اتباع الهوى قرين بالظلم والضلال والافساد في الارض، وفي الوقت نفسه مضاد للعلم والهدي الالهي والحق. (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) الانعام : 119.
اجتناب الظن: حرص القرآن الكريم على استقامة منهج النظر العقلى، لذلك ذم بناء المعلومات على الظن لأنَّ الظن لا يفيد يقيناً ولا علماً ، ولا يغني من الحق شيئاً، كما عبر القرآن الكريم. وفي الوقت نفسه ذم القرآن متبعي الظن ووصف بعضهم بالجهل، ووصف آخرين منهم بعدم العلم والكذب والتخرص :( قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ ) الأنعام : 148. كما دعا المؤمنين إلى اجتناب الظن فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) الحجرات: 12. وأكد في الوقت نفسه ضرورة قيام العلم الصحيح وتأسيس اليقين على أساس من النظر والإستدلال العقلي السليم أو البرهان.
ثالثاً : الدعوة إلى الحوار والجدال وطلب البرهان : أخذ القرآن بمبدأ الحجاج واعتمد الحوار والجدل البناء أسلوباً أصيلاً في توجيه الخطاب إلى الناس كافة، فقال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ). النحل:125، وفي الوقت نفسه ذم الجدال الذي لا يستند إلى دليل موضوعي أو برهان منطقي: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ) الحج:3 ، وتأكيداً لذلك نبه الرسول على الآثار السلبية الناتجة عن الجدال بالباطل فقال: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم قرأ: (وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) الزخرف:58 . وطالب القرآن أصحاب الدعاوي الباطلة أن يبرزوا ما لديهم من أدلة وبراهين يستندون إليها في دعاويهم،قال تعالى: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) البقرة:111.
رابعاً:وضع الأسس لمنهج استدلالي:
بالإضافة إلى دعوته إلى النظر العقلي وتحريره العقل من معوقات التفكير، وجه القرآن العقول إلى استخدام وسائل في الاستدلال وأساليب في الجدل تمثل في جملتها منهجاً تميز به القرآن، وأصبح أساساً بنى عليه المسلمون مناهجهم في البحث وطرقهم في الاستدلال.وقد سلك القرآن في مخاطباته أساليب شتى، وتفنن في ضروب الهداية وطرق الاقناع، لاختلاف مشارب الناس وتباين مقاصدهم، وتفاوت مداركهم. (انظر نماذج من تلك الأساليب في:القرآن والنظر العقلي( اسماعيل) ص:109-131. )
ومن بين تلك الأساليب والطرق التي وردت في القرآن الكريم :
-السبر والتقسيم:وهو باب من ابواب الجدل يتخذه المجادل سبيلاً لابطال دعوى من يجادله ،ويكون ذلك بحصر أوصاف أو اقسام الموضوع الذي يجادل فيه، ثم يبين أنه ليس في احد هذه الاقسام او الاوصاف خاصية تسوغ قبول الدعوى فيه، فتبطل دعوى الخصم عن طريق هذا الحصر المنطقي للموضوع. ومن أمثلة هذا المنهج من القرآن، قول الله تعالى :( ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنْ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ، وَمِنْ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ، أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمْ اللَّهُ بِهَذَا، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الإنعام:143-144.يقول السيوطي:( إن الكفار لما حرموا ذكور الانعام تارة واناثها تارة أخرى، رد تعالى ذلك عليهم بطريق السبر والتقسيم ،فقال :ان الخلق لله تعالى، خلق من كل زوج مما ذكر ،ذكراً وأنثى فمم جاء تحريم ما ذكرتم ؟أي ما علته؟. لايخلوا الامر: إما أن يكون من جهة الذكورة، أو الانوثة، او اشتمال الرحم الشامل لهما ، او لا يدرى له علة وهو التعبدي ،بان اخذ ذلك عن الله تعالى ، والاخذ عن الله تعالى: إما بوحي وارسال رسول، او سماع كلامه ومشاهدة تلقي ذلك عنه ،وهو معنى قوله:( أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمْ اللَّهُ بِهَذَا ). فهذه وجوه التحريم لا تخرج عن واحد منها :الاول، يلزم عليه ان يكون جميع الذكور حراما .الثاني ،يلزم عليه ان تكون جميع الاناث حراما .الثالث، يلزم عليه تحريم الصنفين معاً .فبطل ما فعلوه من تحريم بعض في حالة وبعض في حالة ،لأن العلة على ما ذكر تقتضي اطلاق التحريم، والاخذ عن الله بلا واسطة باطل. واذا بطل جميع ذلك ثبت المدعى وهو ان ما قالوه افتراء على الله."( الإتقان قي علوم القرآن( السيوطي) ج 4 ص:55.) (مناهج الجدل في القرآن الكريم( زاهر الألمعي) ص:74
-الاقيسة الاضمارية:وهي التي تحذف فيها احدى المقدمات مع وجود ما ينبئ عن المحذوف. وهو أسلوب شائع في القرآن .وقد ذكر الغزالي: ان القرآن مبناه الحذف والايجاز ،أي في شكل الأقيسة،واقرأ قوله تعالى يرد على النصارى الذين يزعمون أن عيسى ابن الله لأنه خلق من غير اب : (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ،الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنْ الْمُمْتَرِينَ) آل عمران:59-60،وسياق الدليل :أن آدم خلق من غير أب ولا أم، وعيسى خلق من غير أب،فلو كان عيسى إلها بسبب ذلك، لكان آدم أولى،لكن آدم ليس إبناً ولا إلهاً باعترافكم ،فعيسى ايضاً ليس إبناً ولا إلهاً .( المعجزة ا لكبرى(محمد أبو زهرة) ص:398)
3-قياس الخلف: وهو إثبات المطلوب بابطال نقيضه،وذلك لأن النقيضين لا يجتمعان ولا يخلو المحل من أحدهما، كالمقابلة بين العدم والوجود.وقد ورد هذا النوع من القياس في قوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) النساء:82 ،فاذا ثبت أنَّ القرآن ليس فيه اختلاف ولاتضارب في مقرراته وعباراته،فإنه يثبت النقيض وهو أنَّه من عند الله تعالى.
4-قياس التمثيل :وهو إلحاق أحد الشيئين بالآخر ،وذلك بأن يقيس المستدل الأمر الذي يدعيه على أمر معروف عند من يخاطبه،أو على أمر بديهي لاتنكره العقول،ويبين الجهة الجامعة بينهما. ومن الأمثلة على ذلك قول الله تعالى: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ،قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ،الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ،أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ) يس:78-81 ،ففي هذه الآيات عقدت المشابهة والمماثلة بين إبتداء الخلق وإعادته. (مناهج الجدل (الألمعي) ص:78).
وهكذا تتنوع أساليب الجدال القرآني وتتعدد طرق الاستدلال والبرهنة لتبين الحق لمختلف أنواع المخاطبين،وترد على المعارضين وتكشف بطلان ما اعتقدوه، ووهم ما تمسكوا به من أدلة وبراهين. يقول الراغب الاصفهاني : " قد اشتمل القرآن الكريم على جميع أنواع البراهين والأدلة وما من برهان ودلالة وتقسيم وتحذير تبنى من كليات المعلومات العقلية والسمعية إلا وكتاب الله قد نطق به ، لكن أورده على عادات العرب دون دقائق طرق المتكلمين" (مقدمة في التفسير (ابو القاسم الحسن بن محمد بن الفضل الأصفهاني) – ص41/42 ).. ولعلَّ مثل هذه النظرة إلى البراهين القرآنية، هي التي أدت بالغزالي إلى محاولة الرجوع بأصل المنطق لا إلى أرسطو، بل إلى علوم الوحي والقرآن، ومحاولة استخراج العديد من البراهين الاستنباطية، والأقيسة البرهانية، وبعض أشكال المنطق الأرسطي، من آيات القرآن الكريم.( مناهج الجدل في القرآن الكريم، زاهر الألمعي، ص:111)
مجالات المعرفة في القرآن الكريم:
أثار القرآن الكريم الإنسان ولفت انتباهه إلى استخدام هذا المنهج، بطرقه المتعددة ومسالكه الحسية والعقلية، لاكتساب المعارف والعلوم فيما يتعلق بقضايا الوجود الكبرى: الله والكون والإنسان، والوقوف على الظواهر الكونية والاجتماعية والانسانية، والسنن التي تحكمها وتربط بينها كسبيل الى معرفة الله تعالى وادراك حقائق الغيب والآخرة وما فيها من احداث ووقائع. ومن بين تلك المجالات والظواهر التي دعا القرآن الى التفكر والنظر فيها :
1- الظواهر والآيات الكونية ، وقد ورد في القرآن الكريم أكثر من عشرين سورة تدل اسماؤها على هذه الظواهر مثل: الرعد، والنور، والدخان، والنجم، والقمر، والبروج وغيرها، كما وردت العديد من الآيات القرآنية التي تتحدث عن خلق السموات والأرض وما فيهما، وتشير إلى مراحل هذا الخلق، وإلى تعدد العوالم وطبيعة الاجرام السماوية وتوازنها، وإلى الشمس والقمر ومداريهما، وإلى النجوم والكواكب وجمالها ومنافعها للإنسان .وآيات تتحدث عن خلق الله للأرض ، وما أوجد فيها من حيوان ونبات ومعادن. وتهيئته إياها لحياة الإنسان . وآيات تشير إلى أهمية الماء على وجه الأرض وإلى أنه أصل الحياة عليها، وإلى أثر الجبال في استقرار توازنها ، وإلى مسالك الأرض البرية والمائية وعلامات الهداية للإنسان في حله وترحاله . كما نبهت كثير من الآيات على الظواهر النباتية وأشارت إلى أثر المطر في الزرع وتناسل النبات وتنوع الثمرات ومنافعها وجمالها. أما الظواهر الحيوانية فقد وردت سور عديدة تحمل أسماء الحيوانات مثل: الأنعام والبقرة والنحل والنمل والعنكبوت والفيل وغيرها. وأشارت الآيات القرآنية العديدة إلى أنواع الحيوانات ومنافعها وما فيها من جمال وزينة ، وإلى وجود مجتمعات في عالم الحيوان مثل: مجتمعات النحل والنمل والطيور . شبيهة بالمجتمعات الإنسانية. ( حول النظام المعرفي في القرآن الكريم(محمود عايد الرشدان) ، الفكر الاسلامي المعاصر،مجلد 3 ،العدد 10 ( 1997) ص:31)
فقد لفت القرآن نظر الإنسان إلى التدبر والتفكيرفى جزئيات الكون من سماء وأرض وجبال وأنهاروغيرها من مظاهر الطبيعة ،والى النظر في ظاهرة خلق الحيوان والإنسان بصفة خاصة وما في ذلك الخلق من آيات ودلائل الإعجاز الإلهي في الخلق والصنع ، فيقول تعالى : ( وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِين،وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) ،الذاريات: 20-21. .ويقول: (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ،وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ،الجاثـية:3-5، (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) ،الأعراف:185. والنظر ليس المراد به مجرد الملاحظة العابرة بل ما يؤدي إلى الكشف عن بعض الحقائق التي يمكن استخدامها لاستنباط معرفة جديدة ، وإلا فلن تكون للملاحظة قيمة. (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ)، يوسف:105 .وقد دعا القرآن إلى دراسة الظواهر الكونية ومحاولة التعرف على المراحل التى تمر بها ودراستها دراسة دقيقة،ومحاولة معرفتها معرفةعلمية صحيحة من جميع جوانبها، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ)، الزمر:21، ويقول: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ) ،النور:43.
كما دعا القرآن الكريم إلى دراسة كيفيات الأشياء وما يتعلق بطبيعتها والقوانين التي تحكم العلاقة بين اجزائها، وأسباب ومراحل حدوثها، فيقول تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) الأنبياء:30 .وأكد على الاهتمام بدراسة كميات الأشياء وما فيها من علاقات تؤدى إلى معارف وعلوم أخرى. فمن النظر في ظاهرة الشمس والقمر يمكن التوصل إلى علم العدد والحساب: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ، يونس:5.
2 -الظواهر الإنسانية والاجتماعية:اهتم القرآن الكريم بالظواهر الإنسانية والاجتماعية من جانبين:من جانب أنها تشير الى قوانين تنظم حركة الإنسان والعلاقات الاجتماعية بين الناس.ومن ناحية أخرى فإنها نماذج يهتدي بها الإنسان ويسترشد بها في تنظيم حياته كفرد وجماعة. وهناك سورعديدة تحمل أسماء أقوام وأمم أو أفراد مثل: هود، ويوسف، وإبراهيم، ومريم ، وسبأ، والروم، وقريش . وسوراً تحمل أسماء ظواهر اجتماعية أو إنسانية مثل: التوبة والأحزاب والشورى والمجادلة والمنافقون ،والطلاق والهمزة والمطففين ، وهناك سورة عن الإنسان، وآيات كثيرة تشير إلى خلقه بوجه عام وتطور الجنين بوجه خاص ، ومراحل الخلق التى يمر بها الإنسان ، وآيات أخر تشير إلى الأسرة الانسانية وطبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة ، وإلى تنوع المجتمعات وإختلاف اللغات والألوان وتباين النشاطات الإنسانية( حول النظام المعرفي في القرآن الكريم).
3- الأحداث والوقائع التاريخية: اهتم القرآن بالتاريخ باعتباره أحد مصادر المعرفة الانسانية، وقدم في هذا الصدد أصول منهج متكامل في التعامل مع التاريخ البشري، ينتقل من مجرد العرض والتجميع إلى محاولة استخلاص السنن الإلهية أو القوانين التي تحكم الظواهر الاجتماعية والتاريخية،وما في تلك الأحداث التاريخية من عبر ودروس،فيقول تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ). يوسف:111 . فالتاريخ في المنظور القرآني تحكمه قوانين ثابتة مطردة عبر عنها بسنن الله ،ودعي الإنسان إلى اكتشافها ،فيقول تعالى: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) الفتح:23 ، .كما بين القرآن الكريم أهمية الدور الإنساني في حركة التاريخ، (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)( الرعد:11.
ووضع القرآن أساساً ومنهجاً لقبول الأخبار وردها، كما تشير إليه الآية : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)، الحجرات:6، مما مكن المؤرخين المسلمين من تكوين رؤية واضحة في ذلك.وباتباع هدي القرآن الكريم في التحقق من مصادر الخبر وتمحيصها،وضع المسلمون أصول علم الحديث ،وبذور ما يعرف بمنهج الاستقراء التاريخي كما سنرى.
وهكذا تتنوع موضوعات القرآن ومحاوره فتشمل: الإنسان فرداً وجماعة، والكون وما فيه من عجائب خلق الله وآياته ، والتاريخ وما فيه من دروس وعبر. وصدق الله تعالى إذ يقول (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فصلت:53.
وتبعا لذلك تتنوع مجالات الفكر الإسلامي ليشمل الغيب وحقائقه،وما في الأنفس والآفاق من ظوتهر كونية واجتماعية ونفسية.
جهود المفكرين المسلمين في مجال المناهج العلمية
بفضل ذلك المنهج القرآني الذي يستند إلى إستثارة ملكة التفكير ويدفع الناس إلى إعمال عقولهم،والنظر في الكون وفي أنفسهم، حول الإسلام العرب من أمة أمية لا تكتب ولا تحسب ، كما عبر القرآن الكريم: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الجمعة:2، إلى أمة رائدة في مجال العلم والمعرفة .
وقد استفاد المسلمون من دراسة القرآن الكريم الذي نمى فيهم النزعة العلمية، وغرس في نفوسهم الميل الشديد إلى البحث والنظر والملاحظة والتجربة . وفي رحاب هذه الأجواء العلمية المستمدة من القرآن الكريم، ظهرت أجيال من العلماء والمفكرين الذين وجهوا جهودهم نحو صياغة المناهج العلمية المختلفة في مجال البحث العلمي، مجسدين التصور القرآني للعلم ومناهجه ، فأدى ذلكم إلى قيام نهضة علمية شملت مختلف الميادين العلمية والمعرفية، ونشأت علوم ودراسات حول القرآن وعلومه، والتفسير وفنونه، والسنة ومصطلحاتها ،والفقه ومدارسه، والعقيدة وقضاياها، واللغة وآدابها، والتاريخ ومصادره ، إلى غير ذلك من المعارف والعلوم .
لقد فتح الوحي الإلهي للعقل المسلم أبواباً شتى من العلوم والمعارف، ليس في مجال العلوم اللغوية والشرعية فقط ، بل امتد ذلك ليشمل الطب والجدل، والهيئة والهندسة والجبر والمقابلة والنجامة وغير ذلك.
والسؤال الذي يثار هو ما قيمة ما انتجه المسلمون من معارف وما وضعوه من مناهج؟وهل أنشأ المسلمون هذه العلوم وكونوا تلك المناهج بناء على هدي الوحي الالهي فحسب، أم أنهم استفادوا من تجارب انسانية أخرى لا سيما التجربة اليونانية. وأهمية هذاالسؤال تبدوا في إطار الحملة التى شنها بعض متعصبي المستشرقين على الفكر الإسلامي، و حاولوا من خلالها انكار أى فضل للمسلمين في تقدم العلوم وازدهار المعارف الإنسانية. بل غالى بعضهم في عصبيته فادعى بأن القرآن هو الذي عاق المسلمين عن التفكير الحر والنظر المعرفي.
وبداية يمكن القول بان الإسلام لم يضع قيودا على المسلم فيما يتعلق بالثقافات الإنسانية الأخرى، وأعتبر كل جهد بشري مفيد ونافع من الحكمة التي هي ضالة المؤمن، وهو أحق الناس بها أنى وجدها.لذلك لم يجد المسلمون حرجا في الاستفادة من تجارب الأمم التي اتصلوا بها،والوقوف على ما لديهم من معارف وعلوم.استفادوا منها في صياغة مناهجهم و في مجال العلم التجريبي وميادين المعرفة المتعددة.
للاجابة على هذا السؤال سنحاول استعراض مناهج بعض العلوم الاسلامية ونستكشف الاصول التي استمدت منها لنقف على مدى ابداعهم او تقليدهم لغيرهم فيها.كما سنعرض لبعض ما أبدعه المسلمون في مجالات العلوم التجريبية من طب وهندسة وفلك ورياضيات، الخ
وسنعرض فيما يلي بعضاً من تلك المناهج التي وضعها علماء المسلمين:
منهج أصول الفقه :هو المنهج الذي استخدمه الفقهاء لاستنباط الأحكام الشرعية. وتعود بدايات هذا المنهج إلى عصر الصحابة، الذين وضعوا الضوابط التي بواسطتها تستنبط الأحكام. وينقل المؤرخون لهذا العلم أن ابن عباس ، كان له كلام يدل على إحاطته بالعام والخاص والناسخ والمنسوخ, وما روي عنه من قوله :«كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله ﷺ » ،ماذا يعني ؟ يعني أنهم كانوا إذا جاءهم خبر متأخر يعارض خبرا متقدما اعتبروا الأول منسوخا والثاني ناسخاً، وهذا باب من أبواب أصول الفقه اسمه باب النسخ. وفي العصر الأول والعصر الثاني وضعت قواعد للقياس وشرائط للعلة . ويؤكد ابن خلدون ذلك فيقول عن الصحابة رضي الله عنهم: " إنهم كانوا يقيسون الأشباه بالأشباه منها ، ويناظرون الأمثال بالأمثال ، باجماع منهم وتسليم بعضهم لبعض في ذلك ، فإنَّ كثيراً من الواقعات بعده صلوات الله وسلامه عليه، لم تندرج في النصوص الثابتة فقاسوها بما ثبت، والحقوها بما نص عليه بشروط في ذلك الالحاق تصحح تلك المساواة بين الشبيهين أو المثلين، حتى يغلب على الظن أن حكم الله تعالى فيها واحد ، وصار ذلك دليلاً شرعياً باجماعهم عليه، وهو القياس" ( مقدمة ابن خلدون،ج 3 ص:1062.). ولكن يعود الفضل إلى الامام الشافعي (150-204هـ ) في وضع مقدمات هذا العلم وترتيب قضاياه . ويجمع مؤرخو علم الأصول على أن أول محاولة لوضع مباحث الأصول كعلم إنما قام بها الشافعي ،حيث وجه الدراسات الفقهية إلى ناحية علمية ، ووضع نظاماً للاستنباط العلمي الذي لا يعني بالجزئيات والفروع ، بل كانت غايته ضبط الاستدلالات التفصيلية بأصول تجمعها". ، ولهذا وازن الرازي بين الشافعي وأرسطو، " فاعتبر نسبة الشافعي إلى علم الأصول كنسبة المعلم الأول(ارسطو) إلى علم المنطق.( التمهيد لدراسة الفلسفة الإسلامية( مصطفى عبد الرازق) ص:230،-33) . وقد أورد الشافعي تلك القواعد الاصولية وتكلم عن الخاص والعام، والناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم ، وأفاض في الحديث عن الاجماع وإثبات القياس في رسالته المشهورة ، كما أخذ ينقض بعض التعريفات من ناحية خروجها عن متابعة نظام متحد في طريقة الاستنباط " ، كما أخذ بالدليل الاستقرائي في مجال الأحكام، وحدد معالم المنهج في تحقيق القياس الأصولي. ( انظر الرسالة ( الإمام الشافعي) ص:223.). وبعد الشافعي توسع الأصوليون في مباحث القياس، وابتكروا العديد من الطرق الضابطة لا تقل عن طرق الاستقراء المعاصرة.
وقد أرجع الأصوليون القياس إلى نوع من الاستقراء العلمي الدقيق الذي يقوم على قانونين قام على أساسهما المنهج الاستقرائي في العصر الحديث وهما: قانون العِلَّة،وقانون الاطراد في وقوع الحوداث،. واعتبروا العِلَّة أهم أركان القياس،وعليها مدار تعدية الحكم من الأصل الى الفرع،لهذا أشبع الأصوليون مفهوم العِلَّة بحثاً وتحقيقاً،وفصلوا أحكامها وشروطها،وكيفية التعرف عليها.وعالجوا ذلك فيما يعرف لديهم بمسالك العِلَّة: والتي من أهمها : السبر والتقسيم، والطرد والعكس والدوران،وتنقيح المناط. وقد سبقوا في ذلك كله –كما يقول بعض مؤرخي الفكر الإسلامي- المناطقة المحدثين ، متأثرين في ذلك كله بمنهج القرآن الكريم ونزعته التجريبية ، ووضعوا منهجاً في البحث العلمي بنى عليه علماء المسلمين التجريبيون علومهم، واستخدموه في مجال بحوثهم العلمية من فلك وطب وكيمياء ورياضيات،وهندسة و غيرها. (انظر: مناهج البحث عند مفكري الاسلام ( علي سامي النشار) ص::97-103 111-117، 14،)
مناهج المحدَّثٍين :إن مناهج المحدَّثٍين نتاج طبيعي وأثر من أثار المنهج القرآني .ووفقاً لهدي القرآن- الذي حارب الكذب والوهم، وحذر من نتائج الخطأ والنسيان، وطالب بالبرهان والدليل، وذم اتباع الظن والهوى، وحذر من قبول خبر الفاسق الذي لا يلتزم بمبدأ الصدق والتثبت. وقد وضع علماء الحديث منهجاً يقوم على قواعد النقد العلمي للأخبار والمرويات ، وطبقوا ذلك المنهج في دراسة السُنَّة وروايتها وجمعها ، وذلك لأن معظم السُنَّة جاءت من طرق أحاد من الصحابة ، ولم تنقل كما نقل القرآن الكريم بالتواتر ،وتعرض بعضها لأوهام الرواة وخطئهم ونسيانهم ، ووضع الوضاعين وكذبهم . وقد اجتهد المحدثون في جمع الروايات، ونقدوا أحوال الرواة ومروياتهم، وأحتاطوا أشد الإحتياط في ذلك ، وحكموا بضعف الحديث لأقل شبهة تتعلق بسنده أو بمتنه ، وقدموا الجرح على التعديل، فجاءت الطرق التي سلكوها على أقوم ما يمكن أن تكون عليه الطرق العلمية ، وكانت القواعد التي وضعوها أصح القواعد للاثبات التاريخي ، ونقل الأخبار.
وقد نقد المحدثون سند الحديث ، كما نقدوا متنه ، ونظرة موجزة لجهدهم في المجالين يتضح من خلالها قيمة ما قاموا به . وفي تقييم الرجال وضعوا علوماً خاصة، (كعلم الجرح والتعديل)، الذي يهتم بأحوال الرجال من حيث الحكم عليهم بالقبول أو الرد ،ووصفهم بأوصاف الثقات العدول أو المجروحين والمتروكين . ووضعوا ضوابط للراوي الثقة ، وبحثوا في كيفية معرفة عدالته ,وضبطه، إلى غير ذلك من الضوابط المتعلقة بأمانة الأداء وقوة الذاكرة، في الحفظ والضبط .كما وضعوا علم العلل الذي يهتم بمتابعة الثقات ورواياتهم،ويتناول أنواعاً من الفقه النقدي، بعضها تاريخي، وبعضها اجتماعي، وبعضها نفسي، وبعضها عقيدى، وبعضها فقهي".( انظر: الفكر المنهجي عند المحدثين( همام سعيد)، كتاب الأمة، أول محرم 1408 ، ص: 58،102-103.)
أما متن الحديث ، فلم يغفله المحدثون ، كما زعم بعض المستشرقين ، بل اهتم نقدة الحديث بنقد نصوص الاحاديث أو متونها ، وناقشوا ما روي، وبينوا ما يعارضه من النصوص، أو ما يعارضه من أحكام العقل، أوما قد يبدوا فيه من مخالفة لمبادئ الإسلام ومنطقه ومناهجه .
ونظرة عجلى لما قام به علماء الحديث يتبين، أن منهجهم منهج قرآني مستمد من القرآن و السُنَّة ،وأنه منهج تأريخي نقدي، وما وضعه المحدثون من منهج وما بنوا من قواعد كان له أثر في معظم العلوم والفنون النقلية ، وتأثر بهم علماء اللغة والأدب وعلماء التاريخ وغيرهم، وتبنوا منهجهم في نقل النصوص ورواياتها وثبوت نسبتها إلى قائلها.
منهج المتكلمين :
علم الكلام علم إسلامي نشأ في البيئة الإسلامية ، واستمد قضاياه ومسائله، شأنه شأن العلوم الشرعية، من القرآن و السُنَّة. أما صياغة تلك القضايا والمسائل، ووضع المناهج للتعبير عنها والبرهنة عليها،فقد مال علماء الكلام ،مع استصحابهم للنصوص الشرعية، إلى استخدام العقل والتركيز على مناهجه وبراهينه .
وقد استند المتكلمون- في شرعية استخدامهم للنظر العقلي- الى ما ورد في القرآن الكريم من أمر باستخدام العقل واعماله في الكون والأنفس ، وحث القرآن الكريم على النظر والتفكر والاعتبار. كما أن احتكاك المتكلمين بأصحاب الديانات والملل والثقافات الأخرى ومجادلتهم، وردهم على أصحاب تلك العقائد والاتجاهات الفكرية المخالفة للإسلام،كان له أثر انعكس في صياغتهم لمناهجهم وأساليبهم ، التي توجهت فى الأساس إلى الدفاع عن العقائد الإيمانية وإقامة الأدلة والبراهين عليها .( انظر:مناهج البحث في العقيدة الاسلامية ( احمد محمد احمد الجلي) مجلة كلية الدراسات الاسلامية والعربية، دبي ،العدد:الثامن والعشرون ذو القعدة 1425/ديسمبر 2004م.)
نتيجة لذلك نجد أن علم الكلام يقوم على دعامتي العقل والشرع، وفى هذا تلتقي كل المدارس الكلامية، على اختلاف فيما بينها، في تحديد العلاقة بين العقل والشرع . فالمعتزلي واصل بن عطاء يذهب إلى أن الحق يعرف من وجوه أربعة: كتاب ناطق ، وخبر مجمع عليه وحجة عقل أو إجماع من الأمة" ، (انظر: نشاة الفكر الفلسفي في الإسلام ( علي سامي النشار)ج 1 ص:3-4.كما يقرر القاضي عبد الجبار أن الدلائل أربعة: "حجة العقل والكتاب والسنة والإجماع". وبالمثل يذهب الأشاعرة إلى أن جملة الطرق التي تدرك بها العلوم تنحصر في خمسة: العقل والكتاب والسنة والإجماع والقياس" . أما الماتريدى (ت:333هـ) فيقرر في كتابه التوحيد:" أن أصل ما يعرف به الدين وجهان : أحدهما السمع والآخر العقل " وبهذا يختلف الكلام عن الفلسفة، التي تستند الى العقل وأحكامه من غير اعتبار للشرع أو الوحي.
ومع اصطحاب المتكلمين للسمع والعقل معا فإن اعتدادهم بالدليل العقلي والاعتراف بصحة ما يدل عليه في المسائل الاعتقادية،أدى بهم الى القول: بوجوب النظر والاستدلال العقلي كأساس للاعتقاد،وعدم الاكتفاء بالتقليد في قضايا العقيدة .كما أنّهم أثاروا قضية العلاقة بين العقل و النقل بصورة حادة ، و استخدموا التأويل كمنهج ،واتخذوا موقفاً سلبياً تجاه أحاديث الآحاد كمصدر للعقيدة.( انظر:مناهج البحث في العقيدةالاسلامية ( احمد محمد احمد الجلي) مصدر سابق)
منهج المتصوفة: يعد التصوف في أصوله وبداياته الأولى ثمرة من ثمرات الإلتزام بالعقيدة الإسلامية والمنهج القرآني،حيث سعى المتصوفة الى بلوغ درجة الإحسان التي يرتقي فيها المسلم بعبادته الى درجة المشاهدة أوالمراقبة،( ان تعبد الله كأنك تراه ..).وقد استمد التصوف أصوله الأولى من التعاليم الإسلامية،والقيم الأخلاقية التي أرساها القرآن الكريم والسنَّة المطهرة،وأن هذاالمنهج كان في بداياته وإلى حد ما-صياغة عملية لتعاليم الإسلام في العبادة والسلوك متمثلة في تقوى الله في السر والعلن،واتباع السنَّة في الأقوال والأفعال،والاعراض عن الخلق والتمسك بقيم الصبر والتوكل على الله والرضى بما قسم ،والرجوع إليه سبحانه في السراء والضراء.ولكن التصوف كما هو معلوم مر بمراحل، وتقلب في اطوار بعدت به عن تلك الغاية والوسائل التي تحققها،نتيجة لتأثر بعض الصوفية ببعض التصورات الكلامية،والنظريات الفلسفية الغنوصية. (انظر: طائفة الختمية اصولها التاريخية وأهم تعاليمها ( احمد محمد احمد جلي) ص:7-8.والفلسقة الصوفية في الإسلام (عبد القادر محمود ) دار الفكر العربي ،1966.)
المنهج التجريبي : رغم أنَّ القرآن الكريم شجع على طلب العلم، وحث على إستكشاف الكون ، وشهد العالم الإسلامي خلال القرون الأولى للإسلام حركة علمية نشطة ازدهرت على أثرها علوم اللغة والأدب ، وعلوم التفسير والحديث ، فإن نشأة العلوم البحتة أوالتطبيقية: كالطب والفلك والرياضيات والكيمياء والهندسة، لم تزدهر الا مع حركة الترجمة ونقل علوم الامم الأخرى أو علوم الأوائل ، كما أطلق عليها المسلمون آنذاك ، إلى اللغة العربية ، فبتشجيع من القرآن الكريم، اطلع العلماء المسلمون على تراث الأمم العلمي - واستفادوا من مجهودات العلماء السابقين ، وحفظوا ذلك التراث العلمي الذي سبقهم لا سيما التراث اليوناني من الضياع ، فانكبوا من ثم في عصر الفتوحات ،على التراث المعرفي لمختلف الأمم التي لها سبق في مضمار الحضارة فترجموه إلى اللغة العربية، وانعموا النظر في ذلك التراث،ووقفوا على ما ابدعته الأمم من فكر وثقافة وعلم.ونتيجة لتلك الجهود التي بذلت خلال هذه الحركة الضخمة ،أصبح المسلمون - كما يقول لويس يونج - على صلة تامة بحضارة واسعة تضم بين جدرانها أدبا واسعا مكتوباً باليونانية والسريانية والبهلوية ، لقد صبت جداول كثيرة في نهر الحضارة الاسلامية ، ولعل أشدها تأثيراً رافد الحضارة الهلينية ، ثم الحضارة الفارسية التي انتشرت في الفكر السياسي والعادات الاجتماعية، والحضارة الهندية التي اسمهت في علم الطب والفلك وخاصة في الرياضيات".
ولكن لم يقتصر دور العلماء المسلمين على النقل والحفظ، بل إنهم طبعوا ما أخذوه بطابعهم الخاص. فنقدوا وأضافوا واكتشفوا وابدعوا في مختلف مجالات العلم والمعرفة ،وحققوا انجازات هامة في ميادين العلم التجريبي كالطب والكيمياء والفبزباء والفلك والرياضيات والجغرافيا وغيرها من العلوم ، مما لا شك فيه ان الترجمة كان لها إسهام كبير في تقدم الحركة العلمية ، وازدهار المعارف والعلوم كالطب والهندسة والرياضيات وغيرها ، إذ اطلع العلماء المسلمون على تراث الأمم العلمي - واستفادوا من مجهودات العلماء السابقين ، وحفظوا ذلك التراث العلمي الذي سبقهم لا سيما التراث اليوناني من الضياع ، . ولكن لم يقتصر دور العلماء المسلمين على النقل والحفظ، بل إنهم طبعوا ما أخذوه بطابعهم الخاص . فنقدوا وأضافوا واكتشفوا وابدعوا في مختلف مجالات العلم والمعرفة ، وحققوا انجازات هامة في ميادين العلم التجريبي كالطب والكيمياء والفلك والرياضيات وغيرها من العلوم . ( انظر: في تراثنا العربي الاسلامي( توفيق الطويل) ص:88.)
ففي مجال الرياضيات طوروا نظام كتابة الأرقام الغبارية وهي المنتشرة في بلاد المغرب العربي بما في ذلك الاندلس والتي انتقلت واستعملت في أوربا وسميت بالارقام العربية ، والارقام الهندية وهي التي تستعمل في المشرق العربي ، كما طوروا مفهوم الصفر الذي سهل العمليات الحسابية ، كما اكتشفوا الكسور العشرية وطريقة كتابة الكسور الاعتيادية ، وعلم الجبر واللوغاريثمات.
أما الطب فقد وضعوا له أصولاً ومناهج نظرية بجانب التجارب العملية، واشتهر منهم ابو بكر الرازي وكتبه: "الحاوي"، و"المنصوري" ، و"الحصى في الكلى والمثانة". واهتدوا إلى العديد من العلل وعلاجها ، فادركوا أن الأوبئة تنتقل عن تعفن تنتقل عدواه عن طريق الهواء والمخالطة ، وسموا الأمراض المعدية بالسارية. وكانوا أول من فطن إلى تفتيت الحصاة في المثانة ، ومن أوائل من استخدموا المخدر واخترعوا الاسفنجة المخدرة ، وأول من كشف البول السكرى والحصبة وغير ذلك كثير ، هذا في الوقت الذي كانت السلطات الكنسية في أوربا تنفر من علاج الأمراض ومن استخدام الجراحة لانها تغير من خلق الله في زعمهم.
وفي الكيمياء اكتشفوا أهم أسس الكيمياء. واجروا عمليات التبخير والترشيح وأقاموا المعامل ووضعوا أصولاً لاجراء التجارب ،وعرفوا كثيراً من الاجهزة والآلات التى كانت تستعمل في المعامل.
وفي الفيزياء اشتهر الحسن بن الهيثم، وكتبه في: البصريات، ونظريات حول الضوء التي تعتبر أساساً لعلم الفيزياء بالمعنى الحديث.
وفي الفلك رصد العرب النجوم وحركة دوران الشمس وظاهرة الكسوف والخسوف وبنوا المراصد الجوية.
وفي الجغرافيا خطوا خطوات واسعة ، واستطاعوا ان يحددوا مواقع البلدان والطرق بدقة متناهية ، ودرسوا الظواهر الجغرافية ، ووصفوا البلدان جبالها وسهولها وأوديتها وحدودها ونباتاتها وحيواناتها ، وتفننوا في رسم الخرائط.
وقد كان من نتائج هذه الحركة ، ان شهدت الصناعات وفنون الزراعة والنظم الزراعية وأساليب الري والتسميد وتربية الحيوانات ،تقدما باهرا كان مثار اعجاب ودهشة من أرخوا للعلم .
ورغم تلك المبتكرات والمخترعات والكشوف في مجالات العلم المختلفة، فقد كان الاسهام الاكبر للمسلمين في مناهج وطرق البحث العلمي التجريبي الذي كان أساساً للحضارة الأوربية الحديثة، والذي كان ابتكاراً إسلامياً ، لان الثقافة القديمة وخاصة اليونانية كانت تجهل الطريقة التجريبية وتحتقرها ولا تعني إلا بالدراسات النظرية المجردة. فاستطاع المسلمون ان ينشئوا منهجاً في البحث العلمي التجريبي يقوم على الملاحظة، وتمييز الظواهر بعضها عن بعض، والاستقراء، وصياغة القوانين، والموضوعية، وتحري الحقيقة.
ويعود هذا المنهج في أصوله إلى ما سبق أن وضعه علماء الأصول والحديث من أسس وقواعد ،استمدوها مباشرة او بطريقة غير مباشرة من القرآن و السنة، فلدى ، أولئك العلماء تكون المنهج العلمي قبل ان ينتتقل إلى العلماء التجريبيين ، الذين نقلوه من مرحلة النظر إلى التطبيق. والدليل على ذلك ما نجده عند ابن الهيثم في رسالته في الضوء، إذ يقرن لفظ الاعتبار "التجربة" بلفظ السبر، والمراد به الابطال، وهو اللفظ الوارد عند علماء الأصول والمتكلمين".( منهج البحث العلمي عند العرب( محمد جلال موسى) ص:27.)
ويقوم المنهج التجريبي لدى علماء المسلمين على الأسس التالية:
1-الشك المنهجي، الذي يقود إلى تمحيص الحقائق، ونقد المصادر، ويمهد للتثبت من صحة الأفكار. وقد نادى بذلك كل من: النظام، والغزالي، والحسن بن الهيثم ووفقاً لهذا قيم ابن الهيثم فكر بطليموس وآراءه، وأشاد بجهوده في الرياضيات والعلوم، وذكر أنه وجد في كتبه علوماً كثيرة وفوائد عظيمة، ولكن لم يمنعه هذا من الاشارة إلى مواضع الضعف في أفكاره وعباراته ويقول عن ذلك: " لما نظرنا في كتب الرجل المشهور بالفضيلة،وجدنا فيها علوما كثيرة،ولما هضمناها وميزناها وجدنا فيها مواضع شبهة،وألفاظا بشعة،ومعاني متناقضة،ورأينا أن في الامساك عنها هضماً للحق وتعدياً عليه، وظلماً لمن ينظر بعدنا في كتبه في سترنا ذلك عنه ، ووجدنا أولى الأمور ذكر هذه المواضع ، وإظهارها لمن يجتهد من بعد ذلك في سد خللها، وتصحيح معانيها، بكل وجه يمكن أن يؤدي إلى حقائقها". ( مجموعة رسائل الحسن بن الهيثم،طبع حيدر اباد الدكن 1357،رسالة في ضوء القمر ص:3).
وهكذا زاول علماء المسلمين من ناحية عملية هذا الشك في دراساتهم العلمية ، فلم يسلموا بما قاله مشاهير المفكرين ، بل أخذوا يعيدون النظر فيما يتلقونه منهم ، ويحصوا أفكارهم لمعرفة صوابها من خطئها ، و عملوا على إكمال نقصها أو إبدالها بغيرها من الأفكار التي اثبتت التجربة أو شهد العقل بصوابها.
2- الملاحظة:وهي الأساس الثاني من أسس المنهج العلمي فقد دعا علماء المسلمين إلى استخدامها، ومارسوها فعلاً في بحوثهم، وإستعانوا بها في تمحيص أقوال من تقدموهم، والكشف عن أخطائهم . فجابر بن حيان (198/813م) ، يقول في المقالة الأولى من كتاب، (الخواص الكبير): " ويجب أن تعلم انا نذكر في هذه الكتب، خواص ما رأيناه فقط دون ما سمعناه أو قيل لنا وقرأناه ، بعد أن امتحناه وجربناه. فما صح عندنا بالملاحظة الحسية أوردناه، وما بطل رفضناه". ( انظر: في تراثنا العربي والاسلامي( الطويل) ص:18).
وتبدو مثل هذه الشواهد كثيرة، لا سيما في مجال الطب والفلك والجغرافيا. فرغم إعجاب العلماء المسلمين بجالينوس وطبه، فقد كشفوا في ضوء خبرتهم الحسية وملاحظاتهم، الكثير من اخطائه . . ويقول أحد هؤلاء الأطباء :" فشاهدنا من شكل العظام ومفاصلها وكيفية إيصالها وتناسبها وأوضاعها ما أخذنا علماً لا نستفيده من الكتب ، إما أنها سكتت عنها ، أو لا يعني لفظها بالدلالة عليها ، أو يكون ما شاهدناه مخالفاً لما قيل فيها ، والحس أقوى دليلاً من السمع ، فإن جالينوس وان كان في الدرجة العليا من التحرى والتحفظ فيما يباشره فإنَّ الحق أصدق منه." ( في تراثنا العربي والاسلامي( الطويل ) مصدر سابق:ص: 20.)
3-التجربة: أما التجربة التي هي مدار البحث العلمي التطبيقي، فقد فطن المسلمون إليها، واهتموا بها. وأسماها جابر بن حيان بالتدريب، وقال: "فمن كان درباً (مجرباً) كان عالماً حقاً ، ومن لم يكن درباً (مجرباً) لم يكن عالما،ً وحسبك بالدربة، (اجراء التجارب) في جميع الصنائع، أن الصانع الدرب يحذق وغير الدرب يعطل". ويقول أيضاً: إن واجب المشتغل في الكيمياء هو العمل وإجراء التجربة، و ان المعرفة لا تحصل إلا بها".( مناهج البحث ( النشار) ص: 262 ) .وفي ظل تجاربه وفق جابر إلى تحضير كثير من العناصر الكيمائية ، وكان ابن الهيثم يزاول التجربة العلمية تكملة للملاحظة الحسية ، ويسميها "بالاعتبار". وقد قام بالكثير من التجارب التي مكنته من التوصل إلى كشوفه العلمية.
4- الموضوعية والنزاهة العلمية: قد تميز علماء المسلمين بالنزاهة في الحكم والموضوعية في البحث . وتشير كثير من النصوص إلى حرصهم على ذلك. ،وقد أكد ابن الهيثم في كتابه "المناظر" على ذلك حيث قال: " ونجعل غرضنا في جميع ما نستقريه ونتصفحه إستعمال العدل لا إتباع الهوى ، ونتحرى في سائر ما نميزه وننقده طلب الحق لا الميل مع الآراء ، وليس ينال في الدنيا أجود ولا أشد قربة إلى الله من هذين الأمرين". ( الحسن بن الهيثم (بحوثه وكشوفه البصرية) لمصطفى نظيف.)
ويذهب ابن رشد إلى هذا أيضاً إذ يقول: " إن من واجبنا، إذا نظرنا فيما قاله من تقدمنا من أهل الأمم السابقة، أن ننظر في الذي قالوه من ذلك ، وما أثبتوه في كتبهم ، فما كان منه موافقاً للحق قبلناه، وسررنا به، وشكرناهم عليه، وما كان غير موافق للحق نبهنا عليه، وحذرنا منه وعذرناهم " ( فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال( ابن رشد) ص:17).
وبناءً على هذه الأسس، ابتدع علماء المسلمين منهجاً للبحث التجريبي الاستقرائي ينصب على ملاحظة الظواهر الجزئية، وإجراء التجارب عليها بغية تحديد سلوكها ، والكشف عن القانون العام الذي ترتبط بموجبه هذه الظواهر ، وهذا هوالطريق الذي بدأه الأصوليون في منهجهم، فمارسوا الاستقراء على أساس الظواهر الجزئية منتهين إلى صياغة الحكم الشرعي الكلي ".
وهذا المنهج العلمي التجريبي منهج إسلامي أصيل، لم يستمده علماء المسلمين من اليونان، لان البحوث العلمية والفلسفية عند الاغريق لم تكن تهتم بالتجربة ، بل اتجهت ابحاثهم إلى دراسة الكون بظواهره وحوادثه طبقاً للطريقة الاستدلالية والتأويل العقلي المجرد، الذي بلغ ذروته عند أرسطو ، واستنفذوا وسعهم في الاهتمام بالعلوم الصورية التى تستند إلى النظر العقلي المجرد ، وكانوا يستخفون بالتفكير العلمي التجريبي ومناهجه، فأدى هذا إلى تدهور العلوم الطبيعية عندهم وتقدم العلوم النظرية الاستنباطية ،وبناء نظريات ومفاهيم عقلية لا تمت بصلة إلى النظام الواقعي للكون، ولا تتطابق مع القوانين الطبيعية المستقلة عن النظريات الفلسفية المجردة". ( خصائص التفكير العلمي بين تراث العرب وتراث الغربيين،عالم الفكر،مجلد 3 عدد 4،الكويت 1977.)
وبهذا المنهج العلمي التجريبي، أسهم العرب في نهضة أوربا حينما انتقل ذلك المنهج إليها وأخذت به ، وكما تقول المستشرقة الالمانية زيغرد هونكه : "إن العرب لم ينقذوا الحضارة الاغريقية من الزوال ، ثم نظموها ورتبوها ثم أهدوها الى الغرب فحسب ، إنهم مؤسسو الطرق التجريبية في الكيمياء والطبيعة والحساب والجبر والجيولوجيا وحساب المثلثات وعلم الاجتماع. بالاضافة الى عدد لا يحصى من الاكتشاقات والاختراعات الفردية في مختلف فروع العلوم التي سرق اغلبها ونسب لآخرين، قدم العرب للآوربيين أثمن هدية، وهي طريقة البحث العلمي الصحيح التي مهدت أمام الغرب طريقه لمعرفة الطبيعة وتسلطه عليها اليوم". (شمس العرب تسطع على الغرب"د.زيغريد هونكه"صفحة: 401-402).
ويؤكد هذه الحقيقة صاحب كتاب بناء الإنسانية ( The Making of Hunanity) حيث يقول : "إن ما يدين به علمنا لعلم العرب ليس هو ما قدموه لنا من اكتشافاتهم لنظريات مبتكرة . ان العلم يدين لثقافة العرب بأكثر من هذا، إنه يدين لها بوجوده. إن ما ندعوه بالعلم ظهر في أوربا ظهر في أوربا نتيجة لروح جديدة في البحث، ولطرق جديدة فى الاستقصاء عن طريق التجربة والملاحظة والقياس ، وهذه الروح وتلك المناهج أدخلها العرب إلى العالم الأوربي".( Robert Briffault, The making of Humanity, Londres, 1919, P: 191 )
وهكذا وجه القرآن الى هذا التتبع والاستقراء ،الذي يوصل الإنسان الى الحقيقة سواء كانت علمية أو دينية،قال تعالى:(أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ،أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ،نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ،عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ،وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ) ،الواقعة: 58-62. كما أرشد إلى استخدام هذا المنهج العلمي الذى يقوم على الملاحظة والاستقراء والتجريب، وينتهي بالتذكر والاعتبار ومعرفة سنن الله في الكون، والوصول عن هذا الطريق الى القياس العقلي واستنباط الحقائق العلمية والتأكد من صحتها.وقد عبر القرآن عن هذا المنهج بالاعتبار،وهو كما يقول ابن رشد:ليس شيئا أكثر من استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه وهذا هو القياس. (فصل المقال في ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال ( ابن رشد) ص:9.)
خاتمة البحث:من خلال هذه الدراسة يمكن أن نخلص إلى ما يلي:
1- أن المعرفة والعلم في المنظور القرآني ليس تراكماً للمعارف والمعلومات، بل هي معرفة تربط الإنسان بالله تعالى، وتتمثل قيمة العلم في أنَّه يقود الى الإيمان، والإيمان في حقيقته مرتبط ارتباطا لازماً بالعمل ويقود إليه.وأن غاية المعرفة والعلم هي هداية الإنسان إلى الطريق القويم والصراط المستقيم الذي به تتحقق سعادته في الدنيا والآخرة،وبه يعرف الإنسان نفسه ويعرف ربه ويعرف ما له وما عليه من حقوق وواجبات،بموجب خلافته في الأرض ،والطلب منه اعمارها بالحق ،واقامة الحق والعدل بين الناس.( انظر: فلسفة العلم من منظور إسلامي ( زكريا بشير إمام) ص:52 ) .
2- نتيجة لهذه الرؤية للمعرفة والعلم اهتم علماء المسلمين بالأخلاق التي ينبغي أن يتحلى بها العلماء وتضع ضوابط لأبحاثهم العلمية وتعاملهم مع أشياء هذا العالم والغاية من بحوثهم. فأبو بكر الرازي يتحدث في بعض كتبه الطبية والفلسفية عن الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها الطبيب ودارس الطب (فيجب ألا يتخذ الطب مجرد وسيلة لجمع المال، بل أن يتذكر أن أقرب الناس إلى الله هو أعلمهم وأعدلهم وأرأفهم بالناس).
3- تمثل المعرفة والعلم وفقاً للرؤية القرآنية وحدة متكاملة ،فلا نجد ذلك التوتر الحاد الذي نجده اليوم- بتأثير الثقافة الغربية- بين علوم الدين وعلوم الدنيا، بل نجد تكاملا للمعرفة والعلوم، حيث لم يهمل جانب من جوانب المعرفة والعلم، أو الأدب والفن،والحرف والمهن.بل نجد اهتماماً بالعلوم الدينية المؤسسة على النقل والتواتر ( علوم القرآن الكريم ,والحديث) ،والعلوم الإنسانية كالفلسفة وعلوم الاجتماع والتاريخ والأدب واللغات وعلم النفس والأخلاق والسياسة،وكل فروع العلوم الطبيعية وعلوم ما بعد الطبيعة ،والهندسة والفلك والرياضيات.فكثير من علماء المسلمين جمعوا بين دراسة العلوم الدينية والعلوم الكونية أو المادية.فالكندي مثلا يكتب في العلوم الرياضية والفلكية والطبيعية،ويفسر القرآن والآيات الكونية مدعماً بها آراءه وما توصل إليه من حقائق.ونجد لتلميذه أبي يزيد البلخي مؤلفات لعبت دورا رئسا في الجغرافية وكونت مدرسة جغرافية،كما نجد له مؤلفات في علوم القرآن وتفسيره. ولعل من أوضح الأمثلة على ذلك ابن رشد الذي ألف في الفلسفة والطب وكتب في الفقه الإسلامي والجمع بين الحكمة(الفلسفة) والشريعة.ولابن النفيس مؤلفات في الطب والسيرة وعلوم الحديث،وهكذا نجد أنه في اطار العلم الإسلامي تمثلت وحدة المعرفة الإنسانية.
5-ارتبطت المعرفة والعلم في الإسلام بالعمل،وقد ابتعد علماء المسلمين عن التفكير التجريدي والتأملات الفلسفية التي كانت سمة الفكر اليوناني ولم يدخلوا في مجادلات ومناظرات ومماحكات لفظية،بل عبروا عن كراهيتهم لكل علم لا يترتب عليه عمل نافع،قال مالك: لا احب الكلام الا فيما تحته عمل". لهذا كان الاتجاه العام لعلماء المسلمين التجريبيين توجيه معارفهم لتشييد ما ينفع كالمستشفيات الثابتة والميدانية،والصيدليات والطرق والجسور ووسائل البريد والمراصد الفلكية وصناعة السفن إضافة إلى وسائل الري وخزانات المياه وصناعة الورق والنسيج والمعادن المختلفة.
6-إنَّ أي مشروع نهضة علمية،في العالم العربي والإسلامي ،لا بد أن يستصحب هذه الرؤية القرآنية للمعرفة،التي تتسع لتوجهات الإنسان على اختلافها،والتي يلتقي فيها الوحي والعقل ،والتجرية والإلهام،والنظر بالعمل،والتي تدفع الإنسان الى السعي في الدنيا سيراً إلى الآخرة.ومن خلال تبني هذه الرؤية يمكن للعرب والمسلمين أن يسهموا ،ان لم يكن في النهضة العلمية المعاصرة ،فعلى الأقل في توجيه مسيرتها من أجل تجنيب البشرية الهلاك والدمار الذين توحي بهما مسيرة العلم بفلسفته المعاصرة.
أ.د. أحمد محمد أحمد الجلي
ahmedm.algali@gmail.com
////////////////////////////
////////////////////////////
ahmedm.algali@gmail.com
مقدمة
تتناول هذه الورقة البحثية المعرفة في القرآن الكريم . فتبين مفهوم المعرفة في القرآن الكريم و مصادرها، المتمثلة في الوحي الالهي المقروء ( القرآن الكريم ) والوحي المشاهد ( الكون ).ووسائل تلك المعرفة. واثر القرآن الكريم في تكوين مناهج البحث العلمي لدى علماء المسلمين.
فالقرآن الكريم كما هو معلوم بالنسبة للمسلم مصدر للحقائق والمعارف لا سيما ما يتعلق منها بالغيب من ايمان بالله تعالى والملائكة والقدر والحياة الآخرة وما فيها من وقائع وأحداث ،فضلاً عن كونه مصدراً للأصول والأسس التي تنظم حياة المسلم ،والقيم التي تقوم عليها حياة الناس أفراداً وجماعات.
أما الكون او عالم الشهادة كما عبر القرآن الكريم فقد خلق من أجل حياة البشر وأمداد الانسان بالمواد والوسائل والآليات التي تعينه على القيام بشؤون حياته وطرق عيشه ،و طلب القرآن الكريم من الإنسان السعي في جنبات الكون لاستكشافه ،واستمداد العلوم والمعارف منه،وفقاً لطرق معينة وأساليب محددة بينها القرآن الكريم ،وتتمثل في الحواس من سمع وبصر،والتي تمد الإنسان بمعارف وعلوم مشاهدة ،والعقل الذي يستنبط الانسان عن طريقه العديد من العلوم والمعارف .فضلاً عن ما زود به الوحي الإلهي الإنسان بمعلومات ومعارف عن الكون وما فيه .
وبعد تفصيل هذه الجوانب التي تمثل مصادر المعرفة ووسائلها ، ينتقل البحث الى بيان الأثر المباشر للقرآن الكريم في تكوين مناهج البحث العلمي لدى علماء المسلمين،وكيف استفاد العلماء المسلمون على اختلاف تخصصاتهم ومعارفهم من القرآن الكريم في صياغة مناهجهم. فصاغ علماء أصول الفقه منهجهم في استنباط الاحكام الشرعية على هدي من آيات القرآن الكريم، ووضع علماء الحديث منهجا محكما لتمحيص الأخبار وشروطاً دقيقة لقبولها.و خط العلماء التجريبيون منهجهم في اكتشاف الحقائق العلمية والتحقق منها مهتدين بهدي الاشارات العلمية التي وردت في القرآن الكريم .هذا ،فضلاً عن المتكلمين الذين استندوا في مشروعية بحثهم العقلي في العقائد على آيات القرأن الكريم التي حثت على النظر والتفكر، ووجد المتصوفة الذين التمسوا سنداً لتجاربهم الذوقية ورياضاتهم الروحانية في ثنايا آيات الكتاب العزيز. وكما نشأت معظم العلوم الإسلامية حول القرآن الكريم، فقد كان القرآن منطلقاً للمناهج التي صاغها العلماء المسلمون في مختلف مجالات العلوم التجريبية والمعارف الانسانية.
مفهوم المعرفة ومصادرها:
مفهوم المعرفة: تجمع المصادر اللغوية على أن المعرفة ومشتقاتها ترتبط بالعلم ،فمعرفة الشيء تدل على العلم به وأدراكه بحاسة من الحواس أو العقل، ،والعرفان يعني العلم( انظر:لسان العرب ( ابن منظور) مجلد 10 ص:110-111،القاموس المحيط ( الفيروزآبادي) ص:771.)
ولكن هناك اختلاف بين الدارسين حول العلاقة بين المعرفة والعلم ،فهناك من ذهب الى أن المعرفة أعم من العلم،وهناك من ذهب الى عكس ذلك ،بينما يرى فريق ثالث بتطابقهما، فكلاً من المعرفة والعلم- كما يذهب من قال بترادفهما - يعني إدراك الشيء على ما هو عليه. ، اما من فرق بين العلم والمعرفة،فبنى ذلك على ان المعرفة مسبوقة بجهل، أو إدراك مسبوق بجهل وليس العلم كذلك، يقول الجرجاني: ( انها( أي المعرفة)، ادراك الشيء على ما هو عليه ،وهي مسبوقة بجهل بخلاف العلم"، ولذلك يقال للحق سبحانه وتعالى عالم، ولا يقال له عارف.وايضاً إن المعرفة هي ادراك الجزئي ،وأن العلم هو ادراك الكلي،وأن المعرفة تستعمل في الدلالة على التصورات،وأن العلم يستعمل في التصديقات،ولذلك نقول مثلاً: عرف الله،و لا نقول: علم الله،ونقول ايضاً: العارفون بالله، ولا يقال: العالمون بالله.فالعلم يقتضي الاحاطة بالمعلوم وإدراكه على ما هو عليه،والمعرفة تقتضي الخبرة بالشيء في ظاهره أو في أثر من آثاره أو في جزئية من جزئياته،ولذلك وصف الله ذاته بالعلم ولم يصفها بالمعرفة. ( انظر: كتاب التعريفات ( للجرجاني) ص:238.للوقوف على تفصيل هذه الآراء انظر:نظرية المعرفة في القرآن الكريم وتضميناتها التربوية ( احمد محمد حسين الدغشي) ص:70-92.
هذا مع ملاحظة أن القرآن لم يستعمل لفظ المعرفة في الدلالة على العلم،وانما استعمل الأفعال المشتقة مثل: عرف ويعرف ،واطلقها على الخبرة المباشرة بالأشياء كما في قوله تعالى: (وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) النمل:93
مصادر المعرفة في القرآن الكريم:
إنَّ المصدر الأساسي للمعرفة الانسانية في التصور القرآني هو الله تعالى، الذي علم الإنسان ما لم يعلم، كما في قوله تعالى: ( الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) العلق:4-5:وقوله سبحانه:( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ) البقرة:31.،وأنه تعالى وهب الإنسان وسائل المعرفة من السمع والبصر والفؤاد:( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، النحل:78.ويتلقى الإنسان تلك المعارف الالهية عن طريق الوسائل التي منحها الله له( الحواس والعقل)،فيما يتعلق بالمعارف الكونية.أما مسائل الغيب فإنَّ الله زود بها الانسان عن طريق الوحي الإلهي ويتلقاها الإنسان بعقله.
وبناءً على ذلك فإنَّ مصادر المعرفة في الإسلام هي: الوحي الالهي المقرؤء والمتمثل في القرآن الكريم،والوحي الإلهي المشاهد والمتمثل في الكون.
-الوحي:
لعل من المسلمات أنَّ الوحي الإلهي المتمثل في القرآن والسنة، هو المصدر الأساسي للمعرفة لاسيما فيما يتعلق بعالم الغيب، الذي لا سبيل إلى إدراك حقائقه عن طريق الحس ، ولا معرفة تفاصيله عن طريق العقل، لأنَّ كلاً من الحس والعقل وسائل يهتدى بها إلى عالم الشهادة أو العالم المادي، ولا سبيل إلى إدراك ما وراء هذا الكون المشاهد أو عالم الغيب ،عن طريقها. ومن ثم كان المصدر الوحيد لتلك الحقائق هو الوحي الإلهي الذي أهتم بتقرير قضايا العقيدة والأصول التي تبنى عليها،من إيمان بالله ،وملائكته ،وكتبه،ورسله،واليوم الآخر،والقدر خيره وشره.والتي تضمنتها آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول ،ومن ذلك قوله تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) البقرة:285، وحديث جبريل الذي سأل فيه النبي عن الاسلام والإيمان والاحسان،وجاء فيه عن الإيمان: " أن تؤمن بالله وملائكته،وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره".
وقد فصل القرآن القول في تلك الأركان،وآثارها في حياة الإنسان فرداً وجماعة،كما اهتم بالآثار المترتبة على العقيدة وتمكنها في النفس: من ثقة بالله، وتوكل عليه ورضى بقضائه وقدره.. الخ.وعني بإقامة الأدلة والبراهين على تلك القضايا والأصول.
كما أنَّ الوحي هو الذي يوجه ويقوم حركة الإنسان في الأرض، ويحدد له اطار سلوكه وأخلاقه ويضبط فكره وتصوره، ويجيب على كثير من تساؤلاته الفطرية المشروعة حول الأبعاد الغيبية، ويحدد له مكانته في الوجود والغاية منها وما توجبه في مقام العبودية، كما يعرفه بحقوقه تجاه نفسه وغيره. وقرر ذلك كله من خلال ما تضمنه القرآن من أحكام وتشريعات..كما تضمن الوحي الالهي العديد من الآيات التي اخبرت عن الظواهر الكونية كالأرض وما فيها من جبال وأشجار وأنهار وبحار،والسماء وما فيها من كواكب ونجوم ومجرات.
الكون:
أما المصدر الثاني للمعرفة الإنسانية فهو الكون .وقد اشار القرآن الكريم الى كثير من الظواهر الكونية،في الأرض والسماء وما بينهما،كما سجل حركة الإنسان على هذه الأرض وتفاعله معها.وقد دعا القرآن الانسان الى السير في الارض والسماوات ، واالنظر في الانفس والآفاق والكشف عن ما فيها من علوم ومعارف .وقد سعى القرآن الكريم من خلال تلك المعارف الكونية الى أن تكون معرفة الإنسان بالكون برهاناً لاثبات العقائد الغيبية.فالعلاقة بين العالمين: علم الغيب وعلم الشهادة ،علاقة تكامل وتعاضد لا علاقة تمانع وتدافع.والمعرفة الكونية تجيب على أسئلة مهمة للإنسان،تتعلق بعالم الشهادة وواقع الإنسان المعاش:مثل كيف يعيش الإنسان على هذه الأرض،وكيف يستفيد من مواردها؟وكيف يحافظ على كيانه فيها؟ ....الخ.
وسائل المعرفة في القرآن الكريم
إنَّ المنهج المعرفي في القرآن الكريم منهج إيماني يقوم على التسليم ببداهات الوحي وأحكامه في الوجود الدنيوي والأخروي ،وفي أحكامه القضائية والكونية،وهو منهج عقلي يعتد بأحكام العقل ،كما أنه منهج واقعي لا يلغي الوجود الحسي من اعتباره في بناء معرفة يقينية وعلمية. فهو إذن منهج يجمع بين الوحي والعقل والحس:فالوحي المقروء والمشاهد، يمد الإنسان بالمعرفة ،بينما العقل والحواس يقومان كل منهما بدوره في ادراك المعلومات،و في صياغة المعرفة وتفهمها. وقد أشار القرآن الكريم الى هذه الوسائل ودروها في كسب المعرفة وادراك المعلومات.
1-الحواس: الحواس الخمس للإنسان،كما يقول ابن الاثير: هي مشاعر الانسان كالعين والأذن والأنف واللسان واليد ،وتقود الى التعرف على : الطعم والشم ،والبصر والسمع واللمس.وعرفت الحاسة بأنها القوة التي بها تدرك الأعراض الحسية" .وتعرف الحاسة بأنها :" قوة طبيعية في الجسم وبها يدرك الإنسان والحيوان الأشياء الخارجة عنه،وما يطرأ على جسمه من تغيرات"( المعجم الفلسفي ( مجمع اللغة العربية ) ص: 65 ). فالحواس وسيلة من وسائل الإدراك المؤدية إلى اكتساب المعارف والعلوم،وقد اهتم بها القرآن الكريم ، وعدها من النعم التي أنعم الله بها على الإنسان وامتن بها عليه، ودعا الناس إلى استعمالها لاكتساب العلم النافع في الدين والدنيا.فقد أمر الإنسان في أكثر من آية بالنظر إلى نفسه وظاهرة خلقه والمادة التي خلق منها، فقال تعالى: (فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ، ،خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ،يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ)، الطارق:5-7. والى الكائنات والأشياء من حوله"( أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ، وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ). الغاشية 17-20. ورغم ان النظر هنا قد يراد به النظر العقلي،فإن النظر الحسي غير مستبعد ايضا ،الامر الذي يدل على ان النظر يراد به -كما قال الراغب الاصفهاني- تقليب البصر والبصيرة لإدراك الشيء ورؤيته، وقد يراد به التأمل والفحص، وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص، وهو الرؤية، يقال: نظرت فلم تنظر: أي لم تتأمل ولم تتروَّ.
وقد اشار القرآن الكريم الى ان الله هو الذي زود الانسان بوسائل المعرفة من سمع وبصر وفؤاد ،ومن ثم ينبغي ان يشكر الله تعالى على هذه النعم التي زود بها: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، النحل:78 .كما أخبر القرآن أن من أسباب إخفاق الإنسان في معرفة الحق الذي يوجب دخول النار ، اهمال نعمة الحواس والعقل ،وعدم استخدامها والاستفادة منها في مجال المعرفة والعلم،يقول سبحانه وتعالى: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) الملك:10. كما بين القرآن الكريم أن الانسان مسؤول عن استخدام هذه الوسائل، ويترتب على ذلك الثواب ان استعملها في الخير ،ويعاقب على استخدامه لها في الشر:(وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً ). الإسراء:36.
العقل: إن مفهوم العقل في القرآن يأخذ مناحي متعددة، مجملها تشير إلى أنه أداة العلم والمعرفة، والتمييز بين الأشياء، والحبس والحجر عن الوقوع في المهالك والمضار، وذميم القول والفعل لأن العاقل يعرف بعقله الضار من النافع والخير من الشر،(انظر:مفهوم العقل في اللغة والاصطلاح)
https://www.alukah.net/authors/view/home/11912/%D8%AF. -اضافة الى ان العقل قوة مدركة في الإنسان تميزه عن سواه من الكائنات،وتجعل منه مخلوقاً مسؤولاً عن أعماله ،على أساس قدرته على الادراك والتمييز بين الحق والباطل ،والخير والشر،والحسن والقبيح،وان القرآن يطلق ألفاظ القلب والفؤاد أو اللب أو النهى على الأداة او الآلة التي تقوم بوظيفة العقل أو الربط وإيجاد العلاقة بين الأسباب والنتائج ".
إن الانسان لا ينبغي ان يقف عند حدود ظاهر ما تؤدي اليه الحواس بل هو مطالب بأن يعرف حقائق الأشياء ،ويتفكر في حقائق الآخرة " وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ، يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ )، الروم:6-7.. أَيْ أَكْثَر النَّاس لَيْسَ لَهُمْ عِلْم إِلَّا بِالدُّنْيَا وَأَكْسَابهَا وَشُؤُونهَا وَمَا فِيهَا فَهُمْ حُذَّاق أَذْكِيَاء فِي تَحْصِيلهَا وَوُجُوه مَكَاسِبهَا وَهُمْ غَافِلُونَ فِي أُمُور الدِّين وَمَا يَنْفَعهُمْ فِي الدَّار الْآخِرَة كَأَنَّ أَحَدهمْ مُغَفَّل لَا ذِهْن لَهُ وَلَا فِكْرَة. قَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ: وَاَللَّه لَيَبْلُغ مِنْ أَحَدهمْ بِدُنْيَاهُ أَنَّهُ يُقَلِّب الدِّرْهَم عَلَى ظُفُره فَيُخْبِرك بِوَزْنِهِ وَمَا يُحْسِن أَنْ يُصَلِّي . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى : " يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاة الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الْآخِرَة هُمْ غَافِلُونَ " يَعْنِي الْكُفَّار يَعْرِفُونَ عُمْرَان الدُّنْيَا وَهُمْ فِي أَمْر الدِّين جُهَّال. تفسير ابن كثير سورةالروم. آية 6-7.
ويكاد يكون من المسلم به أنه لم يهتم كتاب ديني بقضية التفكير كما اهتم بها القرآن الكريم ، وإن اهتمام القرآن بمخاطبة ملكات التفكير والتعقل عند الإنسان بلغ درجة جعلت بعض الدارسين يعتبرون التفكير فريضة من فرائض الإسلام لا يقل شأناً عن فرائض العبادات والشعائر الدينية. فيقول العقاد مثلاً:" وليس التفكير في الإسلام عوضاً من النص أو ما يشبه النص في الأحكام،بل هو فريضة منصوص عليها،مطلوبة لذاتها، ولما يتوقف عليها من فهم الفرائض الأخرى،وكلها محظور على المسلم أن يهمله وهو قادر على النهوض بتكاليفه غير مضطر إلى تركه،فإن تركه لغير ضرورة فهو مقصر محاسب على التقصير." (انظر: التفكير فريضة إسلامية( العقاد) ص:142-144.)
مظاهر اهتمام القرآن الكريم بالعقل والتفكير: تبدو تلك المكانة التي يحتلها العقل ووظائفه والتفكير وأدواته في القرآن، في عدة مظاهر من بينها:
أولاً : الدعوة الصريحة إلى التفكر والنظر وطلب المعرفة والعلم.فقد حض القرآن على النظر العقلي بنصوص كثيرة ودعا إلى التفكر وإعمال العقل في جميع مجالات الوجود الكونية والنفسية والإجتماعية، واستخدم في ذلك ألفاظاً متنوعة وعبارات شتى: كالتعقل والنظر والتبصر والتدبر والتفكر وغيرها من العبارات التي تشير الى ملكة التفكير في الإنسان.
صحيح انه لم يرد لفظ "العقل" في القرآن كاسم علم ، ولعلَّ في ذلك إشارة إلى أنَّ العقل ليس له ماهية قائمة بذاته كما تصور الفلسفة اليونانية ، ولكن القرآن الكريم ملئ بالعبارات والصيغ التي تشير إلى العمليات العقلية التي يقوم بها الإنسان، ووردت مشتقات العقل في تسع وأربعين آية كلها بالصيغة الفعلية مثل: "عقلوه"، و "نعقل" ، و"يعقلها"، التي وردت كل منها مرة واحدة.، و"يعقلون"، التي وردت اثنتين وعشرين مرة، و"تعقلون"، التي وردت أربعاً وعشرين مرة. كما وردت مرادفات العقل بالصيغة الإسمية مثل : اللب وجمعه ألباب ، والحلم وجمعه أحلام ، والحجر ، والنهى، والقلب والفؤاد ،وكلها بمعنى العقل أو أداة التفكير. كما جاء التعبير في القرآن - عن العقل الذي يفكر ويستخلص من التفكير زبدة الرأي والروية ، بكلمات متعددة تشترك في المعنى أحيانا،ً وينفرد بعضها بمعناه ،على حسب السياق، في أحيان أخرى ، فهو التفكر والنظر والبصر والتدبر والاعتباروالفقه. ( راجع المجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم)
التفكر : ورد مصطلح التفكر في ست عشرة آية تتضمن ما يلي:
1-الدعوة إلى إعمال العقل، والتفكر في مظاهر الوجود المختلفة، والنظر في آيات الكون بسمائه و أرضه - وما جعل في الأرض والسماء من أسباب الحياة للإنسان والحيوان ، وإلى النظر في الكائنات وما ركب فيها من طبائع تدل على عظمة الخلق الإلهي وغاياته ومقاصده . ومن ذلك قوله تعالى :( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) آل عمران:190-191 ، وقوله تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ، ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). النحل : 68-69
واهتم القرآن الكريم بصفة خاصة بظاهرة خلق الإنسان وموته ومسيرته في الحياة وعلاقات الناس ببعضهم بعضاً، ولفت نظر الإنسان إلى ذلك وحثه على التفكر في هذه الظواهر للوقوف على الحكم الإلهية وأسرارها. وفي ذلك يقول الله تعالى:( أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ)، الروم : 8
2-الحث على التفكر في القرآن وحكمة التشريع، حتى يدرك الإنسان ما في التشريعات من منافع، وما وراءها من حكم، فيلتزم بها عن قناعة عقلية ويتيقن انها حق لا يجوز العدول عنه أو التفريط فيه .ومن ذلك قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ). البقرة : 219
3-كما تحض على إستنباط الحكم والعبر من الأمثال والآيات. إذ ضرب القرآن العديد من الآيات والأمثال ودعا إلى التفكر فيها والتأمل، من أجل إدراك أهدافها ومراميها: (وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ). العنكبوت : 43.
النظر : قد وردت كلمة النظر فيما يقرب من مائة وثلاثين آية، يشير بعضها إلى النظر الحسي وبعضها إلى معنى الانتظار، وغالبيتها إلى النظر الذي يقوم على الفحص والتأمل والروية والتبصر بحقائق الوجود والخلق،ومن هذه الأخيرة قوله تعالى: (فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ)، الطارق : 5.
التبصر: قد ورد معنى التبصر كأداة من أدوات المعرفة، فيما يقرب من مائة وخمسين آية، منها قوله تعالى:( وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) الذرايات : 21.
التدبر: وقد جاءت كلمة تدبر فى أربع أيات مرتبطة جميعها بالقرآن الكريم، كما في قوله تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) ص:29 ، وقوله تعالى:( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً). النساء:82
الاعتبار: قد ورد الاعتبار في سبع آيات تدعو إلى أخذ العبرة من سير السابقين، ومن آيات الله في الكون والآفاق، قال تعالى:(أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ) النور : 43-44
الفقه: قد وردت مادة الفقه في عشرين آية تدعو في مجملها إلى التفقه وهو "خطوة عقلية أبعد مدى" من التفكر، إذ هي الحصيلة التي تنتج عن عملية التفكير، وتجعل الإنسان أكثر وعياً لما يحيط به، وأعمق إدراكاً لأبعاد وجوده وعلائقه في الكون ، كما تجعله متفتح البصيرة دوماً " (تهافت العلمانية( عماد الدين خليل) ص:30.
ومن ذلك قوله تعالى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) الأنعام : 65. كما وردت آيات تذم الذين لا يبذلون جهداً في التفقه والمعرفة مثل: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا ،وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ) الأعراف : 179.
بهذه الدعوة وهذا المنهج فتح القرآن الكريم للفكر الإنساني آفاقاً واسعة وحثه على التفكر في مجالات شتى بدءاً بالقرآن الكريم نفسه ، وما أنزل فيه من تشريعات وأحكام ، وما ضرب فيه من أمثال وآيات ، و يمتد مجال الفكر ويتسع ليشمل الكون بأسره وما فيه ، الآفاق والأنفس ، وهكذا يتم من خلال التفكر والتدبر فهم الوحي الإلهي المكتوب،واكتشاف أسرار كتابه المشهود(الكون) ، وبتطابق معرفة الكتابين يزداد الإنسان يقيناً وإيماناً كما يزداد علماً وبصيرة.
ثانياً : تحرير العقل من عوائق التفكير : سعى القرآن بداية إلى تحرير العقل من أي عائق أو قيد يحول بينه وبين أن يقوم بوظيفته، مثل التقليد الاعمى للآباء،أو اتباع الهوى ، أو الأخذ بالظن من غير يقين.
ذم التقليد : التقليد إلغاء للعقل وتعطيل له عن أداء وظيفته، لذا ذمه القرآن، ونعى على أولئك الذين رفضوا الحق المبين، لا لشئ إلا لتمسكهم بما كان عليه آباؤهم من خرافات وأباطيل مخالفة للحق الذي جاءت به الرسل ونزل به الوحي، فقطعوا على أنفسهم طريق العلم وحرموا أنفسهم نعمة الفهم. فقال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) البقرة : 170 . فالعقل الذي كرمه الله لا ينبغي أن يخضع لأي سلطة تحول بينه وبين النظر المستقل والسعي إلى طلب الحقيقة، حتى لو كانت هذه السلطة سلطة رجال الدين أنفسهم . لذلك نعى القرآن الكريم على أولئك الذين ألغوا عقولهم وخضعوا لسلطة الأحبار والرهبان، ووصف ذلك بأنه خضوع لا يقل عن درجة العبادة لهم :( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) التوبة : 31. كما ذم الرسول تلك الذيلية الخانعة التي تلغي العقل ويخضع الإنسان بموجبها للرأي الجمعي،ويتبع الجماعة كما يتبع الماشية القطيع، من غير تفكير ولا روية: " لا تكونوا امعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا،وإن ظلموا ظلمنا،ولكن وطنوا أنفسكم ،إن أحسن الناس أن تحسنوا،وإن أساءوا فلا تظلموا " سنن الترمذي:كتاب البر والصلة،رقم:2007.
ذم الهوى: لقد ذم القرآن اتباع الهوى، كما ذم التقليد الأعمى لأنَّ اتباع الهوى يفسد الحكم على الأشياء ، كما يفقد الباحث عن الحق، الموضوعية في نظره إلى الأشياء وحكمه عليها. وبين أن اتباع الهوى قرين بالظلم والضلال والافساد في الارض، وفي الوقت نفسه مضاد للعلم والهدي الالهي والحق. (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) الانعام : 119.
اجتناب الظن: حرص القرآن الكريم على استقامة منهج النظر العقلى، لذلك ذم بناء المعلومات على الظن لأنَّ الظن لا يفيد يقيناً ولا علماً ، ولا يغني من الحق شيئاً، كما عبر القرآن الكريم. وفي الوقت نفسه ذم القرآن متبعي الظن ووصف بعضهم بالجهل، ووصف آخرين منهم بعدم العلم والكذب والتخرص :( قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ ) الأنعام : 148. كما دعا المؤمنين إلى اجتناب الظن فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) الحجرات: 12. وأكد في الوقت نفسه ضرورة قيام العلم الصحيح وتأسيس اليقين على أساس من النظر والإستدلال العقلي السليم أو البرهان.
ثالثاً : الدعوة إلى الحوار والجدال وطلب البرهان : أخذ القرآن بمبدأ الحجاج واعتمد الحوار والجدل البناء أسلوباً أصيلاً في توجيه الخطاب إلى الناس كافة، فقال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ). النحل:125، وفي الوقت نفسه ذم الجدال الذي لا يستند إلى دليل موضوعي أو برهان منطقي: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ) الحج:3 ، وتأكيداً لذلك نبه الرسول على الآثار السلبية الناتجة عن الجدال بالباطل فقال: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم قرأ: (وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) الزخرف:58 . وطالب القرآن أصحاب الدعاوي الباطلة أن يبرزوا ما لديهم من أدلة وبراهين يستندون إليها في دعاويهم،قال تعالى: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) البقرة:111.
رابعاً:وضع الأسس لمنهج استدلالي:
بالإضافة إلى دعوته إلى النظر العقلي وتحريره العقل من معوقات التفكير، وجه القرآن العقول إلى استخدام وسائل في الاستدلال وأساليب في الجدل تمثل في جملتها منهجاً تميز به القرآن، وأصبح أساساً بنى عليه المسلمون مناهجهم في البحث وطرقهم في الاستدلال.وقد سلك القرآن في مخاطباته أساليب شتى، وتفنن في ضروب الهداية وطرق الاقناع، لاختلاف مشارب الناس وتباين مقاصدهم، وتفاوت مداركهم. (انظر نماذج من تلك الأساليب في:القرآن والنظر العقلي( اسماعيل) ص:109-131. )
ومن بين تلك الأساليب والطرق التي وردت في القرآن الكريم :
-السبر والتقسيم:وهو باب من ابواب الجدل يتخذه المجادل سبيلاً لابطال دعوى من يجادله ،ويكون ذلك بحصر أوصاف أو اقسام الموضوع الذي يجادل فيه، ثم يبين أنه ليس في احد هذه الاقسام او الاوصاف خاصية تسوغ قبول الدعوى فيه، فتبطل دعوى الخصم عن طريق هذا الحصر المنطقي للموضوع. ومن أمثلة هذا المنهج من القرآن، قول الله تعالى :( ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنْ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ، وَمِنْ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ، أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمْ اللَّهُ بِهَذَا، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الإنعام:143-144.يقول السيوطي:( إن الكفار لما حرموا ذكور الانعام تارة واناثها تارة أخرى، رد تعالى ذلك عليهم بطريق السبر والتقسيم ،فقال :ان الخلق لله تعالى، خلق من كل زوج مما ذكر ،ذكراً وأنثى فمم جاء تحريم ما ذكرتم ؟أي ما علته؟. لايخلوا الامر: إما أن يكون من جهة الذكورة، أو الانوثة، او اشتمال الرحم الشامل لهما ، او لا يدرى له علة وهو التعبدي ،بان اخذ ذلك عن الله تعالى ، والاخذ عن الله تعالى: إما بوحي وارسال رسول، او سماع كلامه ومشاهدة تلقي ذلك عنه ،وهو معنى قوله:( أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمْ اللَّهُ بِهَذَا ). فهذه وجوه التحريم لا تخرج عن واحد منها :الاول، يلزم عليه ان يكون جميع الذكور حراما .الثاني ،يلزم عليه ان تكون جميع الاناث حراما .الثالث، يلزم عليه تحريم الصنفين معاً .فبطل ما فعلوه من تحريم بعض في حالة وبعض في حالة ،لأن العلة على ما ذكر تقتضي اطلاق التحريم، والاخذ عن الله بلا واسطة باطل. واذا بطل جميع ذلك ثبت المدعى وهو ان ما قالوه افتراء على الله."( الإتقان قي علوم القرآن( السيوطي) ج 4 ص:55.) (مناهج الجدل في القرآن الكريم( زاهر الألمعي) ص:74
-الاقيسة الاضمارية:وهي التي تحذف فيها احدى المقدمات مع وجود ما ينبئ عن المحذوف. وهو أسلوب شائع في القرآن .وقد ذكر الغزالي: ان القرآن مبناه الحذف والايجاز ،أي في شكل الأقيسة،واقرأ قوله تعالى يرد على النصارى الذين يزعمون أن عيسى ابن الله لأنه خلق من غير اب : (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ،الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنْ الْمُمْتَرِينَ) آل عمران:59-60،وسياق الدليل :أن آدم خلق من غير أب ولا أم، وعيسى خلق من غير أب،فلو كان عيسى إلها بسبب ذلك، لكان آدم أولى،لكن آدم ليس إبناً ولا إلهاً باعترافكم ،فعيسى ايضاً ليس إبناً ولا إلهاً .( المعجزة ا لكبرى(محمد أبو زهرة) ص:398)
3-قياس الخلف: وهو إثبات المطلوب بابطال نقيضه،وذلك لأن النقيضين لا يجتمعان ولا يخلو المحل من أحدهما، كالمقابلة بين العدم والوجود.وقد ورد هذا النوع من القياس في قوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) النساء:82 ،فاذا ثبت أنَّ القرآن ليس فيه اختلاف ولاتضارب في مقرراته وعباراته،فإنه يثبت النقيض وهو أنَّه من عند الله تعالى.
4-قياس التمثيل :وهو إلحاق أحد الشيئين بالآخر ،وذلك بأن يقيس المستدل الأمر الذي يدعيه على أمر معروف عند من يخاطبه،أو على أمر بديهي لاتنكره العقول،ويبين الجهة الجامعة بينهما. ومن الأمثلة على ذلك قول الله تعالى: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ،قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ،الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ،أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ) يس:78-81 ،ففي هذه الآيات عقدت المشابهة والمماثلة بين إبتداء الخلق وإعادته. (مناهج الجدل (الألمعي) ص:78).
وهكذا تتنوع أساليب الجدال القرآني وتتعدد طرق الاستدلال والبرهنة لتبين الحق لمختلف أنواع المخاطبين،وترد على المعارضين وتكشف بطلان ما اعتقدوه، ووهم ما تمسكوا به من أدلة وبراهين. يقول الراغب الاصفهاني : " قد اشتمل القرآن الكريم على جميع أنواع البراهين والأدلة وما من برهان ودلالة وتقسيم وتحذير تبنى من كليات المعلومات العقلية والسمعية إلا وكتاب الله قد نطق به ، لكن أورده على عادات العرب دون دقائق طرق المتكلمين" (مقدمة في التفسير (ابو القاسم الحسن بن محمد بن الفضل الأصفهاني) – ص41/42 ).. ولعلَّ مثل هذه النظرة إلى البراهين القرآنية، هي التي أدت بالغزالي إلى محاولة الرجوع بأصل المنطق لا إلى أرسطو، بل إلى علوم الوحي والقرآن، ومحاولة استخراج العديد من البراهين الاستنباطية، والأقيسة البرهانية، وبعض أشكال المنطق الأرسطي، من آيات القرآن الكريم.( مناهج الجدل في القرآن الكريم، زاهر الألمعي، ص:111)
مجالات المعرفة في القرآن الكريم:
أثار القرآن الكريم الإنسان ولفت انتباهه إلى استخدام هذا المنهج، بطرقه المتعددة ومسالكه الحسية والعقلية، لاكتساب المعارف والعلوم فيما يتعلق بقضايا الوجود الكبرى: الله والكون والإنسان، والوقوف على الظواهر الكونية والاجتماعية والانسانية، والسنن التي تحكمها وتربط بينها كسبيل الى معرفة الله تعالى وادراك حقائق الغيب والآخرة وما فيها من احداث ووقائع. ومن بين تلك المجالات والظواهر التي دعا القرآن الى التفكر والنظر فيها :
1- الظواهر والآيات الكونية ، وقد ورد في القرآن الكريم أكثر من عشرين سورة تدل اسماؤها على هذه الظواهر مثل: الرعد، والنور، والدخان، والنجم، والقمر، والبروج وغيرها، كما وردت العديد من الآيات القرآنية التي تتحدث عن خلق السموات والأرض وما فيهما، وتشير إلى مراحل هذا الخلق، وإلى تعدد العوالم وطبيعة الاجرام السماوية وتوازنها، وإلى الشمس والقمر ومداريهما، وإلى النجوم والكواكب وجمالها ومنافعها للإنسان .وآيات تتحدث عن خلق الله للأرض ، وما أوجد فيها من حيوان ونبات ومعادن. وتهيئته إياها لحياة الإنسان . وآيات تشير إلى أهمية الماء على وجه الأرض وإلى أنه أصل الحياة عليها، وإلى أثر الجبال في استقرار توازنها ، وإلى مسالك الأرض البرية والمائية وعلامات الهداية للإنسان في حله وترحاله . كما نبهت كثير من الآيات على الظواهر النباتية وأشارت إلى أثر المطر في الزرع وتناسل النبات وتنوع الثمرات ومنافعها وجمالها. أما الظواهر الحيوانية فقد وردت سور عديدة تحمل أسماء الحيوانات مثل: الأنعام والبقرة والنحل والنمل والعنكبوت والفيل وغيرها. وأشارت الآيات القرآنية العديدة إلى أنواع الحيوانات ومنافعها وما فيها من جمال وزينة ، وإلى وجود مجتمعات في عالم الحيوان مثل: مجتمعات النحل والنمل والطيور . شبيهة بالمجتمعات الإنسانية. ( حول النظام المعرفي في القرآن الكريم(محمود عايد الرشدان) ، الفكر الاسلامي المعاصر،مجلد 3 ،العدد 10 ( 1997) ص:31)
فقد لفت القرآن نظر الإنسان إلى التدبر والتفكيرفى جزئيات الكون من سماء وأرض وجبال وأنهاروغيرها من مظاهر الطبيعة ،والى النظر في ظاهرة خلق الحيوان والإنسان بصفة خاصة وما في ذلك الخلق من آيات ودلائل الإعجاز الإلهي في الخلق والصنع ، فيقول تعالى : ( وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِين،وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) ،الذاريات: 20-21. .ويقول: (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ،وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ،الجاثـية:3-5، (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) ،الأعراف:185. والنظر ليس المراد به مجرد الملاحظة العابرة بل ما يؤدي إلى الكشف عن بعض الحقائق التي يمكن استخدامها لاستنباط معرفة جديدة ، وإلا فلن تكون للملاحظة قيمة. (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ)، يوسف:105 .وقد دعا القرآن إلى دراسة الظواهر الكونية ومحاولة التعرف على المراحل التى تمر بها ودراستها دراسة دقيقة،ومحاولة معرفتها معرفةعلمية صحيحة من جميع جوانبها، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ)، الزمر:21، ويقول: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ) ،النور:43.
كما دعا القرآن الكريم إلى دراسة كيفيات الأشياء وما يتعلق بطبيعتها والقوانين التي تحكم العلاقة بين اجزائها، وأسباب ومراحل حدوثها، فيقول تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) الأنبياء:30 .وأكد على الاهتمام بدراسة كميات الأشياء وما فيها من علاقات تؤدى إلى معارف وعلوم أخرى. فمن النظر في ظاهرة الشمس والقمر يمكن التوصل إلى علم العدد والحساب: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ، يونس:5.
2 -الظواهر الإنسانية والاجتماعية:اهتم القرآن الكريم بالظواهر الإنسانية والاجتماعية من جانبين:من جانب أنها تشير الى قوانين تنظم حركة الإنسان والعلاقات الاجتماعية بين الناس.ومن ناحية أخرى فإنها نماذج يهتدي بها الإنسان ويسترشد بها في تنظيم حياته كفرد وجماعة. وهناك سورعديدة تحمل أسماء أقوام وأمم أو أفراد مثل: هود، ويوسف، وإبراهيم، ومريم ، وسبأ، والروم، وقريش . وسوراً تحمل أسماء ظواهر اجتماعية أو إنسانية مثل: التوبة والأحزاب والشورى والمجادلة والمنافقون ،والطلاق والهمزة والمطففين ، وهناك سورة عن الإنسان، وآيات كثيرة تشير إلى خلقه بوجه عام وتطور الجنين بوجه خاص ، ومراحل الخلق التى يمر بها الإنسان ، وآيات أخر تشير إلى الأسرة الانسانية وطبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة ، وإلى تنوع المجتمعات وإختلاف اللغات والألوان وتباين النشاطات الإنسانية( حول النظام المعرفي في القرآن الكريم).
3- الأحداث والوقائع التاريخية: اهتم القرآن بالتاريخ باعتباره أحد مصادر المعرفة الانسانية، وقدم في هذا الصدد أصول منهج متكامل في التعامل مع التاريخ البشري، ينتقل من مجرد العرض والتجميع إلى محاولة استخلاص السنن الإلهية أو القوانين التي تحكم الظواهر الاجتماعية والتاريخية،وما في تلك الأحداث التاريخية من عبر ودروس،فيقول تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ). يوسف:111 . فالتاريخ في المنظور القرآني تحكمه قوانين ثابتة مطردة عبر عنها بسنن الله ،ودعي الإنسان إلى اكتشافها ،فيقول تعالى: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) الفتح:23 ، .كما بين القرآن الكريم أهمية الدور الإنساني في حركة التاريخ، (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)( الرعد:11.
ووضع القرآن أساساً ومنهجاً لقبول الأخبار وردها، كما تشير إليه الآية : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)، الحجرات:6، مما مكن المؤرخين المسلمين من تكوين رؤية واضحة في ذلك.وباتباع هدي القرآن الكريم في التحقق من مصادر الخبر وتمحيصها،وضع المسلمون أصول علم الحديث ،وبذور ما يعرف بمنهج الاستقراء التاريخي كما سنرى.
وهكذا تتنوع موضوعات القرآن ومحاوره فتشمل: الإنسان فرداً وجماعة، والكون وما فيه من عجائب خلق الله وآياته ، والتاريخ وما فيه من دروس وعبر. وصدق الله تعالى إذ يقول (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فصلت:53.
وتبعا لذلك تتنوع مجالات الفكر الإسلامي ليشمل الغيب وحقائقه،وما في الأنفس والآفاق من ظوتهر كونية واجتماعية ونفسية.
جهود المفكرين المسلمين في مجال المناهج العلمية
بفضل ذلك المنهج القرآني الذي يستند إلى إستثارة ملكة التفكير ويدفع الناس إلى إعمال عقولهم،والنظر في الكون وفي أنفسهم، حول الإسلام العرب من أمة أمية لا تكتب ولا تحسب ، كما عبر القرآن الكريم: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الجمعة:2، إلى أمة رائدة في مجال العلم والمعرفة .
وقد استفاد المسلمون من دراسة القرآن الكريم الذي نمى فيهم النزعة العلمية، وغرس في نفوسهم الميل الشديد إلى البحث والنظر والملاحظة والتجربة . وفي رحاب هذه الأجواء العلمية المستمدة من القرآن الكريم، ظهرت أجيال من العلماء والمفكرين الذين وجهوا جهودهم نحو صياغة المناهج العلمية المختلفة في مجال البحث العلمي، مجسدين التصور القرآني للعلم ومناهجه ، فأدى ذلكم إلى قيام نهضة علمية شملت مختلف الميادين العلمية والمعرفية، ونشأت علوم ودراسات حول القرآن وعلومه، والتفسير وفنونه، والسنة ومصطلحاتها ،والفقه ومدارسه، والعقيدة وقضاياها، واللغة وآدابها، والتاريخ ومصادره ، إلى غير ذلك من المعارف والعلوم .
لقد فتح الوحي الإلهي للعقل المسلم أبواباً شتى من العلوم والمعارف، ليس في مجال العلوم اللغوية والشرعية فقط ، بل امتد ذلك ليشمل الطب والجدل، والهيئة والهندسة والجبر والمقابلة والنجامة وغير ذلك.
والسؤال الذي يثار هو ما قيمة ما انتجه المسلمون من معارف وما وضعوه من مناهج؟وهل أنشأ المسلمون هذه العلوم وكونوا تلك المناهج بناء على هدي الوحي الالهي فحسب، أم أنهم استفادوا من تجارب انسانية أخرى لا سيما التجربة اليونانية. وأهمية هذاالسؤال تبدوا في إطار الحملة التى شنها بعض متعصبي المستشرقين على الفكر الإسلامي، و حاولوا من خلالها انكار أى فضل للمسلمين في تقدم العلوم وازدهار المعارف الإنسانية. بل غالى بعضهم في عصبيته فادعى بأن القرآن هو الذي عاق المسلمين عن التفكير الحر والنظر المعرفي.
وبداية يمكن القول بان الإسلام لم يضع قيودا على المسلم فيما يتعلق بالثقافات الإنسانية الأخرى، وأعتبر كل جهد بشري مفيد ونافع من الحكمة التي هي ضالة المؤمن، وهو أحق الناس بها أنى وجدها.لذلك لم يجد المسلمون حرجا في الاستفادة من تجارب الأمم التي اتصلوا بها،والوقوف على ما لديهم من معارف وعلوم.استفادوا منها في صياغة مناهجهم و في مجال العلم التجريبي وميادين المعرفة المتعددة.
للاجابة على هذا السؤال سنحاول استعراض مناهج بعض العلوم الاسلامية ونستكشف الاصول التي استمدت منها لنقف على مدى ابداعهم او تقليدهم لغيرهم فيها.كما سنعرض لبعض ما أبدعه المسلمون في مجالات العلوم التجريبية من طب وهندسة وفلك ورياضيات، الخ
وسنعرض فيما يلي بعضاً من تلك المناهج التي وضعها علماء المسلمين:
منهج أصول الفقه :هو المنهج الذي استخدمه الفقهاء لاستنباط الأحكام الشرعية. وتعود بدايات هذا المنهج إلى عصر الصحابة، الذين وضعوا الضوابط التي بواسطتها تستنبط الأحكام. وينقل المؤرخون لهذا العلم أن ابن عباس ، كان له كلام يدل على إحاطته بالعام والخاص والناسخ والمنسوخ, وما روي عنه من قوله :«كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله ﷺ » ،ماذا يعني ؟ يعني أنهم كانوا إذا جاءهم خبر متأخر يعارض خبرا متقدما اعتبروا الأول منسوخا والثاني ناسخاً، وهذا باب من أبواب أصول الفقه اسمه باب النسخ. وفي العصر الأول والعصر الثاني وضعت قواعد للقياس وشرائط للعلة . ويؤكد ابن خلدون ذلك فيقول عن الصحابة رضي الله عنهم: " إنهم كانوا يقيسون الأشباه بالأشباه منها ، ويناظرون الأمثال بالأمثال ، باجماع منهم وتسليم بعضهم لبعض في ذلك ، فإنَّ كثيراً من الواقعات بعده صلوات الله وسلامه عليه، لم تندرج في النصوص الثابتة فقاسوها بما ثبت، والحقوها بما نص عليه بشروط في ذلك الالحاق تصحح تلك المساواة بين الشبيهين أو المثلين، حتى يغلب على الظن أن حكم الله تعالى فيها واحد ، وصار ذلك دليلاً شرعياً باجماعهم عليه، وهو القياس" ( مقدمة ابن خلدون،ج 3 ص:1062.). ولكن يعود الفضل إلى الامام الشافعي (150-204هـ ) في وضع مقدمات هذا العلم وترتيب قضاياه . ويجمع مؤرخو علم الأصول على أن أول محاولة لوضع مباحث الأصول كعلم إنما قام بها الشافعي ،حيث وجه الدراسات الفقهية إلى ناحية علمية ، ووضع نظاماً للاستنباط العلمي الذي لا يعني بالجزئيات والفروع ، بل كانت غايته ضبط الاستدلالات التفصيلية بأصول تجمعها". ، ولهذا وازن الرازي بين الشافعي وأرسطو، " فاعتبر نسبة الشافعي إلى علم الأصول كنسبة المعلم الأول(ارسطو) إلى علم المنطق.( التمهيد لدراسة الفلسفة الإسلامية( مصطفى عبد الرازق) ص:230،-33) . وقد أورد الشافعي تلك القواعد الاصولية وتكلم عن الخاص والعام، والناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم ، وأفاض في الحديث عن الاجماع وإثبات القياس في رسالته المشهورة ، كما أخذ ينقض بعض التعريفات من ناحية خروجها عن متابعة نظام متحد في طريقة الاستنباط " ، كما أخذ بالدليل الاستقرائي في مجال الأحكام، وحدد معالم المنهج في تحقيق القياس الأصولي. ( انظر الرسالة ( الإمام الشافعي) ص:223.). وبعد الشافعي توسع الأصوليون في مباحث القياس، وابتكروا العديد من الطرق الضابطة لا تقل عن طرق الاستقراء المعاصرة.
وقد أرجع الأصوليون القياس إلى نوع من الاستقراء العلمي الدقيق الذي يقوم على قانونين قام على أساسهما المنهج الاستقرائي في العصر الحديث وهما: قانون العِلَّة،وقانون الاطراد في وقوع الحوداث،. واعتبروا العِلَّة أهم أركان القياس،وعليها مدار تعدية الحكم من الأصل الى الفرع،لهذا أشبع الأصوليون مفهوم العِلَّة بحثاً وتحقيقاً،وفصلوا أحكامها وشروطها،وكيفية التعرف عليها.وعالجوا ذلك فيما يعرف لديهم بمسالك العِلَّة: والتي من أهمها : السبر والتقسيم، والطرد والعكس والدوران،وتنقيح المناط. وقد سبقوا في ذلك كله –كما يقول بعض مؤرخي الفكر الإسلامي- المناطقة المحدثين ، متأثرين في ذلك كله بمنهج القرآن الكريم ونزعته التجريبية ، ووضعوا منهجاً في البحث العلمي بنى عليه علماء المسلمين التجريبيون علومهم، واستخدموه في مجال بحوثهم العلمية من فلك وطب وكيمياء ورياضيات،وهندسة و غيرها. (انظر: مناهج البحث عند مفكري الاسلام ( علي سامي النشار) ص::97-103 111-117، 14،)
مناهج المحدَّثٍين :إن مناهج المحدَّثٍين نتاج طبيعي وأثر من أثار المنهج القرآني .ووفقاً لهدي القرآن- الذي حارب الكذب والوهم، وحذر من نتائج الخطأ والنسيان، وطالب بالبرهان والدليل، وذم اتباع الظن والهوى، وحذر من قبول خبر الفاسق الذي لا يلتزم بمبدأ الصدق والتثبت. وقد وضع علماء الحديث منهجاً يقوم على قواعد النقد العلمي للأخبار والمرويات ، وطبقوا ذلك المنهج في دراسة السُنَّة وروايتها وجمعها ، وذلك لأن معظم السُنَّة جاءت من طرق أحاد من الصحابة ، ولم تنقل كما نقل القرآن الكريم بالتواتر ،وتعرض بعضها لأوهام الرواة وخطئهم ونسيانهم ، ووضع الوضاعين وكذبهم . وقد اجتهد المحدثون في جمع الروايات، ونقدوا أحوال الرواة ومروياتهم، وأحتاطوا أشد الإحتياط في ذلك ، وحكموا بضعف الحديث لأقل شبهة تتعلق بسنده أو بمتنه ، وقدموا الجرح على التعديل، فجاءت الطرق التي سلكوها على أقوم ما يمكن أن تكون عليه الطرق العلمية ، وكانت القواعد التي وضعوها أصح القواعد للاثبات التاريخي ، ونقل الأخبار.
وقد نقد المحدثون سند الحديث ، كما نقدوا متنه ، ونظرة موجزة لجهدهم في المجالين يتضح من خلالها قيمة ما قاموا به . وفي تقييم الرجال وضعوا علوماً خاصة، (كعلم الجرح والتعديل)، الذي يهتم بأحوال الرجال من حيث الحكم عليهم بالقبول أو الرد ،ووصفهم بأوصاف الثقات العدول أو المجروحين والمتروكين . ووضعوا ضوابط للراوي الثقة ، وبحثوا في كيفية معرفة عدالته ,وضبطه، إلى غير ذلك من الضوابط المتعلقة بأمانة الأداء وقوة الذاكرة، في الحفظ والضبط .كما وضعوا علم العلل الذي يهتم بمتابعة الثقات ورواياتهم،ويتناول أنواعاً من الفقه النقدي، بعضها تاريخي، وبعضها اجتماعي، وبعضها نفسي، وبعضها عقيدى، وبعضها فقهي".( انظر: الفكر المنهجي عند المحدثين( همام سعيد)، كتاب الأمة، أول محرم 1408 ، ص: 58،102-103.)
أما متن الحديث ، فلم يغفله المحدثون ، كما زعم بعض المستشرقين ، بل اهتم نقدة الحديث بنقد نصوص الاحاديث أو متونها ، وناقشوا ما روي، وبينوا ما يعارضه من النصوص، أو ما يعارضه من أحكام العقل، أوما قد يبدوا فيه من مخالفة لمبادئ الإسلام ومنطقه ومناهجه .
ونظرة عجلى لما قام به علماء الحديث يتبين، أن منهجهم منهج قرآني مستمد من القرآن و السُنَّة ،وأنه منهج تأريخي نقدي، وما وضعه المحدثون من منهج وما بنوا من قواعد كان له أثر في معظم العلوم والفنون النقلية ، وتأثر بهم علماء اللغة والأدب وعلماء التاريخ وغيرهم، وتبنوا منهجهم في نقل النصوص ورواياتها وثبوت نسبتها إلى قائلها.
منهج المتكلمين :
علم الكلام علم إسلامي نشأ في البيئة الإسلامية ، واستمد قضاياه ومسائله، شأنه شأن العلوم الشرعية، من القرآن و السُنَّة. أما صياغة تلك القضايا والمسائل، ووضع المناهج للتعبير عنها والبرهنة عليها،فقد مال علماء الكلام ،مع استصحابهم للنصوص الشرعية، إلى استخدام العقل والتركيز على مناهجه وبراهينه .
وقد استند المتكلمون- في شرعية استخدامهم للنظر العقلي- الى ما ورد في القرآن الكريم من أمر باستخدام العقل واعماله في الكون والأنفس ، وحث القرآن الكريم على النظر والتفكر والاعتبار. كما أن احتكاك المتكلمين بأصحاب الديانات والملل والثقافات الأخرى ومجادلتهم، وردهم على أصحاب تلك العقائد والاتجاهات الفكرية المخالفة للإسلام،كان له أثر انعكس في صياغتهم لمناهجهم وأساليبهم ، التي توجهت فى الأساس إلى الدفاع عن العقائد الإيمانية وإقامة الأدلة والبراهين عليها .( انظر:مناهج البحث في العقيدة الاسلامية ( احمد محمد احمد الجلي) مجلة كلية الدراسات الاسلامية والعربية، دبي ،العدد:الثامن والعشرون ذو القعدة 1425/ديسمبر 2004م.)
نتيجة لذلك نجد أن علم الكلام يقوم على دعامتي العقل والشرع، وفى هذا تلتقي كل المدارس الكلامية، على اختلاف فيما بينها، في تحديد العلاقة بين العقل والشرع . فالمعتزلي واصل بن عطاء يذهب إلى أن الحق يعرف من وجوه أربعة: كتاب ناطق ، وخبر مجمع عليه وحجة عقل أو إجماع من الأمة" ، (انظر: نشاة الفكر الفلسفي في الإسلام ( علي سامي النشار)ج 1 ص:3-4.كما يقرر القاضي عبد الجبار أن الدلائل أربعة: "حجة العقل والكتاب والسنة والإجماع". وبالمثل يذهب الأشاعرة إلى أن جملة الطرق التي تدرك بها العلوم تنحصر في خمسة: العقل والكتاب والسنة والإجماع والقياس" . أما الماتريدى (ت:333هـ) فيقرر في كتابه التوحيد:" أن أصل ما يعرف به الدين وجهان : أحدهما السمع والآخر العقل " وبهذا يختلف الكلام عن الفلسفة، التي تستند الى العقل وأحكامه من غير اعتبار للشرع أو الوحي.
ومع اصطحاب المتكلمين للسمع والعقل معا فإن اعتدادهم بالدليل العقلي والاعتراف بصحة ما يدل عليه في المسائل الاعتقادية،أدى بهم الى القول: بوجوب النظر والاستدلال العقلي كأساس للاعتقاد،وعدم الاكتفاء بالتقليد في قضايا العقيدة .كما أنّهم أثاروا قضية العلاقة بين العقل و النقل بصورة حادة ، و استخدموا التأويل كمنهج ،واتخذوا موقفاً سلبياً تجاه أحاديث الآحاد كمصدر للعقيدة.( انظر:مناهج البحث في العقيدةالاسلامية ( احمد محمد احمد الجلي) مصدر سابق)
منهج المتصوفة: يعد التصوف في أصوله وبداياته الأولى ثمرة من ثمرات الإلتزام بالعقيدة الإسلامية والمنهج القرآني،حيث سعى المتصوفة الى بلوغ درجة الإحسان التي يرتقي فيها المسلم بعبادته الى درجة المشاهدة أوالمراقبة،( ان تعبد الله كأنك تراه ..).وقد استمد التصوف أصوله الأولى من التعاليم الإسلامية،والقيم الأخلاقية التي أرساها القرآن الكريم والسنَّة المطهرة،وأن هذاالمنهج كان في بداياته وإلى حد ما-صياغة عملية لتعاليم الإسلام في العبادة والسلوك متمثلة في تقوى الله في السر والعلن،واتباع السنَّة في الأقوال والأفعال،والاعراض عن الخلق والتمسك بقيم الصبر والتوكل على الله والرضى بما قسم ،والرجوع إليه سبحانه في السراء والضراء.ولكن التصوف كما هو معلوم مر بمراحل، وتقلب في اطوار بعدت به عن تلك الغاية والوسائل التي تحققها،نتيجة لتأثر بعض الصوفية ببعض التصورات الكلامية،والنظريات الفلسفية الغنوصية. (انظر: طائفة الختمية اصولها التاريخية وأهم تعاليمها ( احمد محمد احمد جلي) ص:7-8.والفلسقة الصوفية في الإسلام (عبد القادر محمود ) دار الفكر العربي ،1966.)
المنهج التجريبي : رغم أنَّ القرآن الكريم شجع على طلب العلم، وحث على إستكشاف الكون ، وشهد العالم الإسلامي خلال القرون الأولى للإسلام حركة علمية نشطة ازدهرت على أثرها علوم اللغة والأدب ، وعلوم التفسير والحديث ، فإن نشأة العلوم البحتة أوالتطبيقية: كالطب والفلك والرياضيات والكيمياء والهندسة، لم تزدهر الا مع حركة الترجمة ونقل علوم الامم الأخرى أو علوم الأوائل ، كما أطلق عليها المسلمون آنذاك ، إلى اللغة العربية ، فبتشجيع من القرآن الكريم، اطلع العلماء المسلمون على تراث الأمم العلمي - واستفادوا من مجهودات العلماء السابقين ، وحفظوا ذلك التراث العلمي الذي سبقهم لا سيما التراث اليوناني من الضياع ، فانكبوا من ثم في عصر الفتوحات ،على التراث المعرفي لمختلف الأمم التي لها سبق في مضمار الحضارة فترجموه إلى اللغة العربية، وانعموا النظر في ذلك التراث،ووقفوا على ما ابدعته الأمم من فكر وثقافة وعلم.ونتيجة لتلك الجهود التي بذلت خلال هذه الحركة الضخمة ،أصبح المسلمون - كما يقول لويس يونج - على صلة تامة بحضارة واسعة تضم بين جدرانها أدبا واسعا مكتوباً باليونانية والسريانية والبهلوية ، لقد صبت جداول كثيرة في نهر الحضارة الاسلامية ، ولعل أشدها تأثيراً رافد الحضارة الهلينية ، ثم الحضارة الفارسية التي انتشرت في الفكر السياسي والعادات الاجتماعية، والحضارة الهندية التي اسمهت في علم الطب والفلك وخاصة في الرياضيات".
ولكن لم يقتصر دور العلماء المسلمين على النقل والحفظ، بل إنهم طبعوا ما أخذوه بطابعهم الخاص. فنقدوا وأضافوا واكتشفوا وابدعوا في مختلف مجالات العلم والمعرفة ،وحققوا انجازات هامة في ميادين العلم التجريبي كالطب والكيمياء والفبزباء والفلك والرياضيات والجغرافيا وغيرها من العلوم ، مما لا شك فيه ان الترجمة كان لها إسهام كبير في تقدم الحركة العلمية ، وازدهار المعارف والعلوم كالطب والهندسة والرياضيات وغيرها ، إذ اطلع العلماء المسلمون على تراث الأمم العلمي - واستفادوا من مجهودات العلماء السابقين ، وحفظوا ذلك التراث العلمي الذي سبقهم لا سيما التراث اليوناني من الضياع ، . ولكن لم يقتصر دور العلماء المسلمين على النقل والحفظ، بل إنهم طبعوا ما أخذوه بطابعهم الخاص . فنقدوا وأضافوا واكتشفوا وابدعوا في مختلف مجالات العلم والمعرفة ، وحققوا انجازات هامة في ميادين العلم التجريبي كالطب والكيمياء والفلك والرياضيات وغيرها من العلوم . ( انظر: في تراثنا العربي الاسلامي( توفيق الطويل) ص:88.)
ففي مجال الرياضيات طوروا نظام كتابة الأرقام الغبارية وهي المنتشرة في بلاد المغرب العربي بما في ذلك الاندلس والتي انتقلت واستعملت في أوربا وسميت بالارقام العربية ، والارقام الهندية وهي التي تستعمل في المشرق العربي ، كما طوروا مفهوم الصفر الذي سهل العمليات الحسابية ، كما اكتشفوا الكسور العشرية وطريقة كتابة الكسور الاعتيادية ، وعلم الجبر واللوغاريثمات.
أما الطب فقد وضعوا له أصولاً ومناهج نظرية بجانب التجارب العملية، واشتهر منهم ابو بكر الرازي وكتبه: "الحاوي"، و"المنصوري" ، و"الحصى في الكلى والمثانة". واهتدوا إلى العديد من العلل وعلاجها ، فادركوا أن الأوبئة تنتقل عن تعفن تنتقل عدواه عن طريق الهواء والمخالطة ، وسموا الأمراض المعدية بالسارية. وكانوا أول من فطن إلى تفتيت الحصاة في المثانة ، ومن أوائل من استخدموا المخدر واخترعوا الاسفنجة المخدرة ، وأول من كشف البول السكرى والحصبة وغير ذلك كثير ، هذا في الوقت الذي كانت السلطات الكنسية في أوربا تنفر من علاج الأمراض ومن استخدام الجراحة لانها تغير من خلق الله في زعمهم.
وفي الكيمياء اكتشفوا أهم أسس الكيمياء. واجروا عمليات التبخير والترشيح وأقاموا المعامل ووضعوا أصولاً لاجراء التجارب ،وعرفوا كثيراً من الاجهزة والآلات التى كانت تستعمل في المعامل.
وفي الفيزياء اشتهر الحسن بن الهيثم، وكتبه في: البصريات، ونظريات حول الضوء التي تعتبر أساساً لعلم الفيزياء بالمعنى الحديث.
وفي الفلك رصد العرب النجوم وحركة دوران الشمس وظاهرة الكسوف والخسوف وبنوا المراصد الجوية.
وفي الجغرافيا خطوا خطوات واسعة ، واستطاعوا ان يحددوا مواقع البلدان والطرق بدقة متناهية ، ودرسوا الظواهر الجغرافية ، ووصفوا البلدان جبالها وسهولها وأوديتها وحدودها ونباتاتها وحيواناتها ، وتفننوا في رسم الخرائط.
وقد كان من نتائج هذه الحركة ، ان شهدت الصناعات وفنون الزراعة والنظم الزراعية وأساليب الري والتسميد وتربية الحيوانات ،تقدما باهرا كان مثار اعجاب ودهشة من أرخوا للعلم .
ورغم تلك المبتكرات والمخترعات والكشوف في مجالات العلم المختلفة، فقد كان الاسهام الاكبر للمسلمين في مناهج وطرق البحث العلمي التجريبي الذي كان أساساً للحضارة الأوربية الحديثة، والذي كان ابتكاراً إسلامياً ، لان الثقافة القديمة وخاصة اليونانية كانت تجهل الطريقة التجريبية وتحتقرها ولا تعني إلا بالدراسات النظرية المجردة. فاستطاع المسلمون ان ينشئوا منهجاً في البحث العلمي التجريبي يقوم على الملاحظة، وتمييز الظواهر بعضها عن بعض، والاستقراء، وصياغة القوانين، والموضوعية، وتحري الحقيقة.
ويعود هذا المنهج في أصوله إلى ما سبق أن وضعه علماء الأصول والحديث من أسس وقواعد ،استمدوها مباشرة او بطريقة غير مباشرة من القرآن و السنة، فلدى ، أولئك العلماء تكون المنهج العلمي قبل ان ينتتقل إلى العلماء التجريبيين ، الذين نقلوه من مرحلة النظر إلى التطبيق. والدليل على ذلك ما نجده عند ابن الهيثم في رسالته في الضوء، إذ يقرن لفظ الاعتبار "التجربة" بلفظ السبر، والمراد به الابطال، وهو اللفظ الوارد عند علماء الأصول والمتكلمين".( منهج البحث العلمي عند العرب( محمد جلال موسى) ص:27.)
ويقوم المنهج التجريبي لدى علماء المسلمين على الأسس التالية:
1-الشك المنهجي، الذي يقود إلى تمحيص الحقائق، ونقد المصادر، ويمهد للتثبت من صحة الأفكار. وقد نادى بذلك كل من: النظام، والغزالي، والحسن بن الهيثم ووفقاً لهذا قيم ابن الهيثم فكر بطليموس وآراءه، وأشاد بجهوده في الرياضيات والعلوم، وذكر أنه وجد في كتبه علوماً كثيرة وفوائد عظيمة، ولكن لم يمنعه هذا من الاشارة إلى مواضع الضعف في أفكاره وعباراته ويقول عن ذلك: " لما نظرنا في كتب الرجل المشهور بالفضيلة،وجدنا فيها علوما كثيرة،ولما هضمناها وميزناها وجدنا فيها مواضع شبهة،وألفاظا بشعة،ومعاني متناقضة،ورأينا أن في الامساك عنها هضماً للحق وتعدياً عليه، وظلماً لمن ينظر بعدنا في كتبه في سترنا ذلك عنه ، ووجدنا أولى الأمور ذكر هذه المواضع ، وإظهارها لمن يجتهد من بعد ذلك في سد خللها، وتصحيح معانيها، بكل وجه يمكن أن يؤدي إلى حقائقها". ( مجموعة رسائل الحسن بن الهيثم،طبع حيدر اباد الدكن 1357،رسالة في ضوء القمر ص:3).
وهكذا زاول علماء المسلمين من ناحية عملية هذا الشك في دراساتهم العلمية ، فلم يسلموا بما قاله مشاهير المفكرين ، بل أخذوا يعيدون النظر فيما يتلقونه منهم ، ويحصوا أفكارهم لمعرفة صوابها من خطئها ، و عملوا على إكمال نقصها أو إبدالها بغيرها من الأفكار التي اثبتت التجربة أو شهد العقل بصوابها.
2- الملاحظة:وهي الأساس الثاني من أسس المنهج العلمي فقد دعا علماء المسلمين إلى استخدامها، ومارسوها فعلاً في بحوثهم، وإستعانوا بها في تمحيص أقوال من تقدموهم، والكشف عن أخطائهم . فجابر بن حيان (198/813م) ، يقول في المقالة الأولى من كتاب، (الخواص الكبير): " ويجب أن تعلم انا نذكر في هذه الكتب، خواص ما رأيناه فقط دون ما سمعناه أو قيل لنا وقرأناه ، بعد أن امتحناه وجربناه. فما صح عندنا بالملاحظة الحسية أوردناه، وما بطل رفضناه". ( انظر: في تراثنا العربي والاسلامي( الطويل) ص:18).
وتبدو مثل هذه الشواهد كثيرة، لا سيما في مجال الطب والفلك والجغرافيا. فرغم إعجاب العلماء المسلمين بجالينوس وطبه، فقد كشفوا في ضوء خبرتهم الحسية وملاحظاتهم، الكثير من اخطائه . . ويقول أحد هؤلاء الأطباء :" فشاهدنا من شكل العظام ومفاصلها وكيفية إيصالها وتناسبها وأوضاعها ما أخذنا علماً لا نستفيده من الكتب ، إما أنها سكتت عنها ، أو لا يعني لفظها بالدلالة عليها ، أو يكون ما شاهدناه مخالفاً لما قيل فيها ، والحس أقوى دليلاً من السمع ، فإن جالينوس وان كان في الدرجة العليا من التحرى والتحفظ فيما يباشره فإنَّ الحق أصدق منه." ( في تراثنا العربي والاسلامي( الطويل ) مصدر سابق:ص: 20.)
3-التجربة: أما التجربة التي هي مدار البحث العلمي التطبيقي، فقد فطن المسلمون إليها، واهتموا بها. وأسماها جابر بن حيان بالتدريب، وقال: "فمن كان درباً (مجرباً) كان عالماً حقاً ، ومن لم يكن درباً (مجرباً) لم يكن عالما،ً وحسبك بالدربة، (اجراء التجارب) في جميع الصنائع، أن الصانع الدرب يحذق وغير الدرب يعطل". ويقول أيضاً: إن واجب المشتغل في الكيمياء هو العمل وإجراء التجربة، و ان المعرفة لا تحصل إلا بها".( مناهج البحث ( النشار) ص: 262 ) .وفي ظل تجاربه وفق جابر إلى تحضير كثير من العناصر الكيمائية ، وكان ابن الهيثم يزاول التجربة العلمية تكملة للملاحظة الحسية ، ويسميها "بالاعتبار". وقد قام بالكثير من التجارب التي مكنته من التوصل إلى كشوفه العلمية.
4- الموضوعية والنزاهة العلمية: قد تميز علماء المسلمين بالنزاهة في الحكم والموضوعية في البحث . وتشير كثير من النصوص إلى حرصهم على ذلك. ،وقد أكد ابن الهيثم في كتابه "المناظر" على ذلك حيث قال: " ونجعل غرضنا في جميع ما نستقريه ونتصفحه إستعمال العدل لا إتباع الهوى ، ونتحرى في سائر ما نميزه وننقده طلب الحق لا الميل مع الآراء ، وليس ينال في الدنيا أجود ولا أشد قربة إلى الله من هذين الأمرين". ( الحسن بن الهيثم (بحوثه وكشوفه البصرية) لمصطفى نظيف.)
ويذهب ابن رشد إلى هذا أيضاً إذ يقول: " إن من واجبنا، إذا نظرنا فيما قاله من تقدمنا من أهل الأمم السابقة، أن ننظر في الذي قالوه من ذلك ، وما أثبتوه في كتبهم ، فما كان منه موافقاً للحق قبلناه، وسررنا به، وشكرناهم عليه، وما كان غير موافق للحق نبهنا عليه، وحذرنا منه وعذرناهم " ( فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال( ابن رشد) ص:17).
وبناءً على هذه الأسس، ابتدع علماء المسلمين منهجاً للبحث التجريبي الاستقرائي ينصب على ملاحظة الظواهر الجزئية، وإجراء التجارب عليها بغية تحديد سلوكها ، والكشف عن القانون العام الذي ترتبط بموجبه هذه الظواهر ، وهذا هوالطريق الذي بدأه الأصوليون في منهجهم، فمارسوا الاستقراء على أساس الظواهر الجزئية منتهين إلى صياغة الحكم الشرعي الكلي ".
وهذا المنهج العلمي التجريبي منهج إسلامي أصيل، لم يستمده علماء المسلمين من اليونان، لان البحوث العلمية والفلسفية عند الاغريق لم تكن تهتم بالتجربة ، بل اتجهت ابحاثهم إلى دراسة الكون بظواهره وحوادثه طبقاً للطريقة الاستدلالية والتأويل العقلي المجرد، الذي بلغ ذروته عند أرسطو ، واستنفذوا وسعهم في الاهتمام بالعلوم الصورية التى تستند إلى النظر العقلي المجرد ، وكانوا يستخفون بالتفكير العلمي التجريبي ومناهجه، فأدى هذا إلى تدهور العلوم الطبيعية عندهم وتقدم العلوم النظرية الاستنباطية ،وبناء نظريات ومفاهيم عقلية لا تمت بصلة إلى النظام الواقعي للكون، ولا تتطابق مع القوانين الطبيعية المستقلة عن النظريات الفلسفية المجردة". ( خصائص التفكير العلمي بين تراث العرب وتراث الغربيين،عالم الفكر،مجلد 3 عدد 4،الكويت 1977.)
وبهذا المنهج العلمي التجريبي، أسهم العرب في نهضة أوربا حينما انتقل ذلك المنهج إليها وأخذت به ، وكما تقول المستشرقة الالمانية زيغرد هونكه : "إن العرب لم ينقذوا الحضارة الاغريقية من الزوال ، ثم نظموها ورتبوها ثم أهدوها الى الغرب فحسب ، إنهم مؤسسو الطرق التجريبية في الكيمياء والطبيعة والحساب والجبر والجيولوجيا وحساب المثلثات وعلم الاجتماع. بالاضافة الى عدد لا يحصى من الاكتشاقات والاختراعات الفردية في مختلف فروع العلوم التي سرق اغلبها ونسب لآخرين، قدم العرب للآوربيين أثمن هدية، وهي طريقة البحث العلمي الصحيح التي مهدت أمام الغرب طريقه لمعرفة الطبيعة وتسلطه عليها اليوم". (شمس العرب تسطع على الغرب"د.زيغريد هونكه"صفحة: 401-402).
ويؤكد هذه الحقيقة صاحب كتاب بناء الإنسانية ( The Making of Hunanity) حيث يقول : "إن ما يدين به علمنا لعلم العرب ليس هو ما قدموه لنا من اكتشافاتهم لنظريات مبتكرة . ان العلم يدين لثقافة العرب بأكثر من هذا، إنه يدين لها بوجوده. إن ما ندعوه بالعلم ظهر في أوربا ظهر في أوربا نتيجة لروح جديدة في البحث، ولطرق جديدة فى الاستقصاء عن طريق التجربة والملاحظة والقياس ، وهذه الروح وتلك المناهج أدخلها العرب إلى العالم الأوربي".( Robert Briffault, The making of Humanity, Londres, 1919, P: 191 )
وهكذا وجه القرآن الى هذا التتبع والاستقراء ،الذي يوصل الإنسان الى الحقيقة سواء كانت علمية أو دينية،قال تعالى:(أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ،أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ،نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ،عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ،وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ) ،الواقعة: 58-62. كما أرشد إلى استخدام هذا المنهج العلمي الذى يقوم على الملاحظة والاستقراء والتجريب، وينتهي بالتذكر والاعتبار ومعرفة سنن الله في الكون، والوصول عن هذا الطريق الى القياس العقلي واستنباط الحقائق العلمية والتأكد من صحتها.وقد عبر القرآن عن هذا المنهج بالاعتبار،وهو كما يقول ابن رشد:ليس شيئا أكثر من استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه وهذا هو القياس. (فصل المقال في ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال ( ابن رشد) ص:9.)
خاتمة البحث:من خلال هذه الدراسة يمكن أن نخلص إلى ما يلي:
1- أن المعرفة والعلم في المنظور القرآني ليس تراكماً للمعارف والمعلومات، بل هي معرفة تربط الإنسان بالله تعالى، وتتمثل قيمة العلم في أنَّه يقود الى الإيمان، والإيمان في حقيقته مرتبط ارتباطا لازماً بالعمل ويقود إليه.وأن غاية المعرفة والعلم هي هداية الإنسان إلى الطريق القويم والصراط المستقيم الذي به تتحقق سعادته في الدنيا والآخرة،وبه يعرف الإنسان نفسه ويعرف ربه ويعرف ما له وما عليه من حقوق وواجبات،بموجب خلافته في الأرض ،والطلب منه اعمارها بالحق ،واقامة الحق والعدل بين الناس.( انظر: فلسفة العلم من منظور إسلامي ( زكريا بشير إمام) ص:52 ) .
2- نتيجة لهذه الرؤية للمعرفة والعلم اهتم علماء المسلمين بالأخلاق التي ينبغي أن يتحلى بها العلماء وتضع ضوابط لأبحاثهم العلمية وتعاملهم مع أشياء هذا العالم والغاية من بحوثهم. فأبو بكر الرازي يتحدث في بعض كتبه الطبية والفلسفية عن الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها الطبيب ودارس الطب (فيجب ألا يتخذ الطب مجرد وسيلة لجمع المال، بل أن يتذكر أن أقرب الناس إلى الله هو أعلمهم وأعدلهم وأرأفهم بالناس).
3- تمثل المعرفة والعلم وفقاً للرؤية القرآنية وحدة متكاملة ،فلا نجد ذلك التوتر الحاد الذي نجده اليوم- بتأثير الثقافة الغربية- بين علوم الدين وعلوم الدنيا، بل نجد تكاملا للمعرفة والعلوم، حيث لم يهمل جانب من جوانب المعرفة والعلم، أو الأدب والفن،والحرف والمهن.بل نجد اهتماماً بالعلوم الدينية المؤسسة على النقل والتواتر ( علوم القرآن الكريم ,والحديث) ،والعلوم الإنسانية كالفلسفة وعلوم الاجتماع والتاريخ والأدب واللغات وعلم النفس والأخلاق والسياسة،وكل فروع العلوم الطبيعية وعلوم ما بعد الطبيعة ،والهندسة والفلك والرياضيات.فكثير من علماء المسلمين جمعوا بين دراسة العلوم الدينية والعلوم الكونية أو المادية.فالكندي مثلا يكتب في العلوم الرياضية والفلكية والطبيعية،ويفسر القرآن والآيات الكونية مدعماً بها آراءه وما توصل إليه من حقائق.ونجد لتلميذه أبي يزيد البلخي مؤلفات لعبت دورا رئسا في الجغرافية وكونت مدرسة جغرافية،كما نجد له مؤلفات في علوم القرآن وتفسيره. ولعل من أوضح الأمثلة على ذلك ابن رشد الذي ألف في الفلسفة والطب وكتب في الفقه الإسلامي والجمع بين الحكمة(الفلسفة) والشريعة.ولابن النفيس مؤلفات في الطب والسيرة وعلوم الحديث،وهكذا نجد أنه في اطار العلم الإسلامي تمثلت وحدة المعرفة الإنسانية.
5-ارتبطت المعرفة والعلم في الإسلام بالعمل،وقد ابتعد علماء المسلمين عن التفكير التجريدي والتأملات الفلسفية التي كانت سمة الفكر اليوناني ولم يدخلوا في مجادلات ومناظرات ومماحكات لفظية،بل عبروا عن كراهيتهم لكل علم لا يترتب عليه عمل نافع،قال مالك: لا احب الكلام الا فيما تحته عمل". لهذا كان الاتجاه العام لعلماء المسلمين التجريبيين توجيه معارفهم لتشييد ما ينفع كالمستشفيات الثابتة والميدانية،والصيدليات والطرق والجسور ووسائل البريد والمراصد الفلكية وصناعة السفن إضافة إلى وسائل الري وخزانات المياه وصناعة الورق والنسيج والمعادن المختلفة.
6-إنَّ أي مشروع نهضة علمية،في العالم العربي والإسلامي ،لا بد أن يستصحب هذه الرؤية القرآنية للمعرفة،التي تتسع لتوجهات الإنسان على اختلافها،والتي يلتقي فيها الوحي والعقل ،والتجرية والإلهام،والنظر بالعمل،والتي تدفع الإنسان الى السعي في الدنيا سيراً إلى الآخرة.ومن خلال تبني هذه الرؤية يمكن للعرب والمسلمين أن يسهموا ،ان لم يكن في النهضة العلمية المعاصرة ،فعلى الأقل في توجيه مسيرتها من أجل تجنيب البشرية الهلاك والدمار الذين توحي بهما مسيرة العلم بفلسفته المعاصرة.
أ.د. أحمد محمد أحمد الجلي
ahmedm.algali@gmail.com
////////////////////////////
////////////////////////////