صحيفة التيار 23 أغسطس 2020 لقد أنجزت لجان المقاومة عملاً تاريخيًا مجيدًا، بالغ العظمة، حين واجهت نظام الرئيس المخلوع عمر البشير بتاتشراته التي انتهكت حرمة الأحياء السكنية، وداست على أجساد الثوار. لقد كانت ملاحم مواجهة الثوار لنظام البشير على مدى أربعة أشهر، عملاً نضاليًا استثنائيا، مارس فيه الثوار من النضال السلمي ما أبهر العالم. وقد انتهت تلك المواجهات الباسلة، بعد تضحيات جسام، إلى أن يخر نظام الإنقاذ المرذول جاثيا على ركبتيه. لكن، كما هو معلوم من دروس التاريخ، فإن الثورة لا تكتمل في ضربة واحدة، ولا تسير عبر مراحلها على وتيرة واحدة. ومن الخطأ، في تقديري، تصور أن العمل في التغيير سيستمر في الشارع، بذات النسق الذي بدأت به الثورة وأنجزت به الخطوة الأولى من خطوات التغيير، وهي إزاحة قمة النظام. فالواقع السياسي يصبح، نتيجة لتضارب المصالح، والمطامع الفردية، والجهوية ونزعة الاستحواذ، أكثر تركيبًا وتعقيدًا في المرحلة التي تلي إسقاط النظام. فالحراك المستمر في الشارع، بلا حسابات دقيقة، ربما يصبح سلاحًا فتاكًا في أيدي مناهضي الثورة وكارهيها. أكثر من ذلك، أن الحراك غير المدروس، غير المُجمع عليه تمامًا، يقود إلى إحداث انقسامات وسط الثوار أنفسهم، ويضعف حالة الإجماع العام، التي كانت السبب الرئيس وراء نجاح الثورة. علينا أن نتذكر أن تجربة الثورة المصرية، وكيف أن المصريين قد ضاقوا في مرحلة من مراحل الثورة المصرية، بإغلاق الشوارع وتعطيل معايش الناس وإرباك وتيرة الحياة اليومية. وقد أعقب ذلك الإرباك لإيقاع الحياة اليومية المصرية عامٌ من حكم الإسلاميين جعل قطاعا كبيرا من الثوار المصريين، خاصة وسط المثقفين اليساريين والليبراليين، يخشون من تكرار تجربة التمكين السودانية في مصر. هذا التراكم خلق الثغرة التي كان يبحث عنها العسكر للوثوب إلى السلطة لحماية مصالح مؤسستهم العسكرية، التي استولت على الاقتصاد في عهد مبارك، وحولتهم من جنرالات إلى أرباب أعمال بل وملوكٍ في بزز عسكرية. تضار الثورة كثيرًا حين ينحصر نظر الثوار في المساحة الممتدة أمام أقدامهم، لا أكثر. فالنظر الحصيف يقول إن الفترة الانتقالية فترة قصيرة جدًا، وليست هي التي تحدد مآلات الأمور في السودان، مهما صنعنا فيها. ما سيحدد مآلات السودان هو الانتخابات التي تعقب الفترة الانتقالية. ولأن أحزابنا المؤدلجة لا يزال وعيها ملفوفا في أوهام تحقيق الأهداف، عبر الشرعية الثورية، فإنها لا تزال تظن أنه يمكنها قلب كافة الأوضاع، جملةً واحدةً، وإلى الأبد، عبر المرحلة الانتقالية. هذا في حين أن المطلوب هو استغلال فرصة الفترة الانتقالية للعمل على تعديل الأوزان الانتخابية المتوارثة ليصبح جمهور الثورة وأنصارها هم الذين يأتون بأكبر عدد من النواب إلى البرلمان. إذا لم يحدث هذا، وفق صيغة ما، فإن كل ما شكونا منه في الماضي سوف يصبح هو المسيطر على الأوضاع من جديد، عقب الفترة الانتقالية، بل ومسنودا بشرعية صندوق الاقتراع. من يتابع المشهد السياسي السوداني يلاحظ أن أكثرية الفاعلين السياسيين منشغلون بتحقيق المكاسب السياسية في الفترة الانتقالية، بلا اكتراث لما سيحدث عقبها. ولا غرابة، لأن الانشغال بالآني هو طبيعة القوى السياسية لدينا. ولو حصرت قوى الثورة وخاصة لجان المقاومة نظرها في الفترة الانتقالية فإنها تكون قد منحت القوى السياسية المنظمة، وهي قوى معطوبة بنيويًا، فرصة العمر التي تريدها. باختصار شديد، تحويل لجان المقاومة إلى قوةٍ انتخابيةٍ هو الواجب المباشر، وليس العراك في الشوارع وحسب.