المناطق الباهتة في الحركة الاسلامية السودانية (1)
5 June, 2009
مؤيد شريف
يستهجن ويستنكر كل منحا يجادل أو يناقش مسائل تتصل بالاسلام السياسي وتياراته فكرا ومنهجا وممارسة وذاك من خلط وتداخل للامر عندهم ، ولا يتردد حتي بعض قادتهم في نعت معارضيهم بمن يصدون عن دين الله ورسوله ويقفون حائلا دون ترسخ مشروعهم للدولة الاسلامية ...بل ذهب بعضهم لوصف كل غير منتمٍ لتيار الاسلام السياسي بـ"اللا ديني" وفي احسن الحالات بـ"ناقص الدين" ، وهم في وصفهم للخارجين عليهم من الاسلاميين يكونون أشد قسوة وتنكيلا وقد يصل الأمر لاخراجهم من الملة كما فعل صاحب "فليقرأ الفاتحة علي روحه قبل أن يقرأها علي روح الحركة الاسلامية " في معرض رده علي الدكتور الافندي . ونحن عندما نتباحث في الأمر فليس لنا أن نراجع أو نبحث في أمر من أمور العقيدة المترسخة أو الوشيجة الوجدانية بما يعتبره المؤمن مطلقا فذاك شأن تفصلنا عنه فلاة وفلاة ونستحي من الخوض فيه لقلة في العلم به ووفرة في أهله ، وما يمكن أن يلينا من المبحث فهو ما ينزل علي الأرض من ممارسات سياسية واجتماعية تدعي لممارستها استلالا من مصادر الدين ومرجعياته ، ومهم هنا التأكيد علي مبدأ الحرية والحق في تبني الحزم الفكرية الخاصة بهم ومشروعية السعي الشرعي في تنزيلها برامجا من خلال السلطة ، اذ أن الحرية في العمل السياسي كلٌ لا يتجزأ ومبدأ لا تصح عنده الاستثناءات ، وما ابتدعته بعض الانظمة السلطوية من قوانين تحظر قيام الاحزاب علي أساس ديني بتبرير حفظ تماسك ووحدة المجتمع المتنوع، ما هو الا محاولة يائسة لانكار ما علم من طبيعة هذه المجتمعات بالضرورة ، ومن المعروف أن الحزب السياسي أو أي شكل منتظم من أشكال الجماعة السياسية يعد تعبيرا مباشرا عن حالة مجتمعية معينة لمجموعة من السكان تحرص من خلال انتمائها السياسي علي تدعيم خياراتها السياسية والتي ،في الغالب، لا تخلو من تماسات الدين واستلهام للموروث الثقافي وكل ما يمكن أن يروا فيه مآثر تقوي من الرابطة الجامعة فيما بينهم ؛ وعليه فان الشكلية أو الكيفية والتي تتشكل بمقتضاها الجماعات السياسية لا يمكن أن تتجاوز ، في الشكل أو المضمون ، ما عليه مجتمعاتها من عشائرية تقليدية أو نزعية تدينية أو تطلعية حضرية ، وحتى لا نقع في خطأ أهل اليسار ، وهم ايضا أهل عقيدة سياسية محجمة، في رفضهم وعدائهم المطلق للظاهرة الاسلامية السياسية بما يشبه انكار حقهم في الحياة وقصر توصيفهم كمجاميع للهوس الديني وشركات تسويق "الوهم" ، فاننا نقر بأن الظاهرة لها ما يسندها في تاريخ وميراث المجتمعات وهي ليست بالمنبتة أو الغريبة من حيث وجود الأصل التاريخي المجرب ، الا أن الانبتات قد يتأتي علي اثر المفارقة التي تنتجها بارتدادها عن أصلها التاريخي أو واقع مجتمعاتها الخاص ، والمسألة التي يمكن أن تطرح بقوة في وجه الظاهرة السياسية الاسلامية ، والحديث دائما عن السلطوية منها ، تتمثل في أزمتهم الداخلية الذاتية القديمة والمتجددة ، فمسالة الحكم في التاريخ الاسلامي تشكل بؤرة للجدل والاماكن الباهتة حيث يصعب عندها الحكم بالصحيح والخطأ لتنعكس ذات الاشكالية ، وهي اشكالية تجديدية في الاساس، علي فكرهم وممارستهم ، وأكاد أن أكون علي يقين بأن النقاش الذي جرى داخل هيئة الارشاد في جماعة الاخوان في مصر والذي سبق خلافهم حول مسألة القبول بالنظام البرلماني ومدى توافقه وتوجهية الاسلام والذي حسمه البنا نفسه لصالح التيار الليبرالي باقراره واعتباره نظاما لا يتعارض والاسلام ، جرى نقاشا مشابها له في العام 2007 بين أعضاء مكتب الارشاد الحاليين وعلي الرغم من اختلاف الاشخاص والزمان الا أن النتيجة النهائية كانت متشابهة في مخرجاتها ، اذ أن البرنامج المعلن الاخير يمثل في اعتقاد الكثيرين انتصارا للتيار الليبرالي علي التيار "الاسترجاعي" . واذا ما كانت التيارات الليبرالية في داخل الجسد الاسلامي السياسي هي دائما المنتصرة وصاحبة الغلبة "علي الورق " فان تجربة الاسلام السياسي في السودان قد أقامت الدليل علي أن ما يُكتب ويُقر علي الورق شئ وما يمارس علي الأرض شئ اخر ومختلف . ويبدو أن التيار الراديكالي قادر علي زحزحة التيارات الليبرالية شيئا فشيئا وصولا لحالة السيطرة التامة ، والراديكالية التي نعني في تيار الاسلام السياسي السوداني ليست هي بالضرورة راديكالية ذات سمات أصولية دينية ، بل هي نوعية مختلفة عن مثيلاتها في تيارات الاسلام السياسي في المنطقة ، حيث تعبر عن حالة من الراديكالية السياسية السلطوية أكثر منها أصولية دينية ، بل قد تعبر بعض مناطق الضغط المنخفض في التيار الليبرالي عن اصولية دينية بأكثر من التيار الراديكالي وهذه منطقة باهتة نرجعها لنيوئة المستجمعات الفكرية وتأخر تشكل النموذج النهائي للمشروع مما يجعل الظاهرة ككل عرضة لاستغلالات مشاريع التمكن الجهوية والمصلحية في الداخل ، وهشة أمام رياح الاجتياح من الخارج .
أول ما واجه تيار الاسلام السياسي في السودان وشكل أزمة لهم هو الطبيعة الدينية الخاصة للمجتمعات السودانية ، ففي الحالة السودانية لم يكن ممكنا استمالة الناس من خلال انتقاد المؤسسة الدينية الرسمية وامتطاءها نقدا وطعنا في شرعيتها وصولا للنظام الرسمي كما فعل ويفعل الاخوان في مصر في مواجهة المؤسسة الدينية الرسمية في الازهر الشريف ، أو ما فعله راشد الغنوشي وجماعة النهضة في مواجهة الزيتونة في تونس، ما واجههم في السودان ان هناك ألف أزهر وزيتونة وأن قاعدة المتدينيين أو مجموع الدينيين تبقى خياراتهم محسومة سلفا بقوة التاريخ وترسخ المعتقد الطائفي وذلك ما يبرر بقاء التيار الاسلامي لفترات طويلة حبيسا لفئات المتعلمين والافندية ، وفي رأي فان الحركة الاسلامية في السودان وعلي الرغم من النجاح الانتخابي النقلة الذي حققته في المرحلة الأقرب لانقلابها العسكري كانت موقنة باستحالة تسجيلها لاختراق حقيقي ومؤثر في بنية المجتمعات العقائدية التقليدية انطلاقا مما تسوقه من منهج للحكم ومن هنا ربما تفطنت الحركة الاسلامية لأهمية العامل الاقتصادي ودوره الحاسم في انتاج واعادة انتاج الزعامات القبلية الوسيطة والمؤثرة ادوارها في المجتمعات الريفية والطرفية ، وأجدني ميالا للاعتقاد أن حلفهم والنميري كان له هدف استراتيجي اقتصادي في الدرجة الاولى بدأ الاعداد له ما قبل مايو وتعزز بوصولهم للحكم والذي ساعد علي تدفق الأموال واتساع نفوذهم في الريف والقرى البعيدة في مناطق السودان المختلفة .
التركيز علي العامل الاقتصادي لم يكن منفصلا عن بدء الترتيبات الموازية وفي أوقات مبكرة لتعزيز وجود الحركة الاسلامية في المؤسسة العسكرية وهنا تعود لتظهر المنطقة الباهتة من جديد ؛ فبعد ان تمددت الحركة اقتصاديا وسياسة عادت أزمة القصور الذاتي من خلال مجموعات مسيطرة اتخذت القرار بالانتقال سريعا للخيار العسكري كاختيار استراتيجي علي الرغم من عودة الكثير من القيادات للتنصل من مسؤوليتهم عن الخطوة الانقلابية ما يعيد تذكيرنا بالمنطقة الباهتة عند الاخوان في مصر والمتعلقة بالتنظيم الخاص وتنصل القيادة عنه وانكارها لمجرد العلم بوجوده في مرحلة من مراحل العنف "ليسوا باخوان وليسوا بمسلمين" .
أجراس الحرية