النزاع العرقي بين الحمر والكبابيش: نحو برنامج شبابي لمنع المُفظِعات

 


 

 

 

 

ushari@outlook.com

...

أولا،

نظام الإنقاذ جزء من المشكلة العرقية ومعوِّق لإيجاد حلول

(1)

عدم الأهلية من حيث المشروعية والمعرفة والأخلاق

فنظامُ الإنقاذ غيرُ مؤهل، من حيث المشروعية والمعرفة والأخلاق، لتقديم حلول لمشكلة المُفظِعات الجماعية، مثل مذبحة أم بادر أو العنف المنظم واسع النطاق في النزاع بين قبيلتي الحمر والكبابيش في شمال وغرب كردفان. ونظل نجد هذا العجز في قادة النظام وكبار مسؤوليه ومثقفيه غير القادرين على التفكير بشأن النزاعات العرقية ذات الأبعاد، في السودان. للأسباب التي سيرد بيانها، وجوهرها إسلامية نظام الإنقاذ وإجرامه وفساده، ونذالة الحكام الإسلاميين ووحشيتهم.

(2)

الحقيقة عن نظام الإنقاذ والإسلاميين واحدة وليست نسبية

ألف،

يمكن الاستيثاق من مدى صحة هذا الادعاء عن طبيعة نظام الإنقاذ والإسلاميين بمجرد النظر في عدد قليل من مكونات الأرشيف، ومن ثم إعمال حكم قائم على الإثبات، الإثبات بالبينة في مسارح جرائم الإسلاميين في دارفور، جنوب السودان، جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، مذبحة الشباب في سبتمبر 2013، التعذيب المؤسسي في جهاز الأمن، حرب الإسلاميين بالمرتزقة في اليمن، إجرام مليشيات القوات المسلحة ذات الأسماء مثل "قوات الدعم السريع"، بالإضافة إلى صناعة الفساد في القطاعات والمؤسسات الحكومية بما في ذلك في السلطة القضائية.

باء،

إن الحقيقة عن نظام الإنقاذ واحدةٌ، وهي ليست أمرا نسبيا يجوز الاختلاف بشأنه، إن أعملنا العقلانية المدعومة بتلك البينات للفصل في الأمر، ولا يمكن رد هذه الحقيقة عن النظام والإسلاميين وسلوكياتهم إلا بالمغالطة. فالوقائع عن طبيعة نظام الإنقاذ لها أثر مادي يمكن الإمساك به في أجساد السودانيين ضحايا هذا النظام خلال تجربة حكم المثقفين الإسلاميين في مسوخ أشكالهم المتغيرة لملاءمة كل ظرف على مدى ثمانية وعشرين عاما. وهي وقائع مسجلة في الأوراق وفي الذاكرة الشعبية وحاضرةٌ اليوم أمام أعيننا وبين يدينا.

جيم،

فسائغةٌ إذن العلاقةُ السببية بين طبيعة هذا النظام وأصحابه الإسلاميين، من جهة، وعدم قدرته على تقديم حلول ناجعة للمشكلة العرقية قيد النظر، من جهة أخرى، والمشكلة العرقية ذاتها من أسبابها استبدادية النظام وهي ما تفاقمت لتصل مرحلة العنف واسع النطاق المصبوغ بالوحشية إلا بسبب أفعال الإسلاميين وعجزهم عن التفكير.

(3)

الحل الأمني للمشكلة هو كل ما يمكن للإنقاذ تقديمه وهو حل فاشل

ألف،

والبرهان حاضر لإثبات العجز عن التفكير وعدم الأهلية، في سياسة الإنقاذ الملفقة سراعا من شتات جهالة الإسلاميين غير المدركين مدى تلك جاهليتهم. فهم يطبقون ذات السياسة التي بها كان هذا النظام خلق كارثة دارفور التي أذاقتهم وبال أمرها في المحكمة الجنائية الدولية، وهي ذاتها السياسة التي بها ثَبَّتوا وضعية الحرب الأهلية في جنوب كردفان وفي جنوب النيل الأزرق، ويجري الآن إعادة تدوير ذات هذه السياسة، بذات أنواع الحلول العسكرية والأمنية، للتعامل مع النزاع العرقي في شمال وغرب كردفان، وهو نزاع ثانوي، بالرغم من الوحشية التي صبغت أفعاله من جانب القبيلتين، بالمقارنة مع كوارث عرقية أخرى.

باء،

لكل كارثة عرقية في السودان أبعادٌ وامتدادات محلية، ومنها ما يتجاوز الحدود الدولية، وكذا أصبح الصراع العرقي في السودان مقاربا للحرب التقليدية، بل يبزها أحيانا من حيث التنظيم والتدريب والأسلحة الحديثة، خاصة وأصبحت القبيلة تتعامل أحيانا كدولة ذات سيادة في حدودها.

وما ثانوية هذا النزاع إلا لأن نظام الإنقاذ الذي يتعامل من موقعه في سدة الحكم كمجموعة عرقية عربية إسلامية اقترف جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية ضد المجموعات العرقية الأفريقية في دارفور ومنطقة جبال النوبة، وهي مرحلة في الإجرام البيروقراطي المنظم لم تبلغها قبيلتا الكبابيش والحمر، بعد، لكن القبيلتين في الطريق، مما هو بيِّن من قراءة الوحشية التي صبغت التقتيل المتبادل بينهما، خاصة من قراءة مذبحة أم بادر التي نفذتها مجموعة كباشية لاستئصال المدنيين الحمر من دار الكبابيش، وهو تمثل في اعتراض ثلاثين أو أكثر قليلا من القبيليين الحمر المدنيين بدون سلاح وجدتهم المجموعة الكباشية المسلحة هاربين من الخطر ذاته، فحرقتهم لتطهير دار الكبابيش منهم. وهو كان فعلا من أفعال التطهير العرقي له أثر تجاوز حدث المذبحة.

جيم،

إن بيان العجز وعدم القدرة على التفكير موجود في لغة سياسة نظام الإنقاذ، وفي هذه السياسة تجد ذات "عدة الشغل" الإسلامية، وهي تكنولوجيا العنف والقهر وإرهاب الدولة، الملطفة بعبارات مثل: إنفاذ حكم القانون، "بسط هيمنة الدولة، قرارات اللجنة الأمنية المشتركة، نشر قوات الدعم السريع والقوات الأمنية والشرطية، إعلان حالة الطوارئ، وهكذا.

وكان من مفردات عدة الشغل للتعامل مع "الابتلاءات" الأخيرة في كردفان إغراقُ المجال العام بأجساد الإسلاميين، من رئيسهم إلى وزرائهم وأعضاء برلمانهم، وكذا ادعاءاتهم الهرائية المعروفة وسخف منطقهم. ومنها أيضا نشر خطاب للتدليس على حقيقة المشكلة القبيلية بتصويرها عملية إجرام "عادية" بقيادة شخصين قال والي شمال كردفان أحمد هارون إن لهما سجلا في الإجرام ومطلوب القبض عليهما!

(4)

لجنة التحري والتحقيق عاجزة ولا تفهم المشكلة

ألف،

وحتى تشكيل لجنة التحري والتحقيق بواسطة النيابة تبين أنه تدخلٌ لا علاقة له بالقانون ولا البحث عن الحقيقة، ولا يؤمل في أن اللجنة ستغير الفهم الحكومي الغرضي الخاطئ للمشكلة، مما ظهر في التصريحات السياسية السبقية من اللجنة أنها قد تحيل الجرائم إلى الديات والصلح القبلي، فكان رد فعل النائب العام عمر أحمد محمد وفيه ذات العجز وعدم القدرة على التفكير الذي في اللجنة، حين أصر الأستاذ عمر ولمَّا يبدأُ التحقيق، معتمدا على ما قال إنها تقارير الأجهزة السياسية مثل الوالي وجهاز الأمن، أصر النائب العام على أن النزاع فردي وليس نزاعا قبليا!

باء،

هكذا كان إصرار النائب العام، بالادعاء بدون دليل، وبلغة السياسة في معناها ذي الركة، لا بلغة القانون التي تستمد قوتها ومشروعيتها من التحقيق المستقل عن الأجهزة السياسية، وعن النائب العام ذاته بتدخلاته السياسية السافرة. وقد كيَّف النائب العام طبيعة النزاع حتى بدون زيارة اللجنة مسارح الجريمة في المنطقة بين سودري وأم بادر والنهود وفي امتداداتها في ولايتي شمال وغرب كردفان وخارجهما، وكذا قبل سماع اللجنة إلى الشهود والجرحى الحاضرين، وبدون الاستيثاق من مدى صحة أو خطأ النصوص المنشورة المكتوبة والمصورة بالفيديو وبالصور.

جيم،

وقد كان واضحا من المعلومات الأولية عن النزاع المسلح أن التعبئة العرقية في منطقة القبيلتين لآلاف المقاتلين المدججين بالسلاح على متن مئات العربات لا يمكن أن تكون كانت متعلقة بقضية شخصية من نوع أحداث فردية وسرقات وعصابتين وقطاع طرق وهمباتة ومتفلتين، وهي العبارات الحكومية المستخدمة للتدليس الموجه إلى تكييف النزاع بأنه ليس قبيليا، تمشيا مع السياسة الحكومية المقررة.

دال،

وبالإضافة إلى الخطاب السياسي في لغة النائب العام عن طبيعة النزاع، نجد أن اللجنة والنائب العام يجهلان المشكلة في ماديتها على الأرض، بكياناتها البشرية، وبمحركاتها وأسبابها العميقة المتجذرة في وجوديتها. وهما غير مكترثين للحقيقة البسيطة أن تكييف النزاع فرديا أم قبليا لا يأتي إلا لاحقا في نقطة متقدمة في مسار عملية التحقيق. والذي أراه هو أن هذه المشكلة لا يمكن حلها بالديات أو الصلح على طريقة العرف القبيلي وفهم لجنة التحري والتحقيق، ولا بـ "القانون"، على طريقة النائب العام.

هاء،

يصدر النائب العام في لغته من فهم ضيق مفاده أن "القانون" هو كل شيء، وأنه لا علاقة لهذا القانون بالسياق في هذه الوضعية ذات الأعراف الخاصة والمعايير الهجين والتعقيدات والصراعات العرقية والطبقية المتشابكة.

ولكأنه النائب العام يريد فجأة، هكذا على طريقة الإسلاميين، تغيير الأعراف القبيلية في تداخلها مع نظام الإنقاذ، وهو تداخل كان دائما تشويهيا ومقارِبا إلى الاتفاق على الجريمة، في مجالات تسليح نظام الإنقاذ رجالا من القبيلتين لخدمة أغراض النظام، والسماح لكل قبيلة باقتناء أكثر الأسلحة فتكا، ومباركة النظام المشاركة بين قادة قبيلة الكبابيش والتجار الإسلاميين وكبار المسؤولين الحكوميين في خمش موارد الذهب في أراضي القبيلة. مع تفاهم مؤداه أن يترك النظام الحبل على الغارب للقيادات القبيلية الموَرَّثة لتُطبق تدابير وأعرافا "قبيلية" لا تتسق مع القانون الوطني أو مقتضيات العدالة.

فيريد النائب العام بـ "تطبيق القانون"، هذه المرة بمستجداتها، تغيير المعادلة الدقيقة السارية والتي لم تكن إلا لصالح النظام ذاته والنخبة في قيادة القبيلة. وهو من نوع التناقض الطارئ في المصالح سببه أن الصراع العرقي الحمري الكباشي جاء في وقت فيه كان فيه النظام يسعى إلى تسويق صورة فالصو عن هويته. لكن القيادات المورثة في القبيلتين لن يكون في مقدورها قبول تطبيق القانون الجنائي على من يتم توصيفهم خطأ بأنهم "متفلتون".        

واو،

ونحن في مجال تغيير الأعراف عن طريق القانون، أشير إلى أفكار الأنثروبولوجية كريستينا بشيري في كتابها الجديد بعنوان (المعايير في المناطق المتوحشة، نورمز إن ذا وايلد، 2017)، وهي تقدم الاستشارة لمنظمة اليونيسف لمنع الزواج المبكر والخفاض وتجنيد الأطفال في النزاع المسلح:

...

"إن السؤال عما إذا كانت القوانين ستُحدث تغييرا اجتماعيا يرتبط بعوامل مثل المشروعية، والعدالة الإجرائية، وبكيفية نشأة القانون وتطبيقه. ... فإذا كنا نرى القانون ذا مشروعية، فإنا نميل إلى الامتثال إليه. ويتعين أن يَصدُر القانون ذو المشروعية من سلطة ذات مشروعية ومعترف بها، ويجب أن تكون الإجراءات التي تُصدِر بها السلطات القرارات منظورا إليها على أنها عادلة ومناسبة. ويجب أن يكون واضحا أن القانون يتم تطبيقه بصورة متسقة وأن يُنظر إلى منفذي القانون على أنهم أمينون" (ص 144).

...

وجاء في ذات الكتاب أن ابتعاد القانون عن الأعراف السائدة سيُفقد القانون كل مصداقية، وأن المواطنين لن يزدروا أولئك الأشخاص الذين يخرقون هذا القانون. وأنه بسبب عدم وجود "الوصمة" حين يتم خرق ذلك القانون يفقد القانون قوَّته في الردع (155).

فلا ينطبق أي من شروط تغيير الأعراف على الحالة قيد النظر في شمال وغرب كردفان. فالنظام أصلا فاقد شرعية وقد كان جاء بانقلاب عسكري، وهو أسس حكما إسلاميا استبداديا ظالما اعتمد الجريمة وصناعة الفساد لإبقاء طبقة الإسلاميين في الحكم.

إذن، ليس للنائب العام من مشروعية أو منعة أخلاقية يصدر منهما لإلقاء محاضرة على الكبابيش والحمر في مجال "تطبيق القانون".

زاي،  

لقد ظلت علاقة النظام الإسلامي بالقبيلتين مشدودة إلى فرض هذا النظام على فقراء القبيلتين الجبايات من كل نوع، وإلى مشاركة النظام في خمش الموارد مثل الذهب، واستغلال الشباب في المليشيات الحكومية التي لا تفيد القبيلتين بل تضرهما، وتثبيت انعدام الديمقراطية وعدم المساواة في القبيلة، واحتواء القيادات القبيلية لترعى مصالح الإسلاميين والنظام نظير السماح لهذه القيادات الاستحواذ على ريع ترتيبات توريث الحكم في بيتين محددين في القبيلتين، والسكوت الحكومي عن الرق والتهميش على أساس العرق.

حاء،

إن المشكلة في كردفان متعددةُ الأبعاد، والوقائع المبحوث عنها ليست قانونية بصورة محض، بل هي كذلك وقائع من اختصاص علوم الأنثروبولوجيا والاقتصاد والاجتماع وعلم النفس والعلوم السياسية والفلسفة، ومن اختصاص النظريات الانتقادية والمعرفة القبيلية المحلية. مما ليس لعضوية لجنة التحقيق به علم أو معرفة، وهو خارج مزاج النائب العام. 

طاء،

تستدعي هذه المشكلة العرقية تفكيرا لم يُعرف به الإسلاميون على مدى ثمانية وعشرين عاما وقبل ذلك بعقود، وليس في مقدورهم أصلا مقاربته، وإلا كان السودان مختلفا، ولمَا كانت وقعت مشكلة الحمر والكبابيش بهذه الطريقة المفجعة.

فالتفكير الصحيح المستدعى علمانيٌّ يرفض مقاربة مثل هذه المشكلات الحياتية العملية بتقنيات القوة العسكرية أو بطش القانون أو بخطاب الخرافات والهراء والكذب والتدليس، وهذه المكونات هي دائما من ذات عدة الشغل الأساس عند المثقفين الإسلاميين، وهي خصائص قارة في سياساتهم وفي وجوديتهم.

فنحن أمام استحالة معرفية وأخلاقية، كالمعوق الأساس والحائل دون سياسة ذات معقولية لحل المشكلة المعقدة في شمال وغرب كردفان.

ياء،

ومما يدحض ادعاءات النائب العام في اختزاله المشكلة في أحداث فردية من مجرمين مطلوبين للعدالة حالةُ الفزع والخوف التي انتظمت جميع أجهزة النظام، من الرئيس الذي طلب من القبيلتين "التبرؤ" من "المشتركين" في النزاع، إلى رئيس البرلمان الذي تحدث عن "صراع قبلي بين أشخاص بينهم دم ونسب ومصاهرة ودين"، إلى وزير الدفاع، إلى وزير الحكم اللامركزي، ووزراء آخرين، والواليين، إلى النائب العام ذاته، جميعهم انتفضوا وركبوا جميع وسائل المواصلات المريحة إلى مدينة الأبيض، وأعلنوا حالة الطوارئ في الإقليم، وارسلوا قوات الجيش والشرطة والأمن والاحتياطي المركزي ومليشيات الدعم السريع "للفصل بين قوات القبيلتين" وللقبض على الجناة، وركبوا الطائرات المروحية والسيارات المكيفة إلى منطقة "الأحداث"، واجتمعوا بقادة القبيلتين، ثم شرعوا يتحدثون بلسانين كاذبين، وهي طريقة الإسلاميين.

وكله كان لحل مشكلة يصرون أنها تتلخص في شخصين مجرمين مطلوبين أصلا للعدالة، كدي ومحيميد!

(5)

مبادرات الصلح محكوم عليها بالفشل

ألف،

أما المبادرات في مجال ما يسمى "الصلح"، والتي دعمها والي شمال كردفان أحمد هارون وناظر الكبابيش التوم علي التوم والبرلمانيون وبعض الوزراء ولجنة التحري والتحقيق (قبل إلجام هذه اللجنة بواسطة النائب العام)، فلن تفضي إلى غير التهدئة المؤقتة إلى حين. لأن هذه المبادرات للصلح القبلي لم تكن يوما في ظل حكم الإسلاميين إلا مبادرات للاتفاق على مُتصالَح عليه وهْمي، وهمي لأن المحددات الأولية لوجودية المتصالَحِ عليه الحقيقيِّ كان يتم تغييبها دائما، هنا في الحالة قيد النظر المحددات هي "الأسباب العميقة" للصراع القبلي حول قضايا التوريث وملكية الموارد الطبيعية والتهميش والإفقار وعدم المساواة في منطقة القبيلتين، وكلها قضايا الحوكمة في شمال وغرب كردفان.

باء،

إن تغييب الأسباب العميقة المحرِّكة للنزاع القبلي مشدودٌ إلى تكريس المصالح المشتركة بين قادة القبيلتين والتجار الإسلاميين وقيادات نظام الإنقاذ، وهي مصالح اقتصادية موضوعها الذهب والموارد الطبيعية، وأمنية لنظام الإنقاذ فيها مصلحة طبقة الإسلاميين المرعوبة من إزالتها من الحكم، وقد لحقت بالنظام آثار سياسته في تسليح القبائل وإشعال الفتن بينها، وكذا هي المصالح المشتركة مشدودةٌ إلى الترتيبات التي تضمن استمرارية التوريث لقادة القبيلتين لقاء قبولهم سياسات الإنقاذ ولعبهم دور الوسيط التجاري، أو السمسار بين القبيلة والتجار الإسلاميين والمسؤولين الحكوميين في المركز، لاستغلال موارد القبيلتين.

جيم،

وفي هذا السياق الموجودة فيه عمليات الهمبتة والمحسوبية المتمثلة في استيلاء تحالف النخب القبيلية والإسلامية على الأجهزة المحلية، وما يمكن أن نسميه صحيحا "حكومة حرامية" كليبتوكراسيا، هنا نظام الإنقاذ، وفي سياق وجود اتفاقيات مكتوبة وغير مكتوبة لاستغلال الموارد في الأراضي القبيلية يفيد منها التجار والمسؤولون الحكوميون الإسلاميون وقادة القبائل، لن يكون ممكنا للأفراد في المجموعات والفئات المقصية والمهمشة الاكتفاء بدور المتفرجين. ومن بين هؤلاء الرافضين دور المتفرج بعض الشباب والرجال الذين قرروا خلق ثقافة ضدية من أشكالها النهب المسلح بما في ذلك في سياق النزاع العرقي.  

(6)

نظام الإنقاذ أكبر معوق لإيجاد حلول كافية للمشكلة

ألف،

ومن ثم، فمكتوب الفشل لهذه الحلول الأمنية لمشكلة بَيْن-قبيلية ذات تعقيدات داخلية في القبيلتين وفي علاقاتهما مع نظام فاقد الشرعية معروف بفساده وإجرامه وعنصريته وإشعاله الحروب في كل مكان.

ولن يكون للجنة التحري والتحقيق من أثر في تجلية الحقيقة أو في إحقاق حقوقٍ، فهي لجنة ضعيفة في تكوينها الأمني الصرف، واستبان من تصريحها الأولي عن الديات والصلح والمصلحة أنها لجنة سياسية مسكونة بالجهل، وكان ذلك اندراج اللجنة الأولي في السياسة بمعناها الركيك دليل تهافتها ومفارقتها فلسلفة لجان التحقيق، وهي لم تتجرأ على رفض توجيهات النائب العام المطلقة من الخرطوم بينما كانت اللجنة في الأبيض وكلاهما كانا بعيدين عن موقع الأحداث.  

باء،

والآن لن تقدر هذه اللجنة للتحري والتحقيق على مفارقة الخط السياسي الذي فرضه عليها فرضا النائب العام بتدخله السافر في التحقيق، وهي ستلبي رغبته، وهي رغبة نظام الإنقاذ أن المشكلة "علاقة شخصية" كما في الأغنية، فرديةٌ أو زوجيةٌ بين كدي ومحيميد، وقد تم ترويج هذه الرواية الشعبية الحكومية بواسطة مؤلفها والي شمال كردفان، أحمد هارون، وهو راوية غير موثوق به ولا بأقواله إن كدي ومحيميد رئيسا عصابتين، من النهود ومن سودري، أو إنهما هاربان من العدالة ومطلوب القبض عليهما.

باختصار، يصر الإسلاميون على أن المشكلة ليست "نزاعا قبليا"، والله العظيم.

جيم،

لكن الصحيح المقدر على أساس العقل والمنطق والمعرفة والوقائع هو أن المشكلة بل "نزاعٌ قبليٌ" في وجوديته الأولية وفي جوهره وحركياته وأسبابه العميقة. ولا علاقة لهذا النزاع بالفردية المدعاة إلا بعلة أن كلَّ نزاع قبلي فيه "أفراد"، لكنهم أفرادٌ يأتون إلى النزاع من مواقعهم القبيلية وبها، في "جماعات" قبيلية مثل المجموعة الكباشية التي نفذت الهجوم على سوق المقيرنات وتلك التي نفذت مذبحة أم بادر، أو المجموعة الحمرية التي قتَّلت اللصوص تقتيلا في المذبحة الصغيرة التي كانت بداية النزاع العرقي، أو يأتي الأفراد إلى هذا النزاع وهم في "جُموعٍ" غفيرة من القبيليين في عداد الآلاف مما كان في الفزع الحداثي بواسطة قبيلة الحمر على متن مئات العربية ذات الدفع الرباعي.

وتجمع بين هؤلاء الأفراد المشاركين في العمليات المشاعر والأجندة والأهداف القبيلية، وقد خرجوا مسلحين للمقاتلة المحصورة وأحيانا للحرب القبيلية الشاملة يريدون تحقيق الأهداف القبيلية المعروفة لهم دون تلقين، وكذا يريدون تحقيق الأهداف الفئوية والفردية ذات الجذور القبيلية. بل إن الأحداث العنيفة ذاتها كانت تقوي المشاعر القبيلية، وتحافظ على وحدة القبيلة وكيانها ضد هذا الآخر، الحمري أو ذلك كان بالعكس هو الكباشي.

وكان لحكومة الإنقاذ دور تاريخي حاضر في خلق هذه المشكلة وفي مفاقمتها، كما هو كان الحال بصدد جميع النزاعات العرقية في السودان.

دال،

أما "اللجنة الأمنية المشتركة" برئاسة الواليين، فهي كذلك تظل تعبر عن عجز الأمنيين الإسلاميين عن التفكير، وقد أعطت هذه اللجنة الأمنية نفسها "صلاحيات استثنائية إضافية في الضبط والحجز سواء لأفراد أو مَركِبات"، و"هددت بعقوبات قاسية تطال كل من يتداول معلومات يكون من شأنها إحداث الفتنة أو صنع حالة احتراب"، وهي اللغة الإسلامية، في إشارة من اللجنة إلى "مستخدمي الوسائط الإعلامية" الذين اتهمتهم اللجنة بـ "الترويج لمعلومات غير متحقق منها".

بينما الإنقاذ كالدولة الإسلامية ظلت تنشر الأكاذيب بواسطة "سلاح الكتابة" في جهاز الأمن وبواسطة كبار مسؤوليها بينهم رئيسها ذاته، على مدى ثمانية وعشرين عاما.

وحيث لا يمكن أصلا محاربة الأخبار الفالصو إلا بتفكيكها وتعرية الكذب فيها والتصريح بالمعلومات الصحيحة. لا محاربة تلك "المعلومات غير المتحقق منها" بـ "العقوبات القاسية" التي هددت بها اللجنة الأمنية، والعقوبات القاسية كذلك من التقنيات في عدة الشغل لدى المثقفين الإسلاميين لتقتيل حرية التعبير.

هاء،

فنظام الإنقاذ معوِّق أساس يحول دون حل مشكلة المفظعات الجماعية في السودان، وهو نظام ظل يخلق الصراعات القبيلية، ويغذي أسبابها العميقة ويكرسها. ولا نذهب بعيدا، فلننظر إلى أحمد هارون، والي شمال كردفان وهو ذاته المتهم بجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب ومطلوب القبض عليه من المحكمة الجنائية الدولية، وهو فار من العدالة ومفلت من العقوبة على جرائمه ضد المدنيين في دارفور. يجب علينا أن نتذكر دارفور، دائما.

واو،

ويظل أحمد هارون بجرائمه في دارفور وجهَ نظام الإنقاذ، بما في ذلك بوجوديته وجه السلطة القضائية الفاسدة، فالوالي كان يوما قاضيا. ويجب ألا تنطلي علينا هنا الخدعة المتذاكية أسمعها أن "المتهم بريء حتى تثبت إدانته". فليس أحمد هارون "بريئا". 

أولا، هنالك وجود المعرفة الثابتة بحقيقة وقوع جرائم دارفور، وبدور أحمد هارون في اقترافها، من حيث مسؤولية القيادة في التخطيط والتحريض وإصدار الأوامر. ومن البينات المتاحة وتاريخ المتهم وسلوكياته اللاحقة ما يكفي لترجيح مسؤوليته الجنائية.

ثانيا، هنالك حقيقة أن المتهم أحمد هارون فار من العدالة بعد أن وجهت إليه المحكمة الجنائية الدولية التهمة وأصدرت أمرا عالميا للقبض عليه.

ثالثا، لسنا الآن في محكمة تنطبق فيها القاعدة الفقهية أن المتهم برئ حتى ....

رابعا، قرر هذا المتهم أحمد هارون أن يتجنب كل محكمة قد تدينه أو تعلن براءته.

زاي،

لذا يصبح مشروعا، ونحن نقارب مشكلة الكبابيش والحمر، وفيها الحديث عن لجنة التحقيق عن جرائم خطيرة، أن نحاكم أولا أحمد هارون والي شمال كردفان، أن نحاكمه في محكمة الرأي العام، وأن نرفض تدخلاته لحل مشكلة الحمر والكبابيش، لأنه لا شرعية أصلا لولايته إلا في شرعة الإسلاميين، ولأنه يظل غير مؤهل أخلاقيا أو قانونيا، بعلة دوره الثابت في الجرائم ضد الإنسانية في دارفور.

وأسجل مجددا أنه يتعين علينا في جميع الأحوال أن نتعامل مع جرائم دارفور بالجدية التي يستحقها ضحايا تلك الجرائم. فمن تسبب في تقتيل الجنجويد ثلاثمائة ألفا ويزيد من المدنيين في دار فور وحرق قراهم ليحتلها آخرون أعوان النظام؟ وكان أحمد هارون حاضرا بمنصبه وزير دولة في وزارة الداخلية ينسق عمليات المليشيات الحكومية وأجهزة الأمن.

...

ثانيا،

لزوم البديل في برنامج شبابي مستقل يركز على منع المفظعات

(1)

أهمية البرنامج الشبابي لمنع المفظعات

ألف،

أمام هذه الصورة القاتمة لحقيقة الأوضاع المحيطة بالمشكلة في كردفان، وحيث لا أمل في "إصلاح"، يجب أن نتعلق بالأمل، في حركة للشباب، خاصة في الجامعات. فأرى أنه يمكن استحداث برنامج شبابي بديل ومستقل عن نظام الإنقاذ، وأن يكون البرنامج محصورا في "منع المفظعات"، أسوأ أنواع العنف، منعها مؤقتا ريثما تتأتى الحلول الجذرية للصراع القبيلي بنزاعاته المتعددة.

هذا التركيز الحصري على برنامج شبابي لمنع المفظعات ضروري، حتى في حال بروز نزاع قبيلي جديد، أو عند الحضور الفاعل المتجدد لهذا النزاع القائم أو لنزاعات أخرى تمور اليوم تحت السطح، وحتى في أوضاع استمرارية "الأسباب العميقة" للنزاعات وللمفظعات الجماعية ذاتها.

باء،

ويمكن لهذه الحلول الشبابية البديلة أن تنجح، بالرغم من وجود الدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة/نظام الإنقاذ، وهي الحلول التي يمكن أن يبتدرها المثقفون الشباب من القبيلتين، من بينهم دائما الشباب الإسلاميون ذاتهم المتوهمون أن الإسلام، مُدرجا كالدين في الدولة، يمكن أن يكون حلا للكارثة السودانية التي خلقتها الحركة الإسلامية السودانية. وأرى أن في مشاركة هؤلاء الشباب الإسلاميين في ذات البرنامج في معية شباب من مجموعات أخرى فرصٌ لتثقيف جميع الشباب في مجال الحلول ذات المعقولية للمشكلات الحياتية مثل هذي مشكلة العنف والمفظعات الجماعية في شمال وغرب كردفان.

(2)

التركيز على الوحشية الجديدة القديمة

ألف،

أي، ليس من الضروري، مؤقتا وإلى حين قريب، التحامُ الشباب مباشرة مع قضايا "الأسباب الجذرية" أو مع النزاعات القبيلية ومحركاتها، لأنا الآن في حالة طوارئية كارثية تستدعي التدخل لمنع حدوث مفظعات جديدة، وتستدعي الحالة الطوارئية الراهنة أيضا فهم وتحليل الوحشية التي صبغت الفورة الأخيرة للنزاع الحمري الكباشي وتفسيرها والتعامل معها ومع مثيلاتها الكامنة تنتظر فرصتها.

فالوحشية خصيصة نفسانية مركبة تركيبا في دماغ الإنسان المستحوذ بكراهية الآخر وبالخوف منه. ويتم تخريجها من الدماغ ظرفيا، في سياقات محددة، في أشكال أفعال متعددة ذات بشاعة وموغلة في القسوة والشناعة، وهي تستعصي على الفهم أحيانا وعلى الحلول العقلانية لمنعها، نعرفها تجريبيا عند الإسلاميين أصحاب نظام الإنقاذ في مسارح جرائمهم في أرجاء السودان القديم وفي هذا المسخ المستحدث المقطع أشلاء، كما كذلك نجدها اليوم في أدمغة قادة الحركة الشعبية بجمهورية جنوب السودان بمذابحهم المريعة وتشريدهم السكان واختطافهم النساء والفتيات واغتصابهن وتدميرهم المساكن ونهبهم ممتلكات المواطنين، والوحشية خاصية أساس عند قبيلة الرزيقات برهانها في مذبحة الضعين وفي غزوات خطف الرقيق وأفعال السرقة النهبية.

وها هي ذاتها الوحشية الآن بين يدينا أفعالها المخرجة من أجساد المدنيين المقاتلين من قبيلتي الحمر والكبابيش، وهي الأفعال مصورة بالفيديو وفي الصور وبيانها في الأوراق وعلى الأرض، من نوع إرهاب السكان ليغادروا مساكنهم، من فنون التطهير العرقي، بالإضافة إلى الذبح والحرق والتمثيل بالجثث ودفن الأعداء المفترضين أحياء (في مناجم الذهب).

باء،

فأما وقد انتقل الصراع العرقي بين قبيلتي الحمر والكبابيش إلى مرحلة إطلاق العنان للوحشية الأصولية، وحيث لا عودة إلى حالة البراءة القبيلية المدعاة، لابد من التخلص من خدع الذات. فنحن اليوم في كردفان أمام خطر داخلي قديم متجدد، وكان هذا الخطر الداخلي أقرب إلى شمال كردفان وغربها من حبل الوريد، وكثيرون من أهل شمال كردفان الذين يعتزون بمزاجهم المسالم مقارنة مع مزاج العنف ووحشية المفظعات في جنوب كردفان ودارفور وكذا في جنوب السودان، يتعين عليهم اليوم أن يصحوا من الوهم، فقد شارك عدد مقدر من شباب كردفان في تنفيذ مذابح ومفظعات جماعية في تلك المناطق البعيدة في جنوب السودان وفي دارفور وكذا في جنوب كردفان القريبة، كجنود وضباط ومقاتلين في مليشيات القوات المسلحة بأنواعها منها مليشيات الجنجويد، ولا أنس وكنت في مدرسة بارا الغربية جارَنا بُشرى ود الجَّمَرُو العسكري العائد من حرب جنوب السودان ومعه عقد يستعرضه فيه منظومة آذان مقطوعة قال لابد صادقا إنها الآذان المقطعة كانت لمتمردين قتلهم بشرى. وهنالك أيضا أحمد من أولاد أم روابة الجوامعة التاجر في سوق الضعين وقد شارك في تنفيذ مذبحة الضعين وكان يحمل دقله لتهشيم جماجم الأطفال والنساء في محطة السكة الحديد، 28 مارس 1987.

والنقطة هي أن الوحشية التي استغرب الجميع أن تحدث من الكبابيش ومن الحمر ليست مستغربة في واقع الأمر، بل كانت دائما هناك في جسد كردفان تتفلت في لحظات تمت الاستهانة بها، وها هي تظهر في شكل جديد إلى مستوى "المذبحة"، مثلما حدث في أم بادر، وإلى التبشيع بجثث المقتولين ذبحا.

صحيح أن شمال وغرب كردفان لم تشهدا بعد من حيث عدد القتلي والمقاصد التخطيطية مستوى الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية مما شهدناه في دارفور وجنوب السودان وفي الخرطوم 2013 وعند الجيران في جنوب كردفان. لكن شمال وغرب كردفان وهما كيان واحد ليستا بعيدتين من احتمالية حدوث مفظعات شبيهة في العدد وفي التخطيط الإبادي، خاصة بعد مذبحة أم بادر التي كسرت ببشاعتها حاجز التحريم، وهي مذبحة لا تختلف من حيث الوحشية عن مذبحة الضعين إلا فيما يتعلق بعدد الضحايا وبأن مذبحة الضعين كانت مخططة سبقا لإبادة جميع الدينكا بالمدينة.

ومن حيث إن حدوث جرائم عالمية في شمال وغرب كردفان احتمالية سائغة، خاصة في سياق الدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة، يتعين على الشباب منع هذه الجرائم من أن تتحقق، وذلك ممكن، بالعمل الشبابي المدني المشترك، بديل الحل الأمني من قبل الإسلاميين.

جيم،

وهذا عبء على الشباب ثقيل، لأن هذه الوحشية الجديدة القديمة التي لا يمكن أصلا حلها بالقانون، على طريقة النائب العام، أو بمليشيات الدعم السريع المبرمجة ذاتها بالوحشية، تستدعي عملا فكريا وخطابيا ذا استمرارية في الزمان وفي المكان، في جميع أرجاء كردفان الكبيرة. مما يستدعي بدوره سعي الشباب إلى إدراج أساتذتهم في الجامعات إلى الدخول في "السياسة"، بمعناها الحركي الأخلاقي، أساتذة الفلسفة والاجتماعيين والنفسانيين والأنثروبولوجيين وأساتذة التاريخ والاقتصاد، وكذا أساتذة البيولوجيا بتخصصاتهم المتعددة بما في ذلك في مجال السلوكيات الحيوانية.

دال،

إن المداخل إلى المعرفة الضرورية لفهم المشكلة العرقية الراهنة ذات الأبعاد وتحليلها وتفسيرها وابتداع حلول لها، هذه المداخل محلها في الجامعات السودانية، خاصة الجامعات الولائية القريبة من الأحداث، وليس محلها عند "اللجنة الأمنية المشتركة"، ولا عند لجنة مؤتمر الصلح، أو عند الإسلاميين أهل نظام الإنقاذ بوحشيتهم المخلطة بالنذالة، وهنالك استحالة وقائعية وأخلاقية أن تكون الحلول عند والي شمال كردفان أحمد محمد هارون المتهم بالجرائم العالمية والفار من العدالة.

هاء،

وحتى هؤلاء أساتذة الجامعات الإسلاميين المعيَّنين بالتمكين والذين قضوا حياتهم متفرجين على وحشية زملائهم الإسلاميين أعضاء جهاز الأمن من أساتذة الجامعات والمهندسين والأطباء وخريجي الجامعات المشاركين بالتخطيط وبأيديهم في تعذيب المعارضين وفي تقتيلهم، حتى هؤلاء الأساتذة المتفرجين يمكن لهم التكفير عن مشاركتهم الصامتة في إنشاء صرح الإجرام الإسلامي على مدى ثمانية وعشرين عاما، التكفير عن الذنوب بتسهيلهم حصول الشباب على مظان المعرفة التي تفيد في حل مشكلة المفظعات ذات الوحشية في شمال وغرب كردفان.

(3)

تبرير الاقتصار على الحل المؤقت المركز على منع المفظعات

إن للمنع "المؤقت" للمفظعات ضرورة قصوى، ريثما يأتي وقت حل النزاعات وتغيير أسبابها العميقة مستقبلا، وهو المنع المؤقت الذي يخلق الظروف الموضوعية للتفكير الشبابي لبرمجة لاحقة لحلول لمشكلات النزاع القبيلي ومحركاتها وكذا للتعامل التغييري مع الأسباب العميقة.

...

سأقدم في هذا المقال بعض مكونات برنامج بسيط يركز حصرا على "منع المفظعات وأشكال العنف"، حتى دون محاولة الشباب مقاربة حل النزاعات القبيلية القائمة حاليا أو تلك التي ستبرز مستقبلا، ودون محاولتهم العمل في مجال تغيير الترتيبات العميقة التي ظلت تولِّد النزاعات والمفظعات الجماعية والعنف في شمال وغرب كردفان.

...

باختصار، فإن النقطة الجوهرية هي أن يبدأ الشباب في شمال وغرب كردفان (فالمشكلة لها جغرافيا) بتصميم برنامج يتم تنفيذه بواسطتهم وبصورة مستمرة لا تتوقف وأن يكون البرنامج محصورا في "منع المفظعات"، والحصر مشدود إلى الأسباب التالية، وبعضها سلف ذكره:

ألف،

يمكن نظريا وعمليا للشباب تصميم أنواع نشاط وتنفيذها لمنع المفظِعات وأشكال العنف القبيلي الأخرى في شمال وغرب كردفان دون حسم النزاعات القبيلية الراهنة، ودون تغيير الترتيبات السياسية-الاجتماعية في مساحات القبيلتين والمسبِّبة للمفظعات والعنف.

باء،

يمكن، نظريا، بروز نزاع قبيلي وتكرار حدوثه دون لزوم استصحابه مفظعات جماعية أو أيَّ شكل من أشكال العنف المسبِّب للضرر الجسماني أو النفسي أو المدمر للمساكن والممتلكات. وهذه حقيقة معرفية، وكذا هي حقيقية تاريخية ثابتة من المقارنة مع وضعيات صراعات أكثر تعقيدا وخطورة لكن لا يحدث فيها أي عنف.

جيم،

تختلف زمانية المفظعات الوقتية، بمعنى اختلاف سرعة أو بطء تواتر الأحداث التكوينية عبر الزمن، عن زمانية الصراعات القبلية وزمانية الترتيبات في الأسباب العميقة ذات الثبات. عليه، لا يجوز انتظار حل الصراعات أو انتظار تغيير الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، مما يعني "الحلول الجذرية"، لكي يتم بعد ذلك أو في السياق منعُ حدوث مفظعات جماعية جديدة. وهو تفكير يبدو مغايرا للحكمة السارية أنه لابد من "الحلول الجذرية" أولا. فالحلول الجذرية في هذه الحالة الطوارئية يمكن أن تنتظر.

دال،

يظل العنف، كعنف، غير مقبول من حيث القيم المعيارية الفاضلة، وهو غير مقبول أخلاقيا، ويرفضه الوجدان السليم القائم على الطبيعة الإنسانية في مجاهدتها ضد نوازع الشر الكامنة في الدماغ البشري، ذلك على مستوى وجودي أصيل في الفكر العلماني الإنساني، وهو الفكر المستقبلي الذي سيعتمده الشباب في عالم اليوم، وهو نقيض الفكر الديني الذي يسوِّغ العنف وينتج العنف، مما هو ثابت من قراءة العقيدة السياسية المعتمدة من نظام الإنقاذ، عقيدة "الإسلامية" التي لا تأت إلا ومعها تكنولوجيا العنف والقهر وإرهاب الدولة.

هاء،

أما وهنالك في السياق وجودُ هذا نظام الإنقاذ، بإسلاميته وبطبيعته الوحشية، كمعوق مادي لكل حلول معقولة متداخلة أو شاملة، فلا يمكن انتظار زوال نظام الإنقاذ متطاول العمر والركون إلى قبول العنف المستشري في كردفان قبل البدء في عمل شبابي يستهدف المفظعات الجماعية على وجه الخصوص.

واو،

عليه، لابد من العمل الشبابي التخطيطي التنفيذي لمنع المفظعات حتى مع وجود نظام الإنقاذ. علما أن مقاومة المفظعات والعنف في شمال كردفان هي أيضا مقاومة تكنولوجيا العنف والقهر وإرهاب الدولة، وهي التكنولوجيا التي تتحدر آليا من العقيدة السياسية الفاسدة، "الإسلامية".  

زاي،

لا يجوز مداهنة الشباب بالتطبيب على حساسياتهم العقدية المفترضة، بحسبان أن مثل هذا الخطاب أعلاه عن أن الإسلامية عقيدة سياسية فاسدة سيستفز المشاعر "الدينية" للشباب المتدينين، وأنه قد يقف حجر عثرة دون قبول هؤلاء الشباب مقترح منع المفظعات ذاته.

فالفكرة التي أريد تثبيت معناها هنا هي لزوم أن يتخلص الشباب، في كردفان، من مثل هذه الحساسيات القائمة على الخرافة، لأنه لا توجد أصلا علاقة مباشرة أو حتمية بين كينونة الشخص كمسلم متدين، من جهة، والإسلامية كعقيدة سياسية فاسدة تحتل مكانها مع الستالينية والنازية والفاشية والليبرالية المتوحشة، من جهة أخرى. والجزم باحتلال "الإسلامية" هذا المكان مسألة وقائع، فجميع هذه النظم السياسية ذات العقائد الأيديولوجية الكبرى يربط بينها  اقتراف المفظعات الجماعية في حالات الحرب والسلم.

...

وكذا لا علاقة لهذه "الإسلامية"، كعقيدة سياسية في نظام الإنقاذ، بـ "الإسلام" في وجوديته النصوصية التي يفاوضها ويساومها المسلم في حياته الخاصة بما في ذلك بقرار هذا المسلم رفض نصوص الإسلام جزئيا أو كليا دون معقب عليه من أحد، وإنما تنشأ العلاقة بين "الإسلامية" و"الإسلام" حين يتم إدراج ذات تلك نصوص الإسلام، الشريعة الإسلامية، في أجهزة الدولة، الحكومة، وفي ترتيب الحكومة الحياة الخاصة بالمسلمين أنفسهم.

هذه العلاقة الناشئة هي محل الخلاف الأساس بين الإسلاميين والعلمانيين، ولا شيء غيرها من نوع ما يذهب إليه كثيرون مثل د. النور حمد بفكرته الخاطئة أن العلمانية ترفض التدين، بينما لا تكترث العلمانية إلا للدين في الدولة مدرجةً نصوصه ومترجمةً كقرارات سياسية وقانونية وقضائية وإدارية.

وأرى أنه ما أن يتم إدراج نصوص الإسلام في الدولة ذات السياسة والمقاصد والرغبات البشرية، إدراجها بشأن التعامل السياسي مع قضايا حياتية تجريبية تهم كل شخص في الدولة، حتى تفقد هذه النصوص وهي نصوص القرآن والحديث والفقه الإسلامي قدسيتها، تفقد النصوص قدسيتها المفترضة مباشرة، ومن ثم يصبح مشروعا إخضاعها للانتقاد والتفكيك والتحليل من منطلق العقل والحجة والبينة المادية المتاحة، لا من حيث إنها نصوص منزلة من الإله وإن تلك هي رغبته كما هي مكتوبة في النصوص، ولا تفيد في الخروج من هذه المغالطة الثيولوجية محاجةٌ تأتي من منطلق قدسية النصوص، مثل المحاجة بأنه توجد تفسيرات حياتية للنصوص المقدسة على أساس الاجتهاد والمصلحة، أو هي المحاجة تأتي من منطلق الادعاء بأن على المسلم واجبا هو قبول إدراج الدين في الدولة (وهي قراءتي لمفهوم د. عبد الله النعيم)، بالمعنى الواضح للكلمات أن الإدراج يعني القوانين والأحكام القضائية والممارسات البيروقراطية جميعها بواسطة الحكومة.   

حاء،

وكما أسلفت في مقال آخر، لا يأت المسلم إلى الدولة العلمانية بدون إسلامه، أي لا يأتِها بدون هذا المُكوِّن في هويته كمسلم. والدولة العلمانية المرغوبة عندي نقيض "الدولة الإسلامية" الحاضرةِ صحيحةِ تطبيق الشريعة أو هي كانت في أي شكل آخر للدولة احتيالي.

ولا تريد الدولة العلمانية من إسلام هذا المسلم إلا الأخلاق الحميدة مثل الصدق والأمانة والعدالة كالإنصاف مما يدعي هذا المسلم أنها أخلاق متحدرة من دينه الإسلام. وليس الدين الإسلام المصدرَ الوحيد للأخلاق الحميدة، حتى في وجودية هذا المسلم صاحب الادعاء. لكنا لا نغالط هذا المسلم حول مصدر أخلاقيته بشأن هذه الفضائل التي تتفق عليها حتى كثير الحيوانات.

(4)

منع المفظعات قبل حل الصراعات القبلية وقبل مواجهة الأسباب الجذرية

فأعود إلى النقطة التي كانت أثارت الالتفاتة مني إلى مفاهيم المسلم والإسلام والإسلامية. فمنعُ المفظعات الجماعية يظل عملا شبابيا لتصميم حلول عقلانية ومعقولة لمشكلة حياتية هي موضوع البرمجة، مشكلة "المفظعات" المراد منعها.

والبرمجة عمل فكري علماني خلاق مفتوح لتصور كافة أنواع النشاط لحل المشكلة قيد النظر، بما فيها النشاط الديني إن كان هذا النشاط الديني يحقق أهداف المشروع. وخذ للتمثيل اعتماد الشباب تنفيذ نشاط مقرر في المشروع يصوم فيه شباب من الحمر والكبابيش ويصلون سويا في معسكر للتفاكر حول مشكلة المفظعات أو النزاع العرقي خلال ذلك شهر رمضان. ولا أرى في مثل هذا مكون النشاط الديني ما يناقض البرمجة كأدائية فكرية علمانية في الأساس.

...

الافتراض الأساس إذن هو تقديم منع المفظعات، مع التركيز على هذا المنع حصرا ومنفصلا عن تدخلات يمكن أن تأتي لاحقا للتعامل مع أشكال النزاع القبيلي ذي الأسباب الجذرية، ذاتها المفضية إلى المفظعات قيد النظر.

وهذا الافتراض مشدود إلى لزوم إنهاء عنف المفظعات من حيث هو عنف يجب أن يتوقف بصورة ملحة وألا يحدث مجددا. وكذا الافتراض أن منع المفظعات سيفضي إلى خلق ظروف موضوعية للتفكير في النزاعات وأسبابها العميقة، وإلى ابتدار حلول شبابية لاحقة كأفعال مقاومة لإنهاء هذه الصراعات القبيلية وأسبابها، وهي مقاومة تصب في المقاومة الشبابية العامة لتغيير السودان.

...

ثالثا،

وقائع النزاع العرقي مجددا وأسباب فشل الشباب في منع مفظعاتها

(1)

المفظعات الأخيرة كشفت أزمة الشباب وفشلهم

يمكن أن نلخص المفظعات الجماعية، مثل مذبحة أم بادر في دار الكبابيش، في أنها تعبِّر أيضا عن أزمة الشباب في القبيلتين، وعن فشل هؤلاء الشباب في منع الأحداث من أن تتلاحق لتدخل منطقة الوحشية من نوع التعذيب والتقتيل والذبح وحرق الأجساد والتمثيل بالجثث والإنكار، فالإنكار كذلك مفظعة جماعية تقتل الحقيقة، وقد أنكرت قبيلة الكبابيش حدوث مذبحة أم بادر، بعدم الإشارة إليها في بياناتها. وتمددت عدوى الإنكار إلى بيانات "أبناء الحمر" الذين شوهوا حقيقة الوقائع وصوروا قبيلة الحمر كالقبيلة البريئة المظلومة، ومن ثم فهي قبيلة الحمر متشددة في قبول الصلح لا تقبله قبل التحقيق في مذبحة أم بادر وتقديم الجناة إلى العدالة.

...

فلننظر في الوقائع والأحداث المتاحة لنتعرف على مواقع الفرص المهدرة من قبل الشباب في القبيلتين للتدخل لمنع المفظعات التي وقعت أمامهم وهم الشباب يتفرجون أو كانوا ينتجون خطاب الإنكار والتدليس، أو هم كذلك كانوا يشاركون في عمليات التقتيل ويحرضون عليها، أو هم كانوا يرفضون المفظعات والعنف لكنهم اكتفوا بمجرد إعلان موقف.   

(2)

حدث سرقة الجمال ومحمولاته العرفية لم يكن بداية النزاع

ألف،

إذا كانت هنالك من بداية للدورة الحالية للنزاع بين الحمر والكبابيش، فهذه البداية لم تكن ذلك حادث سرقة الجمال يوم الجمعة 31 مارس 2017. بل كانت البداية في حدث الرد على فِعل السرقة، وهو الرد في يوم السبت 1 أبريل حين استخدم أصحاب الجمال المسروقة المنسوبون إلى قبيلة الحَمَر العنفَ المسلح ذا الفظاعة عند ملاحقتهم "اللصوص" الكبابيش.

باء،

فمثل هذه السرقة للجمال معروفة كممارسة قديمة متكررة، وكان يستعان عليها في الماضي القريب بالفَزَع فوق ظهور الجمال وبالسلاح الأبيض واستصحاب الشكوى لقيادة القبيلة وللحكومة أيضا، لا بالملاحقة بواسطة العربات السريعة والمقاتلين المدججين بالسلاح والمُوجَّهين بالأوامر عبر الهواتف النقالة والمعبئين بعقيدة قطيع الذئاب وبالتخطيط لتقتيل فريستهم بوحشية غاضبة.

(3)

عدم القدرة على التفكير لدى القبيليين الحمر الذين قتلوا اللصوص الكبابيش

ألف،

فلقد قرر الحَمَريون أصحاب الجمال التي سرقها لصوص كبابيش "عدم التفكير"، وعدم التفكير مفهوم مقتبس من لغة فلسفة حانا آرندت في كتابتها عن محاكمة النازي آيخمان في إسرائيل حين وصفت آرندت إسهام آيخمان في تنفيذ الإبادة الجماعية ضد اليهود بأن ذلك الإسهام في المحرقة يبين لنا "تفاهة الشر"، أن هذا الرويبضة الصغير، آيخمان، يمكن أن يكون فعل ما فعل، فقط للحفاظ على وظيفته وفق الأعراف والتوقعات في صفوف النازيين أعضاء الحزب الممكنين، دون أن يكلف هذا الآيخمان نفسه بمجرد "التفكير" في أفعاله.  

إن الحالة الكردفانية مختلفة بصورة جذرية عن محرقة اليهود، ولا علاقة وقائعية بينهما البتة، إلا بعلة المفهوم الفلسفي المستحدث الذي يعني عدم قدرة الجناة المخطِّطين والمنفذين للمفظعات على التفكير في نتيجة أفعالهم الروتينية الصغيرة والكبيرة وأثرها على الضحايا، وينضاف إليهم المثقفون المزيِّنون للباطل.

باء،

و"عدم القدرة على التفكير" هو الخاصية التي اتسم بها أولئك الأشخاص الحمريون حين رفضوا التعقل أو وضع مصلحة أطفالهم في المقام الأول، وقرروا صرف أنظارهم عن وسائل سلمية كانت متاحة لهم دائما، مثل الشكوى العرفية، والشكوى القانونية، ومحاولة الانتظار ومن بعد هدوء المشاعر مضاحكة النهابين الكبابيش ليعيدوا الجمال المسروقة أو ليدفعوا تعويضا عنها، أو حتى ترك حركة الإهانة الكباشية تمر، في تلك هذه المرة.

جيم،

لكن الحمريين أصحاب الجمال اعتمدوا طريق العنفَ، مباشرة، وذهبوا في الفزع مستخدمين عربات فوقها أهلهم القبيليون المسلحون والمعبؤون عرقيا لتقتيل هؤلاء "الكبابيش السَّرَقة"، لا السَّرَقة الذين حدث أنهم من قبيلة الكبابيش، وقد كان البعد العرقي العنصري حاضرا.

(4)

المذبحة الصغيرة وعدم مصداقية الرواية الحمرية

ألف،

وقد حدث. حيث لحق الحَمَريون باللصوص الكبابيش الثلاثة (أو هما كانا اثنين)، فقتَّلوهم تقتيلا (أو قتلوا اثنين من الثلاثة)، دون التفكير فيما كان سيحيق بأطفال السَّرَقة وأزواجهم وأسرهم، أو التفكير فيما كان سيحيق بهم الحمريين ذاتهم أصحاب الفزع الحداثي، من حيث احتمالية رد فعل كباشي مضاد، ومن حيث الآثار النفسية التي قد تترتب على القاتل نفسه أصبح آلة عديمة الرحمة لا تفكر.

باء،

لا مصداقية لرواية هؤلاء الحَمَريين، وكانوا كثرا، روايتهم عبر مثقفيهم ضباط العلاقات العامة، أنهم كانوا بذلك التقتيل "يدافعون عن أنفسهم"، بحجة أن اللصوص الكبابيش رفضوا إعادة الجمال المسروقة.

وقد جاء في رواية كباشية من موقع السائحين قد تكون صحيحة أن اللصوص الكبابيش كانوا أصلا باعوا الجمال المسروقة في سوق الجمال في دار حمر، وحين تم اللحاق بهم كان معهم المال فقط لا الجمال ذاتها، مما يلقي بظلال الشك على البيان الحمري أن اللصوص كانوا رفضوا تسليم الجمال وأطلقوا النار على أصحاب الفزع، فقد جاء في بيان "أبناء الحمر":

"وعندما لحق الفَزَع بالحرامية وأمامهم الإبل المنهوبة رفض الحرامية الاستسلام وتسليم أنفسهم والإبل؛ بل لجأوا إلى استخدام السلاح ضد أهل الفَزَع الذين ما كان أمامهم غير الدفاع عن أنفسهم و عن مالهم ضد حملة سلاح فتاك ...".

...

وهذه رواية واضحة فيها الحبكة القانونية المضبوطة من قبل المثقفين ضباط العلاقات العامة. وفي تاريخ المذابح السودانية مثل هذا الكذب كثير. منه ما كان في بيان أبناء الرزيقات لتوضيح الحقائق، عن مذبحة الضعين.

جيم،

فأرجِّح أن عملية تقتيل الحمر "اللصوص" الكبابيش كانت "مذبحة"، من حيث بشاعة التقتيل. وكله يظل مفتوحا للتحقيق الشبابي المشترك، ونعرف أن الحقيقة لن تأتينا من لجنة التحري والتحقيق الحكومية، والكذب سياسة رسمية عند الإسلاميين.

...

هكذا ظل العنف الوحشي لغةً قبيليةً حاضرةً في قبيلة الحمر كما الحال هو ذاته في قبيلة الكبابيش، وفق فهم حاكوراتي ضيق لمفهوم "القبيلة"، فهنالك من أفراد القبيلة خارج الحدود الإدارية أو داخلها من يخالف الأعراف المنشأة حول عقيدة العنف. وتم تثبيت هذا العنف كعرف من الأعراف الثقافية السارية والمتوقعة من الرجل القبيلي، بصورة عامة غير كاملة ولا شاملة، أن يكون هذا الرجل القبيلي عنيفا مبالغا في العنف ضد الآخر، دائما باسم القبيلة. وكانت القبيلة تدفع الدية عن القتلة بصرف النظر عن السبب، أو الطريقة التي بها قتلوا ضحاياهم. ولن يزدري كثيرون من الحمر أو الكبابيش أفراد قبيلتهم الذين شاركوا في أحداث العنف والمفظعات، بل سيعبرون عن ترحيبهم بالأفعال البطولية لحماية "القبيلة".  هذه التناقضات داخل القبيلة تشكل مدخلا يمكن النفاذ منه إلى منع المفظعات، بتغيير الأعراف السائدة حول العنف إلى أعراف تعتمد السلام حتى في سياق النزاع أو العدوان من الآخر.  

(5)

السؤال عن رد الفعل الحمري بمذبحة على سرقة بضعة جمال  

ألف،

فالسؤال هنا أمام المثقفين من الشباب الحَمَريين والكباشيين، والمشكلة مشتركة، هو: ما الذي كان يمكن لهؤلاء الشباب الحاضرين من القبيلتين فعله مسبقا للحيلولة دون استخدام الحَمَر العنفَ لاسترداد جمالهم التي كان اللصوص الكبابيش سرقوها خلسة لا في مواجهة حرابية بالرجالة؟

باء،

هذا هو جوهر مسألة "منع المفظعات": أن تكون هنالك "جاهزيةٌ" شبابية للتدخل السلمي بمجرد التعرف على خبر "سرقة الجمال" وقبل "الفَزَع". وأن يكون في المعرفة الشبابية كيفية برمجة مبادرات ممكنة ومحتملة ومستمرة لمنع حدوث مثل مفظعة الفَزَع وراء اللصوص سارقي الجمال، وكانت هذه المفظعة "الحدث الثقافي" الذي تم في إطاره تقتيل اللصوص الكبابيش، وهو التقتيل الذي كان معروفا للطرفين أنه سيقود بالضرورة إلى ردود فعل قبيلية أكثر بشاعة.

فلأنه لم تكن هنالك آليةٌ أو مبادئ معتمدة لدى الشباب في قبيلة الحَمَر لمنع اللجوء إلى العنف والمفظعات عند ملاقاة المشكلة المتواترة، سرقة جمال، وقع ذلك التقتيل الحمري للصوص الكبابيش المتوقع أن يعقبه رد الفعل الأفظع من قبل الطرف الآخر، الكبابيش.

(6)

العملية الكباشية الإجرامية في سوق المقيرنات الأحد 2 أبريل

ألف،

وفعلا، ما أن عرفت مجموعة قبيلية من الكبابيش بالمصير البشع لإخوتهم الثلاثة (أو هما كانا اثنين) الذين لم يكونوا فعلوا أكثر من سرقة جمال بالغفلة، وخلسة دون مواجهة أو فعل "رجالة"، (ثم باعوا الجمال بالاحتيال في السوق)، حتى اتفق أعضاء هذه المجموعة الكباشية المسلحة على عدم اللجوء إلى الحلول السلمية المتاحة لهم نظريا، ومنها الهدوء والتفكير والتدبر والشكوى لاسترداد حقوقهم في الدماء المهدرة.

وفي يوم الأحد 2 أبريل امتطى أفراد المجموعة الكباشية عرباتهم ذات الدفع الرباعي، واستخدموا خدعة الزي العسكري مما لابد كان وفرته لهم حكومة الإنقاذ لغرض إجرامي آخر، واقتحموا أراضي الحَمَر، وأطلقوا نيران بنادقهم ومدافعهم عشوائيا على المدنيين في سوق المقيرنات، وفي الطريق إلى السوق، ونزعوا الحياة انتزاعا من سبعة أشخاص "حمر" لا علاقة لهم بموضوع قتل "اللصوص" الكبابيش الثلاثة.

وجاء في رواية أخرى عن ذات الحدث أعلاه أن مجموعة من الكبابيش شنت هجوما على عربة كانت تقل مواطنين في طريقها إلى سوق المقينص غرب الخوى، وأن ذلك أدى إلى مقتل أربعة من الحمر. وأن مجموعة كباشية ثانية شنت هجوما قرب فوجا أدى لمقتل ثلاثة من الحمر.

باء،

كانت عملية التقتيل البشعة في سوق المقيرنات (أو في العربة بالقرب من الخوي، أو بالقرب من فوجا) تعبيرا كباشيا عن الرغبة في الانتقام لقتل الحمر ثلاثة كبابيش أو اثنين، وكانت المجموعة الكباشية أعملت ذلك التقتيل العشوائي في أشخاص كانوا في المكان الخطأ والزمان الخطأ، قتلتهم فقط بعلة معرفة المجموعة الكباشية أن لهؤلاء الأشخاص الذين استهدفتهم بالتقتيل "علاقة قبيلية" بالأشخاص الحمَر الذين كانوا قتَّلوا اللصوص الكبابيش.

وكان بين القتلى سيدة حمرية لها اسم وتاريخ وقصة حياة وحِكمة، وهي التي أشار إليها بيان الحمر المتهافت يريد استغلال حالتها في الحرب الدعائية بأنها "امرأة عجوز".

(7)

السؤال عن الاعتداء الكباشي على سوق المقيرنات

ألف،

كذلك نجد بين أيدينا ذات السؤال، هذه المرة بالدرجة الأولى أمام الشباب المثقفين الكبابيش الحاضرين في المنطقة أو حتى الذين كانوا بعيدين منها:

ما الذي كان بإمكان هؤلاء الشباب الكبابيش عمله، كمثقفين في البادية أو في مكان آخر متابعين، لمنع سبقي ضد مثل ذلك رد الفعل الكباشي المتهوِّر والإجرامي، لكنه كان رد الفعل المتوقع والمتسق مع الثقافة العرفية السائدة في القبيلة، ثقافة العنف المغذاة بنظام الإنقاذ موفر الزي العسكري ولابد بعض الأسلحة للمجندين من القبيلة في واحدة من مليشيات الإنقاذ، وكان ذلك الهجوم الكباشي رد الفعل المستدعَى بمشاعر الانتقام ذات المشروعية النفسانية، وهي نفسانية ولَّدتها ثقافةُ العنف في القبيلة وفي السودان بصورة عامة.

باء،

فلا يكون منع مثل هذه المفظِعة الكباشية إلا على أساس فهم الأعراف القبيلية الغالبة والتوقعات المجتمعية ونفسانيات الأشخاص أعضاء الجماعة القبيلية الإجرامية التي نفذت العدوان على المواطنين الحمر في سوق المقيرنات.

فالتحديات الفكرية والمعرفية أمام المثقفين الشباب للتعامل مع هذه الأعراف القبيلية كبيرة، لكنها ليست مستحيلة، والأعراف القبيلية يمكن تغييرها، بالبرمجة القائمة على المعرفة والأخلاق.

 (8)

رد الفعل الحمري بفزع ما بعد الحداثة على عملية سوق المقيرنات

كان الكبابيش مهاجمو سوق المقيرنات كذلك على علم ثقافي أن فعلتهم يرجح أن تنتهي برد فعل أفظع من جانب قبيلة الحَمَر، كقبيلة تتمثل وجوديتها في كل من أفرادها القبيليين، وليس ضروريا أن تشارك القبيلة بأكملها في الفعل ليكون الفعل قبيليا.

وقد جاء الرد الحَمَري العنيف سراعا، بـ "فَزَع ما بعد الحداثة" بأدواته خمسمائة سيارة، أو هي مائة أو ثلاثمائة، فوقها مسلحون مبرمجة أدمغتهم المربوطة بالتوجيهات الصادرة من قبل القادة مستخدمي شبكة الاتصالات الحديثة. ولم يكن للحقيقة عن طبيعة الوقائع من مجال في تفكير هؤلاء أصحاب الفزع، فالحقيقة عن الوقائع ونواتجها في الأجساد وفي النفسانيات كانت عندهم "قبيلية"، فنسبيةٌ مشدودة إلى ما قرروه في سياق المحددات اللحظية للانتقام من الكبابيش وكفى.

وجاء في بعض الأخبار أن أولئك الحمر توغلوا في دار الكبابيش حتى منطقة أم بادر، وأنهم قتلوا 18 شخصا من الكبابيش.

(9)

السؤال عن الفزع الحمري الانتقامي

هنا أيضا يأتي ذات السؤال: أين كانت التدابير الشبابية لمنع حشد قبيلة الحَمَر هذا العدد الكبير من العربات وتجنيد القبيلة مئات الحمر المقاتلين بدون تفكير لردع الكبابيش الذين كانوا قتلوا سبعة أشخاصا فقط من الحمر، وكان بإمكان الشرطة والقبيليين الحَمَريين والكباشيين تحديد هويات هؤلاء القتلة أصحاب الزي العسكري الرسمي ومن ثم العمل التحقيقي الهادئ لملاحقتهم قانونيا؟

وليس مهما دائما القول إنه لا يوجد قانون في السودان، وذلك صحيح في ظل نظام الإنقاذ الإجرامي، لكن الضروري هو تثبيت الحقوق، وتجنب الضرر، حتى في سياق هذا السودان العنيف ذي الوحشية يحكمه الإسلاميون المتوحشون لا يحترمون القانون.

كذلك كان الحَمَريون أصحاب الفزع الحداثي بعرباتهم وهواتفهم الالكترونية على علم أن اجتياحهم أراضي الكبابيش بعشرات السيارات وتقتيلهم بعض المدنيين الكبابيش المسلحين أو العزل هنا وهناك لن يمر دون رد فعل كباشي. وربما لم يتفكروا في حساباتهم في أن رد الفعل الكباشي يمكن أن يكون متجاوزا كل الحدود، أو استثنائيا من حيث كيفيته وشناعته، دون حاجة الكبابيش إلى المضاهاة بمائة عربة أو يزيد أو بآلاف المدنيين المقاتلين المسلحين.

(10)

مذبحة أم بادر والتغيير الكيفي للدخول في الوحشية

ألف،

وقد كان: مذبحة أم بادر، المذبحة الكباشية التي ستظل مسجلة للتاريخ يوم الاثنين 3 أبريل. وفيها نفذت مجموعة صغيرة من الكبابيش تقتيل أكثر من ثلاثين حمريا من المعدنين في مناجم الذهب من غير المشاركين أصلا في الفَزَع الحمري أو في أعمال العنف، وقد كان العمال هاربين من الخطر في منطقة مناجم الذهب التي قيل إن بشاعات حدثت فيها من نوع دفن الكبابيش معدنين من قبيلة الحمر في الآبار، وكان هؤلاء العمال الثلاثون أو أكثر في طريقهم إلى النهود على متن عربتين، حين اعترضتهم المجموعة الكباشية المسلحة.

فاقتادتهم المجموعة إلى غابة بالقرب من أم بادر، ثم قتلتهم بتقنيات الذبح والحرق والتمثيل بالجثث ونهب الممتلكات وإطلاق الرصاص على الأجساد. ولابد فعلت المجموعة كل ذلك بعد أن كانت في البداية وأثناء التنفيذ أخضعت العمال الحمريين لامتهان الكرامة وللتعذيب.

باء،

وعنا أيضا لا توجد لغة أصلا لتوصيف عذاب ضحايا مذبحة أم بادر، أو أية مذبحة سودانية أخرى، فمن كثر مذابح السودان يمكن لنا أن نتحدث عن مذابح سودانية.  في كثير من الأحيان لا يريد السودانيين كغيرهم سماع القصة عن الكيفية التي تم بها تقتيل الضحايا ولا كيف أحس الضحايا في أجسادهم وأدمغتهم بأفعال التقتيل الصغيرة المستمرة إلى الأبد. وظل يتم الاكتفاء بالقول إن الناس "كتلوهم"، هكذا. مما يخفي الوقائع التقييمية الجوهرية من الرواية، وقائع الوحشية في تفاصيلها الدقيقة، بما فيها أن الجناة لا يقتلون ضحاياهم إلا وهم الجناة يتضاحكون ويشتُمون الضحية ويسبونها في طريقها إلى الفناء، ويستمتعون بالمشهد.

جيم،

أيضا هنا، أين كان التفكير الشبابي الكباشي المصحوب بالتدابير المتفكر فيها سبقا لمنع مثل مذبحة أم بادر من الوقوع، وهي مذبحة ما كانت ستقع لو كان ذلك التفكير الشبابي السبقي المصحوب بالتدبير قائما ومفعَّلا بالنجاعة الكافية.

(11)

الخروج من الأزمة ببرنامج شبابي مشترك لمنع المفظعات

فحوى هذه المقدمة السردية بأسئلتها عن الوقائع هي أنه يمكن للمثقفين الشباب في القبيلتين تصميم "برنامج مشترك" مخصص لمنع المفظعات في سياق أي نزاع بين القبيلتين، أو داخل القبيلة ذات التعددية العرقية، أو مع قبائل أو مجموعات أخرى.

ليس هذا البرنامج المقترح مقصودا به معالجة أي نزاع محدد، أو التعامل مع الأسباب ذات الجذور العميقة، بل هو برنامج محدد لـ "منع المفظعات"، من حيث إن العنف، كعنف، ليس ضروريا ولا حتميا حتى في سياق وجود هذه النزاعات القبيلية بأسبابها العميقة. فالذي نجده هو أن نزاعا قبليا عنيفا قد ينتهي، بينما تظل ذات المفظعات ثابتة تتكرر في نزاعات أخرى مختلفة ومتكثرة.

لكن البرمجة لمنع المفظعات ولمنع كافة أشكال العنف في شمال كردفان هي التي تمكن الشباب من الإناث والذكور وتعدُّهم لملاقاة لاحقة لابد آتية مع النزاعات القبلية والأسباب العميقة والتعامل معها في سياق للتغيير الاجتماعي. ويتم فهم هذه البرمجة الشبابية في كلياتها الآنية واللاحقة على أنها من أفعال المقاومة المشدودة إلى هذا التغيير.  

...

رابعا،

مكونات البرنامج الشبابي المقترح لمنع المفظعات

ألف،

فيما يلي أقدم الخطوط العريضة لبرنامج إطاري أقترحُه كمسودة يمكن للشباب تعديلها وامتلاكها، وهذا البرنامج المقترح  شبيه في بنيته ومكوناته الهيكلية ببرامج وخطط عمل قدمتُها عبر السنين لجهات مختلفة في السودان وخارجه بشأن موضوعات مختلفة يجمع بينها "الضرر" الذي له ضحايا ويظل يعاد إنتاجه فيهدد آخرين في مسارب خطره، ويجمع بين هذه البرامج أنها تَستدعِي تقديم خدمات "الحماية" و"الوقاية" و"العدالة" كتدخلات لحل المشكلة المحددة، وبدوره يستدعي تقديم هذه الخدمات الثلاثة التدخل بإجراء دراسات من نوع محدد عن "وضعية المشكلة" والجهود الموجودة أصلا للتعامل معها والفجوات والنواقص في الجهود المبذولة.

ويمكن النظر إلى كل برنامج للتدخل في وضعية المشكلة، بغية إيجاد حلول لها وتنفيذ الحلول المقررة، كـ "خطة عمل" ذات أهداف، واستراتيجيات، ونواتج متوقعة، وحزم نشاط، وتكلفة، وإطار زماني، بالإضافة إلى كيفية التنفيذ والمتابعة والتقييم. وأحيانا يتطابق مفهوم "خطة العمل" مع فكرة "المشروع"، وكذا مع فكرة "البرنامج"، حسب مستوى النظر وموقع البرمجة. 

باء،

لقد قدمتُ مثل هذي خطط العمل والبرامج والمشروعات في سياق ورش عمل وعلى أساس استشارات واسعة النطاق للتعامل مع مشكلات مختلفة في أماكن متعددة، منها: خطة العمل لمحلية أمبدة بأم درمان، ولمحلية جبل أولياء، بشأن حماية الأطفال من العنف والاستغلال والتمييز والإيذاء والإهمال (2006-2007)؛ خطة العمل للحكومة اليمنية لحل مشكلة الأطفال اليمنيين والأفريقيين المتحركين في المنطقة العبر حدودية بين اليمن والمملكة العربية السعودية (2010)؛ خطة العمل لحكومة محافظة مكة بالمملكة العربية السعودية لحل مشكلة العنف الأسري (2006)؛ خطة العمل للحكومة السعودية لحل مشكلة الإتجار بالأطفال في المملكة (كالمشرف العلمي للندوة العالمية عن الموضوع بجامعة نايف للعلوم الأمنية 2005 - 2006)؛ خطة العمل الشبابية للمجموعة السودانية للديمقراطية أولا بشأن مقاومة الفساد في المجتمعات المحلية في السودان (2015)؛ خطة العمل بشأن استغلال أطفال الهجن من السودان وباكستان وموريتانيا وبنغلاديش (وزارة الداخلية في الإمارات، 2005)؛ خطة العمل للبحث العلمي بشأن دور الأوضاع اللغوية في تنفيذ خطة التنمية الأثيوبية (جامعة أديس أبابا 2012)؛ خطة العمل لتحرير الأرقاء في شمال السودان (الحركة الشعبية لتحرير السودان، رومبيك 2001)؛ خطة العمل لتسريح الأطفال المجندين في النزاع المسلح وإعادتهم إلى مجتمعاتهم المحلية (جنوب السودان 2001، بوروندي 2003، اليمن 2010)؛ ومكونات خطة عمل لمكافحة الإتجار بالبشر في السودان لمساعدة المجلس الأعلى للطفولة، عبر الدكتور سيف علي موسى وجهاز الأمن السوداني، ولم يكن في مسودة ورقتي قوات حميدتي لمحاربة الاتجار بالبشر (2014).

جيم،

فالنقطة هنا هي أنه يوجد أساس منهجي قوي يمكن للشباب في كردفان البناء عليه لتركيب خطة عمل شاملة لمنع المفظعات، وتركيب خطط عمل لبرامج ومشروعات أخرى مستقبلا للتعامل مع مشكلات الصراع القبيلي ومع الأسباب العميقة.

فتشمل كل خطة عمل بشأن وضعية تتعلق بالضرر ستة تدخلات مُركَّبة في داخل كل منها عدة مكونات أصغر:

(1) دراسة وضعيات الضرر، هنا وضعيات "المفظعات وأشكال العنف"، في سياقاتها المختلفة؛

(2) السياسة المقررة وجوهرها خطة العمل؛

(3) خدمات الحماية للضحايا؛

(4) خدمات الوقاية لمساعدة الأشخاص والأسر والمجتمعات في مسارب الخطر من الضرر؛

(5) خدمات العدالة من حيث القوانين والملاحقة للجناة والعدالة التصالحية وجبر الضرر بتعويض الضحايا، وتثقيف الجهات مقدمة خدمات العدالة والقانون؛

(6) البنيات الإنفاذية، لتنفيذ التدخلات الخمسة أعلاه ولإنشاء البنيات الضرورية ذاتها.

دال،

كانت اليونيسيف تتردد في اعتماد هذه البنية، ولغتها، رغم اتساقها النظري وبساطتها بالمقارنة مع فوضى الخطط المرسومة في نيويورك حيث رئاسة المنظمة، وقد بينتْ الدراسات اللاحقة والراهنة، بما في ذلك في مجال "منع المفظعات"، الصحة المفاهيمية لهذه البنية التي قدمتها وقوتها، بحيث يمكن إدراج جميع أنواع النشاط المتكثرة والمتراكمة بصورة مستمرة في الأوعية التكوينية الستة أعلاه بصورة تكاد تكون حصرية، مع السماح بالتداخل المفاهيمي والعملي بين جميع المكونات عبر مكون مركزي هو "البرمجة" كالفعل الفيكري التوليفي لابتداع الحلول الضرورية للتعامل مع المشكلة قيد النظر.

وتنطوي عملية البرمجة على إعمال النظريات وضروب المعرفة متعددة التخصصات ذات القابلية للترجمة لحل المشكلات، بالإضافة إلى تقنيات البرمجة ذاتها (تصميم المشروعات) والكفاءات المركزية المتوافرة لدى المبرمِج. ونتاجُ كل برمجةٍ "ورقةٌ مكتوبة"، أحيانا في أكثر من مائة صفحة، فيها خطة العمل التفصيلية للتعامل مع المشكلة، وهي ورقة تظل مسودة دائمة فقابلة للتعديل خلال مسار التنفيذ حتى آخر لحظة من نهاية المشروع.

جيم،

يأتي تنفيذ التدخلات الستة في كل مشروع أو برنامج أو هو خطة العمل كاستجابة للاستحقاقات التي تفرضها فرضا، على المستوى الحقوقي الأخلاقي، وضعياتُ الضررِ من نوع المفظعات الجماعية والعنف بسبب الصراع القبلي، وهي استحقاقات الحماية والوقاية والعدالة.

وتُعين عملية البرمجة، وهي عمل عقلي في الدماغ بامتداداته يدور في سياق المساومة والمفاوضة مع عدد كبير من المستفيدين من المشروع، على أن يكون تنفيذ التدخلات الستة أعلاه ذا حساسية للسياق بمكوناته المتداخلة ذات التعددية أيضا. وأن ترتكز جميع التدخلات على منظومة أطر معيارية وقانونية وأعراف ومعارف محلية وقُطرية وعالمية. وكله يظل مشدودا إلى نواتج محددة يفيد منها الضحايا والشباب ذاتهم وآخرون في المجتمع المحلي، وستكون هنالك نواتج سلبية أو إيجابية أحيانا للجناة ومحرضيهم وداعميهم، فالأمر متعلق بالتغيير لمنع المفظعات..

دال،

وفيما يلي خطوط عريضة للشكل الذي يمكن أن يكون عليه كل برنامج شبابي مشترك بين شباب الحمر والكبابيش لمنع المفظعات الجماعية في شمال وغرب كردفان، بشأن المكونات الستة لهذا البرنامج وداخل كل منها مكونات أصغر فأصغر. والفكرة هي أن يكون العمل منتظما وشاملا بصورة كافية. وكما أسلفت، يتعين أن تكون جميع أنواع النشاط المقررة من قبل الشباب مستشعِرة بصورة انتقادية لمكونات السياق، وللمعايير والأعراف السائدة، وكذا أن تكون مشدودة إلى نواتج ذات قيمة للضحايا وللمجتمعات المحلية وللشباب أنفسهم.

(1)

تنفيذ دراسات عن وضعيات المفظعات في شمال وغرب كردفان

ألف،

أقصد هنا إجراء دراسات مستمرة في الجامعات الولائية بالدرجة الأولى، وكذا في مراكز معرفية يمكن للشباب إقامتها وتطويرها بالتحالف والتعاون مع أساتذة جامعيين متخصصين وقانونيين وخريجين من الجامعات وناشطين في مجالات مختلفة.

إن موضوع هذه الدراسات ووحدات التحليل الأساس فيها هي "وضعيات المفظعات الجماعية وأشكال العنف" في شمال وغرب كردفان. ومن أهم أجندة هذه الدراسات تحديد "الفجوات" في المعرفة الراهنة بالمشكلة وفي القدرات للتعامل معها، ومن ثم إجراء دراسات لسد هذه الفجوات في المعرفة. فهذه الدراسات ليست دراسات عامة، بل هي لهداية التدخلات الخمسة الأخرى المتوقع برمجتها، أي تصميمها كحلول متضافرة، في إطار البرنامج لمنع المفظعات الجماعية: السياسة، الحماية، الوقاية، العدالة، البنيات الإنفاذية.

فيمكن أن نتصور أن الدراسات عن الوضعيات تستهدف ستة موضوعات، هي الظاهرة ذاتها من حيث أنواعها وأشكالها وأسبابها القريبة والعميقة في سياقاتها المترادمة، بالإضافة إلى الموضوعات الخمسة الأخرى ذاتها التي ستكون محل التدخل بالبرنامج الشامل لمنع المفظعات. فلا يمكن البرمجة لمكون تدخل "الحماية" إلا على أساس دراسة ما هو موجود أصلا في مجال "الحماية"، قبل البرنامج، لتحديد "الفجوات" فيه.

باء،

كذلك تتمحور الدراسات في موضوعها، وهو المُفظعات الجماعية والعنف، لا في موضوع النزاعات العرقية أو في الأسباب العميقة (التوريث، ملكية الموارد، الديمقراطية، ...)، فهاتان المشكلتان الأخيرتان، وبالرغم من تداخلهما مع المفظعات، لهما دراساتهما المختلفة التي قد تتعامل مع العنف كأمر لاحق ناتج ينتهي بمجرد إزالة أسبابه في النزاع أو في الأسباب العميقة.

ومع ذلك، فالنزاع العرقي وأسبابه العميقة تظل جزءا من الدراسات لمنع المفظعات، لأنها مكوِّن في "السياق"، وبدون فهم محركات النزاع العرقي وأسبابه العميقة لا يمكن فهم طبيعة المفظعات ذاتها ولا برمجة حلول لها. ويمكن التفكير، على مستوى البرمجة الطوارئية، في تكييف "المفظعات والعنف" كوجودية أصيلة في ذاتها، مستقلةً عن النزاع القبلي وأسبابه، مؤقتا.

جيم،

تشمل الدراسات عن وضعيات المفظعات والعنف، وكما أسلفت، التعرف على "الفجوات" في "الدراسات" الراهنة المتاحة قبل البرنامج، والفجوات في كل من "السياسة" و"الحماية" و"الوقاية" و"العدالة"، بما في ذلك الفجوات في "البنيات التنفيذية" في القبيلة والحكومة المحلية ولدى الشباب أنفسهم للاضطلاع بالتدخل لمنع المفظعات.

خذ مجال "العدالة"، وفيه دراسة أوضاع التدابير العدلية الراهنة للتعامل مع مشكلة المفظعات، العدلية بمعنى القبيلية العُرفية والحكومية القانونية وكذا التصالحية بمفهومها العالمي الحديث، للتعامل مع المفظعات والعنف في شمال وغرب كردفان. وهذه الدراسة الأولية للتدخلات العدلية لكنها التي ستظل مستمرة وتعددية هي التي ستظل تهدي التدخل الشبابي المشترك في هذا مجال "العدالة".

وتشمل الدراسات أيضا التدخلات الحكومية والمجتمعية الراهنة لتقديم خدمات "الحماية" لضحايا المفظعات، والتدخلات أيضا لتقديم خدمات "الوقاية" لدرء الخطر عن كالضحايا المحتملين في مسارب خطر المفظعات المحتمل وقوعها وهي قد تكون تدور على أخرين (الضحايا).

دال،

وتعتمد مثل هذه الدراسات نظرة نقدية للتدخلات الراهنة الواضح أنها ليست ناجحة في منع المفظعات الجماعية والعنف، ومن ثم التفكير في تحديد "الفجوات". ولا يعني النقد أو الانتقاد التركيز حصرا على السلبيات، إذ لا بد ستشمل التدخلات الراهنة بعض إيجابيات، مثل حماية الحكومة المعدِّنين الحمر في أم بادر، رغم أنها كانت حماية ناقصة وانطوت على دعم ذات التطهير العرقي لكنه كان تطهيرا عرقيا مخلصا من العنف، بتسهيل الحكومة الترحيل الآمن للمعدنين إلى مناطقهم القبيلية.

وكان الصحيح هو تغيير الأوضاع في دار الكبابيش بحيث لا يضطر المعدنون الحمر إلى الرحيل بسبب التطهير العرقي عنيفا أكان أم سلميا. فعدم القدرة على التفكير عند إسلاميي الإنقاذ هي التي جعلت والي شمال كردفان يهنئ نفسه أنه سهل للأشخاص من قبيلة الحمر مغادرة أراضي الكبابيش "بسلام"!

هاء،

ولأن الدراسات مشدودة إلى أغراضها في متطلبات البرنامج الشبابي لمنع المفظعات، فهي لن تكون من نوع الدراسة العامة لوضعيات ظاهرة المفظعات في سياقها، بل ستكون الدراسات محددة بأجندة البرنامج الشبابي المشترك لمنع المفظعات وفيه تدخلات معروفة تستدعي الهداية من الدراسات. لأن الغرض المحدد من الدراسات هو خدمة هذا البرنامج الشبابي المشترك، تحديدا، والمعروفة مكوناته الكبرى سلفا.

وإذا كانت الدراسات عن "المفظعات والعنف في المجتمع القبيلي" من نوع الدراسة التوصيفية العامة للظاهرة ذاتها، فهي لن تكون مجدية بصورة كافية لأغراض البرنامج الشبابي المعروف والمحدد سلفا أنه برنامج سيشتمل على التدخلات الخمسة الأخرى في البرنامج: السياسة، الحماية، الوقاية، العدالة، والبنيات الإنفاذية. فالدراسات من هذا النوع المستجيب لأجندة البرنامج هي كذلك في ذاتها تعتبر "تدخلا" مبرمجا موازيا لجميع التدخلات الأخرى في البرنامج.

وأرى أنه خطأ مفاهيمي فاحش في مثل هذه الدراسات أنه يتم تصورها وتصميمها كدراسات عامة عن الظاهرة قيد النظر وكأنها المقدمة زمانيا لتنفيذ المشروع، بينما يتعين أن تكون دراسة الظاهرة لا تتجاوز سدس حكم الدراسة، لأن مكونات البرنامج الشبابي ذات التدخلات الستة هي التي تحدد طبيعة الدراسة وبينتها ومحتواها.

ومن الخطأ أيضا التفكير الزماني الخطي أن تنفيذ الدراسة ينتهي سبقا قبل البدء في تنفيذ تدخلات البرنامج. والصحيح هو أن تبدأ جميع التدخلات متزامنة ومتوازية بعد قليل من بدء الدراسات وقبل أن تكتمل، وأن تستمر الدراسات حتى نهاية البرنامج، ومن ثم يمكنها أن تخدم وظيفة التقييم المستمر.

 (2)

صياغة سياسة شبابية وخطة عمل مشتركة لمنع المفظعات الجماعية

ألف،

يتعين على الشباب صياغة ورقة عن السياسة الشبابية لمنع المفظعات والعنف، وذلك استجابة إلى ما ستكون أفصحت عنه الدراسات الأولية بشأن "الفجوات" في هذا المجال عن "السياسة"، فكثير التدخلات غير مستحدث للمرة الأولى، بل له سابقات محاولات شبابية للتدخل لحل هذه المشكلة، حتى إن لم تكن السياسة مكتوبة.

باء،

تنطوي السياسة الشبابية لمنع المفظعات على تبيين المقاصد الاستراتيجية لهذه السياسة (منع المفظعات)، وتعريف "المفظعات" في السياق المحلي وبلغة السياق المحلي غير الموجود فيها تعبير "المفظعات". وتشمل السياسة أيضا تحديد جميع الكيانات الفاعلة في منظومة العنف (الجناة، القادة، المخططون، الممولون، المحرضون، ...)، وتشكل تحديد الأشخاص المكلَّفين في الهيئة الشبابية المسؤولة عن تنفيذ هذه السياسة، وعن الإشراف على إعداد "خطة العمل القبيلية المشتركة"، مشتركة بمعنى أنه لا معنى لخطة عمل حمرية وأخرى كباشية، بل يتعين أن تكون الخطة من بدايتها مشتركة بين الشباب في القبيلتين، وربما مع آخرين من مجتمعات قبيلية أخرى ذات علاقة، ويتعين اعتماد خطة العمل في سياق تجمع شبابي لتكون هذه الخطة "الإطار" لجميع أنواع النشاط لمنع المفظعات الجماعية في شمال وغرب كردفان.

وستستدعي عملية كتابة السياسة الشبابية كتدخل قائم بذاته متداخلا مع المكونات الأخرى في البرنامج أن تقدم "الدراسات"، المستمرة، بعض المعلومات الطارئة التي لم يكن تم التفكر فيها من قبل.

باء،

يجب نشر خطة العمل الشبابية المشتركة على نطاق واسع بعدة وسائط إعلامية، بما في ذلك نشر مسوداتها المكتوبة والمسموعة المرئية في الأنترنيت، مباشرة حتى قبل اعتمادها، لغرض الحصول على تعليقات وإضافات أو تعديلات من أبناء الجاليات السودانية المهتمة في المهجر. وكما أسلفت، تظل خطة العمل مسودة دائمة، بمعنى أنها تظل مفتوحة للتعديل بالحذف والإضافة والتغيير حتى نهاية البرنامج، وهو برنامج بطبيعته لا ينتهي في أمد قريب ونظام الإنقاذ موجود.

جيم،

يمكن تقديم خطة العمل ليتم دعمها ماليا من منظمة اليونيسف في كردفان، بعلة أن المفظعات تؤثر بصورة مباشرة وغير مباشرة على الأطفال، ولأن لليونيسف برنامجا قائما على منع العنف ضد الأطفال، ولا يوجد الأطفال إلا في أسرهم ومجتمعاتهم المحلية. وليست اليونيسيف منظمة أجنبية، بل هي تعمل وفق برنامج مرن تنفذه مع الحكومة ومع هيئات المجتمع المدني، ولليونيسف استقلالية في اختيار الجهات التي تنفذ البرامج في حماية الأطفال لا تجدها في المنظمات الأممية الأخرى المحكومة بسيطرة الحكومة على القرار بشأن هوية الجهات المنفذة للبرامج.

(3)

تقديم خدمات الحماية والوقاية والعدالة للضحايا وللأشخاص في مسارب الخطر (ثلاثة مكونات)

ألف،

هذا هو جوهر البرنامج، تقديم خدمات "الحماية" و"الوقاية" و"العدالة" لضحايا المفظعات، وللأشخاص والأسر والمجتمعات الصغيرة في مسارب خطر هذه المفظعات، ويفيد من هذه التدخلات المركبة بواسطة الشباب بالتنسيق مع أساتذة القانون والعلوم الإنسانية والاجتماعية والمحامين المواطنون عامة في الرقعة الجغرافية في الولايتين محل التدخل. دائما في إطار قدرات الشباب وتخويلهم واختصاصهم المتمدد بما أسميه بـ "الشرعية الشبابية"، وفي ذلك يتداول الشباب مع أجهزة الدولة المحلية، ذاتها صنيعة الإنقاذ ومسخ سياسة التمكين، ومع القطاع الخاص والقطاع المدني، ولا يعني التداول إضفاء مشروعية لهذه الأجهزة، بل هو فعل براغماتي واع يظل مشدودا إلى المقاطعة الأخلاقية لنظام الإنقاذ، بحصر التداخل معها في مجالات ضيقة مما تستدعيه الحياة.

باء،

تعني "الحماية" اكتشافَ ضحايا المفظعات والعنف في المجتمعات القبيلية المحلية، ومن ثم تسهيل الشباب إحالة هؤلاء الضحايا إلى الخدمات المختلفة الموجودة أو التي يتم استحداثها، بما في ذلك خدمات الصحة النفسية. ويتجاوز عدد ضحايا المفظعات والعنف عدد أولئك الذين يحددهم القانون كأموات أو جرحى في المستشفيات، فهنالك الأطفال وأفراد أسر الضحايا والجرحى ممن لا يفكر فيهم القانونيون في لجنة التحري والتحقيق، وهنالك آخرون مثل المعدنين الذين تم إجلاؤهم من دار الكبابيش أو هم اضطروا إلى مغادرتها بسبب الخوف على حياتهم وقد فقدوا وظائفهم.

جيم،

ويمكن تطوير مفهوم "الحماية" الشبابية ليشمل حماية الاقتصاديات التي يضر بها النزاع العرقي، فهنالك تدمير المساكن والمتاجر وتسميم الآبار وموارد المياه بصورة عامة، وتدمير البيئة، وأحيانا تدمير المعالم الثقافية الأثرية والتاريخية وحرق الكتب والوثائق، وتزوير الحقيقة عن المفظعات. فأدرجها تحت مفهوم "المفظعات"، لتستدعي أنواع نشاط مبرمجة لحمايتها في سياق النزاعات العديدة المستمرة.

ولعل من أهم المفظعات في شياق النزاع العرقي "تزوير الحقيقة" بنشر الأخبار الفالصو، والتدليس الحكومي والقبيلي، ومنع نشر الحقيقة بعلة المحافظة على الحساسيات وعدم إثارة النعرات، بينما كله محض كذب وغش. فلن تتمكن المجتمعات القبيلية في كردفان من النهوض إلا على أساس وجودية الحقيقة المتحصل عليها بواسطة الفكر الحر المخلص من الخرافة والأوهام.

دال،

يندرج تحت خدمات منع المفظعات ما يمكن تلخيصه في تدخل "الوقاية"، مما يشمل نشر الوعي والتوعية بشأن الأبعاد الخفية لمشكلة المفظعات المعروفة أصلا في المجتمع القبيلي، مثل الوعي بطبيعة الوحشية في تقتيل الضحايا وحرقهم والتنكيل بالجثث، وعلاقة هذه الوحشية بنفسانيات الجناة، وبالآثار بعيدة المدى للمفظعات والعنف مما قد يغيب عن دائرة الفهم المباشر لعدد مقدر من المواطنين في المنطقة.

وتتعلق التوعية كنشاط من نشاطات تدخل الوقاية بالسعي إلى تغيير الأعراف القبيلية السائدة عن العنف والعرقية والعنصرية والذكورية، وذلك لرفع حالة الجهل العام في المجتمع إزاء هذه القضايا، عن طريق الإبداع والمدارسات والحوار. وفي كل ذلك تعقيدات، بالطبع.

وتشمل الوقاية برمجة تدخلات شبابية في مجال رصد أفعال العنف ومحركاتها، ومتابعتها والإبلاغ عنها لدى الشرطة والكيانات القبيلية ذات الاختصاص. وتشمل الوقاية أيضا تدخلات مبرمجة لمساعدة الأشخاص والفئات الأكثر قابلية للإيذاء بسبب المفظعات المحتمل وقوعها عليهم، مثل "الأغراب" و"الأجانب" والأرقاء، والأرقاء السابقين، والفقراء، والمعوقين في المجتمعات القبيلية.

وتشمل الوقاية المطالبة الشبابية من الهيئات الحكومية إدراج الهم بمنع المفظِعات، أي جعل هذا الهم أمرا قائما وموضوعا حاضرا بصورة مستمرة في جميع البرامج الحكومية المحلية، مثل الشرطة وجهاز الأمن والمجلس المحلي والمستشفى، والقضاء (الفاسد)، والتعليم، وفي القطاع الخاص مثل أصحاب العربات التي يمكن استخدامها في تنفيذ الحروب القبيلية، وشركات الاتصالات لمنع الجناة من استخدام الخدمات الهاتفية في أفعال قد تفضي إلى مفظعات، وفي القطاع المدني. وكلها قضايا في غاية التعقيد، خاصة في وجود نظام الإنقاذ والإسلاميين في الحكم، لكن حلولها الظرفية ممكنة وفق معطياتها وفي سياقاتها.

فما دامت النزاعات العرقية ذات الأسباب العميقة موجودة في القبيلتين، في سياق السودان العنيف، يتعين الإمساك المستمر بملف المفظعات.

هاء،

أما بشأن تدخل "العدالة"، فيقتصر الهم الشبابي على التأجيج والمطالبة بتشريعات محلية تذهب إلى منع المفظعات والعنف، والمناداة بتغيير الأعراف القبيلية المشجِّعة على إفلات الجناة من العقوبة، بما في ذلك في مجال العنف في المجال الأسري الخاص، والمطالبة أن تكون القوانين الواجب تطبيقها في مساحات القبيلتين في شمال وغرب كردفان قريبة من الأعراف السائدة حتى لا يتم رفضها أو خرقها، وهو مجال التشريع والقوانين وابتداع أعراف جديدة وتثبيتها، وتطبيق القانون بصورة كافية وفعالة، خاصة وقضائية السودان من أكثر قضائيات العالم ازدحاما بالقضاة الفاسدين.

واو،

وتشمل هموم "العدالة" لدى الشباب مقاومتهم ومطالبتهم المستمرة بتفكيك قدرات المدنيين المقاتلين على إنتاج المفظعات، المقاومة هنا أيضا برفض تسليح أفراد القبيلة، ورفض اندراج الشباب القبيليين في المليشيات الحكومية مثل قوات الدعم السريع، أو في حروب نظام الإنقاذ، أو في القوات النظامية بصورة عامة وقد أصبحت هذه القوات من أدوات النظام لقمع المواطنين وللعمل مرتزقة لدول الخليج في اليمن وللاتحاد الأوربي في الصحراء لتعذيب الفقراء المهاجرين. وكله يمكن بسهولة إدراجه تحت مظلة العدالة الانتقالية، في مكونها المتعلق بلزوم تفكيك البنيات المتسببة في المفظعات. خذ "فرسان الرزيقات"، جسد القبيلة المحارب الذي اقترف جرائم إبادية وجرائم ضد الإنسانية وأفعالا ذات بشاعات في مجال التطهير العرقي، فلابد من تفكيك مثل هذا الجسد القبيلي المحارب في أي شكل يأخذه في القبيلتين.

زاي،

ومن هموم مكون العدالة في البرنامج الشبابي المشترك المطالبةُ بتجريد الأشخاص من الأرصدة المنهوبة المتحصل عليها في سياق تنفيذ مفظعات، فقد اشتملت النزاعات القبيلية على عمليات نهب لأموال مواطنين وممتلكاتهم، أحيانا من الأسواق، وهنالك عمليات نهب موارد الذهب على مدى أعوام.

...

فيتجاوز مفهوم "العدالة" الفهم الضيق المحصور في "القانون"، خاصة حين نكيف هذه العدالة بأنها "العدالة الاجتماعية". وهو مفهوم سيوسع مفهوم المفظعات ليشمل قضايا الإفقار والإقصاء والتهميش والحرمان من الخدمات الأساس في العلاج والسكن والغذاء. فلا تعني "المفظعات" فقط أفعال ذبح ضحايا النزاع العرقي وحرقهم أو التمثيل بجثثهم، بل تمتد إلى حالات مثل سوء التغذية الذي يورث الأطفال دمارا في أدمغتهم قد يلازمهم مدى الحياة، إن كان لهم أن يعيشوا أصلا. والعلاقة مع النزاعات العرقية والأسباب العميقة لها يد في كل ذلك. وكذل ستمتد المفظعات إلى مجالات إضافية مثل إنكار حقيقة المفظعات ذاتها.

وحيث لا يمكن تنفيذ جميع الأنشطة المقترحة، يتعين على الشباب عقد مدارسات للتفكير الحر لضمان أن حزم النشاط المقررة، وفق الموارد البشرية والتنظيمية والمالية المتوفرة، كافية لتركيب برنامج متكامل لمنع "المفظِعات" وفق فهم للمفظعات يعتمد النقد والتأمل والإبداع.   

(4)

تركيب بنيات لتنفيذ خطة العمل الشبابية المشتركة لمنع المفظعات

ألف،

فأما وقد حددتُ أطر "الدراسات"، و"السياسة ذات خطة العمل"، والاستحقاقات في التدخلات لتقديم خدمات "الحماية" و"الوقاية" و"العدالة" موضوع البرمجة الشبابية، يأتي "التنفيذ" لكل ذلك بما يسمى "العمليات"، وهي ما يتم عمله لإنفاذ برنامج الشباب المشترك لمنع المفظعات والعنف في شمال وغرب كردفان.

وتتلخص العمليات فيما يمكن تسميته "البنيات التنفيذية الشبابية"، وهي وحدات ذات جاهزية للتعامل مع كل وضعيةِ مفظعةٍ طارئة أو في مرحلة الكمون، ولضمان تنفيذ الدراسات، وتنفيذ السياسة الشبابية وخطة العمل المشتركة، وتسهيل الحصول على الخدمات الثلاثة المذكورة أعلاه (الحماية والوقاية والعدالة).

باء،

فتشمل هذه البنيات التنفيذية بناء القدرات الشبابية والمجتمعية والتشبيك والتنسيق والبرمجة واستدرار الموارد المالية والعينية والميزنة والتقييم، والتفتيش (لمنع الفساد في البرنامج)، والجاهزية وتحديد مسارات التعامل مع الحكومة المحلية والقيادات القبيلية، فخطة العمل الشبابية لا تنجح دون تصميم هذه "البنيات التنفيذية"، وقد لا تعني بنية تنفيذية محددة أكثر من شابة مسؤولة عن اكتشاف ضحايا المفظعات غير المرئيين في دائرة منطقة جغرافية صغيرة محددة، أو تعني بنية تنفيذية أخرى مجموعة من عشرة شباب مكلفين بجمع التبرعات من التجار بالمدينة المحددة لخدمة البرنامج لمنع المفظعات.  

وفي ذلك كله تثقيف الشباب للاندراج في "السياسة"، بمعناها الأخلاقي المشدود إلى تغيير المجتمع عبر التركيز على مشكلات حياتية حقيقية ذات خطر وأثر.

جيم،

تستهدي "خطة العمل المشتركة" للبرنامج الشبابي بأطر معيارية معرفية وعرفية قبيلية وأخلاقية، بالإضافة إلى المعايير المعرفية التي تم تطويرها لمنع المفظعات الجماعية والعنف المجتمعي في العالم بصورة عامة.

وتستلهم التدخلات في خطة العمل المشتركة التاريخ الاجتماعي للمنطقة، وتتفاعل جدليا مع أثر السياقات الاجتماعية المتطابقة، ويدرك الشباب أن برنامجهم لمنع المفظعات سيخلق نواتج إيجابية للشباب أنفسهم وللمعرفة القبيلية المشتركة وللشباب في بقية أرجاء السودان، وأن البرنامج الشبابي في جوهره عمل من أعمال المقاومة لتغيير الأوضاع في شمال وغرب كردفان. وكله من المعرفة التي يمكن للشباب إنتاجها في سياق الممارسة.  

دال،

لابد من أن تكون جميع أنواع النشاط الشبابي علنية، مع رفض صريح معلن عنه لكل عمل سري، وأن يكون الشباب المشاركون معروفين بهوياتهم المفصح عنها، وإلا فلينصرفوا ولينزووا، فهذا عمل عام يستدعي الشفافية والعلنية والمحاسبية.

وكذا يتعين الرفض الصريح لأية أموال من نظام الإنقاذ الفاسد، وخاصة الأموال من جهاز الأمن بواجهاته الخبيثة في شركاته ومؤسساته المتعددة، ولزوم الاعتماد على الموارد المحلية والسودانية، وعلى منظمات الأمم المتحدة في السودان ذات العلاقة بمحتوى التدخلات المبرمجة لأن للسودانيين حقا رسميا في أموال الأمم المتحدة المستدرة أصلا باسم السودانيين لا باسم حكومية الحرامية، وكذا أرى أن يبتعد الشباب عن الجمعيات الطوعية السودانية التي تتلقى الدعم الأجنبي غير المفصح صراحة وكتابة في العلن عن مصادره وقدره وأجندته، وأن يرفض الشباب الدعم المالي من السفارات ومن دول الخليج.

فقد تغيرت خريطة تمويل المشروعات في مثل هذا المجال، منع المفظعات، وأصبحت أماكن التمويل مسكونة بالفساد والقِوادة لصالح أجندة جهات غير مفصح عن هويتها. وأصبح كل شيء في السودان وامتداداته خطيرا، ولا يعين الشبابَ أمرٌ مثلما تعينهم الأخلاقيةُ الفردية والجماعية والإدراك أن "الغافل من ظن الأشياء هي الأشياء".

فلقد دمر المثقفون الإسلاميون في نظام الإنقاذ الثقة العامة والعلاقات الإنسانية في السودان، بتجنيدهم آلاف الجواسيس وباختراقهم جميع التنظيمات والحركات الشبابية والأحزاب وغيرها من كيانات، وكذا بعدوانهم على الخصوصية الشخصية واقترافهم أكثر الأفعال انحطاطا، ليس لجمع المعلومات في ذاتها بغية الإفادة منها فيما يفيد السودانيين ويحميهم، بل لحماية صناعة الفساد ولتكريس التمكين.

هاء،

فإن تجرأ الشباب من القبيلتين على التفكير الفاعل في مقاربة تنفيذ مثل هذا البرنامج المقترح لمنع المفظعات، سيتعين عليهم أن يتوقعوا أن جهاز الأمن في نظام الإنقاذ سيعمل بكافة الوسائل الإجرامية لعرقلة تنفيذ مثل هذا البرنامج الشبابي المقترح، بما في ذلك بزرع المتصنعين المخرِّبين داخل البنيات التنفيذية لهؤلاء الشباب أصحاب البرنامج، وبشراء بعض الشباب الموتورين، وبالتجسس على الشباب الناشطين في البرنامج، وبتعبئة عملاء جهاز الأمن في "سلاح الكتابة" للعدوان على الشباب الجادين في تنفيذ البرنامج والذين يريدون تغيير الأوضاع الإجرامية في مجتمعاتهم المحلية.

وليتوقع الشباب أيضا أنهم سيكونون معرضين للاستدعاء في مكاتب جهاز الأمن، والابتزاز، والتهديد، وإغراء الرشوة. فمثل هذه الأفعال من الممارسات القارة في العقيدة السياسية التي يعتمدها النظام، عقيدة "الإسلامية" التي لا تعيش إلا بإعمال تقنيات العنف والقهر وإرهاب الدولة.

وبالرغم من ذلك، أرى أن محاولات جهاز الأمن عرقلة مثل هذا النشاط العلني ستكون مقدورا عليها، ما دام العمل الشبابي كله لمصلحة المجتمعات المحلية، وفي العلن، وكان تنفيذه يتم بالأخلاقية والمحاسبية.

ومن ثم يصبح الأمر محصورا فيما إذا كان الشباب سيقبلون الخنوع والخضوع للإسلاميين في جهاز الأمن أم كانوا سيتَحَدُّون هذا الجهاز الشطني بشأن أمر حياتي يخصهم ويخص مجتمعاتهم وفيه الموت حاضر، أمر المفظعات الجماعية في كردفان.

...

خامسا،

الإطار الفكري لهداية البرنامج الشبابي

(1)

لابد لهذا البرنامج الشبابي المشترك من إطار فكري ومن مفاهيم معتمدة ومن فلسفة، لنقل. فهو على سبيل المثال ليس برنامجا لحل النزاعات ولا للتعامل مع الأسباب العميقة للنزاعات، بل هو برنامج لمنع المفظعات الجماعية، علما أنه يمكن للشباب تصميم برامج إضافية بشأن النزاعات وأسبابها العميقة، وتنفيذ هذه البرامج الإضافية والمتداخلة بالتزامن مع تنفيذ برنامج منع المفظعات الجماعية، أو بعد البدء فيه. لكني أقصر الهم الآن على برنامج "منع المفظعات".

(2)

فأخصص هذا الجزء من المقال لتجلية بعض المفاهيم والأطر النظرية، كالمقدمة للتفكير في الاتجاهات الكفيلة بتركيب البرنامج الشبابي في شكله كـ "خطة العمل الشبابية المشتركة" للتعامل "المدني" مع المفظعات الجماعية. وأرى أن يكون هذا البرنامج الشبابي نقيض التعامل "الأمني" الحكومي الراهن مع المشكلة في كردفان، وإن كان تنفيذ البرنامج الشبابي سيتداخل مع الأجهزة الحكومية المحلية، التداخل بصورة مبدئية وأخلاقية.

(3)

مفهوم "المفظعات"

ألف

ما "المُفْظِعاتُ"، كمفهوم، إلا تلك الأفعال المُعَرَّفة في دراساتها بأنها الجرائم العالمية الخطيرة كالإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، والتطهير العرقي. فتنضاف إليها وتندرج تحتها، بتوسعتي المفهوم، الأفعالُ البشعة التي وقعت بين القبيلتين في الآونة الأخيرة والتي يمكن أن تقع مجددا وأن تتجاوز في المستقبل ما حدث في الآونة الأخيرة، لترقى هذه الأفعال البشعة إلى جرائم ضد الإنسانية أو إلى جريمة الإبادة الجماعية بصورة صريحة.

باء،

إن الاطمئنانَ إلى أن الجريمة العالمية من نوع ما حدث في دارفور وجنوب السودان لن تحدث في شمال وغرب كردفان، فقط بعلة أن القبيلتين الحمر والكبابيش عربيتان وأنهما تدينان بدين الإسلام، ليس في محله وهو أقرب إلى خدع الذات ومن نوع الهرولة من الحقيقة. فالظروف الموضوعية لحدوث مفظعات جماعية أشد هولا تظل موجودة في العلاقة الصراعية حول الموارد بين القبيلتين، وكذا في قبيلة الحمر ذاتها بشأن مسألة القرعان، وربما في قبيلة الكبابيش بسبب التوريث وهيمنة النخبة العرقية على الموارد والوظائف وفرص الحراك الاجتماعي.

ويبين ما شهدناه من أشكال وحشية في جغرافيا منطقة الصراع أثناء الفورة الأخيرة، وفي فترة وجيزة، أن مفظعات أكثر شرا تظل ممكنة الحدوث في كردفان، خاصة في ظل النظام الإسلامي الإجرامي الفاسد، نظام الإنقاذ، وهو نظام ظل ينتج مذابحه الكبيرة والصغيرة في جميع أرجاء السودان على مدى ثمانية وعشرين عاما.

جيم،

ليس لعبارة "المفظِعات" معنى في لغة القانون، وهي ترجمتي لعبارة atrocities، بل نحن أمام مفهوم إطاري مشحون بالمعاني التوصيفية والتقييمية للجرائم العالمية وللأفعال العرقية المذكورة أعلاه والمجرَّمة في جميع الأحوال، وقد كان الغرض من عبارة "المفظعات" التمييزَ بينها والجرائم الفردية "العادية" بين الأشخاص، مثل القتل والسرقة والاعتداء الجنسي خارج أطر النزاعات المستمرة أو الأسباب المجتمعية العميقة وبعيدا عن ظلها الثقافي. وكذا تم اعتماد تعبير المفظعات للتخلص من تعقيدات تعريف "الإبادة الجماعية"، ولتأطير عقيدة "المسؤولية عن الحماية" التي طورها أصلا د. فرانسيز دينق، ولإيجاد سياق يسهِّل التدخل الإنساني في حال فشلت الدولة ذات السيادة في الاضطلاع بمسؤولية الحماية.

وقد طورتُ المفهوم العالمي للمفظعات ليشمل هذا النزاع العرقي المحدود في السودان، ومن ثم فكرة أن يكون التدخل الإنساني المتحدث عنه في إطار المفهوم الأصل محليا وبواسطة الشباب من القبيلتين.

دال،

يميز المُفظعات قانونا أنها أفعالٌ إجرامية متعددة ذات قسوة مفرطة تقع في إطار هجوم منتظم أو واسع النطاق ضد المدنيين، وفي هذي لغة "الجرائم ضد الإنسانية" وروحها تشمل المفظعات في كردفان، في سياق الهجوم العرقي المزدوج واسع النطاق والمستهدف المدنيين من القبيلتين، أفعال القتل والتعذيب والشروع في إنفاذ الاستئصال وتنزيح السكان من مساكنهم والاضطهاد والأفعال المحطة للكرامة والأفعال التي تتسم بالبشاعة، أحيانا بعد تقتيل هؤلاء الضحايا بالتمثيل بجثثهم وإخفائها أو تدميرها كلية بالحرق والدفن والإخفاء في الحفر، بالإضافة إلى الإنكار والتدليس من قبل الجناة والمثقفين المزيِّنين والقادة القبيليين والحكوميين.

هاء،

والمفظعاتُ أفعالٌ تَصدمُ الشعور الإنساني وتقشعر لها الأبدان، ولها آثار مستمرة لا تنتهي، بما في ذلك أثار اقتصادية وثقافية ونفسية. وقد نشأت تخصصات أكاديمية متعددة وضعت من بين أجندتها البحثية دراسة هذه "المفظعات" والتفكير والتخطيط لمنعها. من هذه التخصصات الأكاديمية دراسات الإبادة الجماعية، دراسات المحرقة اليهودية، دراسات العنف، دراسات السلام، دراسات حل النزاعات وإدارتها، دراسات الحماية الإنسانية، دراسات القانون الجنائي الدولي، الدراسات البيئية، ودراسات الجندر والجنسانية والعلاقات العرقية/العنصرية، وغيرها. واليوم تُستَلهم النظرياتُ والأفكارُ من جميع العلوم المعرفية، بما فيها العلوم الطبيعية، لسبر غور هذه المفظعات.

واو،

لقد ظل السودان تحت حكم الإسلاميين مسرحا كبيرا للمفظعات الإجرامية الجماعية والصغيرة، وليست مفارقة أن رئيس النظام الإسلامي عمر البشير ووزيره السابق للدفاع عبد الرحيم محمد حسين، وكذا والي شمال كردفان الحالي أحمد محمد هارون، وموسى هلال من قبيلة الرزيقات الذي ادعى أحد المزينين أنه أجهش بالبكاء عند سماعه أخبار المفظعات في كردفان، وعلي كوشيب التعايشي الذي اختفى، ليست مفارقة أن هؤلاء المتحالفين الحكوميين والقبيليين كانوا المخططين والمحرِّضين لإنتاج المفظعات الجماعية في دارفور، وليست مفارقة أنهم اليوم يظلون مطلوبين للعدالة الدولية ويظلون مفلتين من العقوبة. وكذا ليست مفارقة أن أحمد هارون، مثل رئيسه عمر البشير، يسعى إلى إعادة تأهيل ماضية بتقمص دور رجل السلام، السلام بالحل الأمني العسكري وبالتدليس.

زاي،

من أهم منتوجات دراسات المفظعات مفهوم "عدسة منع المفظعات"، وهي تعني إدراج الهم بمنع المفظعات في جميع السياسات والبرامج والممارسات بصورة مستمرة، مع تعيين شخص مسؤول يذكِّر الكيانات الحكومية بمسؤوليتها في صياغة مشروعاتها وفق فهم منع المفظعات.

وهنالك المفهوم المتعلق بإدراج "مبادئ" عامة في السياسة لمنع المفظعات بديلا لاعتماد حزمة نشاطات نمطية يتم تنفيذها.  

(4)

مفهوم "الشرارة"

ألف،

فالشرارة هي الحدث الرأسي في مكانه ولحظيته الزمانية وبمكوناته البشرية وغير البشرية ذات المعنى الثقافي في العرف القبيلي. إذن، يتعين الإمساك بمكونات الشرارة في الأحداث اللحظية التي يمكن تحديدها وتصنيفها. فخذ حَدَث "سرقة جمال"، ومثِّل له هنا بسرقة اللصوص الكبابيش جمالا مملوكة لحمر، خلسة، وبيع اللصوص تلك الجمال عن طريق الاحتيال، ومضيهم في اتجاه دار الكبابيش للاختفاء والاحتماء بالقبيلة. تلك كانت هي "الشرارة"، بمكوِّناتها. وهي قد تبدو للوهلة الأولى فعلا صغيرا، لكن ما أن نخضعها للفحص ونضعها في سياقها البين قبيلي حتى تظهر هذه الشرارة حدثا مشحونا بالمعاني الاجتماعية.

باء،

ومن أشكال الشرر التي قد تفجر النزاع العرقي وتفضي إلى مفظعات: استفزاز في الأنداية؛ شَكلة في الشارع؛ التعدي من قبل راع أو مترحل على أراض مزروعة؛ خلاف بيع وشراء في السوق؛ أو الاعتداء الجنسي على امرأة.

فخذ المثال الأخير عن الاعتداء الجنسي على امرأة، واشحنه بالدلالات القبيلية العرفية، تجد أن المرأة يجب أن تكون كانت "حُرة"، قبل أن يستوفي الاعتداء الجنسي عليها شروط "الشرارة". فهنالك نساء وفتيات مسترقات أو في وضعيات شبيهة بالرق في القبيلتين لن يشعِلَ فعلُ "وطئهن" بالقسر أو بالرضا نزاعا قبيليا. فكل شرارة يفسرها المشاركون وفق فهمهم المشترك للسياق وفيه النزاعات القائمة وفيه الأسباب العميقة مثل ثقافة الرق.

جيم،

هذا التصنيف لأنواع الشرر والإمساك بها في كامل محمولاتها الدلالية هو المحل الأولي الأساس لمنع اشتعال الشرارة لتخلق نار مفظعات جماعية. ويتم اقتراف الفعل الشرير، من الشرر أيضا،  بقدح جسد العلاقات الحمرية الكباشية المأزومة أصلا وكانت تنتظر مثل هذه الشرارة لتنفجر. مما يعني أهمية السياق والتاريخ والخلفيات وهويات الكيانات، بالإضافة إلى المقاصد والرغبات والأهداف والنفسانيات الحاضرة في الحدث.

ويستدعي أمر الشرارة فهما متعمقا للنزاعات المختلفة حول الأرض والموارد الطبيعية والوظائف والسكن والضغائن وأشكال الغبينة.

دال،

إن الفكرة وراء مفهوم "الشرارة"، وحيث إن شرارة سرقة الجمال أفضت إلى إشعال نار بين القبيلتين فيها مفظعات، هي أنه لم يكن ضروريا أن تشتعل تلك النار فقط بسبب ذلك قدح زناد وجودية الصراع القائم ذي الأسباب العميقة بين الحمر والكبابيش.

فما كانت عملية السرقة للجمال كقدح في جسد العلاقات الحمرية الكباشية كافية في ذاتها لإشعال نار، بل كان ضروريا لفعل السرقة أن تتوفر له عوامل إضافية مثل "الأوكسجين" المتمثل في "النزوع" الفاعل إلى العنف في المجتمع الحمري، مثلما هو النزوع كذلك قائم في الكيان الكباشي، ونجد أنفسنا هنا في مجال النفسانيات، وأحيانا الأمراض النفسية، ولواعج الغضب، ومشاعر الكراهية للآخر، ويتمدد تفعيل القسوة أحيانا ليذكِّرنا بالعنف ضد أقرب الأقربين مثل الزوجة والأطفال والأخت، وكذا العنف ضد الآخر المساكن أصحاب "الحاكورة" أو الأرض.

هاء،

يمكن أن نعتمد "الشرارة" المتمثلة في سرقة الجمال واقعةً رأسية متكررة يمكن تكييفها وفهمها بسهولة من منظور العرف القبيلي وفي القانون المحلي الوطني، وقد تتكثر الواقعة ويعاد تكرارها حتى تشكل نسقا ينذر بالخطر، وإن كانت كل واقعة منها فرديةً ويمكن التعامل معها على استقلال من الوقائع الشرارية الأخرى. وتوجد قيم مشتركة بصورة عامة أن سرقة الجمال غير مقبولة، بعلة احترام الملكية على سبيل المثال أو بعلة لزوم عدم تسبيب الضرر للأخرين.

واو،

تكمن خطورة هذه الأفعال الشرارية في سياق الصراع القبيلي في أنها يمكن أن تتحول إلى مدعاة للتعبئة لحرب قبيلية، فمعظم النار من مستصغر الشرر، دائما في إطار صراع قبيلي له وجوديته أصلا، وموضوعه، وطبيعته، ومحركاته، والأطراف المندرجة فيه، والكيانات التي تنفذ أهدافها به ومن داخله، وتكييفه العرفي والقانوني، وكذا لهذا الصراع القبيلي لغته التي تحمل جميع هذه المكونات.

(5)

مفهوم "النزاع"

ألف،

يتعين التمييز بين "الشرارة" و"المفظعات الجماعية" و"النزاع" و"الأسباب العميقة"، لأنها مفاهيم متداخلة، وأحيانا لا يمكن التمييز بينها حين تنهدم الحدود بينها. وما السعي إلى التمييز بين هذه المفاهيم إلا فعل نظري لإزالة الخلط ومن ثم تسهيل التفكير الجُمَّاعي، في لغة ديلوز، ذلك التفكير الذي يستصحب المفاهيم والكيانات المتعددة في تركيب تعددي ذي سيولة وانفتاح لمزيد كيانات، هنا لتركيز الضوء في "المفظعات الجماعية" في مثل ذات الوجودية متعددة المكونات، وهي محل التدخل بالبرمجة الشبابية المشتركة.

وقد رأيت أن أدمج مفهوم "الصراع" في مفهوم "النزاع"، رغم أن "الصراع" قد يكون واحدا يشمل في داخله عدة نزاعات، فأتحدث عن النزاع القبلي والصراع القبلي كأنهما أمر واحد. وأفضل تعبير النزاع على الصراع، لتوصيف جميع أشكال الاختلاف بين كيانين عرقيين وفي داخل كل واحد منهما.

باء،

يحدث النزاع بين قبيلتين متداخلتين في الحياة واقتصاداتها، وداخل كل قبيلة، ومع قبائل وأطراف أخرى خارجية. وللنزاع كثافة من حيث السبب الموضوعي والاسم والتاريخ والمكان ذو الامتدادات والاستمرارية والحضور الفاعل في الذاكرة. وقد يكون النزاع جديدا أو متجددا. وموضوعه أكبر من موضوع "الشرارة". ومن موضوعات النزاع القبيلي الخلاف حول ملكية الأرض، مما يثير مشكلات تتعلق بمعنى الملكية وكيفية الاستحواذ على الأرض واستخدامها والتصرف فيها ومنع الآخرين منها أو السماح لهم باستخدامها.

جيم،

ومن النزاع ما يتعلق بموضوع الموارد المائية، خاصة حين تقع هذه الموارد في مناطق عبر حدودية بين أراضي القبيلتين، وحتى حين تكون المياه داخل حدود لا خلاف حولها. كذلك نجد الهم بهذه الموارد المائية مثارا حول الاستخدام والتلويث والتدمير.

ومن النزاع أيضا ما يتعلق بموضوع الموارد المعدنية، هنا مثل الذهب في مناجم التعدين في منطقة أم بادر الكباشية، وهو موضوع نزاع حول الملكية والاستغلال والإقصاء، ويتداخل هذا النزاع مع وجود جماعات سكانية من قبيلة الحمر ومن قبائل أخرى تسكن مؤقتا أو بصورة مفتوحة في منطقة الكبابيش. وقد ظلت صناعة استخراج الذهب مستمرة على مدى عشرة أعواما.

دال،

ونجد النزاع أيضا بشأن الجدل حول تبعية قبيلة الحمر وما إذا كانت ستتبع إلى ولاية شمال كردفان (حيث الكبابيش) أم ستنضم إلى أم ولاية غرب كردفان، وهو نزاع مستمر يظل يمور تحت السطح داخل قبيلة حمر وربما بين القبيلتين، بالرغم من حسمه بالقرار الإداري وانضمام الحمر إلى ولاية غرب كردفان.

وهنالك النزاع بسبب ديون مستحقة لم تدفع، أو جريمة لم يتم التعرف على حقيقتها مثل جريمة قتل امرأة معينة، أو لم يتم صلح بشأنها أو لم تدفع ديتها.

فجميع هذه النزاعات تأخذ بعدا قبيليا عرقيا وعنصريا تنضاف إليه أبعاد الهويات المتعددة والمخلَّطة، حيث توجد داخل كل قبيلة عدة هويات عرقية، وهنالك تقاطعات على أساس الطبقة والموقع بين النخبة، والنوع والعمر والتعليم وتاريخ الحضور والملكية في الأراضي والآبار والأشجار ذاتها.

هاء،

ومن أمثلة النزاعات العرقية الكبرى في المنطقة: النزاع بين أولاد صبيح والجمعانية الحَمَريين في العام 2016 مايو في منطقة النهود (37 قتيلا بالأسلحة الفتاكة)؛ النزاع بين الحمر والمسيرية، ثم بينهم والنوبة؛ النزاع بين الحمر والكبابيش في حرب دوسة العقال التي يفتخر الحمر أنهم هزموا الكبابيش فيها في العام 1850؛ النزاع بين البزعة والكبابيش 2011 حول الأرض وتبعيتها؛ والنزاع بين الكبابيش والجموعية 2010.

وكلها أعلاه نزاعات لم تتم دراستها، وهي تظل مختزلة في أسمائها وفي بعض معالمها الباهتة في الذاكرة الشعبية. فيمكن إضافتها إلى أجندة الدراسات عن منع المفظعات، بتأريخ المفظعات والنظر فيما إذا كانت النزاعات السابقة انطوت على مفظعات شنيعة مثل مذابح أم كانت مذبحة أم بادر مستحدثة وعلامة فارقة في وحشيتها.

واو،

ولهذي أنواع النزاع البين قبيلي امتدادات غير متوقعة داخل المجموعات القبيلية ذات التعددية. فالحمر يفتخرون بهزيمتهم الكبابيش في "حرب دوسة العقال"، ومنهم من يستخدم هذا الحدث التاريخي القديم لأغراضه الوقتية في الخطاب القبيلي الداخلي، حين دافع ناظر الحمر الأمير عبد القادر منعم منصور عن عروبة قبيلة القرعان وحَمَريتها التي كانت مثار جدل من قِبل بعض الحَمَر الموهومين بصفائهم العرقي العربي، مذكِّرا ببلاء القرعان في تلك الحرب ضد الكبابيش.

وقد وصف شاعر قبيلي في فخره بالكبابيش ومدحهم وصف الحمر بأنهم من "بقايا التوبو"، والتوبو قبيلة قرعان من تشاد بلغتها العرقية ولها في مناطق الحمر وجود، ولا يعترف بعض المثقفين الحمر بسودانية القرعان التوبو ويشككون في حمرية القرعان الحمر متحدثي العربية.

https://www.youtube.com/watch?v=7u9VT6bWU7I&t=123s

 ...

فما بقيت هذه الوضعيات النزاعية موجودة في سياقاتها ذات الأسباب العميقة وذات محركات العنف، وما لم تكن هنالك برامج شبابية تمنع هذه المفظعات من الحدوث بالرغم من وجود النزاعات وتفاعلها واستمرارها، ستشهد كردفان مجددا مفظعاتها المريعة. وليس ذلك محل جدل.

زاي،

من خصائص "النزاع" أنه ظرفي، وظرفيته مستمرة تتجدد. ويمكن أن تكون الشرارة التي تشعله أي شيء ولا شيء. وأحيانا نجد أن المفظعات ظاهرة طارئة لا مكونا قارا بالضرورة في كل "نزاع"، في أعقاب قدح كل شرارة قبيلية أو بين قبيلية. ومن ثم، يمكن للشباب منع المفظعات من الحدوث دون ملاقاة الترتيبات الراهنة المتمثلة في النزاعات القائمة أو الجديدة، أو في الأسباب العميقة.

حاء،

سيظل منع المفظعات من الحدوث منعا "مؤقتا" في كل مرة، ما دامت "النزاعات" قائمة ومستمرة بدون حلول مبدئية وعادلة، وما دامت الأسباب العميقة حاضرة. أي، إن المفظعات هي الأخرى ستبقى حاضرة وساكنة في مرحلة كمون تتربص وتتحين فرصتها بين الفينة والأخرى، لأتفه الأسباب، بشرارة أو بدون شرارة، ما دام هنالك نزاع قائم له أسبابه العميقة.

عليه، تبرز أهمية تجلية مفهوم "النزاع" لإرشاد برنامج منع المفظعات بالرغم من عدم وجود برنامج يستهدف النزاع ذاته المولِّد للمفظعات. وهي التجلية غير المكتملة للمفهوم في هذه المحاولة مني، لأن قاعدة البيانات عن النزاعات القبيلية تظل ضعيفة.

(6)

مفهوم "الأسباب العميقة"

ألف،

يشير مفهوم "الأسباب العميقة" إلى موجودات وممارسات كمحدِّدات داخل كل واحدة من قبيلتي الكبابيش والحمر، وفي العلاقة بينهما، وفي علاقتهما منفردتين أو مجتمعتين مع مكونات السياق الخارجي ذي المكونات المتعددة (الحكومة، القبائل الأخرى، الحركات المسلحة، القطاع الخاص، التعليم، الدول المجاورة مثل تشاد وأفريقيا الوسطى وليبيا ومصر وجنوب السودان ودول الخليج، والمجتمع الدولي). وما هذه الوجوديات والممارسات القبيلية إلا البنياتُ الاجتماعية ذات الأبعاد السياسية والاقتصادية والثقافية، الثقافية المتمثلة في الأعراف والقيم القبيلية السارية، وتشمل الموجودات والممارساتُ السياقاتِ المتطابقةَ وفيها "الأسبابُ العميقة" ذاتها، سياقات مثل طبيعة الدولة، هنا نظام الإنقاذ، ومنظومة العنف التي تلف السودان بأكمله وتكيِّفه، والجغرافيا، والفقر، والجماعات القبيلية المجاورة، وسلوكيات النخب القبيلية والإسلامية، وأوضاع المرأة.

باء،

فنحن نتحدث هنا عن السياق الدفين الفاعل ذي البروز الزماني المحدد في مادية النزاعات في مرحلة الكمون أو الظهور، وفي أنواع الشرر المفضي إلى نزاع جديد أو المعبر عن تجدد نزاع قديم، وفي المفظعات الناتجة والمتوقعة الوشيكة أو المحتملة. وللأسباب العميقة في القبيلتين وجوديةٌ يمكن أن نمسك بها متمثلةً في قضايا جوهرية مثل: التوريث وغياب الديمقراطية في القبيلة، وهي مسألة الحوْكمة؛ خمش موارد الذهب؛ الفساد؛ وضعيات الرق والمرأة والإقصاء والتهميش؛ وملكية المدنيين للسلاح وتخليق بيئة حاضنة للعنف الإجرامي.

جيم،

إن انعدام الديمقراطية في القبيلتين، في سياق السودان وفيه نظام الإنقاذ، سبب كاف في ذاته لاحتمالية وقوع مفظعات جماعية، بصورة مباشرة. وأقصد دائما الديمقراطية الراديكالية لا تلك الديمقراطية الشكلية التي أنتجت مذبحة الضعين والرق والمجاعة في فترة حكومة الصادق المهدي. "الراديكالية" التي تعني أن للمواطنين حقا ماديا ذا معنى في اتخاذ القرار بشأن كل ما يهمهم ويتعلق بحياتهم، حتى في قرار إرسال الحكومة قوات الدعم السريع إلى منطقتهم، وحتى بشأن ما إذا كان يتعين تطبيق القانون الوطني أم الأعراف القبيلية على الفصل في المفظعات وأفعال العنف في سياق النزاع القبيلي.

فانعدام الديمقراطية (الراديكالية) في القبيلة أمر لا نسمع عنه ولم نسمع عنه منذ العام 1972 حين أشار إليه بقوة الأنثروبولوجي طلال أسد. لا نسمع عنه بسبب سيطرة المثقفين القبيليين أصحاب المصالح على مساحة الخطاب عن "القبيلة". فهؤلاء المثقفون "ضباط العلاقات العامة" نصبوا أنفسهم متحدثين نيابة عن جميع أفراد القبيلة، رغم أنهم قد لا يمثلون إلا مصالحهم الفردية أو الفئوية المرتبطة أحيانا مع مصالح القيادات القبيلية ومصلحة نظام الإنقاذ. ومنهم من يستخدم لغة "أبناء حمر بالعاصمة" و"أبناء الكبابيش بالعاصمة"، أو "بالمهجر"، أو بأستراليا، أو كندا، وهكذا.

وهم يعتمدون بصورة عامة خط القيادة القبيلية، وكلما ذاع خبر مفظعة في منطقتهم ينشرون بيانا يقولون فيه إنهم يريدون "توضيح الأحداث"، وأصبحت مكونات خطابهم مكررة وثابتة، أن الوقائع ليست كما يرد في الإعلام، وأنه يتعين الترفع عن العصبية القبلية، وأنه لابد من الصلح. هذه لغتهم.

وأنت تجدهم يغيبون من بياناتهم وقائع النزاع والمفظعات والشرارة والأسباب العميقة، وهم يندرجون في عمليات تشويه واسعة النطاق لهذه الوقائع وطمسها، وأحيانا يخترعون وقائع. فخذ بيان أبناء حمر وبيان مجموعة كباشية تجد في كل منهما مثل هذه الخصائص، وهو أمر لابد للشباب أصحاب البرنامج من دراسته والتعلم منه.

دال،

يتمثل عدم الديمقراطية في القبيلة في أمر واضح أمام أعيننا لكنه مغيب تماما من المحادثات ومن الخطاب القبيلي، بالرغم من أن المواطن العادي من "القبيلة" يدركه وله رأي مخالف بشأنه. وهو موضوع توريث المناصب في قيادة القبيلة، وتحديدا وظيفة "الناظر عموم" وهي وظيفة "الأمير" في لغة الإنقاذ، والأثر الذي يخلقه هذا التوريث السيطرة على اتخاذ القرار وفي توزيع المنافع العامة.

خذ التعليم الرسمي العام في قبيلة الكبابيش، أو الوظائف العامة في المركز، تجدها كانت وتظل محصورة في بيوت النخبة القبيلية ذات العلاقة بالأسرية أو القبيلية الضيقة أو البيوت في جُماع القبائل.

فقبيلة الكبابيش، مثلها مثل قبيلة الحمر، تحالف قبائل متعددة أحيانا لا رباط بين أفرادها الحاضرين غير أن هؤلاء الأفراد كان قُذف بجدودهم الأسبقين يوما في وضعية اجتماعية اقتصادية وسياسية مفتوحة، في امتداد تاريخي لـ "الأرض" القبيلية ذات الحدود المرسومة المختلف عليها من البداية، ولنقل ذات "الثقافة" المشتركة الهجين دائما.

لكن بعض هؤلاء الأفراد الحاضرين يولدون اليوم ليجدوا أنهم أولاد النخبة التي ظلت تتوارث حكم القبيلة وتتحكم في توزيع الثروة المشتركة والوظائف والموارد الطبيعية وفي فرص التعليم خاصة التعليم الجامعي منذ الاستعمار التركي والاستعمار البريطاني.

ومن الأفراد هنالك "الآخر" من القبيلة الخطأ، الكباشية أو غير الكباشية، الذي ولد مباشرة في الفقر، أو في الرق، أو في شكل قريب من أشكال ممارسة الرق. أو هو ولد في قبيلة "أجنبية" داخل حدود الحاكورة لكن ليس لقبيلته حق أصلا في الأرض بحجة أن قبيلته "أجنبية" أو "غريبة"، وهو هذا الفرد سيظل يعيش تحت خطر التطهير العرقي في أية لحظة، إن لم يتم تقتيله في فورة مفظعات جماعية عرقية تتفجر في أي وقت.

وقد كان التطهير العرقي ماثلا وشيك الوقع وكانت له إرهاصات وبدايات في أراضي الكبابيش، واستهدف القبيليين الحمر وربما قبيلة دار حامد في منطقة مناجم الذهب، وبعض هؤلاء الأغراب القبيليين تم استهدافهم وطردهم بل ودفنهم في المناجم، وفق روايات تبدو صادقة وتدعمها تصريحات المسؤولين الحكوميين عن نشر قوات في منطقة المناجم ومساعدة العمال في المغادرة بسلام إلى مواطنهم القبيلية الأصلية. وكما أسلفت كان ذلك إسهام والي شمال كردفان في تكريس ذات التطهير العرقي لكن بطريقة سلمية.

هاء،

هذا الوضع بترتيباته السياسية الراهنة سبب من الأسباب العميقة لاستمرارية الصراعات القبيلية والمفظعات وأشكال العنف المختلفة في القبيلتين وبينهما. وليست الترتيبات السياسية مثل التوريث طبيعية كما يريد لها المفيدون منها أن تكون. بل هي أوضاع اجتماعية مشوهة يمكن تغييرها، بل يجب تغييرها، ولابد من أن يكون تغييرها جذريا، بإلغاء هذي حقوق التوريث، واستبعاد أبناء قبيلة أولاد فضل الله وعلى التوم من القيادة على مدى عشرين عاما على الأقل، ليس لعزلهم سياسيا بل حتى لا يستخدموا قدراتهم المالية وسلطتهم المكتسبة تاريخيا لإجهاض التغيير الديمقراطي الذي لا مصلحة لهم فيه بل هو سيقوض هيمنتهم التاريخية على القبيلة وقراراتها ومواردها العامة، وهي الهيمنة التي ظلت مستمرة على مدى أكثر من مائة عام دون مردود إيجابي أو تنموي إلا لذات هؤلاء القادة وأطفالهم وأسرهم وأقربائهم.

فيتعين أن تكون المحادثة الشبابية عن المفظعات الجماعية مستحضِرة مسألة الديمقراطية التمثيلية الدورية في القبيلة، ومسائل تتعلق بتقديم المساعدة للفئات والمجموعات المهمشة لمسارعة حراكها الاجتماعي. ولا يغير ذلك من التركيز على موضوع "منع المفظعات" شيئا، بل لا يمكن منع المفظعات دون فهم أسبابها العميقة في انعدام الديمقراطية في القبيلة. فمجرد وجود التوريث كاف في ذاته دليلا على أن القبيلة يتم حكمها بالاستبداد.

واو،

يمكن لهذا التغيير الديمقراطي، المنشود بطبيعته دون الحاجة لمحاجة إضافية، أن يحدث بطريقة سلمية، وهو إن لم يحدث سلميا سيترك المجال واسعا لاتساع دائرة العنف، وكذا سيفضي إلى إعادة توليد الصراعات القبلية الداخلية والبين قبيلية والخارجية. وستحدث الفوضى والاغتيالات يوما. خاصة وأن الظروف المادية متهيئة لرفض الترتيبات القبيلية ما قبل الحداثة وقد أصبحت تعتمد فكر ما بعد الحداثة للإبقاء على ذات تلك الهيمنة القبيلية القديمة. وما فكر ما بعد الحداثة في السياق القبيلي إلا رفض وجود الحقيقة، واعتماد حقيقة نسبية غرضية وفرضها بقوة الكلام والكتابة.

والحال ذاته ينطبق على قبيلة الحمر وهو حاضرٌ في توريث أبناء أسرة منصور.

زاي،

يرتبط موضوع الديمقراطية بموضوعات إضافية متحدرة من وضعية الاستبداد التوريثي في القبيلة، قبيلة الحمر وقبيلة الكبابيش. فالديمقراطية، وهي هنا نقيض التوريث، تعني أيضا حرية المرأة، ومساواتها بالرجال، وفرصها في الصعود إلى المناصب القيادية، وفي التعليم، والإدارة، وفي الملكية، وفي التسهيلات في مجال التجارة، والحركة والهجرة. إذ يمنع انعدام الديمقراطية بسبب التوريث المساواة بين أفراد القبيلة ويرسخ الطبقية، ولا يأتي التوريث إلا ومعه مثل هذه التشوهات السياسية المجتمعية التي بدورها تنتج محركات الغبن السياسي في القبيلتين وتفضي في مسارات معقدة وملتوية إلى المفظعات.

حاء،

قد تبدو الأفكار أعلاه عن الديمقراطية في القبيلة بعيدة المنال، لكن ظروفها الموضوعية تستبين بمجرد إزالة غشاوة البصر عن حقيقة "الإدارة الأهلية" المتمثلة في النخبة، وبمجرد تفكيك خطاب المثقفين المزينين الذين يروجون لأهمية الإدارة الأهلية ويدَّعون دون دليل أن تهميشها المفترض من أسباب انفلات عقد الأمن ووقوع المفظعات، وعينهم على التوريث الذي يرونه طبيعيا ويقدمونه على أنه أمر طبيعي.

طاء،

وتعني الديمقراطية الإلغاء الصريح للرق وأشكال الاستغلال الشبيهة بالرق في القبيلتين، مع دفع كامل استحقاقات الأرقاء بالتعويض العادل، وتثبيت المساواة لهم في مجالات التعليم والتوظيف والقيادة. وهو ذاته موضوع إنهاء التهميش والإقصاء. ولا يتغير المجتمع إلا بالبدء بإنفاذ حقوق المقصيين والمهمشين، أولا. وهذه الفكرة أساس البرمجة المتركزة على حقوق الإنسان.

إن عقابيل الرق في القبيلتين من الأسباب العميقة التي تتضافر مع أسباب أخرى لتخليق مزاج قبيلي أدخل في العنف الهيكلي والعنف العضلي الإجرامي المباشر. وفي أوراق اليونيسف بالخرطوم التي كتبها في العام 1999 القاضي شان ريش مادوت (رئيس القضاء الحالي في جمهورية جنوب السودان) ما يفيد بوجود أطفال أرقاء من قبيلة الدينكا في منطقة سودري، وذلك نقلا عن جيمس دينق شول، القس في كنيسة الأبيض، وجيمس له مصداقية عالية، وهو الشاهد الأساس والراوية في كتاب مذبحة الضعين – الرق في السودان، وقد أصبح جيمس بعد مذبحة الضعين من أهم محرري الرقيق في السودان، مركزا جهوده في ولاية شمال كردفان، وعرفته المحاكم في الأبيض في قضايا لتحرير أرقاء محددين.

ولم يكن الحمر ببعيدين عن ممارسة الرق المستشرية في غرب كردفان.

...

فتكمن أهمية الرق كسبب عميق في أنه يشير إلى وجود خلل أخلاقي فظيع في البنية القبيلية الاجتماعية، وهو مؤشر إلى خصيصة العنف الهيكلي في جسد القبيلة، ولأن الرق محظور في القانون تندفع القبيلة بخطاب قادتها ومثقفيها إلى إنشاء خطاب احتيالي للإنكار والمغالطة والنفاق، وكذا للصمت عن هذه الجريمة العنيفة الحاضرة.

ومن الأسباب العميقة التي تولد ظروف المفظعات بنية خمش الموارد الطبيعية بواسطة التجار الإسلاميين المتحالفين مع النخبة قادة القبيلة المورَّثين والحكومة الفاسدة. وكذا تتخلق من هذه البنية العميقة، بعلة خصيصة الاستغلال، تشوهات إضافية، فكل استغلال فاحش يستدعي استخدام العنف لحمايته، وهو العنف بدوره يخلق العنف المتصدي له. 

ياء،

والديمقراطية مرتبطة أيضا بموضوع ملكية هذه الموارد المكتشفة في الأرض مثل الذهب في دار الكبابيش، ومثل الموارد الطبيعية الأخرى المتوقع اكتشافها في دار حمر، وكذا الموارد المختلف عليها أحيانا، مثل موارد المياه وأشجار الهشاب وأشجار التبلدي لتخزين المياه، ومثل الاقتصاديات القبيلية والعلاقات القبيلية الخارجية بالحكومة وبغيرها.

وكلها موضوعات مختلف عليها، ولغة العنف حاضرة دائما لحسم هذه النزاعات.

كاف،

كذلك يمكن أن أضيف ظاهرة توافر السلاح وانتشاره التي لم تعد كما كانت في الماضي القريب نتاجا لأشكال النزاع الأولية التي كانت استدعتها استدعاء، إي إن ظاهرة السلاح  لم تعد طارئة، بل اكتمل تركيبها وتثبيتها في القبيلتين حتى تصيرت اليوم أحد "الأسباب العميقة" لإنتاج المفظعات الجماعية، ويمكن اجتماعيا لظاهرة وسطية أو سطحية مثل انتشار ملكية السلاح واستخدامه لدى المدنيين أن تتكرس بمرور الوقت لتتصير ظاهرة متكلسة ومطبعنة في جسد القبيلة. وهو ما نجده اليوم في القبيلتين، السلاح وملكيته الشخصية والإتجار فيه وحضور إمكان استخدامه في كل نزاع يطرأ.  

لام،

كان لنظام الإنقاذ دور كبير في تسليح القبيلتين، كجزء من برنامج متكامل رعته الحكومات المتعاقبة لتسليح القبائل والقبليين، وهو برنامج كان بدأ تنفيذه بالهمة بعد التغيير السياسي في انتفاضة أبريل 1985، وقبلها كان الأمر محصورا في تسليح الحكومة حرس السلاطين وبعض القبائل الصغيرة في جنوب السودان لمقاومة تدخلات قوات الأنيانا، ثم أسست له القوات المسلحة استراتيجية حرب لمنع قوات الجيش الشعبي لتحرير السودان من الإفادة من دعم المجتمعات المحلية، ومن بعد طورته حكومة الصادق المهدي إلى عقيدة حرب ضد المتمردين في جنوب السودان، ثم أنشأت له امتدادا بتسليح القبائل العربية في دارفور.

ثم جاءت حكومة الإنقاذ وطورت برنامج تسليح القبائل استراتيجيةً للإبقاء على حكم الطبقة الإسلامية ولتثبيت سيطرتها على أدوات صناعة الفساد في السودان بأكمله، بما في ذلك السيطرة على مناجم الذهب وآبار البترول في الحواكير القبيلية. فيد الإسلاميين فاعلة في النزاع القبيلي المسلح، وهي من الأسباب العميقة للنزاع الراهن بمفظعاته.

ميم،

فأخلص بشأن الأسباب العميقة التي تولِّد الظروف الموضوعية لإنتاج المفظعات وتُقعِد القبيلتين عن النهوض إلى أنا نجد في القبيلتين الحَمَر والكبابيش ترتيبات اجتماعية واقتصادية وسياسية متجذرة في الثقافة القبيلية، وهي ترتيبات ذات ثبات من حيث زمانيتها المستمرة، والمصالح الشخصية والفئوية المكرسة حولها، ومن حيث القوة الخطابية وغير الخطابية المستخدمة لحمايتها والإبقاء عليها.

أي، إن هذه "الأسبابَ العميقة" سياقيةٌ، فيتعين على الشباب عند مقاربة منع المفظعات النظر في المفعول المادي لهذه الأسباب العميقة وأثرها في كل ما يدور داخل القبيلة، وفي مساحات العلاقات البين قبيلية، وعلاقات القيادات القبيلية بالحكومة وبالشركات والتجار الإسلاميين.

دائما، مع إدراك أن الأسباب العميقة وترتيباتها ذات ثبات نسبي، لكنه يظل ثباتا اجتماعيا، فقابل للتغيير.

نون،

هذه المفاهيم الأربعة (الأسباب العميقة، النزاعات، المفظعات الجماعية، والشرر) متداخلة وذات ميوعة، وما الفصل المفاهيمي بينها إلا للإمساك بوجودياتها المتداخلة. وسيفضي التركيز الأولي على "منع المفظعات" إلى مرحلة تمكن الشباب من إيجاد أرضية تسهِّل التفكير في حل النزاعات القائمة ومنع المستجدة منها، والتفكير في كيفية تغيير الأسباب العميقة.

أما الآن، فتظل "المفظعاتُ" ومنعُها من التحقق موضوعَ البرنامج الشبابي الملح والقائم بذاته. مع النظر إلى تنفيذ هذا البرنامج وفق معطيات سياقه حيث توجد النزاعات العرقية والأسباب العميقة.  

...

سادسا،

عدم القدرة على التفكير أمام مشكلة النزاع العرقي في كردفان

(1)

إذن، نحن أمام وضعيات معقدة في شمال وغرب كردفان، وضعيات تطرح تحديات أمام كل برنامج لمبادرات أو تدخلات شبابية لمنع المفظعات الجماعية، ومن ثم لن ينجح برنامج التدخلات الشبابية ما لم يدرك الشبابُ طبيعة المعوقات السياقية في القبليتين وفي السودان، المعوقات التي تتمثل المخاطر، أو الافتراضات التي قد تكون "افتراضات قاتلة"، مما يستدعي البرمجة أيضا. فحتى المعوق المفترض القاتل المتمثل في جهاز الأمن يمكن البرمجة لرد خطره، في الحدود الممكنة.

علما أن موضوع التركيز هو "المفظعات" وكيفية تدخل الشباب ببرنامج مشترك شامل ومنظم لمنعها مؤقتا ريثما ينتقل التفكير التخطيطي إلى التدخلات الشبابية المبرمجة للتعامل طويل الأمد مع النزاعات القبيلية والمشكلات المجتمعية-السياسية-الاقتصادية العميقة.

(2)

فلتجلية معاني هذه الأفكار لمنع المفظعات الجماعية، لابد للشباب من البقاء لصيقين بالوقائع الوجودية في أرضية النزاعات ذات الأسباب العميقة في مجتمعاتهم المحلية، لأن المفاهيم النظرية وإن كانت سبقية أحيانا إلا أن تغزيرها واختبارها، بل واكتشافها، إنما يتم في سياق إعمالها في الوقائع المادية، والمفاهيم هي التي تعين على تحديد المشكلات الصحيحة وطرح الأسئلة الصحيحة.

فبدون نظرية، وهي هنا المفاهيم المرتكزة على الأخلاقية والصادرة من الجنوح إلى الأخلاق في العمل السياسي، سيكون البرنامج الشبابي غير قادر على الإبصار في المشكلات.

(3)

وما تخبط نظام الإنقاذ واسترجاع الإسلاميين الحل الأمني من ذاكرتهم العملية الحاضرة إلا بسبب عدم قدرة الإسلامي على التفكير، تحديدا عدم قدرته على التفكير الأخلاقي، وعجزه عن التنظير وعن ابتداع مفاهيم لهداية الحلول للمشكلات الحياتية. فالإسلامي في وضعية استيلائه على الدولة وتركيبه حكومة حرامية مشغول بصناعة الفساد وحمايتها.

إن هذا عدم القدرة على التفكير الأخلاقي مشدود إلى متلازمة رفض التفكير أصلا، عند الإسلاميين، فالتفكير سيقودهم إلى ما لا يريدون مواجهته، حقيقة أن نذالتهم ووحشيتهم وإجرامهم وفسادهم من نتاج عقيدتهم السياسية الفاسدة، "الإسلامية"، وهي العقيدة السياسية التي لا تأت، تجريبيا، إلا ومعها هذه الخصائص المفظعة، وكله ثابت من الأرشيف لا يستدعي أكثر من النظر والتنقيب.

...

د. عشاري أحمد محمود خليل

ushari@outlook.com

**

يُمنع إعادة نشر هذا المقال المخصص حصريا لسودانايل، ويمكن الاتصال للحصول على نسخة منه مزيدة ومنسقة بصورة مختلفة 

عشاري

 

آراء