الوطنية والهوية السودانية (1 من 9) …
3 February, 2009
المتخيل المعلن والمسكوت عنه فى المجتمع السودانى
الدعوة التى تتبناها سودانايل للتفاكر الجاد حول مستقبل السودان دعوة كريمة تستحق الشكر والتقدير بجانب المشاركة فى ابداء الرأى حول ذلك المستقبل. ولما كان المستقبل هو فى الأصل انطلاقا من الماضى باعتباره جذوره التى يرتكز عليها والتى تغذيه بكل عناصر البقاء والاستمرارية كان لابد لأى محاولة لفهم الحاضر وتشكيل للمستقبل أن ترجع الى ذلك الماضى لتغربله وتصفيه مما تعلق فيه أو علق عليه من شوائب تحتاج الى ازالة قبل الانطلاق. استجابة لهذه الدعوة هذه محاولة لزيارة الماضى لربطه بالحاضر والمستقبل راجيا أن تجد من النقد البناء مفتاحا لباب طالما قفلناه بالطيبة المقرونة بالامبالاة والقدسية المفتعلة كان لفترتى قبل وما بعد الاستقلال فى 1956.
يهتم هذا الجزء من الدراسة بالآيديولوجيات التى اختلقها الاستعمار بشقيه الانجليزى والمصرى كأدوات للحكم لتبرير غزوه وحكمه للسودان وتأثيرات هذه الآيديولوجيات النفسية على الانسان السودانى الذى ورث الحكم عنه من جانب وتأثيراتها على تطور مفهوم الوطنية والهوية السودانية من جانب آخر. نتناول كهدف ثان لهذه الدراسة المتغيرات التى أحدثها نظام الحكم الثنائى فى عقلية الانسان السودانى المتعلم كتوطئة للحديث عن المتخيل المعلن والمسكوت عنه فى المجتمع السودانى فى اطار الاثنية والثقافة لنبين تأثيرات تلك الآيديولوجيات فى خلق آيديولوجيات محلية تبرر للحاكم السودانى حكمه وتبيان كيف أنها ساهمت فى خلق العقدة العربية وعلاقتها بالهوية السودانية باعتبارها أس الداء فى المعضلة السودانية منذ استقلال البلاد فى 1956.
تمهيد
التأزم بين الشمال والجنوب مع نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الواحد وعشرين وصل مرحلة اللاعودة اما وحدة واستقرار تنعم فيه كل مجموعاته البشرية بالسلام وبالتالى الديموقراطية والتنمية واما تمزقا يضيع معه حتى اسم السودان. فقد بدا جليا فى الفترة التى تلت تطبيق "المشروع الحضارى" للحركة الاسلامية أن الدعوة للانفصال أخذت بعدا خطيرا بعد تداولها من قبل كل الفعاليات السياسية على أنها حق يمارسه الجنوبيون بحرية كاملة وفق استفتاء ترعاه الأمم المتحدة التى لم تدخل شأنا الى شنته ومزقة أوصاله خاصة اذا كان من دول العالم الثالث والمنتمية الى العالم الاسلامى على وجه الخصوص. وعلى الرغم من أن أزمة السودان ترجع فى جذورها الى عوامل اقتصادية واجتماعية وسياسية يتحكم فيها تاريخيا العنصر المستعرب من سكانه الا أن العقد الأخير من القرن العشرين خاصة فى الفترة التى بدأت تطبق فيه الحركة الاسلامية بقيادة الترابي برنامجها "المشروع الحضارى"، أوضح بجلاء دور العامل الدينى فى تصعيد تلك الأزمة. لم يكن العامل الدينى جزءا من أزمة السودان تاريخيا فقد تقبل المجتمع القاطن فى موقع السودان الحالى الديانة المسيحية القادمة اليه من شماله وجنوبه الشرقى بنفس السماحة التى تقبل بها الاسلام من شماله وشرقه وغربه وانتشر بين أفراد المجتمع كالظل الظليل وحتى محاولات الاستعمار لوقفه من التمدد جنوبا لم تفلح. وبالتالى فان الخوف على الاسلام كدين فرية وادعاء استخدمه الأولون واستمر على استخدامه اللاحقون من المستعربة لمزيد من الهيمنة على مقدرات المجتمع. سيطرة العنصر المستعرب اعتمدت على ظروف تاريخية واستمرت فى هيمنتها على وهم متخيل مفاده الخوف على الثقافة العربية الاسلامية. ونسبة لأن لغة هذه الثقافة أصبحت بمرور الزمان هى لغة التجارة والعمل والتعليم لم يعد الخوف عليها واردا. البعد العربى الاسلامى المتخيل من قبل الحركة الاسلامية الحاكمة الآن هو نمط تفكيرى لدى عقلية أهل شمال السودان تصاعدت وتيرته بغزو محمد على باشا للسودان عام 1821. قبل هذا التاريخ لم تكن هناك أطروحات فكرية حول العروبة كعرق وانما كثقافة شعبية تأثرت بثقافات محلية مختلفة مرتبطة بالاسلام كمصدر أساسى فى انتشارها من خلال ايقاعات الذكر لرجال الطرق الصوفية. وقتئذ بدأت هذه الثقافة الجديدة فى التكوين أخذة من كل الثقافات المحلية ومتأثرة بها ويمكن وصفها بالثقافة السودانية.
التاريخ السودانى المعاصر كشف عن ابداع فكرى كبير تميز به بعض المفكرين السودانيين فى مجالات الشعر والفن وغيرها من ضروب الحياة ما عدا فى الفكر السياسى الذى ترك كلية لقيادات الأحزاب السياسية كحزب الأمة أو الحركة الاسلامية والحزب الشيوعى. ولا يوجد سبب يجعل السودانيين يحجمون عن البحث فى مجال الفكر السياسى الا عدم الاهتمام والكسل لأن القمع السياسى فى السودان رغم استمراريته لفترات طويلة لم يكن بالوحشية التى تمنع البحث فى الفكر السياسى. لهذا فان الحركة السياسية السودانية لم تخلق مفكرين لها فى هذا المجال مزروعون فى الواقع السودانى اذا استثنينا قيادات بعض الأحزاب. وحتى هذه المحاولات لهولاء المفكرين كانت فى بداياتها تنطلق أو ترجع الى فكر خارجى. فمثلا جاءنا الفكر الاسلامى لدى الصادق والترابى مدفوعا بالفكر الايرانى والفكر المصرى ولم يستند على تجاربنا المحلية وعلى رأسها الفكر المهدوى الا مؤخرا أما الفكر الاشتراكى الذى انطلق منه نقد وقبله عبدالخالق فقد كان أثيرا للفكر الشيوعى فى موسكو. أما التفكير الديموقراطى والذى حتى الآن يعانى من التأصيل فقد جاءنا من الغرب مشبعا بروح الاستعلاء والهيمنة والاذلال ليخلق مسخا مشوها من الديموقراطية لا يهدأ له بالا الا اذا حقق مصالح سيده فى الغرب. ان الاقتباس من الغرب أو الشرق فى مجال الفكر لا عيب فيه فالحضارة الانسلنية بناها البشر من الشرق والغرب ومن الجنوب والشمال كل له تاريخ نهضته وكل له عثراته التى جعلت منه مقلدا فى وقت ما لذلك لا عيب البتة أن نكون قد اقتبسنا من هذه الحضارة أو تلك ولكن العيب أن نبقى فى أحضان هذا الفكر أو ذاك دون أن نجعل من هذا الاقتباس معنى يؤصل لواقعنا ليكون فى نهايته حاملا خصوصية الواقع السودانى بكل تياراته وثقافاته وأعراقه. خصوصية الواقع تقودنا الى الكشف والتحليل لواقع السودان وبدونها يكون الكشف والتحليل تقليدا وتكرارا لأن الوسائل والافتراضات هى تأصيل لتجارب أخرى فى واقع آخر غير السودانى. لنأخذ مثالا ذكرنا حيثياته فى غير هذا المكان من الدراسة. فى دراستها لواقع النساء فى دولة الفونج والتى من خلالها أرادت أن توضح العلاقة بين الدولة وطبقة التجار الناشئة وقتئذ ذكرت فاطمة بابكر أن حكام دولة الفونج استغلوا المرأة المسترقة للدرجة التى أصبحت فيها مصنعا ينتج الجنود وذلك من خلال الاستغلال الجنسى المنظم من قبل السلطان (أنظر الجزء الخاص بفترة دولة الفونج فى هذه الدراسة). أرادت فاطمة تحقيق فرضيات ماركسية على مجتمع الفونج فلوت عنق كثير من الثوابت الخاصة بمجتمع الفونج المسلم "على الطريقة السودانية" كما لوثت كل تراث الشعب السودانى لتثبت أن استرقاق واستغلال النساء فى تلك الفترة "كان سببا رئيسيا فى ظهور الطبقة الرأسمالية التجارية الناشئة".
هذا التقليد والتكرار لا يقتصر على الساحة العلمية الأكاديمية وانما هو أكثر وضوحا فى تجاربنا السياسية اذ أن البرامج والشعارات لحزب ما تكاد تكون واحدة مع أصلها الخارجى وتكون أكثر تطابقا مع مرور الزمان للدرجة التى يمكن معها تغيير تاريخ اصدارها لتكون حديثة ومعاصرة على ضوئه. وبذلك بيان هذا الحزب أو ذاك الذى أصدره مع أولى انتخابات ديموقراطية فى الخمسينات يصلح أن يكون فى آخر ديموقراطية فى نهاية الثمانينات وأخشى أن يكون صالحا بعد نظام الحركة الاسلامية الشمولى فى القرن الواحد وعشرين. ومع هذا التكرار الممل الممجوج ما انفك القائمون على تلك الأحزاب يذكرونا بالابداع الفكرى داخلها دون أن يكون لهذا الابداع صدى فى قضايانا الاجتماعية الملحة. لم تغير الفواجع الكثيرة على بلادنا والناتجة خاصة من أنظمتها العسكرية فى العقلية الفكرية رغم المتغيرات الفكرية والسياسية عالميا. تلك الفواجع أو ان شئت الزلازل الاجتماعية التى أدت الى نزوح أكثر من ثمانية مليون نسمة خارج مناطقهم الأصلية كما أدت الى تشريد ما يقرب من ذلك فى مدن أرض الله الممتدة فى قاراته الستة والكثير منهم يحمل من الدرجات العلمية ما جعل الآخرون يفرشون له الأكاليل ويقذفونه بالورود ويكرمونه مقدما على بنى جلدتهم. تلك الزلازل التى جاءت بعد "المشروع الحضارى" أدت الى مزيد من التمايز العرقى والثقافى الذى يشكل حياتنا الى سعير الحرب وأتونها لتبتلع فى جوفها خيرة الشباب من طرفى معادلة الحرب. التمايز الثقافى وما ينتج عنه وما يتبعه من نتائج أمور لم نناقشها باسهاب ووضوح خوفا من تصدع اجتماعى متخيل لهذا التزم الكل الصمت حتى وقعت الكارثة وأصبح السودان مهيئا ليصبح صومالا بعد مشروع الحركة الاسلامية "الحضارى". ان الحالة التى وصل اليها السودان اليوم تتطلب البدء فى حوار حضارى وانسانى شامل يأخذ فى الاعتبار غايات محددة يمكن اجمالها فيما يأتى:
أولا، خلق تيار فكرى ديموقراطى وسط التنظيمات السياسية والاجتماعية تبدأ بالأسرة وتنتهى بالحزب. ان الفشل المنتظم للعمل السياسى بجانب ما ذكرنا عن تجذر العقلية الاستعمارية وسط ما تعارفنا عليه فى الخدمة المدنية بالأفندى، يرجع الى فشلنا فى خلق فكر وثقافة سودانية مستقلة عن الانتماء الحزبى اذ يكفى أن يتحدث أحدنا لنحدد الى أى اتجاه ينتمى لنصفه اما بالعمالة والخيانة للحكومة أو المعارضة فى حالة النظام العسكرى. أما فى الوضع الديموقراطى فالوضع مختلف جدا اذ نجد الكثير ممن نطلق عليه "المثقف" السودانى بعيدا عن معترك السياسة تعاليا واحتقارا فى الظاهر وبغضا لها فى الباطن لأنها لا تحمله الى كراسى السلطة كما هو الحال فى الحكم العسكرى لهذا فهو يتهم كل الأحزاب بالعمالة والخيانة للشرق أو الغرب. ان المطلوب من الحوار الذى نحن بصدده أن نقبل التنوع والاختلاف فى الرأى. فمن يتهم الآخر من رجالات السياسة بالخيانة ويدينهم عليه أن يكون شجاعا وأن يقبل رأى الذين عذبوا أو شردوا فى أصقاع الأرض بسبب حبهم لبلادهم فليس كل من دخل المجال السياسى خائن وليس كل من تأسلم من الاسلاميين ملك وليس كل من اتبع الشيوعية شيطان.
أحداث الحادى عشر من سبتمبر 2001 بأمريكا كانت نقطة تحول ايجابية نحو الديموقراطية فى سياسة الانقاذ ليس ايمانا بها ولكن خوفا من عصى الشيطان الأكبر أن تنزل على رؤوس أهلها من القيادات. لم تفلح المناشدات والتوسلات من الصديق والعدو أن تثنى الحركة الاسلامية عن نفيها للآخر وتعترف به من أجل الاسلام والسودان، من أجل الضعفاء المشردين من نساء وأطفال، من أجل الثكلى من النساء ومن أجل القهر المحبوس داخل الرجال وهم يرون أكبادهم وهى تمشى الى الموت دون سبب. لم تشفع لأهل "الانقاذ" كل التوسلات الا بعد أن رفع الشيطان الأكبر عكازته الغليظة مهددا كل اسلامى بالويل والثبور حينها استجاب أهل "الانقاذ" لانقاذ أنفسهم ممن كانوا يعدون له العدة لهزيمته وارتضوا الرجوع الى الديموقراطية التى يبشر بها الشيطان الأكبر والتى تحفظ له مصالحه قبل مصالح من يراد تطبيقها عليهم. ومع ذلك الغبن المركب الذى نشعر به فذاك أمر طيب أن نبدأ الحديث عن الديموقراطية والاعتراف بالآخر ولكن بدلا من أن نكون كالتلميذ البليد الذى يغش فى الامتحان ويشف من الآخر ب"ضبانتها" علينا أن نبتدع وأن نجعل هذه الديموقراطية تنبع من دواخلنا أن تقف على أساس فكرى متين يتواكب مع ثقافاتنا وتعددنا حتى تتمكن من التوطن فى بيئتنا الاجتماعية من الأسرة حتي الحزب. الديموقراطية الحقيقية لا تقوم الا على قبولى للآخر وقبوله بى ليس بدافع التكتيك والمجاملة ولكن لأن وجود كل منا مهم للآخر ومفيد للبلاد ولاستقرارها الاجتماعى. فى احدى المؤتمرات ببروكسل ببلجيكا وقفت احدى المدافعات عن البيئة تتحدث عن التوازن البيئ الطبيعى وأهيته للانسان ولم تنسى فى حماساها أن تذكر ابادة حيوان البندا فى استراليا والرندير فى السكا بغرض توفير الفراء الناعم لسيدات المجتمع. وحتى لا يقتصر ذلك على المرأة أضفت لها نحن فى السودان نبيد الأصلة والتمساح والنمر ليس لأنها تفتك بالانسان ولكن من أجل الرجل وليس من أجل عيونه هو (قد يكون لعيون الآخرين أو الأخريات) ولكن من أجل قدميه لعمل حذاء يتبختر به. فمركوب من جلد الأصلة أو النمر أو التمساح غاية لا يدركها الا كبار الأفندية عندنا من رجال الدولة وحاليا رجالات التجارة لهذا أصبحت الابادة لديهم ميزة يتفاخرون بها. هذه الحيوانات المبادة لها أهميتها للتوازن البيئ فما بالك بانسان يشاطرك الوطن بل يعيش بالقرب منك ويتداخل معك فى السراء والضراء بل قد يكون أخوك أو صهرك.
لنضرب مثلا يقرب لنا الصورة المتبادلة بين أفراد المجتمع البشرى. تخيل معى أخى القارئ مجتمعنا هذا شبيها فى بنائه بمزرعة فى احدى المشاريع الزراعية. هل يكفى مفتش الزراعة أن يقوم بالعمل الزراعى مهما كان قويا ونشيطا وحريصا على مصلحته ومصلحة وطنه؟ ألا يحتاج الى المهندس الزراعى؟ الى خبير الحشرات؟ الى مهندس الرى؟ الى المزارع؟ الى العامل الزراعى؟ الى المحولجى؟ الى مهندس الغزل والنسيج؟ الى عامل السكة حديد؟ الى سائق الرافعة فى الميناء للتصدير؟ هذه سلسلة مترابطة اذا انفكت عقدة منها انهارت وأثرت على كل الحركة داخلها. فاذا أضفنا اليها حلقة أخرى أصبحت أكثر تعقيدا وأصبحنا أكثر حاجة لها. ألا يحتاج هذه المفتش الزراعى الى زوجة تخفف عنه ضغوط العمل وتجهيز بيته وطعامه؟ ألا يحتاج الى المدرس ليعلم أبناءه؟ ألا يحتاج الى الطبيب ليداوى له أمراضه وأمراض عائلته وأقاربه؟ ألا يحتاج الى التاجر ليوفر له احتياجاته المصنعة؟ ألا يحتاج الى المزارع لتوفير ما يحتاجه من خضار؟ ألا يحتاج الى السياسى لينظم له علاقاته مع كل هؤلاء ومع آخرين فى دول أخرى عبر الدبلوماسية؟؟؟؟؟ كل هذه السلاسل تحتم علينا احترام الآخر واحترام وجهة نظره ولن يكون ذلك سهلا اذا انعدمت الديموقراطية.
حل المشكلة المتأزمة فى السودان تحتاج قبل النموذج الجيد للانطلاق الى عزيمة سياسية ترفض كل أشكال التمايز الناتجة عن التعدد فى المجتمع السودانى. وبجانب هذا هناك أيضا مساوئ التجربة التاريخية التى مرت على البلاد من جراء الاستعمار الأول وما خلفه من ذكريات مرة وأليمة فى ألعن تجارة عرفتها البشرية وهى تجارة الرقيق. دول العالم فى وقتنا المعاصر تتبع سياسة تمنع عزل الدول والمجتمعات عن بعضها البعض فى عالم أصبح من ناحية الاتصال وسرعة المعلومات أقرب الى وضعية قرية صغيرة يقطنها أفراد أسرة ممتدة. فهل نستطيع كسودانيين أن نكون جزءا من العالم فى التجارة الدولية وفى استيراد التكنولوجيا ونحتفظ مع ذلك بخصوصيتنا الثقافية المتعددة؟؟ لقد نجحت اليابان فى السابق أن تحقق تنميتها من خلال عزلها لنفسها فى المجالات الثقافية ولكنها كانت جزءا من العالم خاصة الغربى فيما يتعلق بالتجارة والتكنولوجيا. نحن فى السودان ومن خلال ما قدمناه فى هذا الجزء من الدراسة نجد أنفسنا بعيدا عن التجربة اليابانية ليس فقط لأن الانسان السودانى أقل استجابة للمستحدثات من قيم الحداثة والعصرنة ولكن كغيرنا من دول أفريقيا المستعمرة من قبل تنوء بتاريخ فيه من القهر النفسى ما يجعل الانسان فيها يحتاج أولا الى بناء شخصيته ورمى مخلفات الماضى المرتبط بالضعف والهوان الذى انزرع داخلنا نتيجة للاستعمارين الأول والثانى من جهة والى الظلم المنتظم الذى يمارسه الحاكم "الوطنى" بعدهما. بمعنى آخر اننا نحتاج الى ازالة العاهة السايكولوجية المرتبطة عضويا بطرفى الاستعمار الثانى ثم بناء هذه الشخصية فى مناخ معافى يعزز تغلغل مكونات المجتمع السودانى المتعددة دون أن يكون لذلك انفلات نحو أى منها يقلل أو يهمش الآخر.
ثانيا، اعادة تقييم تاريخ السودان الاجتماعى والسياسى:
هناك فشل واضح فى معرفة ماضينا الاجتماعى والثقافى لأسباب ترجع فى جانب منها الى أن هذا التاريخ قد تم تزويره عندما كتب بأيد المخابرات والتى أصبحت المصدر الأساسى للدراسات فيما بعد، وفى جانب آخر يرجع الى النظرة الآحادية المتأثرة بالآيديولوجى والسياسى للباحث. وحتى بعد استقلال البلاد ما زالت هذه النظرة الأحادية تتحكم فى كتابة تاريخنا السياسى فكل عهد ينفى سابقه وكأن التاريخ بدأ به. كل التجارب الفاشلة لكل عهد سماها قمة الوطنية فى الانجاز ولكن نتائج الفشل لتلك التجارب الفاشلة لا يعترف بدوره فى صنعها ويرجعها الى طابور خامس خائن وعميل. التجزر فى العقلية الاستعمارية لدى الأفندى فى الخدمة المدنية هى المسئولة عن شطب الآخرين من تاريخ بلادنا فعندما جاء المستعمر الانجليزى "المتحضر" كما قال أحد الكتاب السودانيين وهو ينتقد الثورة المهدية ويصف قادتها بالتخلف، "أنه جاء لينقذ أهل السودان من أنفسهم" وهو ما يقوله كل حاكم سودانى ويتبعه فى القول أهل الخدمة المدنية فيمسحون ما وجدوه لنبدأ من جديد كتابة تاريخنا. من هنا نحتاج الى الشجاعة فى ازالة ما تلوث فى ماضينا من جراء الكذب على أنفسنا لنكتشف ماضينا ولنعترف بأخطائنا فيه خاصة ذلك المتعلق بظلم الجماعات وما نتج عنه من ظلم اقتصادى واجتماعى. الاعتزار الذى تفضل به الصادق المهدى لتقديمه لأهل الجنوب عما بدر من أهل الشمال خطوة فى الطريق ولكنها ليست كافية ولابد أن تشمل كل أطراف السودان وعلى وجه الخصوص غرب السودان الذى عانى انسانه فترة الاستعمار تهميشا بسبب دوره فى الثورة المهدية واهمل من قبل أهل الشمال بما فيهم المنتمين الى الثورة المهدية فى خدمات التعليم والصحة والتنمية وغيرها. اعترافنا بهذا الظلم سيقشع عنا الظلام وسيفتح أمامنا المستقبل لأنه سيظهر الشمس لنتعرف على الحاضر برؤية واضحة وواثقة.
تعجبنى فى هذا المجال شجاعة منصور خالد وهو يعترف بأخطائه عندما كان من ضمن "الفوج" الذى يعير لقيادة مايو اهتماما ويزين له ما يقوم به فى تدمير بلاده ولكن ما فعله ويفعله فى السنوات الأخيرة من كشف المظالم والوقوف بجانب المظلوم من أهل السودان قد شفع له أمام الكثير من المثقفين. فليس من السهل الاعتراف بالخطأ وأصعب منه أن تقف بجانب المظلوم أمام الظالم. وهو أمر ابتعد عنه الكثير من المثاقفة وحارقى البخور لمايو وقائدها وكما قال منصور "كانت هناك أرتال من حملة المباخر، وصفوف من حارقى البخور داخل "الهيكل وحول "الصنم" وجيش جرار من "وزراء وسفراء الظل" منهم المبايعون ومنهم العاكفون ومنهم الركع السجود. هؤلاء ظلوا يتزاحمون حول الهيكل فى انتظار التوزير والتسفير حتى بعد أن صار الظل ظلا من يحموم لا بارد ولا كريم."