الوطنية والهوية السودانية (4-9) … بقلم: د.عبد الله محمد قسم السيد/السويد

 


 

 

المتخيل المعلن والمسكوت عنه فى المجتمع السودانى
مجتمع الفونج
للتعرف على العوامل التى أدت الى قيام مملكة الفونج والتى امتدت شمالا حتى مملكة المقرة المسيحية وجنوبا حتى فازوغلى وكنجارا، لابد لنا من الاشارة الى الحروب التى حدثت فى تلك الفترة بين المسلمين والقبائل المسيحية فى اثيوبيا والتدخل من قبل السلطان العثمانى لتأمين التجارة على البحر الأحمر. ففى الوقت الذى كانت فيه هجرة بعض العرب والمسلمين تتدفق نحو أواسط السودان نتيجة الحرب فى الحبشة كانت أرض النوبة فى الشمال تشهد نزوح بعض القبائل العربية من مصر.  لهذا كان من بين المهاجرين من ينتمى الى الطبقة الحاكمة فى مصر مما مكنهم من التقرب من الأسر الحاكمة فى السودان ثم الانخراط فى العمل السياسى والتزاوج من أسر القيادات السياسية.  مصاهرة الأسر الحاكمة مكن العرب تدريجيا من الاستيلاء على الحكم حيث توارثوه بحق ورثة أبناء الأخت المتبع وسط النوبة فى ذلك الوقت.  نفس هذا السناريو تم بالنسبة للمهاجرين المسلمين من الحبشة ابان حروبهم مع ملك الحبشة ومع المسلمين من مملكة كيرى الذين سكنوا مناطق بحر الغزال مجاورين للقبائل النيلية خاصة الشلك جنوبا وقبائل العنج فى أواسط السودان.
أهم المصادر التاريخية لمجتمع مملكة الفونج هى كتابات الرحالة الأجانب  اذا استثنينا طبقات ود ضيف الله، والتى تعتبر كتابات وصفية أكثر منها تحليلية وكانت معظمها خلال الفترة الأخيرة من عمر مملكة الفونج. لهذا كانت معظم الكتابات السودانية الحديثة والمتمركزة أصلا فى الاقتصاد السياسى لهذه الفترة، معتمدة على تلك الكتابات وتم تسخيرها لخدمة آيديولوجية وسياسية. لنوضح كيفية استغلال تاريخ شعب كامل لهدف آيديولوجى سياسى ويسقط التاريخ فيه لخدمة آنية نأخذ المثال التالى. فى محاولاتها لدراسة المرأة وكيفية استغلالها فى مجتمع دولة الفونج جاءت كتابات فاطمة بابكر تحمل الكثير من التناقضات والتحامل على حكام تلك الفترة وعزت كل جبروتهم وقوتهم فى ارساء دعائم دولتهم على جيوش شوكة رمحهم من النساء الرقيق حيث أجبرن على انجابهم من أجل الحاقهم بالجيش لحماية السلطان وعائلته. تقول فاطمة بابكر " حتى يتسنى لسلطان الفونج فرض كامل سيطرته على الدولة كان لابد به من الاستمرار فى حملات جلب الرقيق وتحجيم منافسة طبقة التجار له على السلطة السياسية. وانطلاقا من هذا المنظور تعرضت جموع النساء المسترقات الى عمليات الاستغلال الجنسى المنظمة من قبل الدولة لتحقيق الأغراض التالية:
 أولا: توفير الجند لجيش السلطة من أبناء المسترقات، حيث كانت الدولة تقوم برعايتهم وتنشئتهم ومن ثم الحاقهم بالجيش.
ثانيا: امداد القوافل التجارية بأعداد كافية من الرقيق من الجنسين وذلك للقيام بأعمال الحماية وكافة الخدمات بما فى ذلك الخدمات الجنسية أثناء الرحلات الطويلة.
ثالثا: الحاق أبناء المسترقات بالخدمة فى مؤسسات الدولة لضمان عدم منافسة أى مجموعة عرقية أخرى للمجموعة الحاكمة على السلطة.
جعلت فاطمة بابكر فى دراستها هذه وبالمنظور الذى يركز على تجارة الرق فى السودان مهمة ومسئولية سلطان دولة الفونج ومن يساعده فى رعاية الدولة تنحصر فى أن يكون وسيطا لمهنة لم تجد من يعترف بها فى أى مجتمع قديما أو حديثا رغم أنها ظاهرة موجودة وممارسة عبر التاريخ. وعلى الرغم من الصدمة المتوقعة التى تصيب القارئ لمثل هذه الكتابات والتى من المفترض أن تكون موثقة، لم تستند فاطمة على أى مرجع يصف لنا حدوث ذلك وتركت الأمر لاستنتاجاتها ونظرتها الخاصة لتوضح للقارئ كيف حافظ سلاطين الفونج على حكمهم بين عامى (1504-1821). لهذا الغرض فى رأى فاطمة بابكر كانت "الغزوات من الممارسات الثابتة لسلاطين الفونج، حيث يشرف السلطان فى كل عام على غزوات جلب الرقيق عن طريق مجلس مختص.  وذلك من أجل "1- توفير الخدمة الجنسية للمسافرين على القوافل. 2- تراكم الربح وتوفير الجند للجيش." 
لقد كان الهدف الأساسى من دراسة فاطمة أن توضح لنا العلاقة بين الدولة وطبقة التجار وعملية اعادة الانتاج فى نظام مملكة الفونج  وذلك من خلال الاستغلال الجنسى للمرأة وبعد تأكيدها لهذا الدور فى تأمين الجند للحفاظ على السلطة وتكدس ثروة التجار تستدرك فاطمة لتقول عن هذا الاستغلال الجنسى المنظم من قبل الدولة "ان هذا الشكل من الاستغلال  لم يتم تناوله فى الكتابات عن سلطنة الفونج الا أن هذا لا ينفى أهمية الدور الذى لعبه فى عملية انتاج جيوش السلطنة"  من جانب وتنمية ثروات التجار فى دولة الفونج وهنا فقط تعتمد على بعض الرحالة دون ذكر لاسم المرجع الذى اقتبست منه وذلك حين تشير الى "أن الأثرياء من التجار كانوا يعدون النساء المسترقات للعمل فى الدعارة فى المدن التى تقع فى طرق التجارة، وكان يخصص للفتيات مكان خاص لاقامتهن ويمنحن منحة شهرية ثابتة بالاضافة الى منح سادتهن. ويضيف سبودلنج ان بعض الأعيان الذين تخوفوا من منافسة التجار لهم تبنوا نفس النظام." 
لقد تناول الكثير من الرحالة طبيعة التجارة الداخلية والخارجية لمملكة الفونج وتعرضوا بالتفصيل للسلع المتداولة بين هذه المملكة وبين جيرانها من الممالك مثل دارفور وتقلى وقبائل الجنوب مثل الشلك والبارى والدينكا، وبينها وبين مصر والحبشة والجزيرة العربية والهند حيث كانت مملكة الفونج تمثل المركز الذى تتجمع فيه هذه التجارة. يقول بوركهارد فى وصفه للسلع القادمة من سنار الى شندى بقوله "والشئ الرئيس الذى يصدر من سنار هو الدمور أو القماش المصنوع من القطن الذى لا يستعمل على طول ضفاف النيل حتى دنقلة فحسب، بل وأيضا فى كردفان وفى جزء كبير من دارفور والحبشة، وفى جميع بلاد النوبة شرق النيل حتى البحر الأحمر. وهذه السلع دائما عليها اقبال شديد. ويمكن الحصول بها على جميع السلع التجارية تقريبا. ومصانع سنار وباقرمة الواقعة الى الغرب من دارفور تمد الجزء الأكبر من أفريقيا الشمالية الشرقية بالأقمشة"  ويقول عن تجار سنار بأنهم أكثر ثراءا من تجار مصر الذين يأتون الى شندى حيث أن تاجرا واحدا من سنار يشترى كل القافلة التجارية التى تحتوى على ثلاثين جملا.  أما عن دور ملك سنار وعلاقته التجارية فان بوركهارد يصفه بقوله "أنه لا تفرض ضرائب مرور أو جمارك فى سنار، وأن العائق الوحيد الذى يعوق التجارة هو أن الملك دائما يعرض بضائعه الخاصة على المشترى دون مساومة"  وذكر بوكهارد دور التجار فى استخدام الاماء فى الدعارة ولكنه كان متناقضا كلية مع نفسه فهو يقول "ان التجار يحرصون حرصا شديدا على منع أى اتصال غير لائق بين الرقيق (لأن) الحامل من النساء تنقص قيمتها" ويقول فى نفس الصفحة "ان كثيرا من التجار يشغلون الاماء فى الدعارة"  هذا التضارب فى القول يفرض على الباحث تجنبه واسقاطه ناهيك عن وضعه فى دراسة علمية وتعميمها باعتبار أنها استغلال منظم من قبل الدولة بغرض انتاج وتراكم رأس المال التجارى من جانب وبناء جيش مملكة من أجل الحفاظ على السلطة من الجانب الآخر كما تقول فاطمة بابكر.
انه ليس من المنطق والعقلانية أن نعمم ظاهرة سلبية منافية لأخلاق المجتمع والعرف السائد وقتئذ على أنها الأساس الذى تقوم عليه مملكة حكمت لأكثر من ثلاثمائة عام ولابد من البحث فى أسباب أخرى جعلتها تتحكم فى استمراريتها وفى حفظ علاقاتها الداخلية والخارجية المعتمدة أساسا على التجارة والتى تتعرض الى المنافسة عليها أطراف خارجية عديدة. البحث عن مثل هذه الأسباب يفرض علينا البحث عن الظروف المحيطة بقيام المملكة وأسباب تحالفها مع جيرانها من المشيخات وكيف كان تأثير ذلك على المجتمع الفونجى والتغيرات التى صاحبته وعلى رأسها التنوع الثقافى.
عندما استولى السلطان عمارة دنقس على الحكم وأقام عاصمته فى سنار، توجه شمالا وتحالف مع زعماء المشيخات العربية وعلى رأسهم عبدالله جماع زعيم مشيخة العبدالاب وذلك من أجل تأمين القوافل التجارية. وعلى الرغم من أن التاريخ لا يخبرنا كيف حدث هذا التحالف الا أن شروطه تتضمنت عدم تدخل سلطان سنار فى الشئون الداخلية للمشيخات وفى علاقاتها مع بعضها على أن يتحصل منها على الضرائب والزكاة وأن يكتفى بزعامتها الرمزية. بعد هذا التحالف أصبحت مملكة الفونج تضم المناطق الرئيسية التالية:
أولا دار الجوابرة وبها مشيخات أرقو وجزيرة مقاصر والخناق وبها مشيخة الخندق ودنقلا العجوز ومشيخة حنك وقوشابى ومروى وهى مناطق الشايقية وتعتبر مروى من أكبر المراكز التجارية مع دارفور والمغرب.
ثانيا دار المناصير ودار الرباطاب والميرفاب وهى المنطقة الواقعة بين الشلال الرابع ومصب نهر عطبرة.
ثالثا منطقة مشيخة قرى وتمتد بين عطبرة وأربجى وهى منطقة الجعليين والعبدلاب والمجاذيب.
رابعا منطقة سنار وتضم مشيخات خشم البحر وفازوغلى جنوبا ومشيخات رأس الفيل ولقاييت حتى البحر الأحمر.
دولة بهذا الاتساع تفرض علينا مبدئيا رفض فجائية قيامها وثانيا رفض القول الذى يتداوله الكتاب والمفكرون أن الحكم التركى هو الذى أوجد الحدود الجغرافية للدولة السودانية الحديثة وفى هذا تقليل لأى جهد قام به حكام مملكة الفونج ومن تحالف معهم من حكام المشيخات. وثالثا رفض الاستخفاف والاستهتار بتاريخنا كما جاء فى استنتاجات الكاتبة فاطمة بابكر فى علاقة الدولة بأفرادها واستغلالهم جنسيا لتوفير جنود جيشها. بل ان رفضنا لهذا النوع من التفكير يحتم علينا مراجعة كل تاريخنا اللاحق لأنه مبنى على معلومات أقل ما يمكن قوله فيها أنها مزورة لأغراض سياسية آيديولوجية. اذ لا يمكن أن تكون مملكة بهذا الحجم الجغرافى قد حدثت فجأة كما يحدثنا الرحالة بروس والذى حدد زعاماتها بأنهم من الشلك الذين اعتنقوا الاسلام بعد تعزيز سلطانهم من أجل السيطرة على التجارة بين الحبشة ومصر. ملاحظة بروس هذه والمتعلقة بأنهم شلك مسلمون وأن كلمة الفونج عندهم تعنى الأجنبى لا تتناقض كلية مع واقع مملكة الفونج ولكنها تحتاج الى المزيد من التمعن وفق مقتضيات المرحلة والتى لا بد أن تكون قد شهدت تداخلا قبليا ليس فقط من القبائل العربية بل أيضا من قبائل أفريقية قادمة من مناطق غرب أفريقيا. فسكان الجزيرة وهى المنطقة بين النيلين الأبيض والأزرق خلال فترة الفونج كانوا خليطا من الأفارقة الوثنيين والعرب المسلمون  وحكام مملكة برنو المسلمين امتد حكمهم فى أرض الشلك ليغطى كل منطقة بحر الغزال  ومن المنطقة الواقعة غرب بحر الغزال قدم الفور وهم مسلمون وأنشأوا سلطنة كيرا وهم فى الأصل قبائل زنجية.  لهذا فليس مستبعدا أن يكون قد تم تزاوج بين الفور والبرنو والشلك من جهة والشلك والفونج من جهة أخرى بنفس القدر الذى حدث به تزاوج العرب القادمين من مصر مع النوبة فى الشمال أو الهدندوة فى الشرق وأدى الى سيطرة العرب السياسية والاقتصادية بسبب نظام الارث من ناحية الأم.
حتى تنجح وتستقر مملكة سنار كان لابد لقيادة هذه المملكة أولا من السيطرة على طرق التجارة التى تتنافس عليها الامبراطورية العثمانية وامبراطورية الحبشة وأوربا حيث فى هذه الفترة بدأت الحملات الاستعمارية للسيطرة على طرق التجارة والتى كان البحر الأحمر من أهم طرقها. وثانيا أن تكون لها القوة العسكرية المنظمة والضاربة. وثالثا أن تكون لها العقلية الاستراتيجية التى توضح لها مسار تحركاتها وفوق ذلك ولها توجه قومى أقنعت به حكام المشيخات المختلفة بضرورة التوحد فى حلف واحد لمواجهة القوى الخارجية المتنافسة على حدودها. ان تكوين وقيام دولة ما أو تحول مملكة ما الى دولة فى رأى بعض المفكرين تتسارع وتيرته فى حالة الزيادة السكانية بالمقارنة مع حجم الأرض التى يقطنونها مع وجود ضغوط خارجية ممثلة فى هجرات خارجية أو غزو خارجى يهدد مصالحها ومصالح سكانها. وأن المركزية السياسية تبدأ فى الظهور عندما يقدم أحد الحكام الحماية ضد أى هجمات خارجية.  هذا بالفعل الذى حدث فى حالة مملكة الفونج. فمملكة الفونج تقع فى منطقة جغرافية استراتيجية بالنسبة للتجارة الدولية فى القرن الخامس والسادس عشر فهى تقع بين الحبشة ومصر وتطل حدودها الشرقية على معظم البحر الأحمر الممر الرئيسى التجارى والأقصر بين الشرق وأوربا والذى ما زال يمثل هذا البعد الاستراتيجى. ظهور صراع دولى للسيطرة على التجارة وممراتها الدولية ممثلا فى الامبراطورية العثمانية والحبشة ومصر وفرنسا والبرتقال واسبانيا  كان واحدا من الأسباب الخارجية التى جعلت سلطان مملكة الفونج يسعى الى توحيد المشايخ حوله من أجل الدفاع أولا عن أرضهم وثانيا تأمين التجارة الدولية التى تعبر أراضيهم. مثل هذا التفسير لنشأة مملكة الفونج يبعد شبح الوقوع فى التخمينات غير العقلانية المصاحبة للتصور بأنها نشأت فجأة وثانيا يوقف هذا السيل من التفكير العنصرى الذى يعزو قيامها الى وجود العرق العربى خاصة بنى أمية والذى فى النهاية ينهى أى دور للعنصر غير العربى كما يستبعد أى عوامل اقتصادية واجتماعية ساهمت فيها مما يعتبر تفسيرا خاطئا للتاريخ وغير علمى. لقد كانت هناك هجرات عربية نحو السودان من الاتجاه الشمالى وهناك هجرات عربية/أفريقية/اسلامية قادمة من الحبشة مما يعنى زيادة سكانية تقلق أصحاب البلاد بجانب التهديد الخارجى من الامبراطورية العثمانية ممثلة فى مندوبتها الحكومة المصرية على البحر الأحمر ومن فرنسا واسبانيا والبرتقال فى الجنوب الغربى. فى وضع كهذا كان لا بد من عمل شئ يقوم به الحاكمون وقتئذ يبعد ذلك الخطر الخارجى. هذا العمل كان التمركز نحو الذات والعمل على تكوين جبهة داخلية قوية ضد الوجود الخارجى والتهديد المتواصل لمحو الذاتية والهوية. هذا التوجه نحو الذات هو الذى خلق نفس التوجه فى العقد الثامن من القرن التاسع عشر ليعيد التاريخ نفسه ويمكن القيادات الوطنية السودانية من اشعال ثورة شعبية أدت فى النهاية الى اخراج المستعمر من السودان والى قيام الدولة المهدية كما سنبين بعد قليل.
نظام الحكم لمملكة الفونج  يعتبر بالمفهوم المعاصر حكما لا مركزيا. فقد كان زعيم المشيخة له مطلق التصرف فى موارد مشيخته الاقتصادية. توضح مراسم تعيين الحكام من السلطان حتى شيخ القرية صورة هذ الحكم اللامركزى كما جرت على لسان الكثير من الرحالة.  ففى كل قرية يوجد حاكم يعرف بالشيخ يعاونه أكابر القوم فى القرية بجانب قاضى أو فقيه يتولى أمر التعليم وبعض الاداريين يقومون بتدوين الضرائب والزكاة كما يقومون بحفظ الأمن. وظائف شيخ القرية تنحصر فى تنظيم الرعى والزراعة وتوزيع الأراضى على الأفراد التابعين له حسب مقدرة كل منهم على العمل فى الزراعة. أما فى المدينة الصغيرة فهناك المك يعاونه شيوخ القرى وبعض الادرايين وفى المدينة الكبيرة ذات المركز التجارى فيحكمها المانجلك تحت الاشراف المباشر لحاكم المشيخة. أما حاكم المشيخة فيتم اختياره من قبل أهل المشيخة على أن يكون من نفس أسرة الحكم السابق وبمباركة السلطان فى سنار وموافقة شيوخ المشيخة. فى قمة هرم السلطة يأتى السلطان فى سنار ويتم اختياره على ثلاثة مراحل: أولا يتم اختياره من مجموعة من المرشحين من أقرباء السلطان السابق. يقوم بعملية الاختيار مجلس من أكابر القوم فى السلطنة الذى يجتمع مباشرة بعد وفاة السلطان السابق أو عزله. المرحلة الثانية يتم حبس السلطان مع عذراء لمدة سبعة أيام وبعدها يأتى لساحة التتويج حيث يبايعه أكابر القوم وزعماء المشايخ والأهالى. فى المرحلة الأخيرة يتم فيها حلق رأسه ويلبس فيها قفطان وعباءة جديدة بجانب الطاقية أم قرين(طاقية الملك) ويسلم سيفا ويجلس على الككر (كرسى الحكم) وبعدها مباشرة يأتى كبار القوم لمبايعته عن قرب. بعد انتهاء البيعة يذهب السلطان ورجال حاشيته الى النيل حيث ينزل فى الماء حتى تغطى رأسه وبذلك يكون قد تسلم الحكم فعليا.
بجانب هذا التنظيم السياسى الذى يعكس لنا صورة الحكم واختيار الحاكممن القرية وحتى رأس الدولة وهو السلطان، يوجد بجانبه تنظيم آخر غير رسمى ولكنه ذو تأثير كبير على الأفراد والجماعات داخل المجتمع وهو التنظيم الذى يربط الشيخ بمريديه ودرجة قوة هذه العلاقة تعتمد على سمعة الشيخ وقدرته على حل المشاكل التى تواجه المواطن خاصة تلك المشاكل المتعلقة بالروح. فكلما كان الشيخ قادرا على تخفيف مشاكل المواطن كلما زادت مكانته بين المواطنين وارتفعت سمعته لتصل الى السلطان فيزداد قدره وترتفع مكانته من بيئته المحلية لتعم السلطنة بكاملها. بمعنى آخر أن هذا التنظيم غير الرسمى لا يعرف الحدود بين المشيخات ولكنه يقوم على شهرة الشيخ وسمعته المتعلقة بالكشف عن الغيبيات والاتيان بالمعجزات والخوارق. هذه المعجزات والخوارق لم تكن وليدة لحكم المشيخات وسلطنة الفونج ولكنها تقاليد توارثها الناس من أقدم العصور وتطورت تحت تأثير التغيرات المتعاقبة كان من أهمها التغيرات المصاحبة للديانة المسيحية ثم الدين الاسلامى. فقد استمرت العادات الوثنية فى الفترة المسيحية واستمرت العادات والتقاليد المسيحية بجانب العادات الوثنية بعد دخول الاسلام رغم وجود مبشرين مسيحيين بعث بهم جوستنيان امبراطور روما وعلماء دين مسلمين بعثت بهم بغداد. لم يستطع هؤلاء العلماء تغيير تلك العادات لأنها من جانب تمثل روح هوية السكان ومن جانب آخر لم يكن العلماء اذا صحت التسمية على قدر من العلم يمكنهم من ترسيخ القيم الدينية المثالية كانت فى الدين المسيحى أو الاسلامى.  لكن الأثر الذى تركته العلاقة بين المواطن والشيخ أى التنظيم غير الرسمى فى انتشار الاسلام واللغة العربية كان كبيرا. فالحواريون (الطلاب) الذين يقصدون العلم وقرآة القرآن والسكان العاديون الذين تجذبهم حلقات الذكر بما فيها من ترنيمات عقائدية وايقاعات موسيقية، كانوا يتقاطرون من كل مناطق المملكة لا تفصلهم حدود المشيخات أو يقف فى طريقهم الحكام. فشعائر الذكر بايقاعاتها الصاخبة وحركاتها الراقصة كانت أكثر قربا للثقافة السائدة وبالتالى أكثر قربا لنفوس الناس. فى هذا الصدد يشير تيرمنقهام الى الدور الشعبى الكبير الذى لعبته الصوفية من خلال الذكر فى انتشار الاسلام والثقافة العربية فى غرب أفريقيا بفضل ما يلازمه من ايقاع صاخب يتخلخل فى نفوسهم ويستقر فيها معمقا للعقيدة الاسلامية من جهة وناشرا للثقافة الاسلامية العربية واللغة العربية من جهة أخرى.
لقد كان اسهام الطرق الصوفية فى التوجه القومى  كبيرا وذلك من خلال نشر الثقافة العربية الاسلامية وتقف اللغة كعنصر فعال فى تنقل المريدين حتى وان لم يكونوا يتحدثونها كلغة أم وهى ظاهرة ما زالت تسود الكثير من المجتمعات السودانية حيث يحتفظون بلغتهم الأم بينما يتحدثون اللغة العربية كلغة تخاطب خارج المنزل. الاقبال على رجال الطرق الصوفية لم يكن تحده حدود سلطنة الفونج اذ شمل مملكة الفور ومملكة تقلى المجاورتين لها. قامت مملكة تقلى الى الغرب من مملكة سنار والى الغرب من مملكة تقلى قامت مملكة دارفور التى استمرت ثلاثة قرون وانتهت عام 1916. كانت مملكة الفور غنية جدا واهلها شعب يعرف القرآة والكتابة ويميلون الى معاشرة الغرباء ويقول جيمس بروس عنهم بأنهم يختلفون كثيرا عن الشعوب العربية  ولكن رحالة آخر هو برون يصف سلاطين الفور بأنهم لا يسمحون للغرباء خاصة الأوربيين المسيحيين بدخول أراضيهم خوفا من الأمراض والتجسس. فاللون الأبيض فى نظرهم يعنى مرضا خبيثا يستوجب ابعاده عن أرضهم كما أنه يقول بأن أصلهم من ضفاف النيل والأقاليم الغربية من مملكتهم.  سكان مملكة االفور متعصبون للاسلام ويسافرون كثيرا لأداء مناسك العمرة والحج رغم الصعوبات الشاقة التى يتعرضون لها والمدة الطويلة التى قد تصل الى سنوات يضطر فيها البعض خاصة الفقراء للاستقرار فى مملكة سنار للعمل قبل مواصلة الرحلة ذهابا او ايابا وبعض آخر يستقر كلية بالقرب من رجال الطرق الصوفية من أجل تعلم القرآن والعلوم الاسلامية.
أما مملكة تقلى غرب مملكة الفونج فسكانها يربون الماشية ولهم علاقات تجارية وطيدة مع مملكتى سنار والفور وهم جميعا مسلمن ومعظمهم لا يتحدث العربية. اشتهرت مملكة تقلى باستخراج الذهب من مرتفعات شيبون وأبو شقارة وبورام وتنجور وجبل طيرة وهذه المناطق كانت تجذب الكثير من المناطق الأخرى خاصة من مناطق الزنوج حيث يصفهم الرحالة بكلر مسكاو بأنهم كالنمل من كثرتهم  وهذا عامل مهم فيما يتعلق بالتداخل الوثيق بين المجموعات السكانية القاطنة خاصة فى عدم وجود أى تعصب دينى كما يقول بكلر " ان أى شخص أجنبى تبدو أغراضه واضحة مثل التاجر والعامل لا يجد صعوبة على الموافقة للدخول الى تقلى حيث لا يوجد تعصب دينى."  مما تقدم يمكننا رسم صورة لما هى الحال بين سكان الممالك الثلاثة فيما يتعلق بالثقافة العربية الاسلامية نتيجة لتداخلهم المستمر تجاريا وفى حركتهم المستمرة ذهابا وايابا لأداء منسك العمرة والحج. هذا لاينفى القول بعدم تمكن معظمهم من الحديث باللغة العربية فحتى يومنا هذا تختلف الصورة التى يتحدث بها الناس العربية فى تلك المناطق والتى تختلف عنها فى مناطق وسط وجنوب السودان. أما فيما يتعلق بالعلاقات بين سكان هذه الممالك وسكان المناطق الجنوبية لها من الزنوج فقد كان هو الآخر وطيدا كما هو واضح فى هجرات العمل فى مناطق الذهب والتجارة مع هذه الممالك كما حكى عنها الرحالة فرن  والرحالة بوركهارد فى منطقة جبال النوبة مع سكان منطقة بحر الغزال.
ما نود الوصول اليه هو أن العرب تأثروا كثيرا بالثقافة المحلية حيث تحكى طقوس تقليد الملوك والمشايخ كيف أنهم تأقلموا فى بيئتهم الجديدة خاصة فيما يتعلق بأمور الحكم فى المدن فمثلا كان لزاما على الحاكم أن يقبل طقوس اعتلاء الحكم التى يمليها الفقيه الدينى وهى أمور تتعلق بالسحر والشعوذة ومنافية للدين الاسلامى وغير متعارف عليها فى بلاد العرب.  واحدة من تلك الطقوس تتعلق بعزل السلطان فى منزل خاص ومعه عذراء لمدة سبعة أيام تحت حراسة مشددة ولا يدخل عليه الا امرأة عجوز لتقوم بتدليك العروسين أى عمل مساج لهما. أما فى مناطق الريف والبدو فقد فقد العرب الكثير من شخصيتهم الثقافية مما انعكس على سلوكهم الدينى حيث تأثرت المبادئ الاسلامية بالتقاليد والعادات المحلية الموروثة.
ذكرنا سابقا أن التحالف الذى قام بين السلطان عمارة دنقس والمشيخات العربية كان بسبب حماية التجارة وقوافلها بين المدن داخل المملكة والخارجة منها نحو مصر والحبشة والشام عبر البحر الأحمر والى كردفان ودارفور غربا. ونظرة سريعة لطرق هذه التجارة والسلع المتبادلة توضح لنا العلاقات الوطيدة التى تربط بين هذه الممالك التى تكون اليوم ما يعرف بالسودان. فالتجارة ليست عملية ديناميكية تنتهى بانتهاء المعاملة التجارية خاصة أن صعوبة المواصلات وطول الرحلات ووسائلها من بقال تتطلب الكثير من الانتظار فى كل منطقة تجارية مما يزيد من الاحتكاك والتواصل بين الناس. بالتالى فان العملية التجارية تلازمها عمليات ثقافية وسلوكية وأخلاقية يبرزها ويقوم بها من يتعاملون فيها من سكان هذه الممالك والوافدين اليها من تجار مع القوافل. بمعنى آخر تتم هذه التجارة وسط علاقات اجتماعية وثقافية واسعة تؤدى الى التأثير المتبادل بين المتعاملين فيها. وصف لنا الرحالة غنى مملكة دارفور من السلع الزراعية والحيوانية حيث أشاروا الى نوعية السلع التى تأتى منها مثل الابل والخيول والبقر وسن الفيل وفرس البحر والدخن والذرة والسمسم والبامية والبصل والقرع والشطة واللوبيا والفول والسنامكة والتبغ.  تجارة جنوب السودان مع مملكة دارفور تتمثل فى سن الفيل وسن فرس البحر ويستبدلونها بالحبوب الغذائية. ويشير بوركهارد الى أن تجارة الرقيق موجودة ولكنها تمارس فى الخفاء لأنها فى نظرهم عمل شرير (لأنها مخالفة للتعاليم الاسلامية).  أما سلطنة الفونج فقد كانت تجارتها مع سكان المناطق الجنوبية لها وهم سكان جنوب السودان الحالى خاصة الشلك، تتمثل فى الدمور والخرز وأدوات الزينة والذرة. يقول بروس على لسان الشلك بأن "الجلابة والتجار يقومون بزيارة بلادهم مرارا وتكرارا ويأتى بعضهم من الخرطوم ومعهم الأقمشة القطنية وأثواب الدمور والخرز وغيرها ويعرضونها مقابل سن الفيل والعسل والأوانى المصنوعة من الطفل." 
عند حديثنا عن مفهوم الدولة قلنا ان مفهوم الدولة أمر شائك وصعب تحديد معالمه بشكل قاطع ونهائى وانتهيت الى أننا نقصد به وجود أرض وشعب له سلطة سياسية أو حكومة تتولى اتخاذ القرار وتنفيذه وفق مصالح الطبقة الحاكمة ولكن تحت تنظيم قانونى يتضمن احساسا بالعدل والأمن والمشاركة بهدف تحقيق الصالح العام. وكغيرها من المفاهيم كان لزاما علينا قسرا قبول فكرة بداية التاريخ الانسانى بعد القرن السادس عشر عندما تم ربط مفهوم الدولة بالتطور التاريخى الذى حدث فى أوربا. وبذلك فان كل التجارب الانسانية غير الأوربية فيما يتعلق بالحكم صنفت على نحو لا يبرز أى علاقة بينها وبين الدولة الحديثة وكأن التجارب الانسانية حلقات منفصلة عن بعضها ولم تبدأ فى الاتصال الا بعد ظهور ال "رامبو" الأوربى فى القرن السادس عشر لتبدأ معه الحياة البشرية المتحضرة ومن ثم خروج هذا ال "رامبو" الى بقية العالم ليخرجه من الظلمات وينقذه من حياة الطبيعة والبربرية التى يعيشها. بمعنى آخر ان انسان القارات التى كتب عليها شقاء الاستعمار وأفريقيا واحدة منها لم يكن يعرف الدولة وبالتالى فهى فرضت عليه من قبل الانسان الأوربى لينظم بها حياته حتى يتم انقاذه. ويبدو أن كلمة "الانقاذ" عندما يتم تطبيقها على المجتمع السودانى قديما أو حديثا تقوده الى عكس ما تعنيه الكلمة كمت هو حادث الآن بسبب سياسات "الانقاذ". ان مفهوم الدولة وبعيدا عن التخريجات الايديولوجية المصاحبة للخطاب العنصرى الأوربى الذى يربط كل شئ بالانسان الأوربى، لم يخرج عن الشعب والأرض والمشاركة تحت ظل قانون ينظمها ويحميها. وبهذا المفهوم نجد أن مملكة الفونج حسب التطور التاريخى للمعرفة الانسانية كانت تقوم على أعمدة الدولة التى نطلق عليها اليوم اسم الدولة الحديثة. فهناك الشعب وهناك الأرض وكما أوضحنا كانت هناك المشاركة السياسية فى اختيار الحاكم من القرية وحتى رأس الدولة وهو السلطان. هذا التنظيم السياسى الهرمى تم داخل اطار جمع بين عدد من المشيخات تحت ظل حكم واحد فى كيان لا يختلف كثيرا عن النظام الكونفدرالى. فسكان كل مشيخة لهم حق اختيار من يمثلهم ولا يتدخل السلطان فى ذلك ولكل مشيخة الحق فى استخدام مواردها الاقتصادية بالكيفية التى تخدم مصالح سكانها مع دفع جزء منها لادارة المملكة العليا فى عاصمتها الموحدة سنار. هذه الخصائص للدولة لم تختلف عن خصائصها فى وقتنا المعاصر اذا استبعدنا درجة الوعى والتكنولوجيا المستخدمة التى سهلت طريقة الاختيار. فعلى الرغم من حرية الانتخاب فانه يتم فى نطاق لا يخرج من يتم اختياره عن الطبقة الحاكمة حتى داخل أعتى الدول التى تدعى الديموقراطية مثل أمريكا حيث جاء اختيار جورج بوش الابن ليحكى عن ذلك الاحتكار للسلطة داخل الطبقة الحاكمة أصلا والتى يعززها وضعها الاقتصادى الذى يوجه مسار الديموقراطية فيها. هذا البعد تؤكده أيضا مسيرة كل الحكومات العربية فى الفترة الأخيرة حين عمل كل الحكام على اختيار من يخلفهم من بين أبنائهم. بمعنى آخر ان الطبقة الرأسمالية هى التى تحكم والتى تحدد من يأتى الى السلطة ليخدم مصالحها حتى ان تم ذلك بعيدا عن كل أخلاق ومثل. وتجربة الحرب ضد العراق أكدت أن رأس المال الأمريكى من أجل مصالحه يدوس بأحذية آلته البشريه والعسكرية على كل أطفال العراق ليحقق ربحا أو يتحصل على موارد اقتصادية. اذن القانون وما يراد منه من عدل وحفظ أمن وتحقيق سلام  فى مفهوم الدولة الحديثة ليس مهما وبالتالى يبقى مفهوم الدولة السائد الآن هو نفسه الذى طبق خلال مملكة الفونج والقائم على وجود شعب وأرض ومشاركة.
انهيار دولة الفونج لعبت فيه العوامل الخارجية دورا كبيرا وعلى رأسها الغزو التركى والذى بدأ بهروب المماليك من مجازر محمد على فى مصر عام 1811 وانتهى عام 1821 باحتلالهم لكل دولة الفونج. هذا الاحتلال كانت له آثار مدمرة على مستقبل البلاد حتى بعد زواله اذ أنه ومنذ أيامه الأولى خلق روح الكراهية فى نفوس سكانه حين حدد أهدافه بالبحث عن المال والرجال لتكوين جيش يؤسس به امبراطورية طالما حلم بتكوينها. هذا الهدف جعل من سكان دولة الفونج عبيدا يتم صيدهم صباح مساء كما جعل ممتلكاتهم عرضة لنهب منظم تمارسه الحكومة التركية عبر موظفين مصريين تمثل فى الضرائب الباهظة لتكون النتيجة النهائية خراب ودمار أينما حل الموظفون المصريون. فقد أصبح الاقتصاد فى البلاد يقوم على تجارة الرقيق والضرائب مما أدى الى تدهور فى الحياة العامة وفى معاناة السكان مما كان له أثر كبير فى اشعال الثورة المهدية. 

 

 

آراء