اهتزاز الصورة النمطية عن بلادة العساكر

 


 

 

الصورة النمطية عن بلادة العساكر واحدة من أسوأ انواع التنميط التي اثرت وبصورة مباشرة على مجمل الاوضاع السياسية في السودان منذ الاستقلال والى تاريخ اليوم، ويعرف قاموس كامبرديج الصورة النمطية بانها (الافكار المسبقة التي يتبناها الناس تجاه شخص معين أو شيء معين، خصوصاً الافكار الخاطئة).
ومشكلة التنميط انه ينتشر ويتداوله الناس على انه الحقيقة، ونادراً ما يقفون لمعرفة صحته من خطئه. وقد يكون التنميط من باب الفكاهة وليس فيه من الضرر الشيء الكثير؛ كالصورة المرسومة عن الشوايقة بانهم اهل حرص، والجعليين اهل تهور، وتشير للرباطاب بانهم قوم ساخرون سريعو البديهة في استحضار الردود اللاذعة. وهناك ايضا صور نمطية للعديد من سكان السودان لا مجال لاستعراضها كلها.
الصورة النمطية لا تنطلق من فراغ، فهي ترتكز على نواة ما، ثم يضاف لها احداث ومواقف قد تكون حقيقية او خيالية، وبمرور الزمن تترسخ الصورة في الاذهان، ثم تصبح عنواناً عريضاً لتلك المجموعة من الناس او تلك المنطقة..الخ.
كان نصيب العساكر من هذا التنميط هو صفة (البلادة)، وربما تكون نواة هذا التنميط اتت من عدة عوامل نذكر منها:
1- هيمنة القطاع الريفي والبدوي على التركيبة السكانية السودانية، فقد ظل القطاعان الريفي والبدوي ولفترة طويلة بعد قيام الجيش السوداني مسيطران على التركيب السكانية، قياساً بعددية المجموعات الحضرية، وسكان الارياف والبادية غالباً ما يحتكمون في مشاكلهم وقضاياهم الى شيوخهم وعمدهم ومجالس الاجاويد. لذا فان نظرتهم للشخص المقيد بتنفيذ اوامر معينة، وفي وقت معين، وبطريقة معينة لا يستطيع ان يتخطاها، ويخضع لسلسلة من التعليمات، تكون نظرة سلبية في غالب الاحوال، وكأنما هذا الشخص في رأيهم مجرد دمية يحركه غيره، ويلغي عقله لصالح الاجراءات.
2- شح الفرص التعليمية، فقد كانت الفرص التعليمية في فترة ما بعد الاستعمار شحيحة للغاية، فأصحاب درجات القبول العالية يذهبون لجامعة الخرطوم، ويليهم في الترتيب جامعة القاهرة فرع الخرطوم والجامعة الاسلامية والمعهد الفني (معهد الكليات التكنولوجية وحاليا جامعة السودان). وتأتي الكلية الحربية بدرجات قبول أقل، مع ذلك؛ لابد للطالب المتقدم لها من اجتياز الاختبارات اللازمة المؤهلة للدخول في السلك العسكري ليتخرج ضابطاً، اما ضباط الصف والجنود فقد كان معظمهم في ذلك الوقت من ذوي الخلفية التعليمية البسيطة، وفي كثير من الحالات قد تسند لهم اعمال ادارية تفوق قدراتهم الذهنية.
هذه الاسباب مع اسباب اخرى ربما كانت النواة التي انطلقت منها الصورة النمطية عن بلادة العساكر. لكن مع تطور المجتمع وانتشار التعليم، وارتفاع نسبة القبول للكلية الحربية والمعاهد الامنية، وزيادة سنوات الدراسة بالكلية الحربية لتكون اربع سنوات، وفتح الباب لخريجي الجامعات والمعاهد العليا للانخراط في الخدمة العسكرية، وحركة الابتعاث للخارج للتدرب والدراسات العسكرية العليا، وحرص قيادات الجيش المتعاقبة على استقطاب النوابغ وتحفيزهم، بدأت هذه الصورة النمطية القديمة في الاهتزاز والتلاشي، وأخذت صورة جديدة للعسكرية في الظهور؛ قوامها عساكر يتعاملون مع التكنولوجيا الحديثة المعقدة، ويقودون طائرات حديثة، ويديرون مصانع الاسلحة ويبتكرون؛ ويشاركون بإنتاجهم في المعارض الدولية، ويفوزون بالجوائز. مما جعل المهنة العسكرية اكثر جاذبية للشباب والاجيال الجديدة.
السؤال هو: كيف اثرت الصورة النمطية عن بلادة العساكر في الحياة السياسية السودانية؟
وجدت النخب السودانية في سعيها للوصول للسلطة أن اقصر طريق لذللك يمر عبر بوابة العسكر، وبما أن الصورة النمطية المرسومة في ذهنها أن الجيش يقوده مجموعة من الضباط (البلداء)، الذين يسهل السيطرة عليهم وترويضهم، فقد دخلت هذه الاحزاب في سلسلة من المغامرات اقعدت البلاد سنينا عددا عن النهوض والتطور، ونبدأ بأول استغلال للصورة النمطية حدث في عام 1958م حين قام انقلاب الفريق ابراهيم عبود.
بالعودة للوراء سنجد انه في عام 1953م جرت اول انتخابات عامة والانجليز لم يخرجوا بعد من السودان، وقد اكتسح هذه الانتخابات الحزب الوطني الاتحادي بزعامة اسماعيل الازهري، ويضم في قيادته مثقفين كثر لا يدينون بالولاء للزعامات الطائفية، مع وجود آخرين اقل عدداً يدينون بالولاء للسيد على الميرغني، وقد اكتسح الحزب تلك الانتخابات بثلاثة وخمسين مقعداً مقابل اثنين وعشرين مقعداً لحزب الأمة.
هزيمة حزب الامة في هذه الانتخابات، وظهور الموالين لطائفة الختمية في الحزب الوطني الاتحادي كأقلية، وسطوع نجم الازهري؛ دقت كلها ناقوس الخطر لدى السيدين: عبد الرحمن المهدي، وعلى الميرغني، فكان لزاماً عليهما فعل شيء للتعامل مع هذه المستجدات التي تهدد زعامتيهما؛ والعمل معاً لتحييد هذه القوى الجديدة إن لم يكن هزيمتها، فالتقيا عام 1956 فيما عرف باسم (لقاء السيدين)، وقد وصف السيد محمد احمد محجوب المهندس والمحامي والشاعر والدبلوماسي، في كتابه الديمقراطية في الميزان هذا اللقاء بأن من اكبر الكوارث التي حلت بالسودان، علماً بان المحجوب نفسه كان وزيراً للخارجية في حكومة السيدين.
كانت ضربة البداية من جانبهم هي محاولة تفتيت الحزب الوطني الاتحادي واضعافه، فقام السيد على عبد الرحمن الموالي للسيد على الميرغني بالانشقاق عن الحزب وكون حزباً جديداً هو حزب الشعب الديمقراطي.
أما الخطوة التالية فقد جاءت من حزب الامة، فشكل ائتلافاً مع هذا الحزب المنشق الجديد لضمان الاغلبية الكافية لتشكيل الحكومة، والنتيجة هي سقوط حكومة الازهري في عام 1956م وبروز حكومة جديدة من الحزبين المؤتلفين برئاسة السيد عبد الله خليل من حزب الامة، وبهذا المناورة تمكنت القوى الطائفية من اقصاء خصمها اللدود اسماعيل الازهري.
صعود نجم عبد الله خليل وقربه الشديد من السيد عبد الرحمن المهدي نتج عنه بروز خلافات داخل حزب الامة من قوى لم يرضها هذا الصعود، فبدأت هذه القوى في نسج خيوط تعاون مع حزب الازهري الوطني الاتحادي بغرض فض الائتلاف مع حزب الشعب الديمقراطي، وإعادة تنصيب اسماعيل الازهري رئيساً للوزراء، وهذا التيار كان يقوده الصديق المهدي رئيس حزب الأمة، وكان الهدف المعلن هو انهم يريدون اجازة الدستور بأسرع ما يمكن، وأن حزب الشعب الديمقراطي كان يتلكأ ويماطل في ذلك. اما الهدف الحقيقي فيبدو انه ازاحة عبد الله خليل. إذا ليس من المعقول أن يقوم الحزب بإسقاط حكومة يرأسها بنفسه؛ ويعطيها هدية لرئيس حزب آخر منافس.
احس عبد الله خليل بهذه التوجهات فتحرك من فوره لوأدها، وكان رجلاً داهية من الطراز الأول، وقرر ان يلقنهم درساً؛ واستغل قربه من السيد عبد الرحمن في اقناعه بمدى خطورة هذا الوضع على مستقبل الطائفة، خصوصاً إذا ما اصبح الازهري رئيساً للوزراء، وما يمثله هذا الرجل من رمزية مهمة لأجيال الشباب والاجيال الجديدة؛ وما تمثله شخصيته من تحريض غير مباشر لها تحثها على الثورة ضد السلطة الابوية للقادة الطائفيين. وأنه من الأفضل تسليم السلطة للعسكريين لقطع الطريق امامه.
ثم قام باستثمار علاقات القديمة مع الجيش وقد كان ضمن افراده قبل تقاعده، ورتب اتفاقا ّمع قادته على إدارة شؤون البلاد ووضع دستور لها في مدى زمني قوامه ستة شهور. وأكمل عبد الله خليل عمله بإصدار بيان تأييد من السيد عبد الرحمن المهدي للحكم العسكري، وقام السيد عبد الرحمن على طه بتلاوة هذا البيان.
كانت الفكرة الاساسية من وراء تسليم عبد الله خليل السلطة للعسكريين، أنها سلمت لهم (كأمانة)؛ وأن العسكريين سيعيدون الامانة لأصحابها بمجرد زوال الظروف التي أدت لذلك، وجرى تحديد المدى الزمني لإعادة الأمانة وهو ستة شهور كما سبق ذكره، والنظرة كانت من جانب زعيمي الطائفتين ومعهم عبد الله خليل أن الفريق عبود وعساكره مجرد جسر يعبرون فوقه لمرحلة أخرى.
مرت الشهور الستة المضروبة للوفاء بالوعد ولم يظهر في الأفق ما يشير الى أن شيئاً من ذلك سيتحقق، وجاءت ستة شهور اخرى، ثم دفعة ثالثة من هذه الحزمة الزمنية؛ والعساكر كما يقول المثل تمسكوا بمبدأ (اضان الحامل طرشاء).
ولما طال امد انتظار إعادة (الأمانة) ، وقد ذاق العسكريون حلاوة الحكم، بل أنهم اصبحوا يتقاتلون فيما بينهم في سبيل الفوز برعاية هذه (الأمانة). وماتت كل الآمال التي تشير الى نيتهم في الانسحاب، هنا بدأ الحزبان الكبيران في التململ؛ وقد ادركا حجم (الخازوق) الذي جلباه لنفسيهما. واتضح لهم أن هذا العسكري الذي كانوا يظنونه بليداً؛ تعامل معهم بطريقة من يضحك اخيراً يضحك كثيراً.
احتفظ العسكري (البليد) بالكيكة التي قدمت له كهدية مدة ست سنوات كاملة، بينما كان الاعتقاد (الذكي) ان الموضوع لن يزيد عن ستة شهور، وبهذا تمكن العساكر من خداع واحد من اكثر الساسة دهاءً وهو عبد الله خليل، والغريب ان عبد الله خليل نفسه كان عسكرياً متقاعداً، إلا أنه في هذا الشأن اعتمد على ذكائه وخبرته، معتقداً أنه سيستطيع السيطرة على العسكريين كما كان يفعل مع المدنيين. وكانت حساباته خاطئة، فلم يرد العساكر الوديعة إلا بثورة شعبية في عام 1964م.
لم تتعلم الاحزاب من هذا الدرس شيئاً وظلت الصورة النمطية عن بلادة العساكر عالقة بذهنها، فقد خطط الحزب الشيوعي السوداني لحدوث انقلاب يعيده للواجهة السياسية مرة أخرى، وكان قد جرى حل الحزب في نوفمبر عام 1965م بعد حادثة معهد المعلمين وطُرد نوابه من البرلمان، وهي الحادثة التي تهجم فيها الطالب شوقي محمد علي على السيد عائشة رضي الله عنها، ومع ان المحكمة الدستورية قضت ببطلان الحل، وعودة النواب الشيوعيين الى مقاعدهم البرلمانية، إلا أن رئيس الوزراء وقتها السيد الصادق المهدي رفض تنفيذ قرار المحكمة.
وزادت هواجس الحزب الشيوعي حين قدم مشروع الدستور الاسلامي للجمعية التأسيسية وبدأت مراحل قراءته تمهيداً للتصويت عليه؛ ومن ثم إجازته، فتوجهت انظار قادة الحزب لخلاياه في القوات المسلحة للقيام بعمل ما، ورغم ان الحزب ينفي انه خطط لانقلاب مايو عام 1969م؛ وان هذه الخلايا تصرفت بمنأى عنه، وأن المسؤولية عن الانقلاب يتحملها تنظيم الضباط الاحرار، وفيهم شيوعيين وقوميين عرب، إلا ان هذا النفي لا يعتد به، ونورد ما ذكره مؤلف كتاب (عملية يوليو الكبرى في السودان) الاستاذ محمد على خوجلي نقلاً عن محمد ابراهيم نقد: (اجتمعت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي يوم 25 مايو 1969م لتدارس الموقف، وأن الاجتماع انقسم الى مؤيدين ومعارضين وكان الرأي الغالب هو التأييد لتطابق اهداف الحزب مع برنامج الانقلاب عدا اختلاف في نظام الحزب الواحد).
واشار نقد الى ان صغار الضباط في تنظيم الضباط الاحرار وقع اختيارهم على العقيد جعفر محمد نميري من بين اسماء كانت مرشحة لقيادة الانقلاب.
وكان العقيد جعفر نميري قد برز اسمه ابان احداث ثورة اكتوبر عام 1964م، ورأي الشيوعيون الاستفادة من شخصية نميرى لما تمتلكه من (كارزيما)، إضافة لرتبته العالية في الجيش وكان عقيداً في عام 1969، اضافة لخبرته في المشاركة في عدة عمليات انقلابية ضد الفريق عبود، فرأوا فيه الرجل المناسب لقيادة المرحلة ريثما يرتبون امورهم، أي انهم فعلوا كما فعل قبلهم عبد الله خليل وهي ايداع (الامانة) لعسكري (بليد)، ثم أخذوا ينتظرون الوقت الذي سيستردونها منه بوسيلة أو بأخرى، طوعاً أو كرهاً.
ويدعم هذا التصور، أي ان الحزب الشيوعي كان يرى نفسه الاجدر بالقيادة وليس العساكر، ما اورده محمد على خوجلي في كتابه المذكور (أن الاتحاد السوفيتي طلب من الحزب الشيوعي التحالف مع نميري لأن نظامه تقدمي يضع السودان على رأس الثورة الوطنية الديمقراطية لعربية، وتمسك الشيوعيون السودانيون باستقلالية حزبهم وموقفهم وقذفوا بالسؤال الجوهري: من يقود عملية التغيير من بين كل القوى السياسية والاجتماعية في السودان؟ وهو سؤال يطرح لأول مرة في الشرق الاوسط وبين الدول النامية، وأكدت الحركة العمالية والحزب الشيوعي ليس فقط حقهما في القيادة بل وعلى القدرة على لعب ذلك الدور القيادي لقوى التغيير).
وواضح من النص اصرار الحزب الشيوعي ان القيادة يجب ان تؤول اليه وللحركة العمالية وليس لأحد غيرهم، وأن أي شخص شاءت الظروف ان يكون في سدة القيادة؛ أنما هو مجرد دمية لا أكثر، يبقى في موقعه ريثما تعود القيادة لأصحابها.
كان الحزب الشيوعي يضم في صفوفه في ذلك الوقت نخبة من العقول اللامعة، في مقدمتهم عبد الخالق محجوب وهو ممن يجيدون التخطيط والغوص في بواطن الأمور، إلا انه كغيره من النخبة المثقفة سقط في فخ الصورة النمطية عن بلادة العساكر، فذهب ضحية لهذه التصورات الخاطئة.
جيء بالنميري من جبيت في شرق السودان لقيادة الانقلاب، وتمت الحركة في 25 مايو عام 1969م بنجاح تام، وبعد عدة شهور؛ رأى الحزب الشيوعي أن الوقت قد حان للحساب واسترداد الودائع وعودة القيادة لأهلها وأن وقت تطبيق المثل السوداني القائل (اكلوا إخوان؛ واتحاسبوا تجار) قد حل.
لكن العسكري الذي ظنوا أنه بليداً وأنه سيقبل بدور الدمية ولن يتشكك في نتيجة الحساب لم يمهلهم لفعل ذلك. فقد كان يقظاً ومدركاً ودارساً للوقائع من حوله، ويرصد تحركات خصومه، ويعد العدة لمفاجأتهم حين تحين لحظة ذلك، فبادر للتحرك في ضربة استباقية وقام بفصل الضباط الشيوعيون في مجلس قيادة الثورة من المجلس وهم بابكر النور، وهاشم العطا، واحد القوميين العرب وهو فاروق عثمان حمد الله،. ثم استمال مجموعة من الشيوعيين للعمل معه، اطُلق عليها اسم أحرار مايو، لأنه في تلك اللحظة كان بلا أي سند حزبي، ثم التفت للنقابات باعتبارها من معاقل الشيوعيين وقام بحلها، وحظر المنظمات الطلابية والجمعيات النسوية وكل ما يُشك في انه واجهة شيوعية، وامتدت يده لزعيم الحزب عبد الخالق محجوب فوضعه قيد الاقامة الجبرية في مارس 1971م.
لما رأى الشيوعيين ان محاولة استعادة (الامانة) طوعاً من العساكر اصبحت في حكم المستحيل، قرروا استعادتها كرهاً؛ وقد رأوا بأم عينهم (الخازوق) نفسه الذي سبق لعبد الله خليل والسيدان رؤيته، فقام الرائد هاشم العطا بتنفيذ انقلاب في 19 يوليو عام 1971م، وسماه الشيوعيون (الحركة التصحيحية) والذي سارت خطواته اول الأمر سيراً حسناً لمنفذيه، فقد القى القبض على نميري واقتيد من منزله الى السجن، وخرجت التظاهرات المؤيدة للانقلاب كما كان مخطط لها، ومن ضمنها هتافاتها (لن يحكمنا طيش حنتوب)، والطيش كما هو معروف من يكون ترتيبه الاخير في الفصل المدرسي. وهي اشارة واضحة لتأصل فكرة كونه بليداً في نفوسهم، وقاموا بنشر هذا التصور وسط قطاعات الشعب باعتباره من شعارات التظاهر.
كان اليوم الثالث للانقلاب حافلاً بالمفاجآت غير السارة، فقد أُخرج نميري من السجن، وقامت قوات مضادة مؤيدة له بإجهاض الانقلاب؛ ثم الُقى القبض على قادته، وشابته احداث مأساوية قتل فيها عدد كبير من الضباط والجنود الاسرى فيما عرف بمجزرة بيت الضيافة، وانتهي الانقلاب بإعدام عدد كبير الضباط وضباط الصف والجنود المشاركين فيه من الشيوعيين، ومعهم بعض قيادات الحزب وفي مقدمتهم رئيسه عبد الخالق محجوب والشفيع احمد الشيخ، وجوزيف قرنق، فكانت ضربة قاصمة للحزب الشيوعي؛ وخسر في هذه المعركة صفوة مفكريه وقياداته اللامعة. وكل هذا بسبب فكرة تقول انه يمكن الوصول الى السلطة تحت ظل قائد عسكري (بليد) والاستفادة من سلاحه، ثم التخلص من هذه العسكري لاحقاً، وكانت النتيجة هي خراب مالطة.
وهكذا سحقت الآلة العسكرية مفكراً كبيراً هو عبد الخالق محجوب، ولم تشفع له قدراته الفكرية العالية في التعامل مع العسكريين بالحنكة اللازمة، وربما كان يعتقد ان العسكري يمكن ترويضه بالترغيب او بالترهيب، وهو شيء ربما كان جائزاً في عسكريات اخرى خارج السودان، ولكن التركيبة الذهنية للعسكري السوداني المستمدة من تراث قبلي يمجد البطولة والشهامة ويستهين بالموت، تميل في معظم الاحيان للصدام حتى آخر رمق.
وحتى لو فرضنا نجاح حركة هاشم العطا في الوصول للسلطة، يمكن وبسهولة ان نتوقع صداماً قادماً بينه وبين المدنيين في الحزب الشيوعي، حيث ستبدأ سيناريوهات ازاحته من منصبه ان لم يبادر بإعادة الامانة سلماً، وستقفز الصورة النمطية له كعسكري بليد انتهى دوره كجسر للعبور للسلطة، وتكرر القصة نفسها في ثوب جديد.
وهذا ما حدث بالضبط في تجربة أخرى من التجارب السودانية؛ ولكن هذه المرة مع حزب يميني، هو الجبهة القومية الاسلامية.
لم يتعلم الساسة السودانيون الدرس من وقائع عام 1971م؛ فكانوا بحاجة لحصة تقوية ثالثة، ففي عام 1989م قام حزب الجبهة القومية الاسلامية بإعادة المشاهد القديمة نفسها، حيث أنشأوا خلايا لهم داخل الجيش واختاروا العميد عمر حسن احمد البشير لقيادة التحرك.
لم يكن البشير من اصحاب الخبرة في المشاركة في الانقلابات العسكرية كما كان الحال مع النميري، إلا ان سمعته العسكرية كانت جيدة خصوصاً بعد معركة مايوم، والتي قام بطرد قوات جون قرنق منها في عام 1988م، تحت اسم عملية بلنجة حديد وهي معركة مشهورة في التاريخ العسكري السوداني.
ومثلما جرى استدعاء نميري من جبيت، استدعي البشير من جنوب السودان لقيادة الانقلاب، حيث التقى للمرة الاولى بحسن الترابي قبل تنفيذ الانقلاب بفترة وجيزة، وكان الانقلاب فكرة مدنية وقام العسكريون بتخطيط تفاصيلها من وجهة نظرهم العسكرية.
سبق ذلك محاولة انقلاب تمويهية قبل عدة أيام من تنفيذ الانقلاب الحقيقي، كان من المتهمين فيها الزبير محمد صالح، والذي شغل منصب نائب البشير فيما بعد وظل به الى مقتله في حادث طائرة، وقد انطلقت قبل هذه المحاولة التمويهية موجات من الاشاعات الموجهة بقرب حدوث انقلاب استأثرت باهتمام اجهزة الامن، ولما انكشف أمر هذا الانقلاب الزائف؛ واعتقل المتهمين فيه، ظنت هذه الاجهزة ان مكامن الخطر التي كانت تطاردها قد تلاشت فاسترخت، ومنح هذا الاسترخاء منفذي الانقلاب الحقيقي مساحة واسعة يحتاجونها للتحرك والتنسيق دونما رقابة تذكر.
جاء انقلاب عام 1989م بعساكر اصحاب توجه اسلامي لسدة السلطة، اما الجبهة المدنية التي صنعت فكرة الانقلاب، وهم الترابي ومن معه؛ فقد انشغلوا عن استرداد (الأمانة) من العساكر بسبب نشوب حرب الخليج في عام 1990م، وانخراط السودان مع القلة الداعمة لصدام حسين، وتعرضه للكثير من الضغوط العربية والغربية؛ وقد حتمت هذه التطورات ان يبقى العسكريون في الواجهة ريثما ينجلي الغبار وتتضح الرؤية، بينما ظلت عيون المدنيين منهم ساهرة ترقب موعد اعادة امانتهم لهم.
استفاد الترابي ومن معه من درس الشيوعيين وما تعرضوا له حين حاولوا استعادة امانتهم بالقوة العسكرية في عام 1971م. لذا لجأ الترابي للسياسة والدهاء بغرض استخلاص الأمانة من براثن العسكريين باقل الخسائر الممكنة؛ وبمدى زمني فيه تراخ ودونما استعجال النتائج؛ وبخطوات ناعمة مرسومة بدقة.
كانت أول هذه الخطوات الناعمة هو حل مجلس قيادة الثورة في أكتوبر 1993م، وقام المجلس التشريعي وهو مجلس معين، بتنصيب الفريق عمر البشير رئيساً للجمهورية والزبير محمد صالح نائباً له، اما اهم الخطوات فقد كانت تعيين ضباط مجلس قيادة الثورة في وظائف تنفيذية. وبهذا الاجراء تم التخلص من كتلة كبيرة من الجسم العسكري وبدون أي خسائر.
ثم جاءت خطوة ناعمة ثانية هي اجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في عام 1996م، لتأكيد الشرعية ولمزيد من ترسيخ الاتجاه نحو المدنية والبعد عن الطابع العسكري للدولة، وفاز فيها عمر البشير وجرى انتخاب حسن الترابي رئيساً للبرلمان. ويبدو ان فوز البشير في هذه الانتخابات كانت اشارة الغرض منها بث الطمأنينة في نفوس العساكر وأن السلطة لا تزال في يدهم.
في عام 1998م قتل الرجل العسكري الثاني في الدولة الزبير محمد صالح في حادث طائرة، وتولى منصبه رجل مدني هو على عثمان محمد طه، وكانت هذه الخطوة في مدلولها تشير لرجحان كفة المدنيين، وان الوقت قد حان للتخلص من المؤسسة العسكرية برمتها، واسترداد الامانة. فبدأت في ديسمبر 1999م احداث ما سمى بالمفاصلة، وقد لاحت نذرها عندما قام الترابي بمحاولة لتقليص سلطة البشير واجراء تعديلٍ دستوري والسماح بالانتخاب المباشر لولاة الولايات؛ وكان يتم تعيينهم بواسطة رئيس الجمهورية، ويستدعى هذا الامر القيام بتعديل دستوري، والبرلمان كان يرأسه الترابي.
لكن حسابات الترابي فشلت، وهو أيضاً داهية لا يشق له غبار ويتفوق في الدهاء على عبد الله خليل، بحكم انفتاحه على الثقافة الغربية؛ واجادته لعدد من اللغات؛ وعلاقاته الواسعة بكم كبير من المفكرين والمنظرين في المحيطين الاقليمي والدولي.
ورغم ثقة الترابي المفرطة في حسن تدبيره ودقة خطواته، إلا انه ايضاً سقط في فخ الصورة النمطية عن بلادة العساكر، ولم يعط الطرف الآخر حقه من التقييم الصحيح. وهو الفخ نفسه الذي سقط فيه كما اشرنا من قبل كلا من عبد الله خليل مع عبود وعبد الخالق محجوب مع النميري.
كانت المفاجأة له أن بعض كبار تلاميذه انقلبوا عليه، ولم يكن لديهم ميل لإقصاء العساكر عن المشهد، حتى ولو بالصورة التدريجية الناعمة التي كان يدير بها الترابي الامر، فتقدم عدد منهم ما سمى مذكرة العشرة، الأمر الذي لم يحسب حسابه البتة وشكل مفاجأة تامة له، فلم يجد الترابي حوله إلا قلة، وانتهت المفاصلة بخسارته للمعركة السلمية، التي لم تطلق فيها طلقة واحدة، وازاحته من رئاسة البرلمان وازاحة معظم مؤيديه من مراكز صنع القرار وتحولهم للمعارضة. وفي عام 2013م زاد العساكر مركز قوتهم بحدوث تغيير خرج بموجبه على عثمان محمد طه من منصب نائب رئيس الجمهورية، وحل محله عسكري هو بكري حسن صالح، معلنة عن فشل تام لما خطط له الترابي، وبقي العسكريون في موقع القيادة.
موقف تلاميذ الترابي الذين انشقوا عليه وفضلوا الاستمرار في ظل سلطة المؤسسة العسكرية ليس جديداً على المشهد السوداني، ففي عهد نميري فضل المنشقون عن الحزب الشيوعي ومنهم احمد سليمان العمل مع النميري، وخرجوا على زعيمهم عبد الخالق محجوب.
مجمل الصورة ان أس البلاء كامن في القوى السياسية الحزبية، فهي التي تغري العسكريين بالاستيلاء على السلطة متوسمة صفة (البلادة) فيهم، وأنها يمكن ان تستخدم بندقيتهم كجسر للوصول للسلطة ولتصفية الحسابات مع خصومها، وتضع في حساباتها انها ستزيح هؤلاء العساكر في مرحلة تالية من المشهد طوعاً او كرهاً. وحين تحين المرحلة التالية هذه تكتشف انها اكلت (مقلباً) كبيراً، وان العساكر (كنكشوا) في الامانة، فتعود لأسلوب اشعال الثورة الشعبية، والتحريض ضدهم بكل الوسائل الممكنة، وحتى حين تنجح الثورة الشعبية فأنها وفي كل الحالات لا تنجح الا بانحياز جزء من الجسم العسكري ضد الجسم العسكري الآخر.
رأينا من خلال هذا المقال كيف سلم عبد الله خليل السلطة للعساكر لتصفية حساباته مع الازهري ومع منافسين له في حزبه، ولم تتم ازاحة العساكر من الحكم الا بثورة اكتوبر عام 1964، وحتى هذه الثورة ما كانت لتنجح لولا ان القوات التي اعطيت لها الاوامر بضرب المتظاهرين رفضت تنفيذ الامر. ولعب النميري ومعه عدد من ضباط الجيش دوراً كبير في انجاح الثورة واجبار عبود على التنحي.
وراينا كيف ان الشيوعيين والقوميين العرب كانت لهم اليد الطولى في انقلاب مايو عام 1969م، ثم قاموا بانقلاب مضاد عام 1971م ضد النميري بقيادة هاشم العطا، لاسترداد (الامانة)، علماً بان هاشم العطا نفسه ربما لو كتب لانقلابه النجاح سيحذو حذو من سبقوه في القبض على السلطة بيد من حديد، ولم يسقط النميرى الا بثورة شعبية عام 1985م، وحتى هذه الثورة ما كان لها ان تنجح لولا انحياز العسكري ثوار الدهب للمتظاهرين، وهي لوحة ثورة اكتوبر نفسها.
وفي عام 1989م نفذت الجبهة القومية الاسلامية انقلابها لقطع الطريق امام اتفاقية الميرغني – قرنق، ومن اهم بنودها هو استيعاب حوالى خمسين الف مقاتل من قوات قرنق في الجيش السوداني، ويبدو ان منظري الجبهة القومية الاسلامية رأوا ان الحزب الاتحادي الديمقراطي، استعان بقوة عسكرية هي قوات قرنق، حتى وان كان الهدف المعلن هو انها ضمن اتفاقية سلام تضع حداً للحرب، أي أنهم نظروا لها كانقلاب غير معلن، فتصرفوا على هذا الاساس، ومن قراءة السجل السوداني في هذا الشأن سندرك ان جون قرنق لو كتب له دخول الخرطوم بهذه العدد الهائل من الجند (سيكنكش) ايضاً في السلطة، وأنها لن تفلت من يده الا بثورة شعبية تستعين فيها القوى الحزبية بقوة عسكرية لإزاحته، كما حدث في حالتي اكتوبر عام 1964م وابريل عام 1985.
السيناريو نفسه تكرر عام 2019م ، ولم تتمكن القوى السياسية من ازاحة نظام الجبهة القومية الاسلامية، الا بثورة شعبية، وحتى هذه الثورة الشعبية كسابقاتها ما كان ليكتب لها النجاح لولا انحياز بعض القوى العسكرية لها، وقد فشلت القوى السياسية في مظاهرات عام 2013م في احداث التغيير الذي تتمناه عبر سلسلة من المظاهرات والاضرابات؛ لأنها لم تتمكن استقطاب قوة عسكرية تقف معها.
يبدو ان السياسيين بصورة عامة لم يستفيدوا من حصص التقوية التي تقدمها السياسة السودانية، فما زالت حلقاتها المتشابهة تتكرر وتتكرر، وآخر حصص التقوية هذه هي الحصة الرابعة وما يحدث ونحن في العام 2023م ، وذلك حين رأى جزء من قوى الحرية والتغيير أن يستعين بقوة عسكرية موازية للجيش هي الدعم السريع يستطيع من خلالها تحقيق اهدافه، وهذه القوة الموازية غير منضبطة وتفتقر للتوجيه والارشاد وولائها لأشخاص وليس لدولة، وجاءت النتيجة كارثية.
كانت القوى السياسية في السابق تستعين بالجيش وهو في كل الاحوال قوة منضبطة، فلم يحدث في كل الانقلابات والانقلابات المضادة حدوث دمار وفوضى مثلما حدث الآن، فقد كانت المرافق العامة في مأمن إلا في حالات نادرة، فلا تتوقف المستشفيات عن العمل، ولا تنقطع الخدمات العامة وتظل امدادات المياه والكهرباء تعمل، ولا يحدث نزوح من العاصمة، ولا اجلاء للأجانب، وحتى حالات القتل التي تطال المواطنين تحدث في نطاق ضيق جداً، ولا تتسلل أي قوات من الجيش لشوارع الاحياء السكنية او تحتمي ببيوت المواطنين. ولم يحدث أي نهب للمصارف، او المحال التجارية.
والسؤال هو: كم يا ترى عدد حصص التقوية التي سيحتاجها السياسيون في مقبل الايام في مدرسة التجارب السودانية؟

nakhla@hotmail.com

 

آراء