باقير فيشكا .. بقلم د. عمر بادي

 


 

د. عمر بادي
2 November, 2009

 

 

 

ombaday@yahoo.com

 

مقتطفات من كتابي:       القيام بالدفرة

(مجموعة ذكريات وخواطر طريفة)

( الكتاب الثاني)- 2009

هم ظرفاء ، ومتميزون في ظرفهم ، ولا زال الناس يذكرونهم بالخير في بلدتنا ، ويترحمون عليهم أمواتاً وأحياءً . لقد كنت ذكرت مجموعةً منهم في مقالة لي سابقة بعنوان (لازمات محببة) وعنيت بذلك أصحاب اللازمات المعينة منهم والمعروفين بها ، كما كنت قد ذكرت في مقالات متفرقة بعضاً آخرين منهم في مناسبات مختلفة . الآن ، سوف أواصل السرد عن ظرفاء آخرين منهم في بلدتنا حلفاية الملوك والتي كانت قبل عقود قليلة قريةً بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى . كما أسلفت في مقالاتي المذكورة عن ظرفاء بلدتي المتميزين ، إنني منهم وهم مني ، وعندما أكتب عنهم فإنني أحاول أن أمجد سيرتهم من خلال ظرفهم وأوثق لهم بعض ما يروى عنهم ، وإن وجد أي تجريح فسّره البعض مني فأمسحوه في وجهي ، وأكيد سوف نتصافى حين نتأصل .

الى هذه ( الحتة ) كنت أود أن أكتب عن ظرفاء بلدتنا قاطبة كما قلت ولكنني تراجعت ، فبلدتنا لديها فتق تاريخي قديم طالما سعينا في رتقه كما سعى جيل قبلنا ولكنه كداء ( الفتاق ) تظهر مضاعفاته المؤلمة عند تزايد أي ضغوط داخلية . لذلك أراني سوف أتحدث إليكم كما فعلت سابقا عن الظرفاء المتميزين في حينا الرابع وفي جزء من حينا الخامس فقط .

العم المساح الملقب بسمري يرحمه الله ، كان يسوق باص المعهد الفني، وكان يعود بالباص دائماً متأخراً بالليل بعد أن ينتهي من عمله ، وكنا إذا تأخرنا في الخرطوم في حضور مباراة لكرة القدم أو في دخول الدور الثاني في السينما أو في حضور عرس وكانت (البكاسي) و( الطراحات) قد توقفت عن العمل ، كنا نبدأ بالمسير في شارع المعونة باتجاه الحلفاية والتي تبعد ثمانية كيلومترات من الخرطوم بحري ، وكنا نلتفت لأي نور سيارة يسطع خلفنا متوقعين أن يأتي العم المساح بالباص ، وفي كل مرة كان يصدق حدسنا فيأتي فنناديه فرحين فيتوقف باسماً ضاحكاً ، ونركب معه فيخرج ألة ( الرق ) من درج البص ويبدأ في النقر والغناء ونحن (نشيل) معه . لقد كان يهوى الغناء حتى النخاع ! في ذات يوم كان في حينا حفل عرس يحييه الفنان خضر بشير، وكانت عادة الفنان خضر بشير أن يتجول بين الناس أثناء غنائه وربما يصعد على حائط أو شجرة من شدة إنفعاله ، ولكن كان في الحفل ميكرفون حدّ من حركته وألزمه أن يكون بجانبه ، وكان صاحب مكبرات الصوت سعيداً بنجاح إستعمال الميكرفونات في الأعراس ، وكان إسمه قصّودة ، فكان ينتهز الصمت بين الفواصل الغنائية للدعاية لنفسه فيمسك بالميكرفون ويردد :(( ميكرفونات قصودة دايماً لحفلاتكم ، قصودة في خدمتكم)) ، وأثناء غناء الفنان خضر بشير وتجاوبه مع غنائه وتجاوب الناس معه والذين كانوا ينادونه بالأستاذ خضر بشير إعجاباً ، دخل العم المساح حاملاً آلة الرق ووقف بقرب الفنان خضر بشير أمام الميكرفون ونقر رقه في طرب ، لكن وبسرعة متناهية خطف الفنان خضر بشير الرق منه وقذف به فوق سقف البيت ! إستشاط العم المساح غضباً وأوقف الغناء وطالب الفنان بإعادة رقه وإلا فسوف يحدث ما لا يحمد عقباه وكادت الحفلة أن (تتفرتق) لو لا تدخل (الأجاويد) وتسلق وزير العريس على أكتاف آخرين حتى إرتقي الى سقف البيت وأنزل الرق وسلمه لصاحبه !.

الأخ عطّاي يرحمه الله كان قد حباه الله بسطة في الجسم وقوة في رأسه كان يهد بها الجدار إذا ما غضب وضربه بجبهته . في ذات مرة كان يقود حماره بعد أن حمله ببعض الأغراض وأثناء  الطريق حرن الحمار ورفض رفضاً قاطعاً أن يتحرك رغم محاولات الأخ عطاي معه بكل مفردات اللغة الحميرية ، وعندما غلب حيلة معه أمسك بالحمار من أذنيه وقال له :           ((ياخي ما زهجتنا)) ثم ضربه برأسه ضربة ( روسية) إنهار بعدها الحمار وسقط أرضاً ولم يتحرك من مكانه إلا في اليوم التالي !

الأخ محمود الملقب ب(تيريا) يرحمه الله كان يهوى الشعر والسجع وكانت له مواقف كثيرة في غاية الظرف لكن يصعب سردها على نطاق عام ، لكنه إشتهر بتأليفه لأغاني السيرة في مناسبات الأعراس ، فعندما تزوج الأخ عثمان الملقب بـ(قطية) على الأخت الست ( قطع ) لهم أغنية (سيرة) بدأها بقوله :( لولية يا لولية ، حلات الست مع قطية ) ، وعندما تزوج إبن اختي حسن الملقب ب(كديس) وقد لقبه بذلك والده العم محمد نمر، وكان زواجه على الأخت توتة وكان ولا يزال يعمل في شركة (باتا) ، ألف له محمود (سيرة) عرسه فبدأها بقوله: (( توتة يا تاتا ، حلاته كديس باتا)) !

الأخ بشير جمع بين (الفتونة) والظرف ، وهو لم يتغير أبداً في نهجه رغم تعاقب الازمان ، ورغم إغترابه الذي طال وطال . كان يأتي إلى حينا في إجازته وكان يخرج الى الشارع أمام باب بيتهم وإذا رأي رجلاً على الطريق كان يستوقفه ويشبعه أسئلة عما أتى به في حينا وكأنه قد رجع بذلك ثلاثين عاماً للوراء عندما كانت الحلفاية قرية لا يأمن أهلها الغرباء ، وكأني به لا زال يطبق مفهوم ( بت حامي الحمى الما حام حداه دخيل ) كما ورد في أغنية الحقيبة ( يا بت ملوك النيل ) ، وكانت له لغة خاصة مفرداتها من كلامنا العربي لكن بعد شد ومد وحذف لبعض الأحرف وكان حين يأتي يتحدث بها مع الناس فيتذكرونها ويردون بها عليه في ضحك ، وله كذلك موسيقى يجيدها باستعمال المشط مع قطعة من الورق كان ينفخ عليها وكأنها آلة هارمونيكا فيعزف بها كل الأغاني ، وأيضاً له إيقاع يحدثه بملعقتين معقوفتين يمسك بهما بيده ويضرب بهما على وركه مع ضربات عليهما من يده الأخرى فتحدث إيقاعات مختلفة !

الأخ عصام وله لقب لا أقدر على ذكره ، ظريف من ألطف الظرفاء ، في ذات مرة بعد تخرجه من الكلية المهنية العليا قسم الكهرباء أحضرت له إحدى العمات مكواتها الكهربائية وطلبت منه أن يصلح ما بها من عطل ، فقلب المكواة يمنة ويسرة ثم قال لها :(( والله يا عمتي المكوة ما أدوها لينا))! بعد عودة الأخ عبد الله من المجر كان يكثر من الكلام باللغة المجرية وفي مرة قلنا له :((كان بتعرف مجري كويس ترجم لينا(كلام الطير في الباقير) )) , فرد قائلاً :(( باقير فيشكا)) ، هنا قال له الأخ عصام : ((باقير ياها بتاعتنا ، تبقى كل ( كلام الطير في) يكون ترجمتها فيشكا ؟)).

 

صحيفة (الخرطوم) ـ 12/12/2002م

 

 

 

 

 

 

 

 

 

آراء