بعض مرتكزات الفكرة الجمهورية (6)

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

"هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُور"ُ
صدق الله العظيم

الوقت

أمة المسلمين تمثل قمة الحضارات على الأرض.. وهي الحضارة التي يتحقق فيها الكمال الإنساني لأول مرة في التاريخ.. ومن أجل ذلك جاءت البشارة بها بصور مختلفة وفي أزمنة مختلفة.. والبشارة دائماً تحدد وقتها بـ (آخر الزمان)!! هذه البشارة ليست قاصرة على الأديان الكتابية، وإنما وردت حتى في الأساطير، والأديان القديمة، وبعض الفلسفات العلمانية.. ونحن هنا سنتناول بعض أساطير العالم، وأديانه القديمة، التي تحدثت عن البشارة بالكمال الإنساني، والمخلِّص، الذي على يديه يتم هذا الكمال.. وقد أورد لنا ميرسيا ايلياد في كتابه (ملامح الأسطورة)، عدداً كبيراً من أساطير الشعوب في العالم، ومن مختلف القارات والبلدان.. يهمّنا من هذه الأساطير أنّ الأغلبية الساحقة من أساطير شعوب العالم، ترى أنّ الكمال كان في بداية الخلق، وأنّه هنالك عودة لهذا الكمال في نهاية الزمان.. يتحدث ميرسيا عما يسميه (أساطير الأصل)، وفي هذه الأساطير دائماً هنالك عودة لهذا الأصل، فمن أقواله في ذلك مثلا، قوله: "إن الفكرة القائلة أن الكمال كان في البداية، تبدو ممعنة في القدم، وهى، على أية حال، واسعة الإنتشار وكانت بالطبع تقبل، إلى ما لا نهاية، أن يعاد التعبير عنها، وأن تندمج في تصورات دينية لا حصر لها".. وهو يلاحظ أنه دائماً يتم "إسقاط فكرة الكمال الحاصل في البدايات في مستقبل".. ويقول: "غير أن مدلول الأصل يرتبط بفكرة الكمال والغبطة على وجه الخصوص. لهذا ففي التصورات المتصلة بنهاية الكون التي يفهم منها المرء أن الخلق سيتم في المستقبل، إنما نجد أساس كل المعتقدات القائلة بحصول العصر الذهبي، ليس فقط أو ليس إطلاقاً - في الماضي، بل بحصوله أيضاً، أو بحصوله فقط، في المستقبل".. وهو يذكر أن كل أساطير العالم عندما تتحدث عن نهاية العالم، أنما تتحدث عن نهاية عالم قديم، وميلاد عالم جديد، أكمل منه في مكانه.. ونحن هنا نذكر نموذجاً واحداً من أساطير الشعوب هذه، يقول ميرسيا: "يعتقد أبناء جزر أندمان Andaman أن إنسانية جديدة سترى النور، بعد نهاية العالم، ستتوفر لها شرائط الحياة الفردوسية، لن تصاب إطلاقا بالمرض ولن تنالها الشيخوخة.. و لن يدركها الموت. و أما الأموات فسيبعثون إلى الحياة بعد الكارثة".. ويلاحظ أن هذه الأساطير تتحدث عن كمالات تحدث في هذه الحياة، وليس في الحياة الأخرى بعد الموت.. ومعظم الأساطير، تقول بأن العودة للأصل تتم عن طريق جَدٍّ أسطوري، ينتظر في آخر الزمان، ليحقق هذه العودة.. ويتابع ميرسيا، الظاهرة، وأشكال التعبير عنها حتى في العصور الحديثة.

أما فراس السواح، وهو من المتخصصين في الميثولوجيا، فهو أيضاً له دراسة مفصلة عن نهاية التاريخ، وعلاقتها بالمنقذ وحالة الكمال البشري، التي تحدث عند نهاية التاريخ.. وقد ضَمَّنَ هذه الدراسة كتابه (الرحمن والشيطان: الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات الشرقية). ومما جاء من أقواله عن الديانة الزرادشتية، ومراحل خلق الكون عند اهورامزدا قوله: "يسير التاريخ عبر ثلاث مراحل: المرحلة الأولى مرحلة الخلق الطيب الحسن الكامل. المرحلة الثانية هي مرحلة امتزاج الخير والشر في نسيج العالم عقب هجوم انجرا ماينو عليه وتلويثه. المرحلة الثالثة هي مرحلة الفصل بين الخير والشر ودحر الشيطان ورهطه، والارتقاء بالعالم نحو المستوى الماجد والجليل الذي ينتظره في نهاية التاريخ".. ويقول: "في المرحلة الأخيرة من التاريخ، سوف يظهر المخلِّص المنتظر المدعو شاو شنياط وهو الذي سيقود المعركة الفاصلة الأخيرة ضد الشيطان ويقضى عليه، ومع القضاء على الشيطان يتم تدمير العالم القديم الملوث بعناصر الشر، وتجديده بطريقة ما، تقود إلى خلق جديد. ثم تفتح القبور وتلفظ الأرض ما أتخمت به من عظام عبر الزمن فتهبط الأرواح من البرزخ مكان إقامتها المؤقت".. ويقول: "وأما خيار الإنسان في المعركة فوعيه، وحريته، وخياره الأخلاقي. ويتجلى خياره الأخلاقي من الناحية العملية، في عناية الإنسان بأخيه الإنسان، و ببقية الكائنات الحية، لأنهم جميعا صنعة الخالق الواحد. كما عليه أن يراعي جسده وروحه في آن معاً".. وهنالك شبه كبير بين فكرة المخلِّص في الزرادشتية وفى المسيحية، فقد جاء عن المخلِّص في الزرادشتية ما نصه: "في المرحلة الثالثة تبدأ عملية الفصل بين الخير والشر، والتي تنتهي بدحر الشيطان ورهطه ليعود الكون كاملاً وطيباً إلى الأبد، وينتفي منه المرض والألم والحزن والموت. ولقد ابتدأت المرحلة الثالثة بميلاد زرادشت، وتأتي إلى خاتمتها بميلاد المخلص المدعو شاو شنياط أو (شوشانز)، وهو الذي يقود المعركة الأخيرة الفاصلة بين قوى النور وقوى الظلام. سوف يولد المخلِّص من عذراء تحمل به عندما تنزل للاستحمام في بحيرة كانا سافا، فتتسرب إلى رحمها بذور زرادشت التي حفظتها الملائكة هناك إلى اليوم الموعود".. ويتابع مرسيا الفكرة إلى الأزمنة الحديثة، عند اليهود، وعند المسيحيين، وحتى عند الماركسيين والنازيين.. وعن اليهود والمسيحيين يقول: "عند اليهود يعلن مجيء المسيح نهاية العالم واستعادة الفردوس، أما عند المسيحيين، فتسبق نهاية العالم المجيء الثاني للمسيح، وحصول الدينونة".. وعن النازية والماركسية يقول (نورمان كون) مؤلف أحدث كتاب عن المذهب الألفي، كتب عن الإشتراكية القومية وعن الماركسية اللينينية، قال: "وراء لغة علمية منتحلة تستخدمها كلٌّ من النازية والماركسية، نلمح، رؤية للأشياء، تذكر، بشكل غريب، بالهذيان الذي كان المرء يستسلم إليه في القرون الوسطى.. هنالك الصراع النهائي، الحاسم الذي تقوده النخبة (ولتكن الآرية أو البروليتاريا) ضد جحافل إبليس (اليهود أو البرجوازية) وهناك متعة السيطرة على العالم، أو متعة العيش في مساواة مطلقة، الإثنين معا، والممنوحة بموجب قرار من العناية الإلهية موجه إلى النخبة التي ستلقى، على هذا النحو، تعويضاً عن كل آلامها، هنالك أيضاً تحقيق الأهداف القصوى للتاريخ، في عالم يتخلص أخيراً، من الشر".. ويقول: "إلا أن ماركس عمل على إثراء الأسطورة المرموقة، العائدة إلى آيديولوجية المسيح المنتظر في اليهودية والمسيحية، فمن جهة أولى، نلمح ذلك الإجراء من خلال الوظيفة الخلاصية، التي منحها إلى البروليتاري، ومن خلال دور البروليتاري في النبوءة بالمستقبل.

ومن جهة ثانية، هنالك الصراع بين الخير والشر، الذي يمكن بسهولة مقارنته بالخلاف الشديد في رؤية النهاية القصوى، عند المسيح والدجال، والمتبوع بظفر نهائي وحاسم للمسيح: إنه لأمر غني بالدلالة أن يستعيد ماركس، خدمة لمذهبه، الأمل بالنهاية المطلقة للتاريخ، الموجودة عند اليهود والمسيحية".. وفي الماركسية، الفردوس، الموعود المتمثل في الوصول إلى مرحلة الشيوعية - من كل حسب طاقته، و إلى كل حسب حاجته - هي استعادة المرحلة المشاعية الأولى حسب مراحل التاريخ في الفكر الماركسي.. ويطبق مرسيا، التصور الأسطوري، ونهاية التاريخ على مجالات مختلفة.. ومن ذلك التحليل النفسي، ومفهوم العقل الباطن، وبصورة خاصة مرحلة الطفولة عند فرويد.. وفي مجال الفن الحديث يرى صوره في مدارس فنية بعينها في مجالات الرسم والشعر، والرواية، والمسرح.. ومن هذه المدارس، التكعيبية، والسريالية، والدادائية، والروديكافية، والمدرسة الواقعية في الموسيقى.. فهو يرى في (الصعوبة) و(الإبهام) في مثل هذه المدارس انهيار لعالم لغة الفن القديمة، وإعادة عالم فني جديد. وفي وقتنا الحاضر ظهر مفهوم نهاية التاريخ، عند الكاتب الأمريكي فرانسيس فوكوياما، في كتابه (نهاية التاريخ وخاتم البشر)، وقد أثار الكتاب ضجة كبيرة.. وفي جميع المجالات التي تحدثنا عنها، نهاية التاريخ لا تعني، نهاية الحياة، أو نهاية دوران الفلك، وإنما تعني وصول الحضارة البشرية، إلى القمة التي ما عليها من مزيد وفي نفس المعنى، تجئ آراء فوكوياما.. وقد ظهر رأيه هذا، أول ما ظهر في مقال له في عام 1989م في مجلة The National Interest قال فيها: "إن الديمقراطية الليبرالية قد تشكل (نقطة النهاية في التطور الآيديولوجي للإنسانية) و(الصورة النهائية لنظام الحكم البشري) وبالتالي فهي تمثل (نهاية التاريخ).. وهو يرى (أنه من غير المستطاع) أن نجد ما هو أفضل من الديمقراطية الليبرالية مثلاً أعلى".. ويستدل فوكوياما بماركس وهيجل، فيقول: "كان في اعتقاد هيجل وماركس، أن تطور المجتمعات البشرية ليس إلى ما لا نهاية، بل انه سيتوقف حين تصل البشرية إلى شكل من أشكال المجتمع، يشبع احتياجاتها الأساسية والرئيسية، وهكذا افترض الاثنان أن (للتاريخ نهاية): هي عند هيجل الدولة الليبرالية، وعند ماركس المجتمع الشيوعي. وليس معنى هذا أن تنتهي الدورة الطبيعية من الولادة، والحياة والموت، وان الأحداث الهامة سيتوقف وقوعها، وان الصحف التي تنشرها ستحتجب عن الصدور. وإنما يعني هذا أنه لن يكون ثمة مجال لمزيد من التقدم في تطور المبادئ، والأنظمة الأساسية، وذلك لأن كافة المسائل الكبيرة حقا ستكون قد حُلَّت".. ويقول: "وقد أكد هيجل إن التاريخ قد وصل إلى نهايته بقيام الثورتين الأمريكية والفرنسية بالنظر إلى أن هذا النضال من أجل الإعتراف الذي يحرك عملية التحول التاريخي، قد حقق مراده في مجتمع يتميز بالإعتراف المتبادل والشامل. ونظراً لأنه ليس هناك ترتيب آخر للمؤسسات الاجتماعية الإنسانية يمكن أن يشبع هذه الحاجة على نحو أفضل فليس بالإمكان حدوث المزيد من التحولات التاريخية بعد الآن".. ويري فوكوياما أن "الحاجة إلى الإعتراف والتقدير، إذاً، يمكن أن تكون الحلقة المفقودة بين الإقتصاد الليبرالي والسياسة الليبرالية".. ويقول فوكوياما: "لقد كتب ألكسندر كوجييف في القرن العشرين، وهو أعظم شُرَّاح فلسفة هيجل، يؤكد في صلابة أن التاريخ قد انتهى، لأن ما أسماه بالدولة العامة والمتجانسة (وهو ما نفهمه على انه الديمقراطية الليبرالية، قد أوجدت حلاً قاطعاً لمسالة الإعتراف بالمنزلة إذ أحلت بمكان السادة والعبيد اعترافا يعم البشرية ويقوم على أساس المساواة. فالهدف الذي ظل الإنسان يسعى إليه طوال تاريخه والذي كان يحرك المراحل الأولى من التاريخ، هو الإعتراف به. وقد وصل إلى هذا الهدف في النهاية في عالمنا الحديث مما أرضاه (إرضاءاً كاملاً)!!.. أما فوكوياما نفسه، فموقفه من نهاية التاريخ، نجده في قوله هذا، فهو يقول: "ونواجه نحن الذين نعيش في ظل ديمقراطيات ليبرالية مستقرة ذات تاريخ طويل، وضعاً غير عادي، ففي زمن أجدادنا، كان بوسع الكثيرين من المثقفين أن يتنبأوا بمستقبل إشتراكي زاهر، تُلغى فيه الملكية الخاصة والرأسمالية، وتنتهي فيه السياسة نفسها على نحو ما.. أما اليوم فنحن على العكس منهم نجد صعوبة في تخيل عالم أفضل بكثير من عالمنا، أو تخيل مستقبل ليس ديمقراطياً ورأسمالياً في أساسه. صحيح أنه بالوسع داخل هذا الإطار أن تجرى تحسينات عديدة: كتوفير المأوى لمن لا مأوى لهم، وضمان الفرص للأقليات، والنساء، والارتقاء بروح التنافس، وخلق وظائف جديدة.. ويمكننا أيضاً أن نتخيل مستقبلاً للعالم هو أسوأ بكثير من وضع العالم الآن، يعود فيه التعصب القومي أو العرقي أو الديني، أو تتم فيه الحروب، أو تنهار الأحوال البيئية، غير أنه ليس بوسعنا أن نتخيل عالماً هو في جوهره مختلف عن العالم الراهن، وأفضل حالاً في نفس الوقت. صحيح أن عصوراً أخرى، هي دوننا من حيث الفكر، ظنت نفسها أنها هي أيضاً أزهى العصور. غير أننا إنما نصل إلى هذه النتيجة بعد أن جربنا لأمد طويل بدائل كنا نحسب أنها بالضرورة خير من الديمقراطية الليبرالية"!!.. هذه هي نهاية الكمال، وقمة طموحات البشرية، عند فوكوياما.

ما أردت توكيده بما كتب أعلاه، هو أنّ هنالك نظرة لتاريخ كوني شامل، ظلّت تعبِّر عن نفسها بشتى السبل، عبر جميع حقب تاريخ البشرية وإلى اليوم.. ووفق هذه النظرة هنالك نهاية للتاريخ، هي قمة ما يمكن تحقيقه من كمالات على الأرض.. والكمال الذي يتحقق في هذه النهاية، هو صورة لكمال كان في البداية.. وهذا الكمال يتم على يدي مخلِّص، هو الجدُّ الأسطوري، في المثولوجيا، وله أسماء عديدة، تختلف باختلاف أسماء أساطير الشعوب، أو الفلسفات التي تناولت القضية.. فهو (البروليتاريا) عند الماركسيين، و(الدولة الليبرالية) عند هيجل، و(الديمقراطية الرأسمالية الليبرالية) عند فوكويوما، و(المسيح) في الأديان الكتابية.. فالمضمون تقريباً هو واحد، معبَّر عنه بصور مختلفة.. وظاهرة تشابه أفكار البشر هذه، وعبر التاريخ، رغم المستويات المتباينة جدّاً في مجالات التحضر، السبب فيها أنّ المعلم واحد، لجميع الخلائق، وهو الله تعالى"الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ *عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ".. والقلم هنا هو قلم القدرة الإلهية.. وجميع البشر، في جميع حقب الحضارة البشرية هم أصحاب طموح، وتوقٍ مشترك لتحقيق الكمال.. ولكن هذا الطموح والتوق، يعبر عن نفسه حسب مستويات المعرفة عند كل فرد، وعند كل جماعة.. ومن هنا يأتي التباين في التعبير عن صور الكمال المنتظر والمتطلع إليه.. أمّا لماذا هذا التعلق بالكمال، فلأن الإنسان نزل إلى أسفل سافلين، وفي ذاكرته (أحسن تقويم) – تلك الصورة التي كان عليها في الملكوت.. فهو مشدود بصورة دائمة لهذا المقام.. فالتطور ليس هو مجرَّد حركة الماضي نحو المستقبل، وكأنّه عملية دفع من الخلف، وإنّما للمستقبل دور أساسي فيه، فالمستقبل يشدُّ إليه الحاضر شدَّاً، ومن هنا تأتي أهمية الخيال عند البشر، فهم دائماً يتخيلون مستوى من الكمال في المستقبل، أكبر وأفضل، مما هم عليه، ويعملون له.
ويلاحظ في جميع النماذج التي ذكرناها، والتي لم نذكرها، أنّ هنالك صراع بين قوى الخير، وقوى الشر.. وتكون الغَلَبة في هذا الصراع، في النهاية، لقوى الخير، لأنها هي الأصل، وتكون الهزيمة لقوى الشر.. وقوى الشر تجد تجسيدها في الشيطان.

الوقت في الإسلام، وفي الأديان الكتابية:
أصحاب الديانات الثلاث: اليهودية، والمسيحية، والإسلام، في عموم حالهم ينتظرون المسيح، على تفاوت بينهم في الفهم، والإنتظار.. وأصحاب كل دين يتعصبون لدينهم، ويرون أنّ المسيح سيأتي في آخر الزمان لينصرهم على غيرهم.. وكلٌّ منهم يعتبر نفسه (شعب الله المختار).. أما اليهود، فيقولون صراحة أنهم شعب الله المختار، ولا يربطون هذا الاختيار بحقبة تاريخية معينة، فهم عند أنفسهم شعب الله المختار، بصورة مبدئية ونهائية، وذلك ما جعلهم يرفضون المسيح عندما ساواهم ببقية الشعوب.. وهم الآن ينتظرون مسيحهم الذي سيميزهم على الشعوب، ويقيم دولة اسرائيل الكبرى.. وأمّا المسلمون، فهم عند أنفسهم، (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)، وهم عندهم أيضاً أن ذلك أمر مبدئي، كان ولا يزال، ولن ينفك ولا يفكرون في أي شروط لهذه الخيرية، وعندهم المسيح سيأتي لينصرهم على غيرهم، وعلى اليهود بالذات.. أمّا المنتظرون من المسيحيين، فهم ينتظرون (الاختطاف)، حيث يقوم المسيح العائد بإنقاذ المؤمنين وبترك الأشرار للغضب و(المعصرة).. وأصحاب الديانات الثلاث يعتمدون على نصوص في كتبهم المقدسة، يؤولونها بالصورة التي تتماشى مع رغائبهم الذاتية، وضد الآخرين.. والمسيح عند اليهود ينزل في الهيكل، ولذلك بناء الهيكل الذي يصنعونه بأنفسهم دلالة على قرب وقت مجيء المسيح، ولذلك هم يجتهدون في القيام ببناء الهيكل!! أمّا المسلمون فهم يفهمون من قول النبي الكريم عن عودة المسيح، أنّه يكسر الصليب، ويذبح الخنزير، أنّ ذلك يمثل نهاية المسيحية وانتصار المسلمين عليها ويلاحظ أن المسلمين الذين يفهمون من كسر الصليب نهاية المسيحية، هم أنفسهم لا يؤمنون بأن المسيح قد صُلِبَ.

صلاة المسيحيين الأساسية تقول: " أبانا الذي في السماء، ليتقدس اسمك، ليأتي ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك في الأرض"، المشيئة في السماء هي الرضا، والمشيئة على الأرض هي الإرادة، هي دعوة لتطابق الرضا والإرادة على الأرض، أو تطابق الملك والملكوت.. وفي إنجيل مَتّي ورد قوله: "تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم"، وهي إشارة إلى خلافة الأرض الواردة في القرآن، وإشارة إلى مقام أحسن تقويم، الذي جاء الوعد باسترداده.. وقد جاء من إنجيل لوقا – الاصحاح العشرون: "وتكون علامات في الشمس والقمر والنجوم.. وعلى الأرض كرب أمم بحيرة.. والبحر والأمواج تضج والناس تخشى من خوف وإنتظار ما يأتي على المسكونة، لأن قوات السموات تتزعزع، وحينئذٍ يبصرون ابن الانسان آتياً في سحابة، بقوة ومجد كبير ".. وهذا هو نفس معنى قوله تعالى في القرآن: "هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُور"ُ..إلّا أن عبارة القرآن أكمل وأدق.. نحن هنا يعنينا وقت المجيء، ولذلك سننصرف عن القضايا الأخرى لنتحدث عن الوقت في الإسلام كما جاء في البشارة عند الأستاذ محمود.. رأينا أن الوقت في جميع الحالات السابقة هو (آخر الزمان).. والإسلام في ذلك لا يختلف عن غيره، ففيه وقت المجيء –وقت الكمال– هو آخر الزمان.. لكن الصورة في الإسلام أكثر انضباطاً وأكثر تحديداً.. والإسلام، كما بقية صور البشارات التي ذكرناها، يرى أنّ الكمال كان في البداية، وسيتحقق في النهاية.. وذلك إشارة لقوله تعالى: "لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ"، هذا الكمال الذي كان في البداية – في الملكوت، في عالم الروح وهو نفسه.. سوف يعود ليتحقق في النهاية، في عالم الملك، على الأرض.. يقول تعالى: "يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ،كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ"، والإعادة لا تكون بنفس الصورة، فالألوهية لا تكرر نفسها، وانما المقصود أن الكمال الذي كان في الملكوت سيتحقق هنا في الأرض.. وهو سيتحقق على يدي مخلّص، هو المسيح المحمدي الذي تحدثنا عنه.. ووقت مجيء المسيح هو (آخر الزمان)، وبصورة أكثر تحديداً (اليوم الآخر).. والإيمان باليوم الآخر من أركان الإيمان.. وهو مرتبط بساعة التعمير.. وحسب الأستاذ محمود، نحن اليوم في الثلث الأخير من ليل الوقت.. ونحن هنا نورد بعض أقواله في ذلك، فهو يقول: "نحن نعيش في أخريات الثلث الأخير من ليل الوقت، وقد آذن الصبح بانبلاج.. والثلث الأخير من ليل الوقت، كالثلث الأخير من ليل اليوم، منصوص على مدحه وتفضيله.. فكما أن الثلث الأخير من ليل اليوم برزخ بين الليل والنهار، فكذلك الثلث الأخير من ليل الوقت، فإنه برزخ بين الدنيا والآخرة..". ومن نفس المصدر جاء قوله: [نحن، بشرية القرن العشرين!! نحن بشرية الثلث الأخير من ليل الدنيا!! ومعلوم قيمة الثلث الأخير من ليل اليوم: "إن ناشئة الليل هي أشد وطأ، وأقوم قيلاً".. بنفس هذا القدر يجب أن نعلم قيمة الثلث الأخير من ليل الدنيا، وقيمة البشرية التي تعيشه.. فهذه البشرية هي الموعودة بأن تملأ الأرض عدلاً، في وقتها، كما ملئت جوراً.. وهي الموعودة بتحقيق جنة الأرض، في الأرض.. "وقالوا الحمدُ لله الذي صدقنا وعدَه، وأورثنا الأرضَ، نتبوأُ من الجنة حيثُ نشاء، فنعم أجرُ العاملين".. هذه البشرية المعاصرة هي بشرية (اليوم الآخر) الذي من أجل تحقيقه أرسل الرسل، وأنزلت الكتب، وشرعت الشرائع، في جميع حقب هذه الحياة الدنيا.. والذي هو واردٌ ذكره في القرآن كثيراً ، من قبيل: "إن الذين امنوا، والذين هادوا، والنصارى، والصابئين، من آمن بالله، واليوم الآخر، وعمل صالحا،ً فلهم أجرهم، عند ربهم، ولا خوف عليهم، ولاهم يحزنون".. هذه البشرية هي في جاهلية، اليوم.. ولكن جاهليتها هذه أعلم، وأرفع، وأكثر إنسانية ولطافة، من جاهلية القرن السابع ـ التي خرج عنها الأصحاب ـ بما لا يحتمل القياس، ولا المقارنة.. فإذا عادت فيهم: (لا إله إلا الله)، جديدة، دافئة، قوية، خلاقة، كما كانت على عهد الأصحاب، فإن مستوى جديداً من البشرية سيظهر على هذه الأرض، وإنما بظهوره تُملأ الأرض عدلاً، كما مُلئت جوراً.. وهذه البشرية التي ستظهر، في هذا المستوي الإنساني الكبير، بمحض فضل الله، إنما هم (إخوان النبي)].
وهذا الظهور، إنما يحدث فجأة.. ولحظة (الفجاءة) هذه، هي ما لا يعلمه إلا الله، يقول تعالى: "ثقُلت في السمواتِ والأرضِ، لا تأتيكم إلا بغتة".. والظهور إنما يكون بسلطان، وهو يكون من قوة البرهان، بحيث يكون من المستحيل الخلاف حوله.. فإذا ظهر من يدعي المقام، واختلف حوله اثنان، فهذا دليل كافٍ على أنه ليس هو .. ولقد ادعى مقام (العيسوية) كثرٌ.. حتى أنه بعد انتهاء دولة المهدية عندنا في السودان، ومجيء الحكم الثنائي، ادعاه عدد كبير، مما جعل الظاهرة تدرس في كتب التاريخ، تحت عنوان (ظاهرة العيسوية).. ومجرد انتشار الظاهرة، هو من علامات قرب الوقت، فهي تدل على أن الأمر أصبح، من الناحية الروحية، في الجو حتى أن الكثيرين أصبحوا يتوهمون أنهم أصحابه".
الوقت المقصود، هو دورة الحياة الدنيا، الى اليوم الأول من الحياة الأخرى، وهو (اليوم الآخر) فهو آخر أيام الدنيا وأول أيام الأخرى.. وهو المشار اليه بقوله تعالى: "وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ".. فقمة الهرم لهذه الحضارة الموعودة هي ألف عام، ثم يبدأ الانحدار تدريجياً، الى أن تتهيّأ الأرض للساعة الكبرى.
ومما يستدل به على قرب هذا اليوم، ما ورد في الأحاديث النبوية عن علامات الساعة الصغرى، ومنها ما ورد في الحديث الذي يرويه عمر بن الخطاب، ففيه أن جبريل سأل النبي الكريم: "أخبرني متى الساعة؟ قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل!! فقال: أخبرني عن علاماتها.. قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة، رعاء الشاء يتطاولون في البنيان.. قال صدقت".. وقد تمت هذه العلامات بالفعل.. فالعلامة الأولى تعني أنّ الأجيال الجديدة تكون أكثر ادراكاً للعصر من الآباء والأمهات، فالبنت وهي أكثر تعليماً من أمها أو من جيل أمها هي التي توجه أمها في دروب الحياة.. أمّا تطاول الحفاة العراة، رعاء الشاء، فهو أمر ظاهر، ويجري في كل مكان، خصوصاً في جزيرة العرب.. والتعبير إشارة للنقلة الحضارية التي تمّت.. والعلامات كثيرة لسنا بصدد متابعتها.. من أهم ما يؤكد أنّ الوقت قد حان، استعداد الأرض له، بالحاجة إليه والطاقة به.. خصوصاً الحاجة للسلام، وللعدل.. وأهم من ذلك، الدليل القاطع على أن الوقت قد أظلّنا، هو أن الله تعالى تأذن بالدعوة لأصول القرآن، أمة المسلمين، التي تتحقق بمجيء الوقت، وصاحب الوقت.. فجميع العلامات اكتملت، ولم يبق سوى الإذن الإلهي، وهو يمكن أن يحدث في أي لحظة!! والظهور إنما يكون فجأة، يقول تعالى: "ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً".
من أراد الإستزادة من التفاصيل، عليه الرجوع إلى كتابنا (العصر الذهبي للإسلام امامنا)

يتبع...

رفاعة في 30/3/2023م

 

آراء