بلادنا أمام سيناريوهين لا ثالث لهما!

 


 

 

السودان أمام سيناريوهين أو خيارين لا ثالث لهما: إما الانزلاق نحو النموذج المصري أو النجاة عبر النموذج التركي، ولا يوجد شكل ثالث لمآلات ما يجري اليوم في السودان.
القرارات التي اتخذها الانقلابي البرهان تشكل في مضمونها النهائي استيلاءه بشكل كامل على السلطات الثلاث في البلاد والانفراد بحكم البلاد على طريقة النظام المباد تماماً، إذ أن القرارات ستؤدي به إلى الإستيلاء على رئاسة النظام والحكومة (السلطة التنفيذية) وتعطيل البرلمان (السلطة التشريعية والجهة الرقابية) (الغائب طوال الفترة الماضية) والذي لم يشكل كما قالوا لعدم وجود وتوفر الإرادة السياسية! .. والتدخل في القضاء الذي يتوجب أن يكون مستقلاً لحماية حقوق الناس وهذا التدخل سيتم عبر الاستيلاء على منصب النائب العام كما يحدث الآن.
السيناريو الأول إذا فشل الشعب السوداني في دحر واسقاط الانقلاب ونجح البرهان الذي يترنح الآن في تمرير هذه القرارات وأصبحت فاعلة حقاً فهذا يعني أن انقلاباً مكتمل الأركان نجح في السودان وهو انقلاب أشبه بالنموذج المصري (عام 2013)، وعليه فإن على السودانيين الإستعداد للعودة إلى حكم الفرد الواحد حكماً مطلقاً ومن ثم سيبدأ الفرد بتصفية خصومه وحتى المقربين جدا منه واحداً تلو الآخر، ثم يبدأ بتصفية مؤيديه في المرحلة الثانية لضمان أن لا يظل في طريقه أي طامع في السلطة أو المشاركة في الحكم.
السيناريو الثاني هو النموذج التركي، وفيه نجح المواطنون ومعهم فريق من الجيش وقوات الأمن والموظفون العموميون في التصدي للإنقلاب وألقوا بالمجرمين المتمردين في السجون عقاباً لهم على محاولة الانقلاب التي تخللها قتل مئات المواطنين الأتراك في الشارع ودون وجه حق خلال ساعات قليلة من محاولة الانقلاب الفاشلة. تجربة اردوغان في إقصاء المؤسسة العسكرية عن السياسة والحكم ، وترسيخ مدنية الدولة، كانت خطة عبقرية بنفس طويل وذكاء وخبرة سياسي محنك وجسارة قائد، لأن رقبته كانت على المقصلة في بعض مراحلها ، علينا أن نتعلم من تلك التجربة المهمة جدا لبلادنا لأنها مفصلية لنجاح أي مشروع ديمقراطي عربي. يسعدني كل إنجاز يحققه اردوغان، وأبادر للثناء عليه، لأن من مصلحة أي متطلع للديمقراطية أن تنجح هذه التجربة وتثمر، كما من مصلحة أي متطلع لاستقلال القرار الوطني أن تنجح التجربة، من لا يرى كراهية الغرب لأردوغان ونجاحاته فهو أعمى، ومن لا يرى فزع الديكتاتوريات العربية منها فهو أعمى أيضا.
لا يوجد أمام السودان اليوم أي احتمال ثالث، ومن يعتقد أنه استثناء فهو واهم وسوف تثبت له الأيام القادمة ذلك، وما يجري في السودان اليوم يؤكد بأن موجة الثورات المضادة لم تتوقف حتى الآن، وأن الخاسرين من ثورات الربيع العربي لا زالوا يمارسون العبث بهذه الثورات ويحاولون إفساد ما تم تحقيقه في مشوار التحرر والانفتاح.
إذا استمر الانقلاب في السودان، واستقرت السلطات الثلاث في يد البرهان فهذا يعني أن البلاد ستعود إلى عهد ما قبل ثورة 2011، وربما تشهد حملة وعودة الدولة البوليسية لتقييد الحريات كتلك التي شنها نظام البشير علي في بداية تسعينيات القرن الماضي من أجل تثبيت حكمه، وبفضلها حكم السودان لثلاثة عقود مستمداً شرعيته وبقاءه من خوف الناس وإرعابهم والبطش بهم.
السودان اليوم أمام مفترق طريق صعب، ووصفة الانقلاب الحالي قريبة جداً من الوصفة التي تم تنفيذها في مصر خلال العامين 2012 و2013، حيث يتم تأزيم الأوضاع الصحية والمعيشية والاقتصادية و الأمنيةفي البلاد بالتزامن مع حملات تحريض ممنهجة ضد الشرعية الثورية وشباب الثورة، تمهيداً لظهور البرهان بمظهر المنقذ والمخلّص للبلاد، وهو ذاته ما حدث في مصر عندما قيل للناس بأن الاخوان هم سبب الفقر والجريمة والمشاكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وأن الخلاص منهم سوف يؤدي بالبلاد للخروج من النار إلى الجنة.. وهاهم المصريون ينتظرون منذ سبع سنين الجنة التي وعدوا بها. استنفار النظام الانقلابي في البلاد لكتائب البشير ولجنته الأمنية والإعلام الأمني والديني للتقليل من مسؤوليته عن بؤس حياة الناس الآن وانتشار الفقر والغلاء الفاحش للمواد الغذائية ، وتحريكه للفنانين الموالين للتصدي لموجة السخط العارمة ، يعني إحساسه بأن الأمور وصلت إلى حافة الخطر فعلا ، وأن الانفجار الشعبي ليس بعيدا. ولو كان كان يفيد في شئ لكان أفاد المخلوع البشير.
وتبقى الحقائق ثابتة ولا تحتمل التغيير رئيس الحركة الذي حاز على حقيبة المالية (الجاهل) الذي كان سقف خبراته بالاقتصاد ، أن يدير (كنتين/كشك) مليشياته الهمجية المتمردة ، لا يصلح بأي وجه من الوجوه لإدارة اقتصاد معقد ومتشعب لمؤسسات دولة بحجم السودان.
ماذا لو قررت روسيا تجويعنا؟..
هل تتخيل أن رابع أكبر دولة في العالم تستورد القمح من روسيا هي السودان ؟ السودان أرض الأنهار ، أخصب أراضي الدنيا ، السودان الذي يوصف بأنه سلة غذاء العالم ، يستورد القمح ، العسكر وصفة خراب لأي بلد ، مهما كانت مقدراته ، العسكر لا يحكمون بلدا إلا وتركوها خرابا ، قانون اجتماعي
في مصر التي يعيش فيها أكثر من مئة مليون شخص، أي ما يزيد عن ربع الوطن العربي، تبين أن نحو 90% من واردات القمح تأتي من روسيا وأوكرانيا، كما أنَّ 33% من قطاعها السياحي مصدره روسيا وأوكرانيا، وهذا يعني أن كل منزل مصري تقريباً فيه رغيف خبز مصدره روسيا، وكل وجبة طعام نأكلها في بلادنا العربية مرهونة بقرار من موسكو!
السودان ومصر ليستا الوحيدة التي تعتمد على القمح المستورد، فقد تبين أن صادرات القمح الأوكرانية والروسية الأوكرانية تذهب أغلبها أيضاً إلى العالم العربي سوريا العراق لبنان تونس والمغرب وموريتانيا، وبلغة الأرقام فإن أعلى عشر دول مستوردة للقمح الأوكراني من بينها ست دول عربية، هذا فضلاً عن أن العرب أصلاً يستحوذون على أكثر من 20% من واردات الحبوب في العالم، أي أن خُمس سوق الحبوب العالمي يستهلكه المواطنون العرب.
الأزمة الروسية الأوكرانية أعادت تذكيرنا بأزمة الغذاء العالمي في العام 2008، وهي الأزمة التي سبقت الأزمة المالية العالمية التي نشبت في أيلول/ سبتمبر من ذلك العام عندما انهار بنك (ليمان براذرز) في الولايات المتحدة، حينها كان النفط قد تجاوز الـ140 دولاراً للبرميل وظهرت تبعاً لذلك طفرة (الوقود الحيوي) وهي عملية تحويل بعض الأطعمة إلى وقود بشكل ما، حينها اندلعت أزمة الغذاء ولولا الأزمة المالية التي أطاحت بأسعار النفط وبالأسواق عموماً لكان العالم في أزمة أسوأ تتعلق بالغذاء.
في ذلك الحين كان السؤال المطروح هو: ما فائدة الأموال التي بأيدينا إذا لم يكن لدينا ما يكفي من الطعام؟ وما فائدة الأموال والأرصدة البنكية إذا لم تكن قادرة على تأمين رغيف الخبز للجياع في بلادنا؟ وهل يُمكن للثروة أن تحقق الأمن الغذائي بالضرورة لبلادنا العربية أم أن بعض السلع لا تُشترى بالمال (مثل بعض الأسلحة النوعية)؟
الأزمة الروسية الأوكرانية التي كشفت هشاشة أمننا الغذائي وخطورة تعرضنا في العالم العربي لنقص في المواد الأساسية الاستراتيجية، تعيد طرح هذه الأسئلة من جديد، إذ كيف تكون أكبر وأهم الدول العربية رهينة في طعامها بقرار خارجي، وما الخيارات التي يُمكن القيام بها من أجل تحقيق الأمن الغذائي ووقاية بلادنا وشعوبنا من مخاطر التوترات الخارجية؟
ما الذي يُمكن أن تفعله دولنا وشعوبنا العربية إذا قرر الرئيس فلاديمير بوتين تجويعنا، وهو الذي سيكون قد هيمن على أهم مصادر القمح في العالم بسيطرته على أوكرانيا وجعلها واحدة من الدول التابعة للكرملين؟.. هل ثمة خيارات وخطط بديلة لدى دولنا لمواجهة هذا النوع من الطوارئ؟ وما فائدة الأسلحة التي تُكدسها جيوشنا العربية بعد أن تشتريها بمليارات الدولارات من فرنسا والولايات المتحدة ودول غربية أخرى إذا لم يكن ثمة مخازن للحبوب والقمح تقوم بتأمين رغيف الخبز لشعوبنا؟.. بل السؤال الأهم: إذا كانت هذه المقاتلات العملاقة لا تحمي صوامع القمح ومخازن الحبوب فما الذي تفعله في بلادنا؟
الأمن الغذائي هو ملف حيوي واستراتيجي بالغ الأهمية وعلى الدول العربية أن تفكر فيه جيداً، إذ ليس معقولاً أن يكون العالم العربي بأكمله يقتات على الخبز القادم من الدول الأجنبية، ولا توجد دولة واحدة تحقق الاكتفاء الذاتي، كما أن الأولى بصناديق الاستثمار السيادية العربية أن تضخ الأموال في القطاع الزراعي والمائي (السودان نموذجا من حيث الموارد والفرص) على أن تشتري سندات الخزانة الأمريكية بمليارات الدولارات وتضخ أموالاً طائلة في (وول ستريت).. ضخوا أموالكم في مزارع بالسودان واليمن والجزائر والمغرب ولبنان بدلاً من الاستثمار في خدمات مالية وهمية والاعتماد على رغيف الخبز المستورد.
"الذي يخرج من القلب يدخل القلب ، والذي يخرج من اللسان لا يتجاوز الآذان"
mido34067@gmail.com
////////////////////////

 

آراء