بين “جماهيرية” القذافي.. و.. “جماهير” البشير!؟ … بقلم: إبراهيم الكرسني

 


 

 


حينما يعتقل الإنسان نفسه داخل أي قفص آيديولوجي، أيا كان نوعه – ماركسيا، أو إسلاميا، أو بعثيا...الخ- و بالتالي يعتقل عقله و تفكيره، فإن النتيجة المنطقية هي أنه يستحيل عليه رؤية العالم، و جميع الأشياء من حوله، إلا من خلال منظار ذلك القفص، الذى يلون له الواقع الموضوعي الماثل أمامه بلون الآيديولجية التى يحملها بداخله. وهذا هو ما حدث بالفعل للعقيد القذافي، الذى إعتقل نفسه داخل القفص الآيديولوجى الذى شيده بنفسه قبل ما يقارب الأربعة عقود من الزمان.
لقد أعلن العقيد القذافى "سلطة الجماهير" فى ليبيا فى العام 1977م، وفقا لمقولات "الكتاب الأخضر"، الذى يزعم تأليفه. نقول يزعم لأن هنالك روايات أخرى تقول بأن بعض المفكرين و المثقفين السودانيين، غفر الله لهم، قد ساعدوه فى صياغة ذلك "الكتاب"، إن لم يكن قد قاموا بكتابته بأكمله، تماما كقصة إبنه سيف الإسلام مع مدرسة لندن للإقتصاد، الذى يزعم بأنه قد تحصل منها على درجة الدكتوراة. لكن تلك الكلية تقوم الآن بمراجعة تلك الرسالة بعد أن إتضح بأن أجزاء منها ربما قد تمت "سرقتها" من مصادر أخرى لم يشر إليها الباحث ، أو يثبتها، فى مواقعها، كما تقتضي ذلك أصول البحث العلمي. لكن الأسوأ من ذلك بكثير هو تبرعه لتك المدرسة بمبلغ مليون و نصف المليون من الجنيهات الإسترلينية كهبة، ثم تبع ذلك بإبرام عقد مع ذات المدرسة بمبلغ يصل الى ملايين الجنيهات الإسترلينية لتدريب بعض الليبيين. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل وصل الى مدى أبعد من ذلك حيث عين سيف الإسلام مشرفه السابق على رسالته الجامعية عضوا فى الأمانة العامة ل"مؤسسة القذافي العالمية"، التى يترأسها هو بنفسه . إن إثبات فساد سيف الإسلام بعد كل هذه الشواهد لا يحتاج الى تكوين لجنة تحقيق، لولا أن لوائح تلك المدرسة تقتضى ذلك وفقا لقوانين الجامعات البريطانية المعمول بها. تلك القوانين التى يغيب مثلها تماما فى "جماهيرية" العقيد.
لقد أعلن العقيد "جماهيريته"، بعد إعلان "سلطة الشعب" مباشرة، و غير إسم ليبيا ليصبح الإسم الرسمي لها، "الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الإشتراكية"، ثم أضاف إلى ذلك الإسم الطويل و الممل "العظمي"، بعد الغارات الجوية التى شنها عليه الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريقان، إثر إتهامه للعقيد بتفجير ملهى ليلي بألمانيا يؤمه الجنود الأمريكيون المقيمون على الأراضي الألمانية، ومقتل و إصابة بعضهم.
 إستندت "جماهيرية" القذافي على قيام المؤتمرات الشعبية التى تصعد اللجان الشعبية، التى تقوم بدورها بتصريف شؤون الشعب. إننى على قناعة تامة بأنه كلما كثر الحديث عن الشعب و الديمقراطية فى أسماء الدول و مسمياتها، فإن واقعها سيكون عكس ذلك تماما. أقرب مثال على ذلك هو إضافة كلمة الديمقراطية الى إسم جمهورية السودان، على إثر نجاح الإنقلاب المايوى البغيض. وقد خبر شعبنا ذلك النوع من "الديمقراطيات" الزائفة التى يختفى فى ظلها أي نوع للحريات الأساسية أو حقوق الإنسان.
هذا هو ما حدث بالضبط فى "جماهيرية" العقيد، حيث أن الشعب نفسه لا يدرى بأنه هو الذى يحكم نفسه بنفسه، لأن كل السلطة و الثروة كانت بيد العقيد و أفراد أسرته و بطانته من المقربين إليه، فى الوقت الذى "ينبح" فيه "القائد" ليل نهار بأن كل السلطة و الثروة بيد الجماهير!! لقد أقنع "القفص الآيديولجي" العقيد القذافى بأن كل السلة و الثروة بيد الشعب الليبي، فى الوقت الذى يكذب فيه الواقع الماثل تلك الفرية تماما، بل إن الواقع الموضوعي يثبت أن ما يجري على أرض ليبيا هو عكس ما يدعيه العقيد جملة و تفصيلا.
إن "القفص الآيديولجي" قد أعمى العقيد تماما عن رؤية الحقائق كما هي على أرض الواقع، و صور له عالما آخر لا يوجد إلا فى مخيلته المريضة. هل لكم أن تتخيلوا بأن جموع الملايين التى خرجت فى جميع شوارع ليبيا، من أدناها الى أقصاها، زنقة زنقة، رافضة ل"جماهيرية" القذافي، قد تصورها العقيد بأنها ما خرجت إلا تأييدا له و ل"جماهيريته" المنهارة! إنه فعلا ضرب من الجنون يتوجب على من يصاب به أن يكون داخل مصحة عقلية، أو مستشفى للأمراض النفسية، و ليس على سدة حكم البلاد. ماذا يمكن أن يقال فى "قائد" مستبد و فاسد يتخيل أن كل الكراهية و البغضاء التى يكنها له "شعبه" ما هي سوى حب جارف لشخصه؟!
لكن هذا المرض الآيديولوجي لم يقتصر على العقيد وحده. فقد أصاب قبله الكثير من القيادات التى إكتشفت، و لكن بعد فوات الأوان، أن ذلك "الحب الجارف" من قبل الجماهير، و الذى توهمته، لم يفعل بها شيئا سوى أنه قد كنسها الى مزبلة التاريخ. دونكم فى ذلك شاوشيسكو الذى أعدمه، هو و زوجته، "حب" الشعب الرومانى "الجارف" له، أو حتى الدكتاتور جعفر نميري، الذى كنسه طوفان الإنتفاضة التى أطاحت بطغيانه، و الذى خيل إليه بأن هدير تلك الجماهير التى إمتلأت بها شوارع السودان فى السادس من أبريل من عام 1985م لم يكن سوى "حبا جارفا" له.
أما المثال الحي الماثل أمامنا لمرض "القفص الآيديولوجي" فيجسده المشير البشير الذى زعم فى أحد تجلياته "الجماهيرية" بأن 90% من الشعب السوداني يؤيدونه تأييدا مطلقا. بمعنى آخر فقد أصيب سعادة المشير بمرض "الحب الجارف"  الجماهيري. و لا غرو فى ذلك إذا ما عرفنا بأن درس سيادته الأول فى فنون "الهلوسة" قد أخذه يد قائد آخر "جماهيرية" فى التاريخ، حينما زاره وفد مجلس قيادة ثورته، فى أغسطس من عام 1989‘ أي بعد شهرين فقط من نجاح إنقلابه الكارثة، بمدينة البيضاء، التى تحررت الآن من قبضة "جماهيرية" القذافي، بفضل إنتفاضة الشعب الليبي الذى يحبه "حبا جارفا"!!
لقد أمضى ذلك الوفد قرابة الأسبوعين يتلقى الدروس فى كيفية تأسيس المؤتمرات و اللجان الشعبية من العقيد شخصيا، و من مدرسة الكادر التابعة لجماهيريته. و بالفعل فقد إعتقد العقيد بأنه قد نجح فى مهمته، بعد أن كون المشير لجانه الشعبية ، فى إقامة "جماهيرية" أخرى تضاف الى ذلك العقد الفريد من "الجماهيريات" التى توهم بإقامتها، من قبيل "جماهيرية" بوركينا فاسو!
لكن ما نود أن نؤكده لسعادة المشير بانه لا شفاء له من أمراض "الجماهيرية" التى أصابته مؤخرا، و التى أوهمته بأن 90% من الشعب السودان يحبه "حبا جارفا"، سوى من خلال الإنتفاضة الشعبية التى ستعم جميع أرجاء البلاد، شارع .. شارع، و زنقة.. زنقة، فى 21 من شهر مارس الجارى، و التى ستخلخل أركان طغيانه، و ستطيح بدولة الفساد و الإستبداد التى أقامها على أرض السودان الطاهره، و التى كممت أفواه الشعب السودانى، و أذلته، و أهانته، و أفقرته، و أحالت نهاره ليلا. و سيكون مصيره مثل جميع الطغاة الذين تم كنسهم الى مزبلة التاريخ غير مأسوف عليهم، جراء ما إرتكبوه فى حق شعوبهم و أوطانهم من جرائم.

15/3/2011م
Ibrahim Kursany [sheeba82@hotmail.com]

 

آراء